يرى الكاتب أن حتميّة انعدام الكمال في أي منهج، قادت المسار النقدي لدى مرتاض إلى التعدد المنهجي، انطلاقاً من المناهج السّياقيّة مروراً بالنّسقيّة، منتهياً إلى التركيب المنهجي المفتوح والمنتشر؛ بمعنى أنه أسهم في بناء مدرسة نقديّة عربيّة منطلقها التّراث ومنتهاها الحداثة.

منظور النّقد عند عبد الملك مرتاض

عبد السلام مرسلي

إنّ المسار النّقدي لعبد الملك مرتاض حافل بلا ثبات المنهج، فقلقه المعرفي الّذي يساير مشروعه النّقدي جعله لا يطمئن لمنهج واحد في مقاربة أو تحليل نص أدبي، سردياً كان أو شعرياً، لافتقار هذا الأخير لتقنيات يسدّ بها متطلّبات النّص الأدبي، حيث يرى أنّه "لا يوجد منهج كامل، مثاليّ، لا يأتيه الضّعف ولا النّقص من بين يديه ولا من خلفه، وإذن، فمن التّعصب [...] التّمسك بتقنيات منهج واحد على أساس أنّه، هو وحده، ولا منهج آخر معه، مَجدَرَةٌ أن يُتّبع"[1] لذلك "وانطلاقا من حتميّة انعدام الكمال في أي منهج، فإنّنا لا نستنيم، من حيث المبدأ، إلى أي منهج إذاً؛ ونجتهد، أثناء الممارسة التّطبيقية، أن نضيف ما استطعنا إضافته من أصالة الرّؤية لمنح العمل الأدبي الّذي ننجزه شيئا من الشّرعيّة الإبداعيّة، وشيئا من الدّفء الذّاتي، معا [...]"[2] وبالتّالي غدا "تهجين أي منهج أمر ضروري لتكتمل أدواته، وليصبح أقدر على العطاء والرّؤية"[3].

من هذا نعدّ عبد الملك مرتاض من أكثر النّقاد توزعا بين المناهج المتباينة الطّرح، انطلاقا من المناهج السّياقيّة مرورا بالمناهج النّسقيّة منتهيا إلى التركيب المنهجي المفتوح والمنتشر، الّذي دعا إليه بإلحاح في أكثر من مقام إيمانا منه أنّ "التّعدّدية المنهجيّة أصبحت تشيع الآن في بعض المدارس النّقدية الغربيّة، ويرى أنّه لا حرج في النّهوض بتجارب جديدة تمضي في هذا السبيل بعد التّخمة الّتي مُني بها النّقد من جرّاء ابتلاعه المذهب تلو المذهب خصوصا في هذا القرن"[4].

وعليه، فعبد الملك مرتاض ينحو النّهج التّركيبي بوعي كامل أثناء قراءته، والّذي يختلف في جوهره عن الإجراء التّكاملي (*) كما بدا لنا في بعض الدّراسات النّقدية المعاصرة، مبررا هذا المنحى كون التّيارات النّقدية المعاصرة قد جنحت إلى "التّركيب المنهجي، وذلك لدى إرادة قراءة نص أدبي ما، مع الاجتهاد في تجنيس التّركيبات المنهجية حتى لا يقع السقوط في التلفيقية"[5].

إنّ ميله في مقارباته النّقديّة إلى هذا التركيب، دعوة صريحة إلى تبنّي قراءة احترافية؛ وهي "القراءة المركّبة المعقّدة التي تنهض على جملة الإجراءات التّجريبية ولاستطلاعية والاستنتاجية جميعا"[6]، والتي بقدر ما تنهض على التّناقض تنهض على التّناسق والتّرابط، وعلى إثرها استطاع المزاوجة بين "التّراث البلاغي القديم ومعطيات السّيميوطيقا الحديثة، وناهضا في خِضمّ ذلك ومعقِّما لحوار نقدي ومعرفي بين ما أنجزه التّراث البلاغي واللّغوي والنّقدي العربي وبين تلك التّصورات والآليات الحديثة الّتي يقدّمها النّسق المعرفي الغربي"[7].

ولكي يمنح لهذا الطّرح قيمته المنهجية والعلمية، ولمحاولة ربط المعاصر بالقديم، والحداثي بالتّراثي، رأى أنّه "من المكابرة الزّعم بأنّ المعاصرين اليوم، وحدهم، هم الّذين اهتدوا السّبيل إلى إشكاليّة القراءة السّيميائيّة بكل انجازاتها اللّسانياتية وبتعدّد حقول تأويلاتها المستكشفة، والتي ليس لآفاقها حدود"[8]، فقد مارس العرب كتابات من حول النّص الأدبي منذ فجر التّاريخ الأدبي، يمكنها أن تشكّل بدايات، وإرهاصات لقراءة سيميائية "ومن ذلكم الشّروح التي مورست حول مدوّنات شعرية أمثال الحماستين، ودواوين شهيرة أمثال ديوان أبي الطيب خصوصا، ونصوص نثرية أمثال المقامات، وخصوصا مقامات الحريري والهمذاني"[9].

ولعل ورود محاولات تضمّنت التّشاكل - والّذي هو فرعية من فرعيات السّيمائيّة- تحت مصطلحات مختلفة كالطباق، والمقابلة، واللف، والنشر، والجمع، دليل على أنّ البلاغيين العرب، قد حاموا حول هذه الفرعية لكنّ جهوده الفردانية، وقصور أدواتهم الألسنيّة لم يقعوا عليها كما وقع عليها (Greimas) غريماس [10].

فمن خلال المفاهيم والنّظريات الغربية الّتي استوعبها مرتاض وتلك المناعة النّقدية التّراثيّة الّتي اكتسبها استطاع خلق القراءة المركّبة ليلج بواسطتها إلى أغوار النّص كاشفا عن جملة المركّبات اللّسانية والإيديولوجية والجمالية والنّفسية بوعي كبير على سبيل المزاوجة أو المثالثة أو المرابعة، وربّما المخامسة بين طائفة من المستويات[11].

من هذا جاء نفور مرتاض من أحادية المنظور القرائي المغلق كمطلب بيّن إلى تعدّدية القراءة بغية إخصاب القراءة السيميائية وإثراء أدواتها المنهجية.

فهذا الجنوح إلى تعدّدية القراءة، والنّزوع نحو التّركيب المنهجي، وهذا اليقين بأنّ النّص الواحد "يجب أن يظلّ مفتوحا إلى ما لا نهاية، وأنّ كلّ قارئ يمكن أنّ يقرأ بمنظاره، أو منظوره الخاص..."[12] يجد سنده من التراث العرب كون "العرب من الأمم الّتي تعاملت مع النّص الأدبي على أساس من الانفتاحية وعطائيته منذ القدم؛ بحيث ألفيناهم يكْلفون كَلَفا شديدا ببعض النّصوص الأدبية الكبرى مثل شعر المتنبي الّذي وصلنا من الشّروح التّراثية أكثر من ثلاثين شرحا، أو قراءة عنه، لعلّ أشهرها قراءات ابن الأثير، وابن جني، وابن سيدة ... كما يقال نحو ذلك أيضا عن مقامات الحريري الّتي تّعوّر النّاس شرحها فجاوزا حدّ الطّور المعتاد"[13]، من ذلك نلفي القارئ يقترب من النّص مبتغيا التّوسّع، والتّعمّق، مستندا على جملة الأدوات الّتي يختزنها في وعيه ولا وعيه، مفجرا عطائية النّص فتغدو القراءة متعدّدة ومتجدّدة وكلّ واحدة منها "تمثّل وجهة نظر معيّنة، فهذه قراءة نحويّة، وتلك قراءة لغويّة، وثالثة أسلوبيّة، وأخرى تنزع منزعا آخر قد يكون بلاغيّا، وهلم جرّا... وعلى أنّ داخل كلّ قراءة- يمكن أن تظفر قراءة أخرى تنتمي إلى نوعها، ولكنّها تختلف عنها، كما يحدث ذلك في تأويل بيت من الشّعر من الوجهة النّحوية"[14].

خلاصة القول:
إنّ النّص مهما كان قديماً أو حديثاً، طويلاً أو قصيراً، يظل واحداً، بينما تناوله يتعدّد ومعالجته تتباين، الأمر الذي دفع بـمرتاض إلى استحداث التّركيب المنهجي المفتوح والمنتشر في خطابه النّقدي، كي يسّد به متطلبات النّص، كما عوّل كثيرا على تعدّدية القراءة وتجدّدها، إخصابا للقراءة السّيميائية وبالتّالي إشباع النّص بتفجير عطائيته من طرف القارئ. بهذا الموقف زاوج بين تراثنا النّقدي اللّغوي والبلاغي وبين السيميوطيقا الغربية في مقارباته لربط التّراثي بالحداثي، بواسطة حوار معمّق وخصب بين منجزات تراثنا البلاغي وبين ما توصل إليه النّقد الغربي من آليات وتصوّرات، ليثبت ببراعة فذّة وذوق أصيل أنّ الأدب العربي أحد الآداب العالمية الكبرى، ومن الصّعوبة بمكان تناول مفهوم حداثي، لا نعثر على جذور له في تراثنا النّقدي. من ذلك يبقى مرتاض ولا يزال "ناقدا غربيّ المنهج، عربيّ الطريقة... حداثيّ المادة، تراثيّ الروح"[15]. وفعلا فهو الحداثيّ المحافظ الّذي جعل من مساره النّقدي الحافل بالمجهودات المنهجية إسهامة في بناء مدرسة نقديّة عربيّة منطلقها التّراث ومنتهاها الحداثة، تتناول النّص الأدبي بالقراءة "من منظور إذا اتّخذ بعض الأدوات المستجلبَة من مناهج الغرب الحداثية؛ فإنّه يظلّ، في الوقت نفسه، وفي أساسه، عربيّ الذّوق، عربيّ الصّقل، عربيّ المظهر، عربيّ الاشراقة"[16]، وهي نزعة تجعل منه ناقدا عربيا متفتحا لا يتنكّر لتراثه.

(باحث أكاديمي)

* * *

الهوامش

[1] مرتاض، عبد الملك: التحليل السيميائي للخطاب الشعري، تحليل مستوياتي لقصيدة شناشيل ابنة الجلبي، دار الكتاب العربي، الجزائر، 2001، ص: 18.

[2] المرجع نفسه، ص: 19.

[3] المرجع نفسه، ص: 21.

[4] مرتاض، عبد الملك: تحليل الخطاب السردي، معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية "زقاق المدق"، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995، ص 06.

(*) لمزيد من الإيضاح ينظر:

- وغليسي، يوسف: الخطاب النّقدي عند عبد الملك مرتاض -بحث في المنهج وإشكاليته- المكتبة الوطنية الجزائرية، إصدارات رابطة ابداع الثقافية، الجزائر، 2002.

- وغليسي، يوسف: مناهج النّقد الأدبي، جسور للنشـر والتوزيع، الجزائر، ط1، 2007.

-وغليسي، يوسف: النقد الجزائري من اللانسونية إلى الألسنية، إصدارات رابطة إبداع الثقافية، الجزائر، 2002.

[5] مرتاض، عبد الملك: التحليل السيميائي للخطاب الشعري، ص: 09.

[6] مرتاض، عبد الملك: في نظرية النقد (متابعة لأهم المدارس النّقدية المعاصرة ورصد لنظرياتها)، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 2002، ص: 13.

[7] عقاق، قادة: هاجس التأصيل النقدي لدى عبد الملك مرتاض، بين وعي التراث وطموح الحداثة، ص: 273.

[8] مرتاض، عبد الملك: التحليل السيميائي للخطاب الشعري، ص: 07.

[9] مرتاض، عبد الملك: شعرية القصيدة قصيدة القراءة، دار المنتخب العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1414ھ الموافق 1994م، ص: 08.

[10] ينظر: المرجع نفسه، ص:33.

[11] ينظر: مرتاض، عبد الملك: التحليل السيميائي للخطاب الشعري، ص:09

[12] مرتاض، عبد الملك: التحليل السيميائي للخطاب الشعري، ص:15.

[13] ينظر: المرجع نفسه، ص: 16.

[14] مرتاض، عبد الملك: المرجع السابق، ص: 17

[15] وغليسي، يوسف: الخطاب النّقدي عند عبد الملك مرتاض، ص: 08.

[16] مرتاض، عبد الملك: التحليل السيميائي للخطاب الشعري، ص: 25.

* * *

قائمة المراجع:

1- عقاق، قادة: هاجس التأصيل النقدي لدى عبد الملك مرتاض بين وعي التراث وطموح الحداثة، مجلة نزوى، سلطنة عمان، ع38، أبريل، 2004.

2- مرتاض، عبد الملك: التّحليل السّيميائي للخطاب الشّعري، تحليل مستوياتي لقصيدة شناشيل ابنة الجلبي، دار الكتاب العربي، الجزائر، 2001.

3- مرتاض، عبد الملك: في نظرية النّقد، متابعة لأهم المدارس النّقدية المعاصرة ورصد لنظرياتها، دار هومة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الجزائر، 2002.

4- مرتاض، عبد الملك: تحليل الخطاب السّردي، معالجة تفكيكيّة سيميائيّة مركّبة لرواية "زقاق المدق"، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995.

5- مرتاض، عبد الملك: شعرية القصيدة قصيدة القراءة، تحليل مركب القصيدة "أشمان يمانية"، دار المنتخب العربي، بيروت، لبنان، ط.1، 1414هـ، 1994.

6- وغليسي، يوسف: النقد الجزائري من اللانسونية إلى الألسنية، إصدارات رابطـة إبداع الثقافية، الجزائر، 2002.

7- وغليسي، يوسف: مناهج النقد الأدبي، جسور للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 1428هـ. 2007 م.

8- وغليسي، يوسف: الخطاب النّقدي عند الملك مرتاض، بحث في المنهج وإشكاليته، المكتبة الوطنية الجزائرية، إصدارات رابطة إبداع الثقافة، الجزائر، 2002.