يكشف الناقد العراقي هنا في قراءته لروايتي «الذباب و الزمرد» و«ضياع في حفر الباطن» كيف بلور كاتبهما صورة سردية لما حدث للبصرة التي وقع عليها ثقل الحرب، وفي العراق كله من ورائها: من تدمير البيئة إلى التضخم وتردي الاقتصاد، وحتى الغرق في سمادير الخمر أو بلهنية التدين.

الحرب وآثارها المدمرة

في روايات عبد الكريم العبيدي

داود سلمان الشويلي

«لا أستطيعٌ أن أتصور في بصرياثا قوّالاً بلا مِنبر، أو مواطناً بلا نول، المِنبر

والنول شعار هذه المدينة السري.»

من قول القاص محمد خضير الذي يبدأ العبيدي به روايته (الذباب والزمرد). فيما يبدأ العبيدي روايته الثانية (ضياع في حفر الباطن) بهذه القصيدة القصيرة:

    "دفعتني البنادق

    نحو البنادق

    لا خيار بين نار ونار،

    فاندفعت مستهزئا

    بالهزيمة والانتصار".

وبين القول الاول للقاص محمد خضير والقصيدة في القول الثاني تقف الحرب معلنة وكاشفة عن وجودها في الجبهة الداخلية (الذباب والزمرد) او في جبهاتها المتقدمة كما في (ضياع في حفر الباطن). وهكذا تفرض علينا الحرب فرضا، كما يفرض علينا منبر اكاذيب السياسيين ونولهم الذي يحيكون به اكاذيبهم اليومية تلك. تفاجئنا الحرب بأهوالها، وتنتهي وتسكت المدافع ويعود الجنود الى اهلهم سالمين او مصابين ونحن ما نزال نعيش الصدمة من هول المفاجأة، وقسوة وشراسة الاحداث، وما تخلفه من خسائر في الارواح والاشياء، لانها حدثت ومرت بنا وسكتت مدافعها، وبعد كل هذا نحن لم نصل الى فترة النقاهة بعد.

الحرب، كواقعة، هي نص روائي كبير بكل ما يحمله هذا النص من اشخاص ومكان، وزمان، وبيئة، ورؤية، وكذلك هي مثل الرواية تحتاج الى خاتمة تفرض نفسها على قرائها، على المجتمع الذي تقع الحرب بين جنباته، تعجبنا او لا تعجبنا، والفرق بين الاثنين – الحرب والرواية - ان الرواية لها مؤلف واحد يقود الاحداث الى نهايتها، بينما الحرب لها اكثر من مؤلف، وعلينا تقع قراءة هذا النص، وفهم معانيه ودلالته، وهذه الدلالات مختلفة بين قارئ واخر، الا ان خاتمته لم تقبل ان يحين وقتها.

وللحرب دور كبير في تغير المجتمعات والشعوب، حيث انها تترك آثارا كبيرة ومدمرة كالندوب على جلد الانسان، وقد قدمت الرواية العالمية والعربية الكثير من الروايات التي تتحدث عن الحرب وشخوصها واثرها في ذلك على الشخوص وفي المكان والزمان، وهي تحمل رؤية ما، وقد كانت الحرب العراقية الايرانية والعدوان الامريكي على العراق في عام 1991 ومن ثم الحصار، تأثيرا كبيرا على روائيّ العراق، إذ قدموا نماذج روائية مختلفة؛ الا انها تتحدث عن تأثيرات الحرب خاصة في ميدانها الامامي، و في ميدانها الخلفي على استحياء. وقد حدثت الحرب فيما مضى، اي اصبحت تاريخا تروى احداثه، الا انها ما زالت ماثلة بيننا كعمود الخيمة الوسطي، تلك الخيمة التي تظللنا، اذن الحرب هي ما نعيشه في مراحل حياتنا كلها من خلال التغيرات التي حصلت في انفسنا، وفيما يحيط بنا. انها تاريخ، ورجل التاريخ يبحث عن حيثياته في صفحاتها، اما الروائي فهو يستند اليه كي يخرج ما فيه من عوامل مؤثرة، ليعيد صياغتها سرديا على انها من المتغيرات التي تصيب الانسان والبيئة وكل شيء.

هناك مادة تاريخية، وهي الحرب العراقية الايرانية، والعدوان الامريكي على العراق، وهما من التاريخ العراقي القريب، والرواية ليست تاريخا، لان هناك السرد الروائي المتخيل الذي يضع كل هذا التاريخ في ماكينته المخيالية ويقدمه لنا على شكل سرد ابداعي منتقى. الحرب ما زالت تسحبنا اليها في الجانب المعنوي منها (الذباب والزمرد)، كما في الجانب العملي/ الميداني لها (ضياع في حفر الباطن)، انها الذكريات التي وشمت حياتنا كلها، فكانت تتحرك فينا من زمان الى زمان، ومن مكان الى آخر، وكأنها تريد ان تبقينا على اتصال معها، انها لا تنفك تجذبنا اليها كالمغناطيس الطبيعي لا الكهربائي.

عبد الكريم العبيدي كتب روايتين هما (الذباب و الزمرد) و( ضياع في حفر الباطن) وكلا الروايتين تتحدث عن الحرب وأثرها المدمر بعد مضي سنوات على وقوعها، على الاشخاص، والزمان، والمكان، والبيئة، نفسيا، وثقافيا، واقتصادا، واجتماعيا، وقدم رؤية شاملة عنها. إن الروائي العبيدي في هذين النصين الروائيين، وبوعي منه او دونه، قد قدم محطات كثيرة غادرها الروائي كما غادرها المتلقين من قبله، تنطوي على اثار الحرب ووشمها الذي لا يزول مهما امتد الزمن وتغير المكان.

***

تدور احداث رواية (الذباب و الزمرد – عشرة فصول) زمنيا بعد الحرب العراقية الايرانية، وبعد العدوان الامريكي على العراق عام 1991، والحصار الظالم على شعبه، وتجري وقائعها في مدينة البصرة، المدينة الاكثر تأثرا في هذين الحربين، إذ انها تحكي من خلال مراقبة بطلها مراقبة تامة في تنقلاته في الزمان والمكان، وترسم هواجسه، افعاله، بوحه الذاتي: «وها أنا يا أزريه في أتون الحصار، أعاصير السموم واليورانيوم والسرطانات والتشوهات الخلقية، وأشهر هجرة عراقية إلى بلاد المهجر، أنا الآن ابن مفردات الحصة التموينية الشحيحة، ودقيقها الأسود المطحون بنوى التمر، ابن القحط والاحتضار والقليل من رائحة التمرد. يسعفني فعلا أن أضع قبضتي الواهنتين في جيبي المثقوبين، وأن أسير مثل متشردي الأفلام السينمائية، اركل بحذائي علبة فارغة أو حجراً صغيراً في شارع اسلكه.» ص8

في هذه المتابعة لبطل الرواية نتعرف من خلالها على عائلته، واصدقائه المسلمين والمسيحين، وعلى حياتهم السابقة في جبهة القتال، او في عمقها الخلفي، حيث ترتسم المأساة. وكذلك فهو يتحدث عن الاخرين «كان أوسم فتىً مسحوراً بالأساطير والعبث والبحث عن المجهول، حتى قصة حبه الوحيدة، قصة عشقه العذرية غير الكاملة كانت غريبة وغير مجديه فعلا.» ص10 ثم يتحدث عن الحرب العراقية الايرانية، والعدوان الثلاثيني، والعيش في اتون الحصار الظالم بعد هذا العدوان على العراق عام 1991. البطل يتذكر ايام الحرب العراقية الايرانية من خلال محطات تذكره بها:

- «اجتزنا مقبرة المغايز بالإحساس ذاته الذي ذكرنا بحقول الألغام وصلنا إلى سوق صاغة الذهب. توقفت للحظة أطالع العمارات». ص14 واذا كانت المقبرة تذكره بحقول الالغام في الحرب، فانه في الفصل السادس يتحدث عن شفيق الخصيباوي في عمق جبهة الحرب مع ايران، واصابته، حيث بعد سنتين يراه على كرسي متحرك بعد فقد ساقه. ص48 ان شارع التماثيل على شط العرب هو البوابة الواسعة التي يلج فيها الى اهوال الحرب، حرب الثمان سنوات، وكيف دافع هؤلاء الرجال عن البصرة واستشهدوا في سبيل ذلك.

وفي الفصل الاول يتذكر "اوسم" الحرب عندما يشاهد التماثيل المنصوبة على شط العرب لشهداء الحرب وهي تؤشر الى جهة العدو.  ص13 ويتذكر قص اذن الهارب في الفصل السابع كعقوبة على من تكرر هروبه. ص71 هذه المحطات وغيرها من ذكريات حرب الثمانين، ترسم لنا صورة واقعية لذاكرة أولئك الشباب الموشومة بالحرب، حيث ترتسم الحرب كالوشم الذي يعلن عن نفسه.

***

كل حرب تأتي بمتغيراتها في المجتمع، هذه المتغيرات التي حصلت بعدها، او اثناءها، اي في فترة التسعينات بعد الحرب العراقية الايرانية وسكوت المدافع، ومن هذه المتغيرات:

- التأثير في تقديم الخدمات العامة: كالكهرباء مثلا. ص 19

ان كل بلد يدخل الحرب، او يجبر على خوضها، تتردى فيه الخدمات العامة المقدمة للمواطن كالكهرباء مثلا، اذ تخرج محطات من الخدمة، وتزيد اعطال اخرى، وهذا ما حصل في العراق، اذ ترصد عين البطل هذه النتيجة.

- الضياع الذي كان شباب العراق يعيشونه زمن الحرب، وما بعدها، ابتداء من بداية الثمانينات وحتى غروب التسعينيات. ص 19 إذ من الامور الهامة والمميزة في كل حرب هو تأثيرها الكبير على نفسيات شباب المجتمع الذي يقع في حبائلها، اذ تمسه من الداخل فتنخر فيه كالدودة لتحيله الى ركام غير قابل لإعادته مجددا، وهذا ما حصل للشباب العراقي الذي وقع تحت تأثير حربين عظيمتين كالحرب العراقية الايرانية، والعدوان الامريكي والحصار الظالم، فخرج منها الشباب في العراق وهو يحمل اثارها كالوشم، وكما يقول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد :

       (لِخَولة أطْلالٌ بِبُرقَة ثَهمَدِ،   تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ)

فكان الضياع هو اهم سمة يتسم به هذا الشباب الخارج من أتونها، والمحترق به. كذلك شربه للخمرة. إذ من افرازات الحرب، اي حرب، تدفع الناس الى احتساء الخمور لينسوا واقعهم الآني المتردي. ص19، وص 13. (الذباب والزمرد) وفي "ضياع في حفر الباطن" يكون الضياع قد بدء مع انكسار الشخصية «رياح انكساراتي بدأت تتحرك من الداخل. وفي ظني تحطمت صلات كنت أحسبها طرية، هزة طارئة لا غير كشفت عن عمق عزلتي قبل أن تطوي صفحتها الأولى. لم أكن أتصور أن لشقيقي رقبة قبيحة كتلك. وما كنت أطمح بقسوة أبوية أكبر مما شاهدت. كنت على يقين دائم، أن ثمة نوعا من الرجال مصابون بمرض "التبغل الحاد" الذي يضفي على سلوكهم عنادا دائما مقدسا.» (ص28 وكذلك ص224 - ضياع في حفر الباطن)

- ان كل دولة تدخل الحرب، وحرب طويلة كالحرب العراقية الايرانية، ويأتي بعدها العدوان الامريكي ثم حصار ظالم، حتما ستعتمد على طبع العملة المحلية كما جرى في العراق، حيث اخذت الحكومة بطبع عملتها الورقية دون تغطية اقتصادية، وهذا يؤثر على الاقتصاد بصورة عامة، وعلى الناس كذلك، حيث انهار الاقتصاد كليا فكان التضخم. ان الحرب عندما تقوم تقل فرص الحصول على العمل، اذ انها تغير من ميزان الاقتصاد، وهذا واضح في رواية (الذباب والزمرد) ص 20، مما يدفع البعض لسد رمقه ورمق عائلته ببيع اثاث بيته. ص 23 ان اكبر تحول يصيب الشخصية هو ضياعها العقلي في زحمة الحرب التي تؤدي الى ذلك، فيتحول تفكيره، من تفكير ايجابي الى تفكير سلبي، وهذا ما حدث لأخي يحيى، إذ تحول الى التصوف والذهاب الى التكية. ص 26 «في زمن الانكسارات يتحول الناس الى الدين، او الخمرة.»

انتشار السوق السوداء، وهذه الظاهرة قد انتشرت بين الناس بسبب الحروب، وباتت ظاهرة عامة لم نزل نعاني منها. ان تردي الصناعة والزراعة والاقتصاد هي ظواهر مخلفات الحرب، وقد تناولتها الرواية لا كما يفعل الصحفي في تقديم ريبورتاج عن ذلك، بل ادخلتها الروائي في معمله السردي. واذا كانت الصناعة والزراعة والاقتصاد قد اصابهم الخمول فتردت، فان الدواء، وجراء هذه الحروب، اصبح سلعة يباع من قبل ناس غير مختصين، مما اثر في تداوله بين المحتاجين له.

  •  

اذا كانت "الذباب والزمرد" تنقل آثار الحرب وما خلفته من ذكريات ماثلة في الذاكرة الجمعية لأبناء العراق، فـ "ضياع في حفر الباطن" تنقل لنا الحرب ساعة وقوعها: «لصقت الراديو بإذني وأطلقت العنان لمؤشره ليبحث عن أيةٌ نشرة إخبارية عاجلة. سقوط مئات الصواريخ والقنابل على العديد من المنشآت الحيوية. مؤسسات بأكملها تحولت إلى ركام. كانت نشرات الأنباء متخمة بالصفحة الأولى من ملف الحرب ومحجوزة لأخبارها الكارثية العاجلة وكانت تتحول بخفة عاجلة من أروقة مجلس الأمن إلى تصريحات المندوبين الدائمين ثم إلى المؤتمرات الصحفية الطارئة والبيانات والردود السريعة والإدانات والترحيب وأخبار الكوارث والنكبات من داخل العاصمة بغداد.» ص 75

ان عبد الكريم العبيدي قد قدم للمتلقي العراقي والعربي صورة سردية لما حدث للبصرة وفي البصرة التي وقع عليها ثقل الحرب، ان كانت هذه الحرب على الحدود الشرقية للعراق (ايران) او الحدود الغربية له (مع امريكا في حفر الباطن)، قدم تلك الحرب بكل ما تضمه من ويلات ومآسي، وكذلك الاثر الذي خلفته بعد سكوت المدافع. لقد كان تأثير الحرب كبيرا وواضحا في روايتي العبيدي على الانسان في سلوكه واخلاقه وتدينه، وعلى المجتمع، وعلى الاقتصاد، وعلى الصناعة والزراعة، وكذلك على البيئة.