يرسم القاص العراقي معاناة ومشاعر شاب أخرس وهو يتعلق بامرأة يراها صدفة ولا يستطيع التعبير والبوح بمشاعره يصورها بطريقة حاذقة تفّصل معاناته العميقة وحرقته، كاشفاً عن قسوة الأب في العائلة العراقية التي يشكل الضرب المبرح للأبناء من تقاليدها المعروفة.

الأخرس

عادل الهلالي

يقف منتظرا في موقف السيارات القريب من بناية الدائرة الحكومية كي يذهب إلى بيت أخته الساكنة في أحد الأحياء الواقعة في طرف المدينة حيث تعود زيارة أخته في أوقات مقاربة حاملا معه بعض الأشياء من سوق المدينة , ويمدها ببعض المال البسيط كي يعينها على فقر زوجها الذي اقترنت به هرباً من قسوة و ظلم أبيها, الظلم الذي كافئه هو الأخر بعاهة مستديمة حولت حياته إلى مأساة مريرة جعلته يركن في زاوية ويجتر الهموم دون صوت . خرجت من الدائرة تلك الفتاة التي يراها لأول مرة بالصدفة, فهو يحب الصدف لأنها تأتي دون ميعاد مسبق, اتجهت حيث يقف هو في موقف الانتظار, فبدت تدور في محنته و في دروب همومه الصامتة.. آه لو يستطيع أن يصرخ في هذه اللحظات..شعر بها تنهشه بامتعاض كذئاب الغابات, ككلاب الملوك المسعورة, وهو يرضخ كالعبد الذي لم تتحقق أحلامه و أمنياته, يتمنى أن يمتلك الكلام أو حتى الأنين.. يشعر بتوهج وجهها ليزيد من توهج الظهيرة الصيفية الملتهبة في هذه اللحظات ,وشعرها الفاحم يمتص كل الأشعة الشمسية ليعكسها إلى قلبه المتعطش للحب . وحين مرت بقربه نفذت رائحتها بأنفه فنبت في روحه شعور غريب جعله يطير بلا أجنحة و حتى لسانه العاطل شعر به مزدحماً بالكلمات.. استفاق من دهشته عندما جلست بسيارة الركاب لصق النافذة ثم انطلقت السيارة ليصحو هو من حلم قد لا يتكرر حتى في أحلام اليقظة. ارتسم على ملامح وجهه حزن شفيف كحزن الخريف تتلون فيه كل التعابير و الأجواء و الأشياء , و بعد زيارة أخته , رجع فوجد نفسه تائها في ارض لا حدود لها ,عبر الجسر وفي منتصفه ضرب وجهه النسيم الرطب ,فتوقف ,اتكأ على الحاجز الحديدي و وجهه إلى أسفل النهر فتدلى رأسه مرتخيا .. تمنى لو إن ملكا من ملائكة السماء يهبط ويركب له لسان بدلا من لسانه العاطل.. أليس من العدل أن تكون كل المخلوقات متساوية في كل شيء ؟.. ولكن كيف ؟.. كيف يستطيع أن ينطق بعد العاهة المستديمة التي منحه إياها والده عندما انهال عليه بالضرب و الركلات القاسية وهو في عمر خمس سنوات بسبب عبث طفولي لا يعيه ومن يومها أصبح الخوف يلازمه كرفيق حميم ,ويلعن الاقتراب من الناس ,أصبح شخصا مغلقاً وملئاً بالحزن , لكن ملامحه للناظر إليه تبدو ملامح حادة قاطعة لا تخلو من جاذبية و جمال , و وجهه تحس به اشراقة لطيفة . اعتاد منذ أكثر من شهرين أن يطل يوميا بقامته المتوسطة و ملامحه الحادة ليقف في موقف السيارات المقابل لبناية الدائرة الحكومية ينتظر خروج الفتاة الجالسة الآن داخل تلك البناية ليصوب عينيه الحادتين باتجاه بوابة البناية, ستخرج بعد دقائق معدودة عندما ينتهي الدوام ليغرق معها في المسافة الفاصلة بينه و بينها في وحل نظراته و يشرب من عطش صحرائه و ينقطع عن كل شيء حوله ليحلق معها بأجنحة اللذة و الخيال ,ليجد نفسه منهك ,متعب,فتجلس هي لصق نافذة السيارة لتنطلق بها و يعود هو صوب دروب بلا منافذ ,يلملم أشلائه و انكساراته منكس الرأس تتجه خطاه في عتمة الضياع .. كما كانت تتجه خطاه نحو محلتنا بانكسار , خطوة , خطوتان ثم يتوقف على بعد أمتار بحسرة و الم ثم يتنهد بحرقة و يرتجف كعصفور مبلل ,فيما تتلاحق أقدامنا و خطواتنا المتسارعة و نتسابق متزاحمين لدخول المدرسة ثم نلتفت إليه نواسيه بمشاعر بريئة فيعود صوب محلتنا منكسرا , و عند الظهيرة ,نجده بانتظارنا متلهفا يخطو نحونا كاتما في داخله تنهدات الحرمان , كان يزيح هموم الدراسة و التعب عن وجوهنا الشاحبة المصفرة الممزوجة برطوبة بيوتنا القديمة ,يسير معنا و إذناه تلتقط كل شيء عن الدروس الجديدة التي تعلمناها , كانت خطواته الصباحية وهو يسير معنا تداعب شوارع زقاقنا الموحلة بالمياه الآسنة ,كان حينها لا يعي عاهته فيزرع على وجوهنا الابتسامة و يغرز في نفوسنا الفرح ,نظراته تنتقل بيننا كفراشات تحط على وجوهنا و حقائبنا التي تنوء بها ظهورنا . انتهت مرحلة الدراسة الابتدائية و انهينا مرحلة الطفولة و ما أن دخلنا المتوسطة تخلف عنا و انقطع عن حضوره الصباحي معنا و انطفأت همومنا الدراسية في عينيه و توهجت همومه بالسوق متنقلا بعربة صغيرة يبيع فيها الخضار ويفتح قلبه للزبائن كما يفتحه اليوم لتلك الفتاة لحظة خروجها من الدائرة تتحرك بخطى مرتبكة قلقة عندما تلاحظه يرصدها بنظراته الحادة , فهي على يقين انه يراقبها و يجس خطواتها ,اعتادت طيلة هذه الفترة من صمته و ملاحقته لها بنظراته أن تراقب تعابير وجهه و بريق عينيه وتحاول أن تقتفي دبيب الانفعال إلى داخله .. هل هو الحب ؟. الفضول ؟.. أم الشفقة عليه ؟. أم ماذا ؟ من ينظر إليه تتملكه حالة من الشفقة و تنزرع على شفتيه عنوة ابتسامة مرة , هكذا كان يشعر , لكن الفتاة كان يفضحها الانفعال , يتورد خدها و يميد جسدها الرشيق بسياط نظراته المتلصصة و يتطاير شعرها كأسراب الليل فترفرف روحها فتطيل النظر إليه و تتأمل ألغازه و تحاول أن تغور في أعماقه , حيرة و دهشة قد تؤدي إلى حب يداعب قلبها , شجعها على ذلك إصراره للحضور اليومي و الالتزام بموعده في هذا المكان و ثبات نظراته إليها و كأنه حزم على أمر ما دفعها تشم رائحة الحب فيه فبدأت تختزل المسافة بين باب الدائرة و موقف السيارات حيث ينتظرها برعشة في القلب و بسطوة حلم يداعب الخيال ,فأدركت بغريزتها و فراستها انه يحمل هموما ثقيلة لكنها لا تعلم عما يختبئ خلف أسوار قلبه , لا تعلم بعاهته التي حرمته من أن ينمو في أحضان المدرسة , عاهته التي تمنعه الآن من أن يصارحها بحبه العميق , لا تعلم بعاهته التي تمنعه حتى أن يحلم ببناء حياته و دروب سعادته القادمة . يحلم أن يبني بيتا و يؤثثه بأحلام جميلة ,بيتا تملؤه ضحكات الزوجة و عبث الأطفال و صراخهم , أو يحلم بأنه يقع في حب امرأة تذيقه طعم الحب و تزيح عنه الهموم و الحرمان , عاهته التي جعلته يغلق كل الأبواب بوجه العالم و بوجه أبيه الذي حول حياته إلى دوامة من العذاب .. لا تعلم بكل ذلك .. لكن قلق لعبة الانتظار يرتسم على محياها و نظراتها التي تندى بالرجاء و بصبر يكاد ينفذ ... خرجت من الدائرة بعد نهاية الدوام ككل يوم وهو ينتظر , و تنهدات بين عتبة باب الدائرة و عتبة سيارة الركاب , عبرت رائحتها إلى انفه حيث يقف قبالة باب السيارة محموما مرتجفا , تهم بالصعود إلى عتبة السيارة , لكنها فجأة تتوقف في اللحظات الأخيرة و تستدير إليه , تتقدم خطوة و تقف أمامه وقد ضج الفزع في داخلها , فتصرخ به:

 - آنت شنو ؟!.

 تصرخ وهو يستقيل صراخها المثخن بالأسئلة و التأنيب و عن سبب وقوفه و انتظارها طيلة هذه الفترة الطويلة كالتمثال دون أن تصدر منه أي إشارة أو دعوى لها.. و لماذا تخونه الجرأة على أن يخطو أية خطوة ليمسح الغموض عن مصيرها .. كانت أسئلتها متلاحقة ,مدوية,ترسبت في صدرها ثم تراكمت و لم يعد صدرها يتحمل التراكم فانفجرت و راحت تطلقها دون أن تلقط أنفاسها .. لم يعِ في البداية ما قالته , كان مبهورا في تفاصيلها وهي منفعلة و برائحة أنفاسها حيث بدأ يشمها عن قرب . فتسرب ألمها و حرقتها إلى مسامعه الحادة فانفجر في داخله شعور الحب وانطبق على أنفاسه فخرج صوته مكتوما, مختنقا, متقطعا, بنبرات مبهمة, لا تلتقط منه الأسماع حرفا و لا كلمة و لا أي معنى مع حركات يديه المنفلتة.. صعقت الفتاة و جحظ الرعب في عينيها فركضت مندفعة إلى جوف السيارة لتختفي بين الركاب مصدومة, تنطلق السيارة وهي لصق النافذة. و تبقى نظراته الباكية تتوسل, فيدير رأسه نحو محلته القديمة معاتبا والدة حين أمات لسانه و أخرسه و جعل عاهته مستديمة.