تحاول الكاتبة المصرية سبر غور العلاقات الزوجية في ظل فقرٍ مدقع، من خلال سرد وجهتي نظر الزوجة الحانقة على زوجها وفقرها، وأسلوب تعاملها الفظ معه، ووجهة نظر الزوج المغلوب على أمره من خلال أسلوب ساخر يكشف بؤس حياة هؤلاء البشر المسحوقين.

من دون حذاء

أميـرة الوصيف

حذرتني زوجتي مما أفعله الآن , صرخت في أذني بصوتها وقالت وملامحها على وشك السقوط من وجهها الطويل

" اسمع يا يعقوب إياك أن تُطِع عقلك المريض .. إياك أن تستجيب لهلاوس علاجاتك الطبية .. إياك أن تجعل هذا الجُرم عَرضاً جانبياً لها 

اسمع يا يعقوب لقد طَفح الكيل وفاض، فأنتَ رجل غير رشيد لن يُغيرك الزمان .. ها نحن في عِقد زواجنا الثالث وها أنا أحتمل خَبلك وفظاعة مُخيلتك وشذوذ هندامك -إن وُجد- فأنتَ يا زوجي ولعنتي كما تعرف وأعرف ويعرف دود الأرض النَتِن لا تملك سوى جورباً من الصوف ؛ حاكته لك عمتك قبل أن تدفن رأسها في تراب الموتى ومع كل هذا الفقر المُنَعم الذي نشهده كل ليلة لازلت تُصِر على عنادك , لازال العَته يُعَشش في غرف فِكرك - إن كان لك فِكر- , ويمتطى أحصنة قراراتك - إن كان لك قرار- فقُل لي بالله عليك يا مَن أسميته لعنتي الأبدية متى كانت آخر مرة اتخذت فيها قرار؟

ثم تلوى زوجتي وجهها كأنما وقع بصرها على كارثة طبيعية , وتُعاود وصلة سَبى ولعني التي والله أمتصها حرفاً.. حرفاً دون أن أنبس بكلمةِ واحدة !

وكلما بدا على وجهي تَذمر بسيط من أثر قَصف كلماتها الهوجاء , تَبدلت جبهتها لأسطر مُعَدة للكتابة وأقبلت نحوى بخُطى لا تقبل العودة إلى الوراء , وأكمَلت ما بدأته وهى تصيح مُجَلجلة :

- اسمع يا يعقوب .. انس تماماً هذا الأمر .. أنساه أو تناساه فأنا لا أفهم كيف تخطر ببالك فكرة لقيطة كهذه .. أتسمعني يا فِسقى .. يا أكبر مُبررات دخولي الجحيم؟

وكلما أردتُ أن أُبَدل وضعية جلوسي كي أغمرها أولاً بنظرتي الحانية ثم أجذبها بلُطف من يدها اليُمنى - هذا إن لم تَنكسر ضلوعي حينها فحبيبتي الغالية تَزِن فوق المائة كيلوجراماً ومع ذلك أحبها أو أتظاهر بذلك خِشية نكران حُبها .

إلا إنها لم تكن لتعطيني فرصة عادلة كي أُغازلها على طريقة الأحبة وأُساومها على طريقة الأزواج , فزوجتي مسمومة بالخوفِ والتقاليد والسير بجانب الحائط الآمن , ومسمومة أيضاً بعبارة "نظام الدولة ", هي تخشى أن تتأفف فيختل نظام الدولة , تخشى أن تعطس بصوتِ البنادق فيختل نظام الدولة 

تخشى أن تقول في وجه التاجر ثقيل الظِل جارنا  " بِم " فيهتز نظام الدولة

تموت رُعباً من أن تُحرك صورة حفيدنا الصغير قليلاً فتتَقدم بدورها العلم الوطني الموشوم على حائط غُرفتنا فيختل نظام الدولة !

فكيف الحال إذن لو عَلمت منى أنا شخصياً وأنا زوجها الشرعي كما هو مُوَثق في أوراق الدولة ذاتها أنني أنوى نية جادة في أن أكتب لحاكمنا رسالة طَلب العون .

من المؤكد أن هذا الأمر بالنسبة لها هو مَس أو جنون أو أضغاث أحلام .

فزوجتي لا ترى خيراً فيما أنوى فعله .

بالأمس كانت تُقَشِر البرتقالة الوحيدة المُتبقية لدينا وكالعادة اقتسمناها على طريقة توائم الحب , ولكن لم تكن مسألة اقتسامنا برتقالة واحدة هُنا بدافع التَوحد بل كان بدافع نَقص الثمرات .

المهم أنني لم أختر التوقيت المناسب فبينما كانت زوجتي تضع فَص البرتقالة الأول في فَمها الواسع وقبل أن تذوبه كنت أنا قد أطلقت رصاصتي في الهواء وحينها لم أفق إلا على نصف برتقالتها تخترق فمي على طريقة لاعبي كرة السَلة .

وظللت صامتاً , ساكناً , أهمس لنفسي في أدب جَم 

وها أنا اليوم أُعلن تمردي على فقرنا وعَوزنا وخوف زوجتي القديم , وأُصِر على كتابة رسالتي إلى الحاكم. 

أحمل لفافة ورقي, فأنا منذ الصِغر كنت مُحباً ومولعاً بالكتابة , وكنت أنوى إصدار كُتباً وكُتباً وأستحيل ممَن يختبئون في أوراقهم إلا أن هذا لم يحدث. فمنذ أن كنت في الجامعة , طلب منا الأساتذة أن نكتب شِعراً في "عميد الجامعة " في بَذلتة , وقميصه , ونظارته , وانتفاخ كِرشه , وكيف يَتدلى هذا الكِرش في دلال أقرب إلى شلالات من الموسيقى إلا إنني أبيت كُلياً أن أكتب هذا الهراء , وقلت بصراحة شديدة "هذا هراء" فلم أكن أرى كِرشه من موسيقى أبداً , فالكِرش لا يمكن أن يكون إلا كِرش .

ومنذ ذلك التَمرد القديم أصبحتُ أتحسس أنا وزوجتي كِرشنا في صمت دون صراحة أو ثورة أو فلسفة .

لكن الآن وفى تلك الأجواء العصيبة , لا يمكنني المكوث هكذا كدجاجة تبيض , سأفعل شيئاً , سأكتب للحاكم , وأطلب منه العون .

وها أنا أشرع في كتابة خطابي وأقول :

" سيدي الحاكم .. كيف الحال؟ أنا لا أعرف ماذا يقول الناس في الخطابات المُرسَلة لحُكام بلادهم , ولا أعرف حقيقة أن كان هناك خطابات تُرسَل للحُكام أم يُرسلها الخيال ويلفظها الواقع؟

إلا إنني أرغب في أشكو إلى سيادتكم همي .. لقد أخبرونا منذ يومين هنا في الحي أن سيادتكم تَنون زيارتنا ورؤية أهل حينا القَذِر على الحقيقة وهذا والله سَر خاطري وزوجتي كثيراً .. بل كثيراً جداً

وهذه الحقيقة أراحتنا , فنحن لا نريد إلا الحقيقة 

ولكن جاء لنا السادة نواب المنطقة وقالوا: بأنه لا يجوز للمرء منا التقاء سيادتكم من دون حذاء 

وحين قُلت للسادة الكِرام أصحاب البدل القاتمة والشوارب القططية أنني صِدقاً لا أملك حذاء منذ زمن بعيد 

رمقني بنظرة لا تَصديق واضحة 

وقال في حَنق : ماذا تقول أيها البَغل؟

كيف لإنسان أن يعيش من دون حذاء؟

كيف تمشى؟ كيف تعمل؟ كيف تركض؟ كيف تَلتقِ السادة؟ السادة يا غبي !

ويبدو أن السادة لا يُصَدقون مسألة الحذاء إلا أنها الحقيقة بوضوح حتى أن زوجتي-وهى تخشاكم جداً- تعايرني دائماً بعدم امتلاكي حذاء , وتقول : طوبى لي أحببت رجلاً حافياً

وهى بالمناسبة تخشاكم جداً وترفض أن أطلب هكذا طلب من سيادتكم

لكنى أطمع أن ألتقِ حاكمنا الأعظم وأخشى هَول لقياه من دون حذاء