يكشف الباحث المغربي هنا عن أسبقية الخليل بن أحمد الفراهيدي في وضع القواعد العلمية للدرس اللغوي، بكل ما تفرع عنه فيما بعد من فروع الصرف والنحو ووضع المعاجم، كما أنه كان أول من أرسى قواعد علم موسيقى الشعر وعروضه، وكيف قدّر ابن خلدون الفراهيدي وابتكاراته العلمية ومنهجيته.

أسبقية الخليل بن أحمد الفراهيدي في بناء الدرس اللغوي العربي

ورأي ابن خلدون فيه

محمد كـريم

خلد تاريخنا على صفحاته إضاءات منيرة، لأناس حبوا الإنسانية عطاء علميا ومعرفيا عظيما، بات رافدا لمن أتى بعدهم، ومن بين هؤلاء العالم الكبير الخليل بن أحمد الفراهيدي، (100هـ-175هـ) فهذا الأخير يأتي في طليعة أولئك الذين صعدوا ذروة التميز في العلم، والذين حفظ لهم التاريخ تلك المكانة العظمى على مر أدواره، واعترف بنبوغهم النادر وعطائهم الوافر، فقد أخلص الخليل للغة العربية، وحباها حبه ومنحها اهتمامه، وصرف لها جل عمره، شارحا لعلومها، وموضحا ومبتكرا ومؤصلا، فكان له فضل السبق في إبراز كثير من معالمها الجليلة.

إن الخليل، تناول اللغة بالدرس من القاعدة، وليس من قمة الهرم، كما فعل من سبقه من علماء اللغة، فبدأ الدرس اللغوي بما يجب أن يبدأ به، بدأه بدراسة الأصوات (الحرف) التي تتألف منها مفردات اللغة، يقول الدكتور المخزومي :»إن الخليل أول من التفت إلى صلة الدرس الصوتي بالدراسة اللغوية الصرفية والنحوية، ولذلك كان للدراسة الصوتية من عنايته نصيب كبير، فقد أعاد النظر في ترتيب الأصوات القديمة، الذي لم يكن مبنيا على أساس منطقي، ولا على أساس لغوي، فرتبها بحسب المخارج في الفم، وكان ذلك فتحا جديد، لأنه كان منطلقا إلى معرفة خصائص الحروف وصفاتها(1). إن هذه الأولية ليست اعتباطية، ولا الحكم بها مفاجئا، فهما يصدران عن رأي رصين لأن الخليل، هو أول من وضع الصوت اللغوي موضع تطبيق فني في دراسته اللغوية التي انتظمها كتابه الفريد "العين"، بل هو أول من جعل الصوت اللغوي أساس اللغة المعجمي، فكان بذلك الرائد والمؤسس.

فمعجم العين أحدث ثورة لغوية وفكرية وثقافية، لما له من أهمية في حياة الدرس اللغوي، وللإشارة فمعجم "العين" ذو شقين: الأول المقدمة، والثاني الكتاب بمادته اللغوية وتصريفاته الإحصائية المبتكرة التي اشتملت على المهمل والمستعمل في لغة العرب»إن مقدمة العين على إيجازها أول مادة في علم الأصوات دلت على أصالة علم الخليل، وأنه صاحب هذا العلم ورائده الأول»(2). يبدأ الخليل المقدمة بالصوت اللغوي عند السطر الأول بقوله "هذا ما ألفه الخليل بن أحمد البصري، رحمة الله عليه من حروف :(أ، ب، ت، ث ..)(3). وأضاف أنه»لم يمكنه أن يبتدئ التأليف من أول: ( أ، ب، ت، ث) وهو الألف حرف معتل، فلما فاته الحرف الأول كره أن يبتدئ بالثاني - وهو الباء - إلا بعد حجة واستقصاء النظر، فدبر ونظر إلى الحروف كلها، وداقها فوجد مخرج الكلام كله من الحلق، فصير أولاها بالابتداء أدخل حرف في الحلق»(4).

ومعنى هذا القول أن الخليل قد أحاط بالترتيب (الألف بائي) من عهد مبكر، ولم يشأ أن يبتدئ مع اهتدائه إليه، لأن أول حرف في هذا النظام حرف معتل، ولا معنى أن يبتدئ بما يليه وهو الباء ترجح بلا مرجح، وتقديم دون أساس، فذاق الحروف تجريبيا، فرأى أولاها بالابتداء حروف الحلق، وذاقها مرة ثانية، فرأى "العين" أدخل حرف منها في الحلق، بل في أقصى الحلق. قال ابن كيسان: سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبدأ بالهمزة لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء لا في اسم ولا في فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء، فوجد العين أنصع الحرفين فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف(5).

وقد اتضح أن الخليل صنف هذه المدارج إلى عشرة أصناف وهي كالآتي:1(ع، ح، ه، خ، غ)؛ 2 (ف، ك)؛ 3 (ج، ش، ض)؛ 4 (ص، س، ز)؛ 5 (ط، د، ت)؛ 6 (ظ، ذ)؛ 7 (ر، ل، ن)؛ 8 (ف، ب، م)؛ 9 (و، ا، ي)؛ 10 الهمزة. ولم يكتف الخليل بهذا التقسيم الدقيق بحسب تذوقه الخاص، بل نص على تسمية كل قسم من هذه الأقسام، وأفاد اللغات العالمية جمعاء، بأصل من الأصول الأولى في الاصطلاحات الصوتية دون أن يسبقه إلى ذلك سابق، بل عول عليه في كل لاحق. لقد حدد الخليل من كل صنف من أصناف الحروف المعجمية على بنية صوتية متميزة. قال الخليل :»فالعين والحاء والغين والخاء حلقية؛ لأن مبدأها من الحلق؛ والقاف والكاف لهويتان لأن مبدأها من اللهات؛ والجيم والشين والضاد شجرية، لأن مبدأها من شجر الفم؛ والصاد والسين والزاي أسلية، لأن مبدأها من أسلة اللسان؛ والتاء والدال نطعية، لأن مبدأها من نطع الغار الأعلى؛ والظاء والذال والثاء لثوية، لأن مبدأها من ذلف اللسان؛ والفاء والباء والميم شفوية، لأن مبدأها من الشفة؛ والباء والواو والألف والهمزة هوائية في حيز واحد، لأنها لا يتعلق بها شيء« (6).

إن هذه التسميات الشخصية، قد نهضت بكيان كل صوت وعادت به إلى نقطة انطلاقه، واهتدى إليها الخليل بذهنه المتوهج فطنة وذكاء، دون مثال يحتذيه عند من سبقه من علماء العربية كنصر بن عاصم الليثي، وأبي عمرو بن العلاء، لدليل ناصع على موسوعية فذة، وعبقرية لا تقاس بالأشباه، كيف لا وبداية إفاضته الصوتية مبكرة ومبتكرة. وهكذا فإن الخليل قد أقام قطيعة معرفية (ابستمولوجية) بينه وبين من سبقوه في دراسة اللغة، إذ خالف الترتيب الهجائي أو الألفبائي الذي وضعه نصر بن عاصم، فالخليل رتب مواد معجمه "العين" ترتيبا مخرجيا، ولم يستطع الخليل الوصول إلى نظام التقليبات الجديدة إلا باستعمال وسائل جديدة كما بين ذلك فخري خليل النجار في العناصر التالية:

1 – الحركة والسكون: وقد استعملها الخليل لدراسة الشعر والموسيقى وبعد ذلك اللغة العربية، إذ استطاع أن يكتشف (الإيقاع) و( النغم ) و( الوزن ) في الشعر بل و في النثر أيضا.

2 – الطبيعة الصحراوية مخبر التجربة: حيث إن الخليل بن أحمد خرج إلى بادية الأعراب في الجزيرة حيث الفصاحة والسلامة من اللحن، فاختبر كلامهم؛ فوجده فصيحا طليقا بينا بيانا تاما؛ فاستطاع إدراك مبتدأ الكلام ومنتهاه وتذوق الحروف وأدرك مخارجها، وعلى هذا الأساس رتب (أي الخليل) الحروف حسب مخارجها مبتدئا بالأبعد من الحلق ومنتهيا بما يخرج من الشفتين وبناء على ذلك فقد كان ترتيبه كما يلي: (ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط ت د ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و ي ا ء) وهو بذلك يدرس اللغة دراسة ميدانية إجرائية حتى تمكن من حصر كافة المظاهر الكلامية للغة العرب المستعمل منها والمهمل، وقد استطاع جمع اللغة وهيكلة معجمه (العين) إذ فرض النظام على شتات اللغة، انطلاقا من العالم الواقعي المشخص إلى العلم الرياضي الصوري، فاللغة بحسب الخليل تجمع مادتها من المنطوق الذي يمثل الأصل وليس من المكتوب الذي فرع لاحق.

3 – الإحصاء والكم: فالخليل أحصى كلام العرب على أساس حروف الهجاء التسعة والعشرين، فوجدها (أي لغة العرب) ثنائية أو رباعية أو خماسية«(7). أما التكميم الرياضي نجده في قوله: «اعلم أن الكلمة الثنائية تتصرف على وجهين نحو، قد، دق، شد، دش، والكلمة الثلاثية تتصرف على ستة أوجه، وتسمى مسدودة، وهي نحو ضرب، ضبر، برض، بصر، رضب، ربض، والكلمة الرباعية تتصرف على أربعة وعشرين وجها، وذلك أن حروفها وهي أربعة أحرف ضربت في وجوه الثلاثي الصحيح، وهي ستة فصارت أربعة وعشرين وجها، يكتب مستعملها ويلغى مهملها (...) والكلمة الخماسية تتصرف على مئة وعشرين وجها وذلك أن حروفها وهي خمسة أحرف، ضربت في وجوه الرباعي وهي أربعة وعشرين وجها؛ فصارت مئة وعشرين وجها، يستعمل أقله ويلغى أكثره«(8).

ونجد ابن خلدون في كتابه المقدمة يذكر أن الخليل بن أحمد تأتى له حصر كلمات المعجم بوجوه عديدة وذلك بقوله: «وكان سابق الحلبة في ذاك الخليل بن أحمد الفراهيدي، ألف فيها كتاب 'العين' فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي، وتأتى له حصر ذلك بوجوه عددية حاصرة. وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد لأن الحرف الواحد منها يؤخذ من كل واحد من السبعة والعشرين فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية. ثم يؤخذ الثنائي مع الستة والعشرين كذلك. ثم الثالث والرابع، ثم يؤخذ السابع والعشرين من الثامن والعشرين فيكون واحدا، فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة وعشرين، فتتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب، وهو أن يجمع الأول مع الأخير ويضرب المجموع في نصف العدة، ثم تضاعف لأجل قلب الثنائي، لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب، فيكون الخارج جملة الثنائيات، وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة وعشرين، على توالي العدد، لأن كل ثنائية تزيد عليها حرفا فتكون ثلاثية، فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية وهي ستة وعشرون حرفا بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم نضرب الخارج ستة جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية، فيخرج مجموع تركيبها من حروف المعجم، وكذلك في الرباعي والخماسي «(9).

أما ما قاله ابن خلدون في عبارته «فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب، وهو أن تجمع الأول مع الأخير وتضرب المجموع في نصف العدة، ثم تضاعف لأجل قلب الثنائي، لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات» (10).

ويمكن شرح هذا بالطريقة الحسابية التالية: ( أ + ي ) × 14

 أ  14 = 28 حرف وبهذا نستطيع أن نضع هذا في الصيغة التالي

 ي ( أ + ب ) × ( س ) = ( أ × س ) + ( ب × س )

التصنيف والترميز:
عندما أحصى الخليل كلام العرب في (الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، إنما قام بواقع الأمر بتصنيف مادة معجمه إلى فئات (مجموعات). وذلك بأن يبدأ بالثنائي ثم الثلاثي وهكذا دواليك، كما أنه قام بتصنيف عناصر معجمه حسب المخرج، حيث إنه يبدأ بالحلقي ثم الشجري ثم الأسلي ثم النطعي ثم اللثوي ثم الذلقي ثم الشفوي وفي الأخير الهوامش. يقول ابن خلدون: «واعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق، ثم ما بعده من حروف الحنك، ثم الأضراس، ثم الشفة، وجعل حروف العلة آخرا وهي الحروف الهوائية»(11).

أما الترميز فقد ابتدعه الخليل بن أحمد عندما وضع للحركات اللينة (رموزا) وهي: (الفتحة) و(الضمة) و(الكسرة) وكل رمز من هذه الرموز يقابله حرف من الحروف الثلاثة: الألف والواو والياء

 الألف ( ا )

 الواو ( و )

 الياء ( ي )

وعلى هذا الأساس فإن الاختبار الحسي والصياغة الرياضية للفراهيدي أوصلاه إلى اكتشاف نظام صوتي خاص بالمفردات وتراكيب ذات أبنية خاصة؛ فإذا تغيرت في بناءها صارت لغة أخرى، ولذا يقول عندما يتحدث عن الحروف الذلقية الشفوية في الرباعي والخماسي لتمييز الصحيح في كلام العرب من الدخيل عليه، »أن كل كلمة رباعية أو خماسية خالية من حرف أو اثنين أو أكثر من حروف الذلق أو الشفوي أنها محدثة مبتدعة (...) لأنك واجدا من يسمع في كلام العرب كلمة واحدة رباعية أو خماسية إلا وفيها من حروف الذلق أو الشفوي واحد أو اثنان أو أكثر «(12).

المصطلح المعجمي:
إن الاصطلاح المعجمي عند الخليل يمثل ذروة منهجه العلمي، إذ وضع اصطلاحات خاصة بهذا المجال الدراسي ليدل على إحاطته بموضوع بحثه واستيفاء جوانبه كلها، وبهذا يكون أكثر دقة وعلمية. وأيضا فإن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو أول من ابتكر وأخرج علم العروض إلى الوجود، كما يشهد على هذا معظم اللغويين ورجال التراجم، فابن خلكان يذكر: «أن الخليل كان إماما في علم النحو، وإنه هو الذي استنبط علم العروض وأخرجه للناس، ولم يكن على بال أحد أن يبحث في هذا المسار، وقد أوضح أقسامه في خمسة دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحرا، وزاد الأخفش بحرا واحدا وسماه الخبب، ومن الجدير بالذكر أن الخليل مرهف الحس يتذوق الأصوات والإيقاع والأنغام إلى أبعد حدود، وتلك المعرفة أحدثت له هذا العلم الذي أشتهر به، فالنغم والعروض متقاربان في المأخذ «(13).

فالخليل هو أول مبتكر لعلم العروض، وحصر كل أشعار العرب في بحوره، يقول ياقوت الحموي: «إن الخليل أول من استخرج العروض وضبط اللغة وحصر أشعار العرب، وإن معرفته بالإيقاع وبناء الألحان المنشدة والمغناة على مواقع الكلام هي التي أحدثت له هذا العلم الذي اشتهر به، وهو علم العروض»(14). وقد قال القفطي عن الخليل: «بأنه نحوي لغوي عروضي، استنبط من العروض وعلله ما لم يستخرجه أحد ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم «(15). كما روى أيضا ابن خلكان عن حمزة الأصفهاني نقلا عن كتاب "التنبيه على حدوث التصحيف" قوله: «إن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند العرب أصول من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أحذه، ولا على مثال تقدمه واحتذاه، وإنما اختبره من ممر له بالصفارين من وقع مطرقة على طست «(16).

ومن هنا فالخليل يعرف علم العروض بقوله: «سمي عروضا لأن الشعر يعرض عليه».(17) أي أنه يوزن بواسطته فيبين جيده من رديئة، ويبين وزنه ويقيسه مع غيره ملاحظا الفوارق بين الأبيات المتشابهة، فالخليل هو أول من استنبط علم العروض، ولا شك أن علمه بالإيقاع والنظم أعانه على استخراج هذا العلم الذي لم يأخذه عن أستاذ ولا احتذاه على مثال سابق، ولكن ذلك تأتى له من ذكاء متوقد وعقل ثاقب، ويرون أن استنباط علم العروض تأتى له عندما كان يمر بسوق الصفارين فيسمع وقع مطرقة على طست، فكان يردد بيتا من الشعر، فإذا الترديد يناسب ويوائم ما يسمع، وتنجم عنده فكرة تقسيم وتقطيع الشعر تقطيعا انتهى به إلى وضع علم العروض. يقول فخري خليل النجار: «بينما كان الخليل بن أحمد يمر في سوق الصفارين كان يستمع بوعي وانتباه إلى ضربات مطارقهم فيجد في توالي النغمات المتكررة أنها لا تخرج عن مقطعين أساسين (صوتين) أحدهما قصير (ت) والثاني طويل (تن)، وإن النغمات التي كان قد سمعها هي في الحقيقة مؤلفة من توالي هذين المقطعين متوالية أو متفرقة «(18).

وقد شغل الخليل بهذا العلم شغلا طويلا، حتى غلب التقطيع على أمره، وبات يردد الأوزان عن غير إدراك ووعي، حيث قيل كان للخليل ولد متخلف، فدخل عليه يوما فوجده يقطع بيت شعر على أوزان العروض، فخرج إلى الناس وصاح (جن أبي) فدخلوا عليه وأخبروه وقال لابنه: لو كنت أجهل ما أقول عذلتك *** لكن جهلت مقالتي فعذلتني (19)

ولم تقف عقلية الخليل عند هذا الحد، بل تعدى ذلك إلى ابتكار علوم أخرى، فهو الذي وضع أساس علم النحو باستخراج مسائله وتعليله، حيث ورثه عن أستاذيه أبو عمر بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي، يقول أبو الطيب اللغوي: »وقد دعم ذلك (أي الخليل) بثقافة لغوية ونحو واسع، فأخذ اللغة والشعر عن أستاذيه عيسى بن عمرو وأبي عمرو بن العلاء وعن جماعة من ثقات الإعراب وعلمائهم مثل أبي مهدية وأبي طفيلة أبي البيداء وإياد بن لقيط وأبي مالك عمرو بن كركرة وابن النفيس «(20). وقد استوعب منها الكثير حتى قيل: «إنه كان يحفظ نصف اللغة«(21)، وكما أخذ الخليل عن أستاذيه فقد أخذ عنه ثلة من تلامذته، وعلى رأسهم سيبويه أحسن تلاميذه، وعلي بن نصر والنضر بن شميل والمؤرج السدوسي يقول أبو الطيب اللغوي: «وكانوا (أي تلامذته) يأخذون عنه اللغة والنحو، وكان سيبويه ألمع تلاميذه وأحبهم إليه، ولم يؤلف الخليل في النحو كتابا، وكأنه اكتفى بحفظ تلاميذه وما ورثهم من علم، وقد امتلأ كتاب تلميذه سيبويه بآرائه فعقد سيبويه أبواب كتابه بلفظه ولفظ الخليل.»(22)، وعندما كان يقول سيبويه: «سألته أو قال من غير نسب فهو يعني الخليل»(23).

وبناء على ذلك فإن الخليل بن أحمد الفراهيدي أحد أولئك الذين سطر التاريخ كل ما استطاع أن يسطره فيهم، بل الخليل فوق ذلك كله، إذ كان محورا لصنيع الحياة العقلية العلمية الإسلامية، ففي النحو هو مفتق عيونه، وشارح علله، ومستنبط أحكامه، ومصحح قياسه، فقد أخذ بناصية البيان فتعرض للإعراب والبناء والضبط وفسر وأعطى النحو مساره الذي رسمه على أسس لا تزال خطوطها العريضة المسار الحقيقي للنحو العربي. يقول ابن خلدون: «وأول من كتب فيها (أي النحو) أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة، ويقال بإشارة علي رضي الله عنه، لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها، ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاصرة المستقرأة، ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل ابن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب، فهذب الصناعة وكمل أبوابها، وأخذه عنه سيبويه، فكمل تفاريعها، واستكثر من أدلتها وشواهدها «(24).

وفي اللغة هو أول من ضبطها، وأول من حصرها في معجمه "العين" الذي هو أصل كتب اللغة ومنه تفرعت، وهو الذي يحفظ نصف اللغة أو ثلثها، فقد يسرت له أن يهتدي إلى أصول النحو وفروعه المختلفة، وأن يتمرس بالأساليب العربية، وأن يلم الأبنية العربية وأحوالها التركيبية، وأن يعرف الكثير من حروفها وأصولها المتعددة، مما أعانه على فكرة معجمه ووضعت بين يديه مادة الشعر الهائلة بأوزانها وإيقاعاتها. وفي العروض هو مخترعه ومبتكره ومؤسس دعامته، لم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم، وقد كان الخليل شاعرا مفلقا مطبوعا فصيحا، وباختصار فهو إمام أهل اللغة والعربية على الإطلاق.

 

باحث من المغرب

الهوامش

1) المخزومي، المهدي (1986): الخليل بن أحمد الفرا هدي أعماله ومناهجه، ط2، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، ص.4.

2) المخزومي، المرجع السابق، ص. 4.

3) الخليل، ابن أحمد الفراهدي (د، ت): كتاب العين، ج 1، تحقيق مهدي المخزومي، ابراهيم السامرائي، ص. 47.

4) المصدر والصفحة نفسهما.

5) السيوطي، جلال الدين المزهر (د.ت): في علوم اللغة وأنواعها، ج 1، تحقيق: محمد أحمد جاد المولى بك، أبو الفضل ابراهيم، علي محمد النجار، ط،3، مكتبة دار التراث، القاهرة، مصر، ص.90 6) الخليل، كتاب العين، ج، 1 ص، 58.

7) فخري، خليل النجار، الخليل بن أحمد الفراهدي آراء وإنجازات لغوية، ص 131. وما بعده.

 8) الخليل، كتاب العين، ج، 1 ص، 59.

9) ابن خلدون، عبد الرحمان (د.ت): المقدمة، ج 2، تحقيق علي عبد الواحد، ص .1268- 1269.

10) ابن خلدون، المقدمة ج، 3 ص 1269.

11) ابن خلدون، المقدمة ج، 3 ص 1269.

12) الخليل، كتاب "العين"، ص. 57 – 62.

13) ابن خلكان، (1978): وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج 2، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ص. 244.

14) ياقوت، الحموي (د، ت): معجم الأدباء ج 11، دار مأمون، القاهرة، ص. 73.

15) القفطي، جمال الدين (1986): إنباه الرواة على أنباه النحاة، ج1، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، دار الفكر العربي، القاهرة، ص.377.

16) ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج، 2 ص .245.

17) الخليل، كتاب العين، ج 1، ص. 321.

18) فخري خليل النجار، الخليل بن أحمد الفراهدي آراء وإنجازات لغوية، ص. 102.

19) جعفر نايف عبابنة، مكانة الخليل بن أحمد في النحو، ص. 24- 45.

20) أبو الطيب، عبد الرحمان بن علي اللغوي (د، ت): مراتب النحويين، ت، أبو الفضل ابراهيم،ص.39 – 40.

21) السيرافي، الحسن بن عبد الله (1955): أخبار النحويين البصريين، ت، طه عبد الرحمان الويني، ومحمد عبد المنعم خفاجي، ط1، مكتبة مصطفى البالي وأولاده، ص.41.

22) أبو الطيب اللغوي، مراتب النحويين، مصدر سابق، ص. 65.

23) السيرافي، أخبار النحويين البصريين، مرجع سابق، ص. 31.

24) ابن خلدون، المقدمة، ج 3، ص. 1266.