يقترح علينا الشاعر الفلسطيني نمر سعدي هذه المرايا النثرية الفايسبوكية والتي تشكل رصدا وتأملات في هذا الفضاء الرقمي الذي أمسى يشكل لاعبا جديدا في خلق الرأي العام الى جانب حضوره الفاعل داخل المشهد الثقافي العربي، هي مرايا نافذة الى الأثر الذي يخلفه الأنترنيت والوسائط الاجتماعية في دواخلنا وفي أثارنا التي نخطها سواء نصا إبداعيا أو تأملات أو شذرات أو تخطيطات أو كتابات مفتوحة

مرايا نثرية وفيسبوكيات

نمر سعدي

الفيسبوك على حسناته يشكِّلُ دفيئة لابتذال العلاقات الإنسانية العميقة والحقيقيَّة بنظري، وأحيانا يعمل على هدمها في سبيل الترويجِ لقيم زائفة ونفاق اجتماعي ملوَّن، لذلك أحافظ على المسافة بيني وبين كاتبي الأثير وشاعرتي الأجمل.. من فرطِ عشقي لهما أبقيتهما خارجَ متاهتي الزرقاء هذه.

*

أصبحنا نقيس حياتنا بهذهِ المتاهة الكونيَّة (الفيسبوك).. نضبط حيواتنا على توقيتِ ساعةٍ وهميَّة زرقاء منذورةٍ للأرق، نتركُ (لساعات قليلة) صفحاتنا / ممالكنا الافتراضيَّة التي شيَّدناها من رمال التخييل ونحنُ ننظرُ إلى الوراء ملهوفينَ بأعيننا الداخلية، نعودُ بعدَ منتصفِ الليلِ على عجلٍ من سهرةٍ أو فرَحٍ عائليٍّ أو قدَرٍ طارئٍ لنغرق أكثر في دوَّامة العبث واللا جدوى، ننامُ متعبينَ حيارى ونصحو بقلوبٍ مشدودةٍ إلى سرابِ اللايك.

*

صحَّحتُ صباحَ اليوم بيتاً من الشعر القديم نشرتهُ احداهنَّ.. من غير أن أبحث في جوجل أو في المراجع الأصليَّة، سليقتي العروضية هي التي دلَّتني إلى الصيغة الصحيحة.. طبعا البيت هو جزء من أغنية نُقلت ولُحنت على خطأ في الوزن.. والذي نقلها نسي أو تناسى أن جزءاً حيويَّاً هامَّاً من قيمة شعرنا العربي وإعجازهِ يكمنُ في موسيقاه وبحوره الشعرية التي يتفوَّق برنينها على شعريَّات عالمية أخرى، نتذكَّرُ قصة الديوان الأخير لمحمود درويش وعشرات المقالات الغاضبة التي كُتبت عن موضوع الخلل الوزني فيه، والضجة والجدل اللذين أثيرا حولَ بعض السقطات والهنات العروضية التي لم يكن الشاعر مسؤولا عنها.. بل هي نتيجة تسرع الناشر من غير تسليم الديوان لمراجعته عروضيا، كانت هناك كلمات في الهامش لم يلتفت اليها أحد، وضعها محمود بخط صغير ريثما يرجعُ اليها وقتَ تنقيح النص النهائي.
الشعرية العربية القديمة بنظري شيء أقرب الى القداسة وهي منجز لا يتوجَّب علينا أن نبدِّل أو نغيِّر فيها.. إذ أنه من الاستحالة أن نتقبَّل فكرة أن امرئ القيس وأبا نواس وجرير وابن الرومي والمتنبي والمعري كانوا يلحنون في العروض والبحور الشعرية، مشكلتنا أننا لا نتعامل مع تراثنا باحترام عندما ننقلُ شيئاً منهُ أو نختار مادةً للأغاني، والكلام موجَّه بشكل خاص ل (مطربي الغفلة) فينا.


البيت هو لشاعر يُدعى الخُبز أَرزي 
? - 317
هـ / ? - 939 م 
نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون البصري أبو القاسم
شاعر غزل، علت له شهرة
 
يعرف بالخبز أرزي ( أو الخبزرزي )، وكان أمياً، يخبز خبز الأرز بمربد
 البصرة في دكان، وينشد أشعاره في الغزل ، والناس يزدحمون عليه ويتعجبون من حاله. وكان (ابن لنكك) الشاعر ينتاب دكانه ليسمع شعره، واعتنى به وجمع له (ديواناً). ثم انتقل إلى بغداد، فسكنها مدة، وقرأ عليه ديوانه، وأخباره كثيرة طريفة
فلو كان لي قلبانِ عشتُ بواحدٍ وأفردتُ قلباً في هواك يُعَذَّبُ
ولي ألف وجه قد عرفتُ مكانه ولكن بلا قلبٍ إلى أين أذهبُ

أصبحَ صدر البيت الأول في الأغنية ومئات المواقع الالكترونية على هذه الصيغة
 (لو كانَ لي قلبان لعشتُ بواحدٍ)

*

الشاعر، الناقد، المثقَّف العربي الذين كنا نأمل منهم أن يقدِّموا لنا طروحات ابداعية وفتوحات جديدة في الأدب والشعر والنقد والفن وغير ذلك.. خرب الفيسبوك بيوتهم وجعل منهم مهرِّجين وبهلوانات في حفلات نساء الفيسبوك التي يتقافزون فيها بلايكاتهم وتعليقاتهم مثل السناجب البائسة.. هذه تعرضُ فتنة ونعومة أنوثتها وهاتيك تتباهي بشَعرها الحريري وبظهرها المنكشف وتبرز حدائق أعالي صدرها وهذه كل خمس دقائق تنشر صورة بوضعيَّةٍ جديدة وسحرٍ مختلف، (لستُ ضدَّ هذا) ولكن نريد خلخلةً حقيقية في منجز الأدب العربي الراهن، نريد قراءة موضوعية عميقة وذات بعد رؤيوي حقيقي.

*

قبل أيام أصابني الذهول وأنا أشاهد موسوعة القذافي بمجلداتها الضخمة الفخمة تزِّين رفوف احدى المكتبات الجامعية العملاقة، والآن يكتملُ ذهولي وفجيعة الشِعر العربي بهذه الموسوعة التي يجب أن تدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بينما تصلني أحيانا رسائل من شعراء حقيقيِّين يشكون فيها أنهم لا يملكون ما ينشرون به ديواناً واحداً بعدما أكلَ الشِعرُ زهور أعمارهم.

*

في التاسع عشر من آب، ذلك اليوم المغسول بشمس صيفيَّة عاشقة رحل شاعران أحببتهما، فيدريكو غارسيا لوركا وسميح القاسم.

 بعد أكثر من خمسين سنة على رحيل شاعر إسبانيا العظيم كان سميح القاسم يناجي روح صنوه لوركا المختبئ في أحد بيوت غرناطة هربا من جندِ فرنكو:

فد.. ري.. كو
قنديل الحزن قمر
الخوف شجر
فانزل
أنا أعلم أنك مختبئ في البيت
مسكونًا بالحمى
مشتعلاً بالموت
فانزل
أنذا منتظر في الساحة
مشتعلاً بلهيب الوردة
قلبي تفاحة

*
كم نحن شعب جحود وناكر للجميل، كنا ننتظر الموت التراجيدي للعالم المصري العظيم لنتغاضى عن قيمته العلمية وعن كلِّ ما قدَّمه للانسانية من فتوحات علميَّة عظيمة وإنجازات غير مسبوقة، ونشكَّ باحترام وتقدير كل علماء ودول الدنيا له، كنا ننتظر موته لنفتح أعيننا الكليلة على عثرات قليلة في مسيرتهِ الأسطورية، من غير حتى أن نتقصَّى الحقيقة، أو نقرأ عنه أي شيء، ومن غير أن نستمع لحوار واحد من حواراته التي يفيض بها اليوتيوب، لكن أحمد زويل يبقى أحد العظماء العرب الناجحين الأفذاذ وذلك ليس باعترافنا نحن بل باعتراف العالم بأسره، كان أولى بنا أن نصمت حزناً وأن تغصَّ قلوبنا بالدمع على رحيلهِ.

*

الشيء الوحيد الذي مارستهُ بكل شغف روحي ومحبة نابعة من أعماق قلبي ولن أندم عليه في النهاية هو التجوال المفتوح أو (التسكُّع) فالانسان لا يعيش مرتين وأنا لا أحب سردَ التفاصيل، لماذا؟ وأينَ ؟وكيفَ ؟ومتى؟ 
 
التسكُّع في نظري هو معنى الحياة الأجمل.. حتى ولو كان ضلالا.

*

في الثالث من آب عام 1999 رحل عبد الوهاب البياتي وأظنه كان يوم أربعاء أيضا.. أحببت البياتي حبا روحيا وانشددت أكثر للسياب ولكن شيئا ما في قصيدة البياتي جعلني أتعاطف معها.. السياب في كلِّ استدعاءاته للمرأة أو تبرُّمهِ بمرضهِ كان يبكي بانفعال وغضب بينما البياتي في كلِّ تجليَّاتِ حبِّهِ كان ينتحب بأناقة وزهوّ وكبرياء، مرة سألت الشاعر الكبير سميح القاسم عن الفرق بين البياتي والسياب فقال لي أن البياتي طوَّر أكثر في أساليب كتابة القصيدة العربية الشيء الذي لم يتح للسياب لقصر حياته مع أنه كان أكثر موهبة واحتراقا بنار الشعر ولكنه مات في أوج شبابهِ وعنفوان قصيدتهِ.. البياتي يشبه محمود درويش في نقطة مهمة جدا، أنه لم يكتسب أهميته الشعرية إلا في مرحلتهِ الشعرية المتقدمة أي أن دواوينه المبكرة برأي النقد لا تنطوي على اجتراح تغيير درامي وحقيقي أو زعزعة جذريَّة في بنيةِ الشعر العربي حينذاك.

 ماذا يبقى من البياتي اليوم؟ يبقى منه كل شيء، خصوصاً الشغف الفطري بالحياةِ وجماليات النحيب الإنساني في كل ما كتبَ بدءاً من أواخرِ الستينيات حتى رحيلهِ.

*

لا أحد من كم الشعراء والكتَّاب الهائل عبر لايكات وتعليقات المدائح الأسطورية صحَّح عبارة تلك الشاعرة التي كتبت ( قريبةٌ من سماؤك).. بقي الخطأ كما هو لأيام ولأسابيع وبقيت هي في نظرهم (الشاعرة الرائعة.. الكبيرة.. المبدعة.. المتألقة).

*

وحدها ليالي رمضان هي التي تشعُّ من قاعِ الماضي كالنجومِ العصيَّةِ على الانطفاء.. كأنها يدٌّ تلوِّحُ لي من مجرَّةِ السنواتِ الماضية.. لا أعرفُ السبب.. لكنني تقريبا لا أتذكَّرُ من الماضي سوى التماعات هذا الشهر.. بكل ما فيها من شوق متغلغل في الشرايين.. ولأنَّ روحانياتِه متغلغلةٌ في أقاصي الروح فإن شغفي بالقراءةِ والتأمل يزداد نوعاً ما فيه مقارنةً بالشهورِ الأخرى.

 ليالي رمضان تتقاطع مع تجربتي الفيسبوكيَّة بشكل مذهل.. هذه التجربة التي كانت على المستوى الشخصي مميزَّة ومدهشة ومن أغنى تجاربي، لا لأنك تستطيع أن تتواصل وتتفاعل عبر هذهِ الفسحة الزرقاء مع الآلاف من الأصدقاء وتتأثر بهم وكأنك تجلسُ معهم في غرفةٍ واحدة.. بل لمحاولتك بناء شبكة صداقات حقيقية عميقة مع أفراد حقيقيين يبعدون عنك آلاف الكيلومترات.. أصدقاء يسألون عنكَ إذا ما غبتَ لأيام قليلة أكثر ربما ممَّا يسأل أصدقاؤك الواقعيون... شكرا لتلك الصديقة المثقفة  التي حثَّتني مرارا على دخول هذا الفضاء اللا متناهي الجمال والتأثير قبل انضمامي الفعلي إلى الفيسبوك بسنوات وأظن كان ذلك في عام 2007، والتي كانت قارئة ذكية لكل قصائدي وأتذكر أن اسمها كانَ كرمل وهي من فلسطينيي الأردن.

 ليسَ رمضان فقط الذي يختلفُ.. الأشياء والقصائد أيضا تختلفُ فيه.. تصبحُ أكثر شفافيَّةً وصدقاً ووهجاً ولمعاناً.. حتى الإنسان اللا ديني وغير الصائم يحبُّ رمضان.. كأنهُ يصالحهُ مع نفسهِ، كأنَّ هذا الشهر هو نسيمُ الحب الإلهي الذي يهبُّ على صيفِ الوجودِ بأسرهِ.

*

غالبا ما تشكِّل الكتابة توازناً روحانياً لي أو تبديداً لطاقةٍ غيرِ مرغوبٍ بها إذا احتبست فانها لا ريب ستكون ضارَّةً.. عندما تحتبس قصيدةٌ ولا أستطيع كتابتها لأيامٍ أو ربما لأسابيع على الرغمِ من تمايلِ أطيافها في مخيِّلتي فإنني أُرهق نفسي بالأعمال الشاقة حول البيت.. أخلق عملا من لاشيءٍ.. أو أذهب مشياً على الأقدام في رحلة إلى وادي صفوريَّة الذي يبعد عن بيتي حوالي سبعة كيلومترات وأعود.. ثم أخلد بعدها للنوم وأنا منطفئ من التعب.

 إذا احتبست القصيدة أياما فأنت ستقاتل الهواء من العصبية بلا سبب.. حتى من غير أن يقلِّد أحد الأشقياء الصغار صوتَ الكلب قريباً من نافذة نومك.. أو يمازحك أحد الأصدقاء باتصال عبثي وهو يرغي كلاما غير مفهومٍ.. أو يقضُّ راحتكَ معتوهٌ آخر عبرَ إتصال مزعج في السادسة صباحاً بصوتٍ يشبه زعيق صفارةِ الإنذار

*

لماذا يصرُّ بعض(الشعراء) الذين لا يعرفون البحور والأوزان على كتابة القصيدة الموزونة؟ طالما أنك لا تعرف البحر الكامل من البحر المتوسط لماذا تكتب عشرة أسطر على إيقاع الكامل وفي السطر الحادي عشر وبطريقة فجائية من دون سابق إنذار تصدمنا بجدار نثري سميك وغير موزون..؟ يا رجل إرحمنا.. هلكتنا.. كرهتنا بالبحور والأوزان.. تسوق بنا وكأنك في سباق رالي متهور.. تخفض من الغيار الخامس إلى الأول فجأة وتفرمل وأنت في أقصى سرعة.

*

(المثقف العربي) ما أن يجلس على كرسي تحرير صحيفة أو مجلة مثلا فسرعان ما تصبح مزرعته السعيدة التي ورثها عن أبيه وأمهِ وسائر أجدادهِ. هو بهذا لا يختلف عن الطاغية العربي بشيء.. طبعا من غير تعميم.

*

أحبُّ الشعراء إلى نفسي الصعاليك بقلوبهم حتى لو كانوا أرستقراطيين، فالصعلكة الحقيقية هي صعلكة القلب.

*

هذه التفاصيل الصغيرة جداً ..جداً .. لامرأة تحملُ طفلتها التي لا تتجاوز السنتين بحمَّالةٍ قماشيَّةٍ ملوَّنةٍ على صدرها وهي تمسكُ بكلتا يديها روايةً من رواياتِ البيست سيلر وتتصفَّحها بشغفٍ سريع وهي تنظرُ في ساعة اليد مرَّة وإلى الطفلة الشقراء مرَّة أخرى، هذه التفاصيلُ الصغيرةُ جداً.. جداً.. ليتني أملكُ الأعصاب الباردة والنفس الكافي لكتابتها.

*

لماذا يصرُّ بعض(الشعراء) الذين لا يعرفون البحور والأوزان على كتابة القصيدة الموزونة؟ طالما أنك لا تعرف البحر الكامل من البحر المتوسط لماذا تكتب عشرة أسطر على إيقاع الكامل وفي السطر الحادي عشر وبطريقة فجائية من دون سابق إنذار تصدمنا بجدار نثري سميك وغير موزون..؟ يا رجل إرحمنا.. هلكتنا.. كرهتنا بالبحور والأوزان.. تسوق بنا وكأنك في سباق رالي متهور.. تخفض من الغيار الخامس إلى الأول فجأة وتفرمل وأنت في أقصى سرعة.

*

سؤال منطقي.. ما فائدة أن يكتب الشاعر قصيدة تفعيلة أو قصيدة عمودية طالما أن الأغلبية الساحقة لا تعرف البحور الشعرية العربية والأوزان والايقاعات ولا تفرِّق بين قصيدة النثر والشعر الموزن وبين الرمل والسكَّر.. ومن المستحيل في النهاية أن تقنع أحدهم بأن ما تكتبه موزون؟ 

*

هناك من يسألني متى يبكي الرجل ومتى تبكي المرأة..؟ هل تصدقون؟ ما هذا الترف الشعوري؟
*
فكرة احالة ما أكتب عليَّ شخصيا من أكثر الأفكار المزعجة والمقيتة التي من الممكن أن يصطدمَ بها الشاعر في حياتهِ.

*

رغم مغالاة الشاعر أدونيس فيما يتعلَّق بالدين إلا أن في بعض أقواله الكثير من الحقيقة.. فليست داعش على حد تعبيرهِ إلا تنويعاً جديداً لتاريخٍ دمويٍّ ابتدأه الخوارج والزنادقة والملاحدة ومن فسرَّوا الدين على هواهم وفصَّلوه على مقاساتهم..مشيراً إلى أن غبار حروب العرب ضدَّ بعضهم البعض لم يهدأ أبداً.
*

داعش هي الكابوس الأسود الذي تمخضَّ عنه الربيع العربي القارس بدلَ حلم المدينة الفاضلة.
*

كانت إحدى مآسي الشاعر الفرد الذي انتهى زمنه أن يمنى بمجموعة هي من أكثر الناس نفاقا وبعدا عن قيم الصدق والشعر تتدفأ بأسطورته وتتحلق حول هالته فتحجب نورها عن الآخرين.

*****