يبني القاص التونسي قصته على فكرة عيش الأرواح أكثر من حياة بمخلوق آخر، في سرد يبدو في الظاهر تفاصيل يومية عادية، لكن مع تمام القصة تتغلغل فكرة الحلول في كل حركة وفعل وحوار ظنه القارئ يوميا.

منشول

سيف الدّين بنـزيد

في آخر صحن الدّار، أمام باب المطبخ القديم المغلق منذ سنين، حيث نور المصابيح يصل خافتا، انزوى "منشول" يراقب المائدة ومن حولها بعد إفساده عشاء العائلة. لأوّل مرّة يضع منشول رأسه في قصعة الكسكسيّ ليفتكّ قطعة اللحم من أمام هالة مربّيته التي دلّلته ودعته بهذا الاسم قائلة: إنّي نشلته من غدير في الشّارع". وبقدر ما كانت هالة تحبّه، كان أفراد العائلة ينفرون منه. ولعلّ أغرب ما في هذه الحادثة أنّ منشول ألقى باللحمة أرضا ولم يأكلها كأنّه أحسّ بجسامة الجرم الذي اقترفه أو كأنّه أراد تبليغ رسالة ما.

- أأعجبكِ هذا يا هالة؟

صاحت أمّها ويدها اليمنى تبحث تحت المائدة عن شبشبها الثاني لتصيب به منشول أو وجهَ النّحس كما كانت تلقّبه.

ألم أقل لك مرارا، لنتخلّص من هذا الحيوان القذر فأنا أتطيّر من سواده؟ اُنظري إلى بنصرك اليسرى... إنّها دامية...

- لكن لماذا بعد كلّ حبّي وتكريمي له قد عضّ إصبعي؟

أجابها والدها وقد وضع ملعقته في الكسكسيّ ليأكل غير مبال بما صنع القطّ:

- لأنّكِ منعت عنه عشاءه.

- بابا!! منشول ليس جائعا، فأنا أطعمته بيدي منذ قليل. ألم تر كيف بصق اللحمة؟

بدعابتها المعتادة تدخّلت أختها الكبرى:

- إن لم يكن جائعا فهو غيران، لعلّ خاتم خطوبتك الجديد استفزّ مشاعره...

غرق الجميع في الضّحك وانسحبت هالة في ذهول ودخلت إحدى الغرف. استلقت فوق فراش أرضيّ لتعاين عضّة قطّها، فلم تجد على إصبعها سوى أثر ناب واحد. هل نشلته لينشل خاتمي؟

وفي تلك اللحظة فوجئت بمنشول يتمسّح بقدميها ويموء مواءً حزينا كأنّه اعتذار. فحملته في حضنها. ولمّا نظرت إليه بحنان لمحت نفسها تحلّق في مُقلتيه وتذكّرت خطيبها الأوّل الذي أحبّته بكلّ جوارحها لكنّ المنيّة حالت دون زواجهما. حوّلت نظرها إلى السّقف.

- سامحني يا حبيبي... ما تراني فاعلة؟ عامان مرّا على رحيلك رفضتُ فيهما أن أخطَبَ. هل سأبقى عزباء إلى الأبد؟ إنّي قطعت على نفسي ألاّ أنساك ما حيّيتُ. هلاّ عفوت عنّي يا حبيبي؟

كانت كلّ كلمة تفوّهت بها هالة متبوعة بدمعة حتّى تبلّل وجهها الطفوليّ وصارت الدّموع تنهمر على ثيابها وعلى منشول الذي وضع ساقيه الأماميّتيْن الصّغيرتيْن على وجنتيْها ربّما في محاولة منه لكفكفة ما فاض من أجفانها.

نامت هالة ليلتها تلك محتضنة قطّها المدلّل الذي وجدت فيه طيلة سنتيْن خير مؤنس لها ورأت في سباتها مناما عجيبا. رأت أنّها تعانق خطيبها الأوّل!

صباحا قصّت رؤياها على أمّها فانقبض قلب الوالدة وقالت:

أضغاث أحلام، لا تخبري أحدا بحلمك هذا، صلّي وتعاليْ لتفطري. سننتظرك على المائدة.

- ألم يفق أبي إلى الآن؟

- آه! أبوك خرج مبكّرا...

- لمَ؟؟

أدارت الأمّ وجهها منطلقة نحو المطبخ:

- ليرميَ القطّ الملعون بعيدا. أخيرا سنرتاح من متاعب منشول.

- كيف خوّلت لكم أنفسكم اقتراف هذا الإثم؟ ماذا فعل لكم منشول؟ أقلوبا تملكون أم صخورا؟ واضيعة قطّاه... واضيْعتي... ألم تسمع أنّ امرأة من قبلُ دخلت النار في هرّة؟ لقد يتّمت قطّي الأسود الصّغير وحرمته من حناني، أين أنتَ يا منشول؟ أين أنت يا حبيبي؟

في ذلك الوقت كان الأب قد أدّى المهمّة الفظيعة بنجاح. وما أن عاد وفي يده الكيس فارغا حتّى ساد الدّار صمتٌ جنائزيّ وتحوّل مجلس الفطور مأتما وظلّ صفو العائلة مكدّرا لأيّام. أمّا الأب فقد ندم بعد أن حاول سُدى إيجاد القطّ في المكان الذي تركه فيه وأمّا هالة فحزنت حزنا جمّا وبقيت آملة عودة قطّها. كان يُهيّأ لها ليلا صوت موائه متأتّيا من أمام المطبخ القديم. تهرع من فراشها جارية، تنير المصباح وتخرج إلى فناء الدّار لكن لا أثر لمنشول.

بعد أسبوع مؤرق من نفي القطّ قصدت هالة والطّير في أوكارها الجبّانة الواقعة في أقصى المدينة لزيارة قبر حبيبها. كانت الظلمة ما تزال قائمة. وكان المكان موحشا بسكونه القاتل ونباتاته الفوضويّة الشّكل وأرماسه البيضاء الناصعة المبعثرة كالزوارق في اليمّ.

وعلى بعد مترين من الصّفصافة الكبيرة بدا قبر الحبيب. وفجأة تحرّكت ريح خفيفة، فحفّت كلّ النباتات هامسة بقدوم زائر غريب إلاّ شجرة الصّفصاف بقيت أوراقها صامدة كأنّها غير راغبة في استقبال ضيوف عند الفجر لحزن أصابها أو ضجر.

تقدّمت هالة ذاهلة نحو مرقد حبيبها. وكلّما تقدّمت كان الهواء يحمل إليها رائحة نتنة حتّى وقفت أمام شاهد القبر وقد بلغت الرّائحة أشدّ درجات نتونتها. رفعت كفّيها لتلاوة فاتحة الكتاب لكنّها عجزت عن النّطق بالحمد للّه. بقيت شاخصة صامتة يرتجف كفّاها وصاحت منتحبة غير مصدّقة ما رأت: منشــــــــول!!