في نص مكثف عميق تهبط الكاتبة العراقية إلى ما يترسب في أعماق شخصية الرجل الشرقي من قيمٍ يبدو ظاهراً ومن خلال الثقافة والنضال من اجل المساواة متخلصاً من تلك العوائق التي أقامها البشر في أزمان أخرى، لكن من خلال العلاقة بالزوجة والحبيبة المتحررة والكاتبة يجد نفسه أي الشرقي المثقف الواهم في أقصى لحظات السكر –اللا وعي- لا يختلف عن بدوي جلف.

لعنة الغشاء

ناهدة جابر جاسم

قبل شهر أتفق معها بأنه سيقضى عطلة نهاية الأسبوع مع أصدقائه.
قالت له:
- أنت بحاجة للخروج ولقاء أصدقائك بين الحين والآخر!.
وفكرت مع نفسها؛ فعمله مع اللاجئين الجدد القادمين إلى الدنمارك متعب جدا، إذ يأتها كل مساء منهكاً من قصصهم المرعبة في طريق رحلتهم السرية الطويل من شرق المتوسط حتى وصولهم.
أخذ دشاً. حلق ذقنه. تعطر بعطرٍ جلبته له هديةً بعيد ميلاده الأخير. ارتدى قميصاً أزرق وبنطلون أزرق كذلك. رافقته حتى الباب لتودعه بقبلة هامسةً بأذنه
- أرجوك لا تكثر من الشرب
هزَّ رأسه مبتسماً وبدا متفهماً لرغبتها.
وقفت جوار شباك المطبخ المطل على ساحة خضراء خلف البناية، تتوسطها ثلاث أشجار معمرة، عملاقة. وقفت مسحورةً بزرقة السماء، وبفوزها بوحدتها في البيت، فتذكرت مشاعر الغبطة التي تنتابها حينما كانت والدتها تأخذ أختها التي تكبرها لتأدية واجبات اجتماعية، فتبقى وحيدة تصرخ مبتهجة، تركض بين الغرف، تقفز، تتكلم بصوتٍ عال لتهدأ قليلاً.. قليلا.. تفكر عميقا وتدخل عالم رواية أو ديوان شعر دون تدخل أمها وأختها اللتين يراقبانها كلما أمسكت كتابا غير كتاب الدرس.
دارت بأرجاء البيت تكلم نفسها:
- سأمارس طقوسي، وكل ما أحب فعله وحدي، سأرقص.. سأصرخ.. سأقفز.. سأسمع غناء.. موسيقى، سأفعل ما يجول بخاطري.. وسأكتب.. سأكتب ما يثقل نفسي ويشعرني بالاختناق.
أعدت الإبريق وخلطت الشاي الأخضر بالزنجبيل ووضعته على النار. ورجعت إلى غرفتها الصغيرة. نشرت قصاصات ورق ملاحظاتها ومخطط عملٍ أرهقها ليالٍ طوال.
شغّلتْ الحاسوب. اختارت موسيقى هادئة تساعد على التركيز، تأملت أوراقها المنشورة على المنضدة العريضة، تتفحص هذه وتلك. تحدثت معها رائيةً شخوصها الطيب والشرير، الشجاع والجبان، الضعيف والقوي في حيواتها المنبعثة من الحروف والكلمات. حيواتٍ أرقتها ليالٍ كثيرة. قالت:
- سأبدأ بالصعلوك الطيب لأني أعرفه عن قربٍ، وسيكون طيعاً بين أصابعي، وينساب مع كلماتي كالنهر، ستتدفق حياته وعذاباته والنساء الثلاث اللواتي تركنه بسبب عشقه للخمر إلى حدود فقدانه السيطرة فيتصرف بغرابة ويتكلم بما لا يتذكره في اليوم التالي وكأنه مصاب بالزهايمر!.
وفيما كانت غارقة في تخَّليقْ شخوصها وبعث الحياة فيهم بحروفها وكلماتها، سمعت صوت حركة المفتاح يدور في قفل الباب، فقدرت أن زوجها عاد وتمنتُ من أعماق قلبها أن لا يكون قد أثقل بالخمرة. نهضت مسرعة وركضت نحو الباب فوجدته قد دخل مترنحاً. كان مطفئا لا يقوى على الوقوف على قدميه إلا بعناء. أسندته من تحت كتفه وسارت به نحو غرفة النوم، لكنه أصرّ على الجلوس في الصالة للحديث معها عن ليلته.
حاولت أن تتواصل معه في الحديث. كان لا يستطيع أخراج المفردات، يحاول.. ويحاول دون جدوى إلى أن سقط من الأريكة ليستلقي على السجادة وسط الصالة ويغط في الشخير. أسرعت إلى غرفة النوم وأتت بوسادة وبطانية. وعادت إلى طاولتها محاولة الغوص من جديد في عالم شخوصها المنتظرين أصابعها كي تبعث بهم الحياة، لكن بغتة هاجمتها موجة من الكآبة واليأس تلاشت الأفكار وأشعرتها بالعجز، فذهبت إلى سريرها، هجرها النوم ، فظلت تتقلب في فراشها ورأسها مضطرب، مسكون بأحلام وهواجس شخوص روايتها التي بدأت بها منذ عام، ووضعها القلق المشوب بالخوف من تصرفات زوجها في أقصى السكر الغريبة والتي باتت تشعرها بالخطر رغم أنه في اليوم التالي يدعي أنه لا يتذكر شيئاً.
مرتْ ساعة على سقوطه في النوم، وفيما كانت تناضل كي تغفو سمعته يناديها، ظنت أول الأمر أنها تحلم، لكنه عاود النداء، فقالت مع نفسها:
- إذن هو!.
تعرفه جيدا؛ سوف لا يكف حتى تأتيه. نفضت رأسها طاردة النعاس. نزلت من السرير. خطت خارجة من غرفة النوم
وهو يقول:
- أريد أحدثك عن موضوع شغلني منذ ليلة زواجنا!.
اقتربت من الصالة وهي تتساءل مع نفسها
- أي موضوع وقد مرت أكثر من عشرين عاما على تلك الليلة، وصارت مثل حلمٍ حتى أصبح ينتابها الشك في مرات كثيرة بأنها حقاً عاشت تلك الأحداث!.
- تعالي هنا جنبي
وجدته يجلس على الأريكة ويفرد لها مكانا جواره.
أتته ضاحكةً، مرحة فالأمر يتعلق بليلة كتبت تاريخ العلاقة. جلست جواره ساحبة جسدها قليلا عنه إذ عادت لا تطيق رائحة الشرب. لبثت تنتظر وتخمن:
- أي شيء تَذكر، وأي أمر كَتمه كل هذه السنين!.
في حقيقة الأمر بدت متشوقة للموضوع، فغادرها النعاس تماما حاسةً بنشاط وحيوية وترقب. باغتها طالباً منها القسم بأعز مخلوق لديها كي تقول الحقيقة، فردت فوراً:
- أقسم لك بالكون ونجوم السماء. أسأل الوقت متأخر وصوت الليل مسموع أرجوك أخفض صوتك؟
قرب وجهه منها وقال:
- هل كنت باكرا ليلة زواجنا؟!.
لم تتمالك نفسها، فانخرطتْ بضحكةٍ عاصفةٍ غير مصدقةٍ ما تسمع:
- ماذا تعني، وماذا تريد أن تقول، بعد عشرة أكثر من عشرين عاما تسألني أكنت عذراء أم لا ليلة زفافنا؟.
استفزه ضحكها ونبرة السخرية التي في صوتها، وقسماتها الهازئة وهي تسخف السؤال والموضوع برمته.
فأخذ يهمهم ويعيد السؤال طالباً جواباً صريحاً. مما جعلها تشعر بالدوار وتغطس في بئرٍ مظلمٍ كظلام مشاعره وما كان يخبأه كل تلك الأعوام، فصرخت:
- هل جننت؟!. هل أصابك مسٌ؟!.
كان يهمهم، مكررا:
- لست عذراء.. لست عذراء!.
فصرختْ:
- أفترض ذلك.. أفترض ذلك، لماذا سكتَ؟!. لماذا صبرت كل تلك الأعوام، ثم ألم نكن مجنونين غير مصدقين أننا التحمنا جسدا وروحاً وهزمنا الجميع الأهل والمجتمع!.
أخذ يصرخ ويهمهم بكلمات غير مفهومة.
فراحت تصرخ:
- يا إلهي.. يا إلهي.. يا للجنون.. يا للجنون
ونهضت راكضة نحو الباب، وقبل دخولها غرفة النوم. التفتت نحوه فرأته يبصق في الهواء ويردد:
- تفٌ عليك تف.. تفٌ على النساء جميعاً.. تف لا أمان لديكنَّ لا أمان!.
تركته يصرخ ويشتم ويضرب الجدران ودخلت إلى غرفة النوم. ارتدت بنطلون وبلوزة وجمعت ملابسها الضرورية في حقيبة صغيرة. سحبتها وخرجت صافقة باب البيت خلفها بقوة ولاعنةً اللحظة التي تزوجت فيها من الحبيب.
وقفتْ على الرصيف المقابل لبيتها تندب حظها.
- إلى أين تذهب في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟!.
حدقت نحو السماء المكتظة بالنجوم والغيوم غير الآبهة بمحنتها. وخطت نحو مظلة موقف الحافلة القريب ملجأها ككل مرة. جلست على المصطبة الحديدية فارغةً من كل شيء ومستغرقة بعالم هلامي متحرك لا ملامح ولا معنى له إلى أن صحت على صوت حنون لرجلٍ يقول بالدنمركي:
- أتحتاجين مساعدة؟!.

  22 آب 2016