يحتفي العالم في شهر مارس باليوم العالمي للشعر، يوم يعيد قيم القصيدة وانتصارها الى قيم إنسانية الإنسان. في هذا العدد يخصنا الشاعر التونسي عبد الفتاح بن حمودة، ينتمي إلى «حركة نص» الشعرية التونسية، بديوانه الشعري الجديد، حيث يحتفي بموضوعات قصيدة النثر الآثيرية والتي تعيد سؤال العالم، واستدعاء الراهن في تحولاته السديمية.

ما لا تقوله الفأس وتذرفه الغابة ( ديوان العدد)

عبد الفتاح بن حمودة

إهداء:
إلى شهداء الوطن الذين ماتوا من أجلنا نحن الموتى، إلى الذين يعملون من أجل لقمة العيش في القرّ والحرّ، إلى إخوتي الشعراء الذين حملوا المشاعل إلى جبل «الأولمب» وحملتهم مدجّجا بالبرق واللّآلئ التي تقطع الحديد، إلى القصّاصين والروائيين الذين يعملون في صمت ضدّ تهافت الشعراء، إلى من حلمت معهم بغد آخر ووردةٍ وسلامٍ، إلى الشعراء الذين رحلوا : شيركو بيكه سِ، محمد الماغوط، أنسي الحاج، بسّام حجار، سركون بولص، عزوز الجملي..إلى كل الذين عانقوا النيران المقدسة.

 

إهداء خاص:
إلى الأصدقاء الذين أخلصوا للكلمة والنيران المقدسة فسهروا الليل قارئين هذا العمل الشعري مضيئين لي الطريق ودروب الكلمات الوعرة فقدموا لي ملاحظات شتى حتى استوى الكتاب على ما هو عليه. أنا مدين لهم جميعا: فتحي خليفي، نجوى الرّوح الهمامي، ناظم بن ابراهيم، يوسف خديم الله، أمامة الزاير، السيد التوي، صابر العبسي، محمد سويلمي، محمد عيد ابراهيم، عبد اللطيف الوراري، حمدان طاهر المالكي، نزار الحميدي، محمد العربي، عياد بومزراق، فتحي قمري، محمد فطومي، عيسى جابلي، لطفي الوافي، شكري المبخوت، شفيق طارقي... وإلى كل الذين قرؤوا الكتاب وشجعوني على نشره.

 

"هناك أشياء أكثر سوءًا من أن تكون وحيدا،

لكنك تُمضي عشرات السنين

لتدركَ ذلك، وحين تفعل

يكون الوقت قد تأخر غالبا

وليس هناك أكثر سوءًا من أن يتأخر الوقت».

(تشارلز بوكوفسكي/ تعريب: محمد عيد ابراهيم)

(...)

كنت قد قاتلت في مئات المعارك

قتلتُ الآلافَ

وأثخنتني جراحٌ لا تُعدُّ لأنهضَ بعدها فأقاتلَ من جديد

(تشارلز سيميتش/ تعريب: آدم محمد آدم)

 

مدخل إلى تجربة الشاعر

"أخذ عبد الفتّاح بن حمّودة على عاتقه، منذ تسعينات القرن الماضي، رهانا شعريّا صعبا تعزى صعوبته، في ما نقدّر، إلى سببين على الأقلّ: يتعلّق أوّلهما باختيار قصيدة النّثر دون سواها من الأشكال الشّعريّة الممكنة والمتاحة. وهو اختيار فنّيّ مبدئيّ يفترض، من بين ما يفترض، أنّ قدر الشّعر اليوم في أن يبحث عن تحقّقه المخصوص في أفق اللّغة المفتوح وخارج أيّ مواضعة أدبيّة سابقة له في الوجود. أمّا السّبب الثّاني فمؤدّاه أنّ إغناء مسلك في الكتابة كهذا المسلك الّذي ذكرنا وتعميق أبعاده المفهوميّة والجماليّة والإجرائيّة لا يحتاجان إلى شرط كمّيّ قاعدته مراكمة جملة من النّماذج النّصّيّة المنجزة فحسب، وإنّما يحتاجان، فضلا عن ذلك، إلى شرط نوعيّ خالص يظلّ استيفاؤه على الوجه الأمثل محكوما بكفاءة المنشئ في الاهتداء إلى مكامن منسيّة في الشّعر من جانب وفي المداومة على الحيطة ممّا يتربّص بقصيدة النّثر، عادة، من مضايق ليس أقلّها من الوقوع في النّمطيّة والاجترار و«النّثريّة» من جانب آخر.

والحقّ أنّه ما كان لنا لننبّه إلى ما نبّهنا إليه لو لم نجد في تجربة عبد الفتّاح بن حمّودة الشّعريّة عامّة وفي نصوص مجموعته الجديدة بصفة خاصّة سعيا دؤوبا لا ينقطع إلى تصيير قصيدة النّثر أفقا رحبا وَسِيعًا في تجريب مختلف إمكانات القول ومحاولة ترويضها على عقد شتّى ضروب الصّلات مع عوالم التّجربة الحيّة المعيشة ومع ما ظلّ منها، إلى زمن غير بعيد، مُدرجا في عداد الوقائع والتّفاصيل والأشياء الّتي لا تليق بالشّعر. وليس في هذا المسعى مصادرة لهويّة الشّعر ولا تبديد لحلمه في أن يكون شعرا حديثا لأنّ حداثته تبقى، في معنى من المعاني الّتي ضبطها لها بعض روّادها الغربيّين المؤسّسين كشارل بودلير وآرثير رمبو وت. س. إليوت، مرتبطة بقدرته على استلال الأزليّ من العابر، والجوهريّ من العرضيّ، والجميل من القبيح، والأسطوريّ من اليوميّ. وهذا، بالضّبط، ما أبانت عنه أغلب النّصوص المكوّنة لهذه المجموعة، وإن بدرجات متفاوتة وبطرائق متباينة، لتقيم الدّليل، بذلك، على أنّه بمستطاع قصيدة النّثر، هي الأخرى، أن تخلق استرسالا خلّاقا خصيبا بين الأرضيّ المبتذل والسّماويّ المتعالي، والواقعيّ والسّيرياليّ، والصّوتيّ والدّلاليّ، واللّغويّ وغير اللّغويّ، والسّرديّ والشّعريّ، والذّاتيّ والموضوعيّ. وهو ما يعني أنّنا صرنا إزاء صنف من الكتابة «اللّعبيّة» الآخذة في انتهاك بلاغة أجناسيّة ثنائيّة ظلّت، إلى عهد ملارمي ومن جرى مجراه من الغربيّين والعرب على حدّ سواء، لا ترى في الشّعر أكثر من كونه لغة خالصة شديدة التّملّص من «نثر العالم» ومن «الفكر المحسوس» ومن كلّ ما يمكن أن يرتدّ بها إلى ما يسمّيه دومينيك كومب بـ«القائمة السّوداء» المتربّصة بصفائها وسموّها.

والرّاجح عندنا أنّ مثل هذه الملمح المهيمن على نصوص «ما لا تقوله الفأس وتذرفه الغابة» قد استوى منحى فنّيّا خاصّا عثر فيه عبد الفتّاح بن حمّودة على ضالّته المنشودة في تخليص قصيدة النّثر من بقايا تلك البلاغة الثّنائيّة عبر المؤالفة بين منطقين في الكتابة الشّعريّة الحديثة تنبّه إليهما نيكولا كاستين؛ هما منطق الانتماء الحسّيّ إلى العالم بمختلف مكوّناته من جهة، ومنطق التّبعيد القائم على تحرير الأسماء من مسمّياتها والدّفع بالدّوال خارج مداليلها وبمنأى عن مراجعها من جهة أخرى.

 فتحي خليفي، كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس

 

تفّاحة قصيدة النّثر

 

يوما ما

ستجلسين فوق صخرة على ضفة النّهر

وستذرفين دما مثل فلاّح ضيّع صابة القمح

يوما ما

ستجلسين على صخرة قبالة البحر

وستحدّثين الموجة

بكلمات لا تفهمها

عن شباك مزّقتها الرّيح

ستتحلّقين مع الأطفال

حول موقد في الشّتاء

وأنت تحدّثينهم عن فائدة اللّيل

لجنود الحرب وحطّابي الغابات ومنكودي الحظّ

 

يوما ما

ستحدّثين الصّبايا عن نزق الينابيع

وعن المسافة بين الفأس ورأس الأفعى

يوما ما

ستحتفلين بقليل من المكسّرات

وشيء من الحظّ والنّبيذ

مشعلةً فتيل الزّيت

 

شيطان النّهر

(إلى محمد البوعزيزي في ذكرى نيرانه)

قرأ لي قصيدتَه الجديدةَ

قصيدته الأخيرة التي أتمّها فجْرًا

متلفًا كلّ سجائره

حدّثَنِي عن كلماته الأخيرة

نافخًا حُروفها الحارّة فوق الوسادةِ

حدّثني عن شيء أضاعهُ فجأةً

انتبهتُ إلى عينيْه الحمراويْن

المتوثّبتيْن صباحًا وأنا أشرب الضّوء

 

كنتُ متيقّنا من ادّعائه الحرائق

عندما سمّى عربة الخضار مِذراةً في الرّيح

شجرةَ الزّيتون مِلْعقةً

شجرةَ اللّوز فُرْشاةً

شجرةَ التّينِ أخطبوطًا

شجرةَ السّرْوِ عنايةً إلهيّةً

نبْتةَ الحبقِ مصْيدةَ حشراتٍ

وأزهارَ القرنفُل دمًا لجنديّ مجهولٍ

بعد أن دلق نيرانه

صرتُ متيقّنًا أنّه عربة اللّيل

التي حملت كلّ هذه العربدة

 

ثورة الجياع

لماذا يهطل المطر بحقد كامل؟

لم أعرف

- أنا المصنوع من العاج -

أن المطر سيشمت بكل هؤلاء

مساءً...

بعد أن يبول السّكارى المترفون على الجدُران

وتحت الأشجار

بعد أن يقذفوا ما في بطونهم أمام المطاعم والحانات

أدرك أن «هذا العالم»

يحتاج إلى مشارطَ وإبرٍ ومورفين

كي يتحوّل إلى قصعة من دم

 

رصاصة

تهربين من الباب

تهربين من النّافذة

تهربين من الأصابع

من الشّوارع والنّاس والمطر

من الحانات والمطاعم والمقاهي

من الرعد والبرق والريح

تهربين من كلّ شيء

لتسكني هذا الرّأس

 

يوميّات الأعمى

عندما أجلس إلى عمود كهربائيّ

أتذكّر سنواتي الملساء

التي تكوّرت مثل قبضة يدٍ

عندما أجلس إلى طاولةٍ خشبٍ

أتذكّر الأشجارَ والغاباتِ المصفقةَ في الرّيح

ودنانَ الخمر التي شربها الحطّابون

مُطلقين فؤوسهم بضراوة في الجذوع

عندما أجلس إلى كرسيّ

لأنضّد قطع الشّطرنج

أحكّ رأسي مرارا مثل جنديّ مهزوم

قبل أن تبدأ عاصفة البيادق

عندما أعود إلى البيت

ثملا بأغنيات سكرى

ومجروحًا بهتافات أحبّاء الفرق الرّياضيّة

أفكّر باللّيالي الضاجّة فوق صدغيّ

بتلك الفيروزات التي ألقيتها للعابرين

عندما أدخل غرفة النّوم

أفكّر بالسّجائر التي ستفترسني

لتكتب كلماتٍ

بعدد الحشرات التي ستسحقها يداي

 

من أين سآتي بسجائرَ لتتلعثم أصابعي

من أين سآتي بمواء قطط

لأكتب قصيدة عن فضائل الجوع

من أين لي أن أجمع الكروم

حتّى أعرف أنّ فم قارورة خمر

كانت عينا حمراءَ لِدِيك مذبوح

 

من أين لي بفانوس شارع عالٍ

لأكتب تحت ضوئه كلماتٍ حمقاء

من أين لي بولاّعة كي أرسم أرنبا برّيّا

وأشعل النيران في فمي

من أين لي بمرمدة وأوراق وأقلام

من أين لي بصيف سيمطر بعد عام

كي أكتبَ قصيدة تليق برجلٍ يشبهني

 

«وردة العالم الذي لا ينتهي» (*)

ستتبعين أثر البروق التي أسقطت أسنانها فجرا

ستلتقطين أزهارا مدهوسةً بعجلات قطار

ستنقرين بأصابعك ليلا

على طاولة لفّهَا النّسيان

ستمشين طويلاً خائفة

من نباح ظلّك تحت القمر

وبيدين مرتعشتين ستجْمعين أحطابَ الحكْي

خشخشة أوراق الأشجار صيفًا

ستبنين بيتا مثل العناكب في الندى

وستمسكين الأرض والسّماء بأوتار ذيل حصانٍ

ــــــــــــــــــــــــــ

(*) تشارلز سيميتش.

 

وفي حفلات الخروج إلى الصّيد

ستقضمين الشِّباك بأسنانك مثل قوارض شامتة

ستشربين المطر غاضبةً

مادّة قبضة تتوعدهم في الهواء

ستقلعين الأخشاب الأخيرة تحت سماء تنذر بالمطر

وستغلقين طريقا أمام المارّة فاتلةً شاربيْك

ستفعلين أيّ شيء أيّتها العابرة في الرّيح

ما دمت تدركين أنّ مياها ستزهر

وأنّ يديك ستتحوّلان حتما إلى مِرْوحة

 

أغنيات الرّكح الصّغير

(أداء أوّل)

لم تسقط دمعة واحدة من عينيّ

ولم أفكّر بالهروب

بينما صبايا يدخّنّ سنواتهنّ مع الحشّاشين

عندما صدحت النّادلة بثمن القهوة

قلتُ: ماذا سأفعل بالمئات الخمس ؟

لم تسقط دمعة واحدة من عينيّ

ولم أهرب متأبطا سلّة مليئة بالقهقهات

لم أخرج مسرعًا من مقهى «الرّكح الصّغير»(*)

بل ذوّبت قطعتيْ سكّر في قهوتي المرّة

سكّينُ كلمات النّادلة علی رقبتي

وأنا أتهدّل مع أغنيات «شارل أزنافور»

 

 (*) مقهى وسط العاصمة تونس.

 

سأمنح النّادلة إسطوانة مشروخة من دمي

أو أصابع بعدد أيام الجوع

أو لطخات موسيقی

المياهَ المياهَ يا «شارل أزنافور» قبْل جنون النّادلة

(في آخر ركن

امرأة تسدّد ثمن قهوتين وتخرج من قفصي الصّدري)

ابتسامات النّادلة لا تكفي

لأحدّثها عن رمال عابرة

عن أنهار تقلع الطّحالب

وسيوف تقطع الرقاب

(.....)

بعْد دروس شتّى في فنون الموت

عبرت ذلك النّهر

 

مذبحة الرّكح الصّغير

(أداء ثانٍ)

لم أفكّر بالهروب يومهَا

ولم تسقط قطرة ملح واحدة من عيني

بينما صبايا يدخّنّ سنواتهنّ مع الحشّاشين

ماذا سأفعل بالمئات الخمس ؟

لم تسقط دمعة واحد ة من عينيّ

ولم أهرب من الفضيحة

لم أخرج مسرعا من مقهى «الرّكح الصّغير»(*)

بل ذوّبت قطعتيْ سكر في قهوةٍ مرّة

كلماتُ النّادلة كانت كإبر النّحل فوق عنقي الأملس

وأنا أتهدّل مثل أغنيات «شارل أزنافور»

------------

(*) مقهى وسط العاصمة تونس.

 

ماذا سأفعل بالمئات الخمس ؟

بأصابعَ هدّها الجوع

بلطخات موسيقى في مساء أطلسيّ

بجنون النّادلة وابتسامة شفتيها الحاقدتين

وبمياه «شارل أزنافور» التي تنزّ من قميصي

(في آخر ركن

لم أتبيّن ملامح صبايا وحشّاشين

يخرجون مولولين من قفصي الصدري)

لم أصدّق أحدًا يومها

حتّى العابرَ الذي سدّد ثمن قهوتي

لم أصدّق يومها

أنّني كنت مثل طحالبَ معجونةٍ بالرّمل

 

أشياءُ لا تُحتمل خفّتها

خائف من «سمكةِ أفريل»

من جناح ذبابة

من أمطار ماي المجنونة

من وردة منثورة في شارع «ابن خلدون»

من بروق كنت أشربها في نعاسيِ

من ظلام غرفتي في الطابق الثالث

من أصدقاء مُتْعبين بشقاء نهاراتهم

من برد قارس في الرّبيع

خائف من أوّل خيوط الفجر

من موائدَ كبيرة من النّيران

من مسحوق قهوة بين أسناني

من سجائر بلا طعم

خائف من ظلّي تحت رحمة شمعدان

خائف من كلّ شيء

أووووفْ من سيوفِ ماءٍ تضرب عنقي

بينما قبضتايَ مُزبدتان مثل جمل هائج

 

مرايَا

لا تكذبْ على الآخرين أنّكَ سليل بحّارة

أو جنودِ ساحاتٍ

بل تحدّثْ عن القُرَادِ الذي يقرص الجلد ثَملا بالدّماء

عن الحياة جِوارَ الكلاب

لا تكذبْ علينا بمطرٍ هاجمَك صيفًا

وبغُلالة من نار حفّت بروحكَ

سنتبادلُ الكذبَ مرارا

سنتبادلُه قطرةً قطرةً

غصنًا غصنًا

داليةً داليةً

وسنتبادل اللّوحةَ بالطُّبشُور

أنت تكتب كلمة

حروفا أو أرقاما

ثمّ ترفع لوحتكَ

وأنا أنجز شكلا هندسيّا:

دائرةً مثلاً

مربّعا أو مثلّثا

أرسمُ شجرةً أو فراشةً

وردةً أو عصفورًا ثمّ أرفع لوحتي

سنتبادل الضّحكَ مرارا

وسنهشّ على الذّباب

الذي يقرفصُ فوق مناخيرنا

سنبحث عن لعبة أخرى

بعد أن نرفس الذّبابَ بلوحتيْنا

سنبحث عن ذباب آخر

نقطّع أطرافَه لنُلطّخ به لوحةً كبيرةً

وهبتُها لكَ ذاتَ يوم

........

لا تكذبْ على الآخرين

أنّكَ سليل بحّارة أو جنود ساحات

 

«شيركو بيكه سِ»

(إلى أسد الجبال الوحيد الشّاعر الكرديّ الرّاحل «شيركو بيكه سِ»)

يتحدّث الثّور الهائج عن قطعة قماش حمراء

والموتى عن الفؤوس التي قطعت أحلامهم

يتحدّث المتسوّلون عن أرغفة الخبز

عن كلمات يسرقونها من ضوء نباح القمر

يتحدّث العشّاق عن خيباتهم تحت الوسادات

حيث لا نجمة ولا أحد في انتظارهم

تتحدّث العشبة عن الشّمس ولوعة الندى

والحمامُ عن القمح والفخاخِ الأخيرة

تتحدّث الأقفاص عن عصافير ميّتة وهواء جافّ

والأطفال عن الأراجيح والنّواعير وأفلاكٍ ورقٍ

تتحدّث البنايات القديمة عن الجرّافات

والسّيميائيّون عن السّلالم وعلامات السّاعة

يتحدّث المزارعون عن مناجل الحصاد

والجدّات عن الجنّ والغول وبَرَكات سيف عليٍّ

تتحدّث الجِياد عن الرّماح والنّبال والحمْحمات

والغابات عن البرابرة وغارات الأوّلين

يتحدّث «نيكوس كازانتزاكيس»

عن «المتوحّشين بريش أحمر

يشعلون النّار ليشووا عليها بشرا»

وتتحدث أنت «شيركو بيكه سِ»

«عن غزلان سهول «شيروانة»

حاملةً معها سلّة من الغيوم البيضاء

وخمسةَ آلاف فراشة».

إلى متى تحمل قصبةٌ مثلك كلّ هذه الصُّلبان والمشانق

مثل رائحة شاي محتَرِق في الفجر

 

ملل

مخلوقات عجيبة خرجت من منخريّ:

حشرة وراء التّلفاز

حشرة فوق ستار النّافذة

حشرة فوق العلم الوطنيّ أعلى السّرير

حشرة فوق قميص مُلقى هناك

حشرة فوق كتاب

حشرة فوق ركبتي اليمنى

حشرة فوق كتفي اليسرى

حشرة خلف الباب

مثل ثور هائج كنت ليلتها

كتبت قصيدة داعرة عن مهنة القتل والحروب الخاسرة

وفي الصّباح اكتفيت بأن أحدّثَهُم عن لذّة الصّيد

 

هذا ما غنّاه «إيكاروس»

كانوا يَلِجون بيتي كلّ ليلة

كنت أحدّثهم عن الأشاوس على صهوات الجياد

أطبخ لهم شايا مضمّخا بالزّعتر

وأشرب معهم سجائرَ بطعم الصّنوبر

وقبل أن يتفرّقوا كلٌّ إلى حقلهِ في المنحدرات والسّهوب

قال الأوّل مبتسما :

سأجلب لك العامَ القادمَ أخشابا

تَقُدُّ منها مِدفأة في الليالي

ودِنانَ خمرٍ وُضُوءًا للرّوح

قال الثّاني مبتسما :

سأجلب لك العامَ القادمَ سلالَ برتقالٍ

وأغنياتِ نساءِ الحقول طرْدا لشَيطان الوحدة

وأثناء غيابهم

ظلّ بيتي مُشْرَعًا كلَّ ليلة لضيف آخر

أحدّثه عن الأشاوس على صهوات الجياد

أطبخ له شايا مضمّخا بحشائش الغابات

وأفتل معه سجائرَ بطعم الصّنوبر

لم أنتظر أحدا منهم

سِلالُ التّفّاح والبرتقال وجلود الماعز

تدخل بيتي كلَّ عامٍ

الأخشاب تدفّئه كلَّ شتاءٍ

وأغنيات نساء الحقول تتمرّغ في حلقي

وأهازيج الرعاة تتغرغر بالمياه

صرت عجوزا بما يكفي أيّها البرابرة

انتظرتكم ألفَ عامٍ فوق جبل «الأولمب»

مصباح الزّيت مازال مُضيئا

فراشي من جلود الذّبائح كعادة أسلافي

غطائي من وبَر النُّوقِ

وعشائي لحمُ إحدى الطّرائد

 

شتاء في حانة الصّحافيين

كن تافها كعادتك

باردا بما يكفي

سليطَ اللّسان

قذرًا

لكنْ...

قليلاً من الفول الدّافئ المملّح وقُويريراتٍ لبكاءٍ أخضرَ

قليلاً من ألاعيبِ الحظّ أيّها الشّتاء المتقرّحُ

حتّى أضع أصابعي في لهيب مساءاتك

كن ماردا

صفيقا

أيّها المليء بتروبادور المقاهي والحانات العَطِنة

بأصحاب الدّجينز الممزّق والشَّعر الموزّع بشكل مُربك

بالآذان المسوّرة بالأقراط

أنت،

نعم، أنت

المليء بالجرذان والأفاعي والأساطير

المضمّخ بعطر البغايا وروائح اللّوطيّين

أيّها الشّتاء المومسُ

 

كن نذلاً

حقيرا حتّى أثق بك أيّها السّيّد الجبان

كن لاذعًا بما يكفي لعظامٍ منْخورةٍ

مفلسًا

مُعْدَمًا وكسيحًا

كالحَ الوجه

مكشّرا عن أنيابِكَ السّودِ

فكّرْ بأنوف لم تَدْعَكْها بما يكفي

بوجُوه لم تنْقرها بأصابعكَ

يا واهب الدّم للشّياطين وكهنة المعابد والحرّاس

 

كن سافلاً

عربيدًا

عجوزا خائفًا من رِعشاتٍ أخيرةٍ

باردا حدّ التماع البرق

في أسنان نُوتيّين أضاعوا محصولَ الرّحلة

لسْعةَ عقربِ صيفٍ

في قدم فتًى نسي وصايا أمِّه

 

كن ضربةَ فأس

سهما مكسورا في جذع شجرة قديمة

كن ما تشاء

باردا

حقيرا مثل فمٍ أدْردَ

صبيّةً صرعها الجنُّ والعفاريتُ

موجة تلطم قَارَبًا وحيدًا

 

لا تكن قاسيًا وبخيلاً

فقط، صحنًا من الفول الدّافئ المملّح

مكسّراتٍ أنهكتها نيرانُ مواقدِ الباعَةِ

قُويْريراتٍ دامعةً لبكاءٍ أخضرَ

وقُبيْل مجيء السّاعة

اترك لي كلماتٍ مجدولةً بالشّمس

وسلّةً مليئة بالإبر وأعشاش النّحل

فأنا منذ أعوام أبحثُ عن يدٍ مقطوعةٍ في بِرْكةِ دمٍ

 

قلم مأجور

ها هو:

شربَ أعوامًا من سجائري وشاي مساءَاتي

أسنانُه في اللّيل مثل عيون قطط سائبةٍ

بعد أن أتمّ دورتَه

أمام المطاعم والمقاهي والحانات

خاط كيسًا

ملّأهُ هواءً وعناكبَ ووطاويطَ وعقاربَ

وسلّة دماء شربها دون هوادةٍ

 

مازال الوغد مصرًّا على أنّ كلماتي لا ترى

ومن شدّة ضحكي تركتها مبتلّة

مارقا من عينيه مثل إبرتين

(استَحَمَّ ـ عليه اللعنة ـ أعوامًا في نهر التّصفيق

أكل باليمنى واليسرى

ولكنّه نسي حتمًا غسل يديه)

 

مهنةٌ قديمةٌ

(إلى الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي)

لن أشتريَ ثيابًا أيّامَ العيدِ

لن أحملَ في جيوبي معَادِنَ نفيسةً

لن أحمل إلى بيتي ثيابًا جديدةً

بل علبةَ كبريتٍ مبتلّةً

لفائفَ شتّى من سجائرَ وحشيشٍ

وخمرًا تكفي كي أختفي عن أنظارهم أيّاما

سأخرج إلى أسواقهم

وسأعود إلى بيتي حاملاً لفيفًا من الكلمات

ونيرانا تكفي لقتل كلاب الوقت

 

لعبة الحجر

خاتلتُ السّماء هاربًا من حجَرِها اللّعينِ

داخل«المونديال»(*) شربتُ ضجيجَ كلماتِهم الحمقى

حيث للنّهار أقدامٌ وأجنحةٌ وصلبانٌ وغيومٌ

صبّت الأعالي أوّلَ أحجارِها البيضاءِ

فوق المباني العاليةِ والرؤوسِ

والسيّاراتِ/ الخيامِ التي تحوّلت إلى ملاذٍ للقصبِ

أطفالٌ وصبايا وعابرون يمسكون أحجارًا باردةً

يسبّون الجلالةَ باصقين إلى الأعلى

قالتِ السّماءُ هازئةً كلماتِها الأخيرةَ

قالتِ امرأةٌ هازئةٌ كلماتِها الأخيرةَ

وقال روّادٌ حمقى :

السّماء «تلعبُ أحجارَها»

قال الناّس كلّ شيءٍ يومَها

وقلتُ ألعبُ قوسَ قزح

مرجوما في إحدى الحانات

----------------

(*) مقهى وسط العاصمة تونس.

 

أغنية للبسطاء

نفرح ببيضة مسلوقة ننثر فوقها ملحا

بسيجارة تنقذ صباحنا من ورطة

بقهوة عاجلة مثل موت

بشَخْلَلَة ماء في بئر قبل أن يصل حلوقنا

نفرح بكلّ شيء

ولا نقتل أحدا لنمشي في جنازته

نمشي مشية الحمام الزاجل

ونحبّ لهفةَ القمح

نقضّ مضاجع اللصوص

ببحثنا عن خاتم في جوف سمكة نقشّرها

مثلما تفعل نساء البحّارة المغدورين

نحن البسطاء

على شفاهنا دوما مهرجان من الضّوء صباحا

وأعراس من الظلام ليلا

نحن ملح الأرض كما يقول عنا المترفون

 

الشاعر والظلّ

لماذا كنت سيّئا

جاحدًا ولئيمًا

نعم، أنت أيّها الظلّ السّفيه

يا من يشرب كلماتي باسطا ذراعيه

في حانة مثل قنّ دجاج

أنا لا أحقد عليك

لكنّك كريه مثل حارس قديم

وقميء مثل شرطيّ أمام حانة سيّده

تلك الكلمات التي ألقمْتُها لك

هي الأحجار التي ألقمْتُها للكلاب

تلك اليد البيضاء التي هجمت عليك فجأة

هي يدي الحُبْلى بالضّوء

 

صنعت عصاك التي تتوكّأ عليها

وجعلت لك طريقا إلى حتْف بهيج

أنا الأعمى الذي قادك إلى الأدغال

لتملأ سلالكَ باللّهاث

والفؤوسُ التي قطعتَ بها الأشجار

فؤوسي التي كنتَ تسرقها

وأنا أنظر مبتسما من تحت غطائي

اشربْ كلَّ شيء أيّها الوغد

اشربْ دمي مثل بعوضة شامتة

سأقتلها بعد قليل

بعد أن أعبّ آخر كأس

 

جنازة

اغسلوني بماء دافىء وصابون زيت أخضرَ

ضمّخوني بماء العنبر والكافور

بماء العطرشاء والزهر

قمّطوني بأوراق أشجار الخروع واليوكالبتوس

المشبَعة بالزّيت السّاخن

غلّفوا رأسي بالحنّاء

لُفّوني بقماش حرير أبيضَ

وضَعُوني في تابوت خشبيّ بحجم ذراعٍ

ثمّ أَطلقوني في اليمّ

لا تفعلوا شيئا بعد ذلك

سوى أن تطلقوا ألفَ سهم ورائي

 

شعراء بعدد الأصابع

مازلت أحسن العدَّ

عدّ أسنان الضوء التي سقطت من يدي

مازلت أحسن العدَّ

عدَّ أصابعي التي أفْرُك بها سجائري الأخيرةَ

مازلت أحسن العدّ

عدَّ الذين مرّوا حاملين تمائمهم

مازلت أحسن العدَّ

عَدَّ الحشرجات من أثر السّعال

وأنا أقطعُ الأربعين حافيًا

مازلت أحسن العدَّ

عدَّ شيبات بزغت فجأة

 

يا لَهذا الغباءِ

لماذا أخطأتُ عدَّ إخوتي الذين سقطوا

بينما كنتُ أضع في أصابعهم أهازيج للضوء

وفي أفواههم زبدا

وعلى رؤوسهم أكاليلَ من الغارِ

 

توازن

(كان عليّ أن أضع الشياطين الأخيرةَ في فمي

كان لابدّ من فخّ يليق بها)

وأنا أتملّى شيطانا في المرآةِ

فكّرت أكثر من مرّة أن أهدّىء من روْعه

وأقيمَ على ضفّة الليل جيوشي

منتظرا كؤوسًا مُترعةً

حتّى أعرف الوردة من السكّين

العصا من الجزرَةِ

التفّاحةَ من الجاذبيّة

والرّصاصةَ من القتيل

وكي أضع العُدّةَ الأخيرة للحرب

عليّ أن أظلّ حطّابا

حفّارَ قبورٍ للكلمات والحصى والرّياشِ

أعرفُ متى أخرج لابسا ثيابَ الأربعين

متوكّئا على عصايَ

 

بعد كلّ هذه السّنوات التي طاردتها

- كمن يطارد وعْلا -

ها أنا،

مصلوبًا في المياهِ

أرسم للأطفال أشباحا بقرون

وغيلانا بمطارقَ وسيوفٍ

 

لاعبُ الرّيح

الرّيح تسمّي نفسها الرّيحَ وهي تنفخ أوداجَها

الماء يسمّي نفسه الماءَ ضاربًا كفّا بكفّ

النّار تسمّي نفسها نارًا وزواحفَ سامّةً

التّراب يسمّي نفسه التّرابَ رافعا قبضتَه عاليًا

لكنّ صفير الرّيح هو ما تبقّى لديّ من الينابيع

من الماء والنّار والتّراب تعلّمت كلّ شيء

ألعبُ الماءَ كي يلعقَ الصّخورَ

ألعبُ الناّرَ لتلعقَ الغاباتِ

ألعبُ التّرابَ كي يلعقَ الأنوفَ والشّفاهَ

ألعبُ الرّيحَ والرّمالَ والكلماتِ

وسنواتي الأربعونَ خلاخلُ

تكفي لصنع مزلاجٍ للّيْلِ

 

إخوتي

(مرثية في من فقدتهم في رحلات الصيد)

رتّبتُ لهم كلّ شيء

وضعت عشاءاتهم فوق الخِوان

وبنادقَ الصّيد اللازمةَ ممسوحةً بماء العطْرشاء

الخراطيشَ والرّصاص في أحزمة الجلْدِ

المدياتِ الحادّةَ لذبح الطّرائد

قبل أن تطير أرواحُها في الغيم

جهّزت لهم الجيادَ المسرّجةَ ذاتَ القوائم الملساء

والكلابَ المدرّبةَ على روائح الحجل والأرانب والغزلان

ببطونها الرّشيقة التي تشبه أجنحةً

غدا، أرسلهم إلى الصّيد فجرًا

قلتُ أقْنصُ يومًا

من عبق الأودية والبراري

محتفلا بامرأتي الجديدة

وبأسلافي المحمْحمين مثل شمسٍ سكْرى

غدا سأوقظهم بفوهات البنادق

يجب أن يعودوا بصيد وفير

 

إذا عاد أحدهم دون صيد

أو برق في أسنانه

لإشعال نيران مواقد الشّواء

لن يذهب إلى الصّيد مُجدّدًا

سأكون قد ركبتُ الضّبابَ

قبل طلوع القرص الأحمر

راكضا حيث البساتين والحقول والمراعي

حيث همهمات الفلاّحين

وأنفاس الرّعاة وراء أنعامهم

 

منذ بدأت أفقدُهم واحدا واحدا

رُحت أسرجُ فرسي

مضمّخًا لحيتي البيضاء بأعواد الندّ

متنسّما ريحهم كلَّ فجر

 

عربيد

ستفلح هذه المرّةَ

في أن تفلت من ضربة غادرة لمنجل حصّادٍ

ستفلح هذه المرّةَ

في أن تتمدّد ليلا

مثل ثعبان أسود يقطع الطّريق

أمام اللّصوص وبائعي لبن العصافير

ستفلح هذه المرّةَ

في أن تحوّل دمعاتك إلى رصاصات

لقتل الوقت ورجاله الشّرسين

ستفلح هذه المرّة

في أن ترعى النّملَ الذي يخرج من أفواههم

وأن يمرُقَ من فمك مطر أسودُ

ستفلح هذه المرّة

ستفلح لا محالةَ

تحدّق فيهم مثلَ وحش مفترس

فيتمتمون باسمك كلّ ليلة

مبلّلين سراويلهم بمياهٍ ساخنةٍ

 

تحوّلات

شجرة كستناء في عينيّ

شجرة تينٍ في صدري

كروم وأعناب في رأسي

شجرة تفّاح في فمي

شجرة...

شجرة...

شجرة...

 

أنا غابة من الأشجار

إذا واريتُمُوني التّرابَ يومًا

فإنّ آلافَ الأغصان ستطقطق

آلافُ الأوراق ستتساقط

لن تدفنوا رجلا في النهاية

بل غابةً عطشى

وحطّابين بفؤوس جائعةٍ

 

سأم صانع الوحوش

كلَّ عام أصنع وحشا

عندما يكبر الوحش

ويتشمَّمُني بأسنانه

أطلقه في الآفاق ليصنع بدوره وحوشا أخرى

وكلّما ازداد عدد الوحوش

أعود ثقيل الخُطى كلّ مساء

وأقْعي في منزلي مثل كلب

مثل عجوزٍ أو قوّادة ماخور

لأنّ ذلك الوحشَ

لم يصنعْ بدوره وحشا آخر

أشدّ ضراوة وفتكا

(....)

عجبا لتلك الوحوش التي أبّدْتُها

إنّها لا تحسن العدّ

عدّ أصابعي التي أكلتها فجرا

 

حلازين العاصمة

عندما تذرف السّروة الإلهية دموعَها

وتمطر شيئا من المسامير

يخرج باعةُ المطريّات من تحت الأرض

من جذوع الأشجار

من علب الكبريت والتّبْغ الفارغة

لا شيء أشدّ حُمقا من هذه الحلازين

تموت نصفَ عام وتخرج من اللاّشيء

 

سماسرة

يتحدّثون عن حقّ صنوبرةٍ

في أن يكون لها جراءٌ

لكنّهم لم يتحدّثوا عن قوارير خضراء

تصفّفُها أمامكَ في الحانات مساءً

واهمًا أنّها أكياس رمل تصدّ عنك الرّصاص

وأنّ خطاطيفَ ماي السّكرى

صلبان تضرب بلّور المباني في العشايا

وأنّ أسراب الغرانيق

التي تشقّ صدركَ منتصف اللّيل

شمس تزعق متّجهة صوب المياه

حيث للينابيع آلاف الأجنحة المُخبّطة

وقناطير الذّهب المستحمّة في الشّمس

 

يتحدّث السماسرة عن كلّ شيء

عن حقّ الرّمل في العويل

وعن حقّ سرْوة في البكاء على أيّامها القصيرة

أو حقّ «محارة في أن تتحالف مع أسماك القرش»(*)

-----------------

(*) من أغاني الهنود الحمر

تعريب: محمد عيد ابراهيم

 

يتحدّث السّماسرة سُعَدَاءَ بِسِنْتَاتِهِمْ

وتتحدّث أنتَ،

- دون أن تخجلَ من نفسكَ

ومن شيْباتٍ لعْلَعَتْ فوقَ صدْغيكَ -

عن كِسَرِ زجاج تسْتفُّها

ملْتذًّا بدماء ساخنة في لسانكَ المثقوب

 

رجل الحانات

حدثتني عن خشخشة البرق

حدّثتَني عن غبار الطلع والسّنوات

عن اللّيل المخيف جاثمًا فوق المباني

عن القِبابِ والكنائس والنّواقيس

عن الوطاويط والغربان والكهوف السّحيقة

والعقارب والأفاعي والسّحالي

 

حدّثتَني عن «برابرة»(*) متوحّشين

عن عَذَارَى بدماءٍ ورديّة على أفخاذٍ بضّةٍ

وثيران «تعوي» في رأسكَ

كلّما شربتَ كؤوسا في حاناتهم

عائدًا دون كلمة وداع

خلفَ أبواب صفّقتْ بعنفٍ وراءكَ

حدّثْتَني عن كلّ شيء تقريبا

لكنّكَ مازلتَ مصرًّا على أنّك ربحت الحربَ

وأنّ الشّمس تشرقُ كلّ يوم من مكانها

--------------

(*) barbares

 

عصفور في قفص اللّوم

ما ذنبي إن كنتُ أشقّ الغابةَ

مثل حروف تشهق في فم صبيّة خائفة؟

ما ذنبي إن كنتُ أناشيدَ راعيةٍ

قبل وصول الزّرائب؟

ما ذنبي أن أكون بحجم كفٍّ؟

 

الغابة نائمةٌ

لا توقظْها بذَرَقِكَ السّاخنِ

لا تقطعْ أنفاسها بحفيف سيقانكَ

فهي تحلمُ بعشّ سيُبْنى بعدَ قليلٍ

 

حكمة «ايكاروس»

أنتَ واضحٌ مثل نهر من الضوء

وهي نذير شؤم مثل ناقة "البسوس"(*)

أنتَ مثل تميمةٍ

وهي مثل سروةٍ

قصّت رداءَها فِراشًا للظّلّ

أنت جدارٌ مُبْتلّ بضحْكات شموسٍ

وهي سرْبُ فَراشٍ على شجرة لوزٍ

أنت قطارُ إبلٍ يزحف

وهي نوافذُ لقراصنة قادمين

(*) بسببها كانت حرب طويلة في الجاهلية بين قبيلتي "تغلب" و"وائل".

أنت رأسٌ لهُدْهدٍ

وهي جلدٌ لأفعى

أنت حليبُ نُوقٍ ورمْيَة رُمْحٍ

وهي مِطْرقةُ ضوءٍ

أنت قبضة فوق عصا أعوامِكَ

وهي سرْبُ نملٍ يذْرَع الحقولَ

يلهو فوق ذقْنكَ

لذلك افركْهُ مرارًا

قبلَ أن تأكلَ الأَرَضَةُ ساقيكَ

 

فارس

افترشتُ غلالةً من النار في انتظاركَ

قطفت نجمةً نيّئةً

انتظرتكَ أعوامًا

لِتَجُوسَ هذه القطْعةَ الصّدِئَةَ

حفرتُ أحجارا ناتئةً في الفجْر

انتظرتك أيّامًا لطلائها بالسّمّ

صنعت فُؤوسًا صلْدةً

لتقطعَ شجرة الضّوء

كتبتُ كلّ هذا

لذلكَ يجب أن تأتي

شاهرًا سيوفكَ كلَّها

 

أغنية للأعالي

عادةً ما تستيقظين

متوعّدةً أطفالا بقبضتكِ

عادةً ما تنزل قُطْعانكِ مزبدةً مساءً

عائدةً إلى مثواها الأخيرِ

لا أملك إلاّ أن أشحذَ مِدْيةً

متدفّئًا بآخر برْقٍ

أفتّتُ بيديّ سحابةً

لضيفٍ سيأتي مساءً

في مقهى أو حانةٍ تطرد سكّانها

حين تتحوّل ألسنتُهم إلى مشارطَ سوداءَ

ورؤوسُهم إلى ثيرانٍ مبْقورةٍ

فوق أسنّة سياجٍ صَدِئةٍ

 

حذارِ أيّتها الشمطاء

لا تصدّقي أحدا سوى أغنام في لطف الماء

وأيائلَ من زبدٍ

فأنا منذ أعوام أعبّ من حليبكِ المرِّ

ماسحا خساراتي بكمّ قميصٍ

 

استراحة المحاربين

مساءً، تضربُ خيولُنا في حانةٍ

نجلسُ متناسينَ أعباء الرّحلة

نسند سيوفَنا في أغمادها إلى الجُدُران

نشرب كؤوسًا مع الشياطين

ندقّ بقبضاتنا على الطّاولات

تاركينَ وراءنا:

قرْعَ طبول بدائيّةٍ

حمحمةَ جيادٍ في أعنّتها

رمالاً حمراء غطّت سماواتِنا

نبالاً تتعانق مثل سرْب أمطارٍ

جماجمَ مُزبدةً تحت الحوافر

وأصابعَ تقطَعُ تفّاحا أحْمرَ للضّيوفِ

 

بعدَ كلِّ تلك المياهِ التي شربناها

مستحمّين بالحسرات واللّوعة

بعدَ أن حمحمت الخيولُ في أفواهنا

كانت سيوفُنا معلَّقةً

فوق صدور النّدَلاء والسَّكارى

ونحن نفتل شواربنا:

فَلْنشْربْ بدلَ الخمرة برْقًا

قلْنا ذلك بعد الكؤوس الأخيرة

عويل الثّكالى تناهى إلى مسامعنا

من صَحارى وغابات سحيقةٍ

كم كنّا قُساةً ليلتها

 

أبناء الشمس

ضربة الأبيض اللاّنهائيّ

ضربة اللاّزورد

ضربة فأس

ضربة طبل

ضربة سيف

أي الضّربات أحبّ إلى رأس الغولِ

رأسي

الواقفِ مثل شجرةِ خرّوبٍ تليدةٍ

تمدّ أغصانها على جنبات الشّارع

وأوراقها في المطاعم والحانات والمقاهي

لا بأس

لا بأس

قالت شمس لأبنائها وهي تشرب الحقولَ

الحقولَ التي تشرب الغيومَ

الغيومَ التي تشرب السّماواتِ

السّماواتِ التي ترتوي من رأسي حدَّ الثّمالة

لا بأس

لا بأس

رأسي الذي استحال جرّة زيت

تثمل من جرارٍ أخرى

مثل مصّاص دماء يافعٍ

يشحذ عظامها في اللّيلِ

اللّيلِ الذي عثر عليَّ نائما

وأنا أقول له :

اتركْني أيها الوغْد

سأقطع يديكَ

بعد أن قطعت يديه دون شفقة

تناهت إلى سمعي ولْولة في الحقولِ

الحقولِ التي ثملت من دمي

شددت وثاقه إلى جذعي

ورحت أركله

باصقا دمي على وجهه

قاطعا رأسه

رأسَه الذي صار مترعًا بالضّوء والينابيع

 

عندما أفقتُ على وقع أنفاسي المتقطّعة

متفقّدا رأسي ويديَّ

كنت أعبُّ دما

متحسّسًا فأسا قديمة تحت السّرير

 

حريق

لن أحدّثكَ عن علاقة الفأس بالشّجرة

عن الضّربة الأولى

التي تبدأ في شكل عناق

ضربة يتنهّد إثرها الفأس

وتتنهّد إثرها الشّجرة

مادّةً روحها الملساء في راحة الحطّاب

لن أحدّثكَ عن شيء

لأنّك ببساطة

كنتَ المسافة بين الفأس والجذع

أنتَ فؤوس الحطّابين

وأنا نشيج الغابةِ

 

عرجون قديم

(إلى لطفي الوافي الذي عمّد هذا النصّ في ليل البرابرة)

ليلتها كنتُ مثل تميمةٍ

عثرتَ عليَّ صدئةً

جسسْتَني مرارا

وها أنا أرقد في كفّك هادئةً

 

في ليلٍ سفّاحٍ

كنتُ قطعةً مدهوسةً دون شفقة

متنهّدةً تحت عجلاتٍ

سيقانٌ كثيرةٌ سحقتني

أمطارٌ جمّة أترعتني بالمياه

شموس حارقة ألهبت كبدي

بَرَدٌ سقط فوق عنقي

أعقاب سجائرَ

أخشابٌ رقدت حَذْوي أيّاما ولياليَ

أقمارٌ ونجومٌ تحرسني

من عضّة القطعان والعابرين

كعوب نساء متغنّجات

دقّت رقبتي طويلا

مخاط من أنوف العابرين

وبصاقٌ عفّرَ وجهي مرارًا

 

في ليلٍ سفّاحٍ عثرتَ عليَّ

نجمةً صدئةً

حملتها بين راحتيك

قبل أن يدركها اللّصوص

 

صوم

أعرف أنّها أيّامك الثّلاثون

التي تبدأ بهلال مثل ملاك صغير

وتنتهي بآخر

لا يعنيه أن يكون فأسا أو منجل حصاد

تتألّم الأهلّة وتحبس أنفاسها

خوفا من أيّامك المتعبة

التي تبدأ بضربة مدفع فجرا

وتنتهي بضربة طبل

معلنةً بدء وجبة يتيمة في الفجر

 

لماذا مزّقتَ أمعائي دون شفقة

كما تقطّع امرأة أصابعها

خجلت منك ممسكا غضبي

رادّا لعناتي على نفسي

كنت كمن يبصق إلى الأعلى دما

طينا يكفي لصنع إناء لدموع سأذرفها

طفلة مزقوا بكارتها

رافعين رايات الرّجولة

 

أعرف أنّها أيّامك الثّلاثون

تقيّد فيها شيطاني بسلاسل من نار

شيطان تطلقه بعد آخر ليلة

صابًّا جام غضبه

على رجل طيّب يشبهني

قطّع أصابعه مساء

مكلّلاً بدموع تكفي لصنع مرآة

مرآةٍ تكفي لرؤية خصلات مزّقها الشّيب

 

أعرف أنها أيّامك الجميلة

في ختامها يلهو الأطفال بألعابهم

والنّساء يمرحن بحنّائهنّ وسِواكهنّ

وماء صنوبر بين أسنانهنّ

يعلكنه جيئة وذهابا

 

أعرف أنك ستحرّرهم بعد ثلاثين يوما

ليملؤوا أنوفهم بالطِّيب

ورائحة الندّ والبخور

أعرف أنك ستحرّرهم جميعا ليلتها

لكنّ روحا واحدة ستظلّ ترفرف

متلمّظة دموعها المالحة

روحا تقرأ كفّها في حانة

 

بعد أيامِك الثّلاثينَ

تخرج الشّياطين من جذوع الأشجار

ومن علب التّبغ الفارغةِ

شاحذةً سكاكينَها اللاّمعةَ

 

غودو

أبطال كثيرون مرّوا من هنا

من ثقب إبرة

من خيط دخان

أبطال أفلام «الكاوبوي»

أبطال التّلفزيون

أبطال الرّوايات

أبطال الحروب

أبطال الثّورات

أبطال الملاحم والأساطير القديمة

أبطال الحلوى وورق السّيلوفان

لقد انتظرتهم طويلا وجلست إليهم

صحبة أباريقهم المكسورة

 

بطل واحد كنت في انتظاره

بطل لم يزرني بَعْدُ

تركت له الباب مفتوحا

متأبّطا حزمة ضوء

واضعا يده على فمي

بطل واحد سيمرّ بعينين مسْمولتين

كاتما نشيجه

دون أن يراه أحد

إنه هو...

ولا أحد سواه

لا يوقظ أحدا وهو يمرّ في خُيلاءٍ

 

ألعاب ناريّة

أنت رقمٌ من الأرقام

مُتْ وسيكون لديك رقم مثلهم

ستحصل على رقمِك المفضّلِ

قبل أن يلفّك الموت بشاله الحريريّ الأبيض

افعلْها هذه المرّةَ

افعلْها ومُتْ

لن تخسر سوى قيودِكَ

كن وغْدا وافعلْها مثلَ لصّ

 

نحن في سباق لصوص وعتّالين

- عرفنا ذلك منذ أول يوم

نزلنا فيه أوديةَ العالم -

علينا أن نكون أوغادا ولصوصا

كي لا تفوتنا أرقامنا المحبّبة

التي انتظرتنا طويلا بلهفة

يجب أن نفعلها هذه المرّة

لنعثر على أرقامنا الضّائعة

 

عندما نتحوّل إلى أرقام

سنودّع عالما نقَر أجسادنا الغضّة

سنكون أعشاشا دافئة لأزهار اللّوز

لآلاف الأجنحة والفراشات المخبّطة

ومياهًا لطحالبَ ونجوم وأهلّة

 

الآخرون لن يفعلوا شيئا

سيفشلون في عدّنا

سيتعبون من العدّ

سنربح السباق

لن نندمَ أبدا هذه المرّةَ

لأنّها المرّة الأخيرة

التي سنحتفل فيها عُراةً

مبتهجين بألعابنا النّارية

مغتسلينَ بمياهٍ نادرةٍ

مثلما يفعل الرّعاة

 

هروب

فراشة رفرفت حولي

نحلة طنّت في أذنيّ

جدول خرخر قربي

ذئب عوى في غابتي

حصان حمحم في عروقي

نبتة أشرقت في حقلي

ورقة بيضاء أُحرقتْ

قلم كسره التنهّد

عندما كنت بين اليقظة والنوم

رفرفت قرب سريري آلاف السيوف

وقد حطّمها انتظاري

ثم طارت بعيدا

في أوديةٍ وبحار وغابات وأدغال

 

تحت مطرقة النّوم الثّقيلة

التي دقت عنقي دون هوادة

كانت السيوف المرتجفة قرب سريري

قد أزهرت بين يديْ فارس آخرَ

 

ألعاب مائية

ربّما كانت فراشةً

جناحَ طائر مزّقته رصاصة صياد

ملاكًا ذا حَوليْن

ضربةَ شمس في صيف قائظ

شريانَ جريح بين المشارط

أشلاء جندي مزّقها لغم

ابتسامةَ أمّ في وجه وليدها

رسالةَ سجين إلى رفاقه

عشَّ طائر أتلفته الريح

 

ربّما كانت وردةً مبتلّةً بالندى

دموعَ امرأة في ليلة ماطرة

برقيةَ قائد إلى جنوده في الحرب

صلاةَ متعبّد ليس له سوى وجه الله

إفطارَ صائم ملّ الساعات

قبلةَ امرأة عاشقة

خنجرَ خيانة في بيت

هتافَ غريق حطّمت مركبه الرياح

 

ربّما كانت أيّلا

شهقةَ امرأة أثناء الجماع

تهشّمَ مرايا في حفل رأس السنة

انفلاتَ عبد من سجن سيده

بئرًا مرّت بها قوافل عطشى

سنابلَ خضرًا بعد سنوات عِجافٍ

صراخَ امرأة أثناء الطّلق

أو متسوّلةً ضيّعت محصول النهار

أوووه

كم كانت الكلمات فؤوسا ومناجل

 

مرارة

سألتُ بستانيّا،

قال: العشبةُ.. عشبة الضّوء

سألتُ حطّابا،

قال: الشّجرةُ.. شجرة الضّوء

سألتُ فلاّحًا،

قال: الزّهرةُ.. زهرةُ الضّوء

سألتُ شاعرًا،

قال: الكلمةُ.. كلمة الضّوء

سألتُ عاشقةً،

قالت: القُبلة.. قُبلة الضّوء

سألتُ عنها الجميعَ

لم يحدّثني الأوغادُ عن ورقةٍ

تسقط كلّ يوم فوق رأس أحدنا

لم يحدّثني أحد عن الرّعشة

وأعشابِ العالم الآخر

حيث حجرُ الأبدية الأملسُ

أيّ حمقى هؤلاءِ؟

تسقط أوراقهم كلّ يوم فوق رأسي

وأنا أُهَدْهِدُهَا باكيًا إلى مثواها الأخيرِ

 

كم كانوا لصوصا

أفلاكٌ فوق الماء

بعد أن تبتلّ نصنع أخرى بأعيننا

من علب الطّماطم والسّردين والحليب

نواعيرُ هوائيةٌ نجري بها ضدّ الريح

علامات لتنظيم حركة السّير

صفّارات لسباقات العدْو

وحواجز لإيقاف اللصوص

من الأخشاب جياد تعْدو

ومن القصب ناياتٌ ومزاميرُ

ننفخ فيها إلى أن تتعب أوداجنا

من الصّندل عجلات سيّارات وأثير

يحملنا إلى بحار ومحيطات

من القماش كرات بين أقدام حافية

من الورق طائرات وأسلحة

من الحديد كؤوسٌ وملاعقُ للشّاي

وكوانينُ للنّار المقدّسة

من جذوع الأشجار كراسٍ وطاولاتٌ وأعراسٌ

ومزارعون يتحلقون للسمر

من القماش والقصب والأخشاب

فزّاعات نضعها وسط الحقول

لطرد طيور ستتلف المحاصيلَ

من الحبال وقصاع الحديد

فخاخ وشباك لحمام الصّيف

 

من الأعواد والحبال الصّغيرة

مقاليعُ للحجارة والأعداء

من العصيّ سيوف للمبارزة

رماح ونبال لحراسة الحصون والقلاع

ومن البراميل منجنيقات لقتل الكلاب

من الحبال أراجيحُ للطّيران

من القماش دُمى وعرائسُ

ومن الحجارة والطّين والأغصان

بيوت وأسوار وقصور

 

في المساءات نعود وقد صارت لنا أجنحة

بسراويلَ ممزّقةٍ ومبتلّةٍ

نعْدو مع الرّيح والمطر والصّواعق

في أفواهنا البروق والرّعود

مبتلّين بأثواب رثّة

أمهات يبدّلنها حانقات

نتعشّى كما تتعشّى القنافذُ

حالمينَ بألعاب أخرى غدا

ألعابٍ لا تكسرها الرّيح أو تبلّلها المطر

 

(......)

بعد كلّ تلك السّنوات

أفسدَ الباعةُ ألعابنا

 

مثل فارس أخير

لم آخذ في رحلتي

سوى حصانٍ وبندقيّةٍ

وحزامٍ مخزّنٍ بالخراطيش

وقبّعةٍ تقيني الحرَّ

وحذاءٍ أشعلتُ من كعبيْه سجائرَ للشّمس

 

لم آخذ في رحلتي

سوى قِرَبٍ من الماء

وسكاكينَ ونبالٍ ومنْشَبٍ

ومعطفٍ يقيني المطرَ

 

يومَها امتلأ فمي بالبرق والرّعد والمطر

وأنا أتثاءبُ بين الأودية والجبال

طالت لحيتي على غير عادتها

عُرْفُ الحصان كان مبتلاًّ بالماء والعرقِ

حصان ينْفض ما عَلِقَ به في الضّباب

ليمْرح بين الأشجار

ممرّغا ظهره ووَرَكيْهِ فوق الأعشاب

 

وأمام كهف في أعالي الجبال

أشعلتُ النار بحجَرين من صوّان

لأشوي إحدى الطّرائدِ

كانت لحيتي متْرعةً بالخمر

وأنا أؤدّي رقصةَ النّار

 

أعشاش النحل

في قطرة ندى أو مطر

في حبّة برتقال أو لوز

في نواة مشمش أو تمر

في حبّة رمان أو قمح

في حصاة أو غصن

في شجرة أو عشبة

في غيمة أو نجمة

في نهر متلعثم بين السّهول

في لهفة عاشقة فوق الجسر

في هبّة نسيم فوق حقول القمح

في خرخرة جدول ماء أعمى

في صوصوات عصافيرَ لأمّهم

في ظلّ شجرة تين صيفا

أو في ظل سنديانة وقفت في وجه الريح

 

رغم كلّ تلك الأعالي التي أقمت فيها طويلا

مكلّلا بالغار والمجد

ها أنا أرتعد في بركة دمي الحارّ

عظامي أحطاب ويداي مروحتان للغرقى

رئتاي مليئتان بأعشاش النّحل

وكبدي حقل عنب نقرته العصافير فجرا

 

عناق

(إلى الشاعر الراحل عزوز الجملي)(*)

ماذا كتبتَ «غدًا»؟

العاصفةَ وأعشاشَ الماءِ

الريحَ التي اصطفقت وراء الباب

أسنانَ القبائل المشعلةَ

في حانة«الكون»* ومقهى«باريس»*

البرابرةَ الأخيرينَ وراء القلاع

وهم يودعون أوراقهم

أشجارَ القصب التي نبحت في الرّيح

(*) صاحب كتاب «ألعاب المجروح» الذي غادرنا فجأة في الثامن عشر من جويلة  2015 مخلّفا ذهولا لدى أحبّته وأصدقائه.

(*) الكون وباريس: مقهيان/حانتان وسط العاصمة تونس

 

ماذا كتبتَ «غدًا»؟

يدًا تلوّح للغرقى

اللّجَّ والقواقعَ واليرقاتِ

الطّحالبَ والصّخور الملساءَ

الأمواجَ التي تعانق البرقَ

نشيجَ موتى حروب البحر

صراخَ السبايا والعبيد والغلمان

مدافعَ الماء وأسنان القرش

البنادقَ المحشوّةَ بكحل النساء

الفؤوسَ التي قطعت أشجارَ المحيطات

 

لن أسألكَ ماذا كتبتَ «غدًا»؟

ستصيد أسماكًا طائرةً

وستجلس على صخرة ملساءَ

بعد حرب ضروسٍ

ماسحًا عرقَ المراكب

(.....)

إلىّ بعشبة الماء أخي

فأنا كسيح يتلمّظُ البرقَ في انتظاركَ

 

السيرة الذاتية

صدر له في الشعر :

- الصّباحات/ الدار العربية للكتاب/ تونس 1996

- آنية الزّهر /دار التبيين/الجزائر/1998

- الملكة التي تحبها العصافير /دار الإتحاف تونس 2002

- أجراس الوردة/شركة تنمية فنون الرسم/تونس 2002

- الفراشات ليلا /المطبعة العالمية/سوسة تونس 2003

- عندما أنظر في المرآة لا أفكّر /دار الإتحاف تونس 2003

- نزولا عند رغبة المطر/منشورات كارم الشريف /تونس 2012

- حركات الوردة/بيانات/ دار زينب للنشر/تونس 2014

- حركة النص (بالاشتراك) كتاب دوري مزدوج 1 و 2.  دار رسلان/سوسة/ تونس 2015

- ما لا تقوله الفأس وتذرفه الغابة/ ط 1  دار أروقة القاهرة جانفي 2016.

- باب يضيء لك أو لغيرك/ ط 1 دار ميارة للنشر جانفي 2017.

 

هامش/ كتبت كل هذه النصوص  بتونس العاصمة من صيف 2011 إلى صيف 2015