يعرض الباحث المصري هنا لكتاب شهير عن خراب مصر إبان عصر الخديوي إسماعيل، ويقيم تناظرا دالا بين الخراب الذي أدى للاحتلال البريطاني لمصر، والخراب المعاصر الذي تعيشه.

خراب مصر

من صندوق الدين إلي صندوق النقد الدولي

أديب ديمتري

العنوان ليس من عندي، بل هو مستعار من كتاب تاريخي معروف خراب مصر لمؤرخ روسي هو تيودور روذنشتين، لم يجد صاحبه حينها وصفا أصدق ولا أدق لحال مصر بعد الأحداث التي عصفت بها في عصر الخديوي إسماعيل باشا الذي تولي العرش أعوام (1863 ـ 1879) وأغرق البلاد في الديون، مما أدي إلي التدخل الأجنبي وانتهي بالاحتلال البريطاني علي يد ابنه ووريثه توفيق باشا، والذي دام سبعين عاما. بأي نعت غيره يمكن أن ننعت به حال مصر راهنا؟ وآخر أحداثها الفاجعة والصادمة غرق سفينتين في عرض المتوسط، انشطرت إحداهما براكبيها في عمق اليم، تحملان 184 شابا مصريا في عمر الفتوة والعطاء. غرق منهم من غرق، وفقد منهم من فقد، لم يُعثر له علي جثة، هربا من جحيم عاشوه في بلادهم بلا عمل أو أمل. فضلوا عليه المغامرة الانتحارية وهم علي علم كامل بمآل العشرات بل المئات قبلهم ممن سبقوهم إلي قاع البحر. يحدث هذا والأفراح منصوبة والزفة ساخنة لما سمي بالمؤتمر التاسع لحزب لا وجود له أصلا.. ولا كلمة ترتفع بداخله عن الحادث، حتي من باب الترحم أو الأسي علي ما ضاع. ولم يكد المؤتمر يختتم أعماله حتي وردت الأنباء بإنقاذ 258 مصريا كادوا يغرقون أمام سواحل اليونان، ونجاة 50 آخرين حاولوا التسلل إلي إيطاليا. وأنكروا جنسياتهم!! والحبل علي الجرار.

بأي كلمة غير الخراب يمكن أن نذكر ونتذكر المئات بل الآلاف من ضحايا العبارات الغارقة والقطارات المحترقة. قطار الصعيد وحده الذي احترق منذ سنوات كان يحمل الألوف من ركاب الدرجة الثالثة ذاهبين لمشاركة أهلهم فرحة العيد.. هذا إلي حوادث الطرق والسيارات التي لا يكاد يخلو منها يوم.. والملايين التي تحترق أكبادهم بفيروسات الكبد الوبائية أو تفترسهم السرطانات والفشل الكلوي أو تخنقهم السحابات السوداء وتلوث الماء والهواء والتربة. أما عن الأحياء فحدث ولا حرج. الأرقام بالملايين التي باتت مثل جثث الضحايا وأشلائهم التي اعتادت عليها عيوننا في التلفاز، ولم تعد قلوبنا تتحرك. مليونان ونصف المليون من العاطلين حسب تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ويقدرهم آخرون بأربعة ملايين علي أقل تقدير. نسبتهم حسب الجهاز 6.10 %، وفي الحضر 13 % وفي الريف 8.8%، ومعدلاتها بين الفئات العمرية (20 ـ 35) يصل إلي 19% وبين حملة المؤهلات العليا والمتوسطة أكثر من 50 % عام 2006 (البديل). خمسة ملايين عانس وعانسة فاتهم سن الزواج وأزمة طاحنة في السكن خاصة للشباب. العشوائيات بلا ماء ولا نور، ولا صرف صحي ولا مواصلات. وفي القاهرة وحدها 81 عشوائية، يقطنها ثمانية ملايين من 15 مليونا سكان العاصمة، وتحتل 45 % من مساحتها (الأهرام).أطفال الشوارع والمشردون يقدر عددهم بخمسة ملايين. وبينما السواحل الشمالية والبحر الأحمر حتي أقصي الجنوب المنتجعات والقري السياحية ومدن الأحلام بحدائقها وحمامات السباحة وملاعب الجولف التي تسحب مياه النيل ويكاد يموت عطشا سكان مدن وقري علي النيل مباشرة حتي بحيرات الشمال.. ورغم أهمية السياحة كصناعة إلا أنها أصبحت بديلا عن الصناعات الإنتاجية.

الغلاء والتضخم يتضاعفان بنسبة فلكية من يوم إلي يوم مثل لهيب يحرق، مع أجور لا تغطي ثمن الخبز.. التاريخ لا يعود ولا يكرر نفسه، وإن وإن كرر نفسه فإنه يكون في المرة الأولى على هيئة مأساة، وفي الثانية على هيئة مسخرة. تلك قولة ماركس التي استهلكها الكتاب والباحثون لفرط صدقها وواقعيتها، وها نحن نعيش بالفعل في زمن المسخرة. بعد ما يربو علي القرن من أحداث عصر إسماعيل الكارثية والخراب الذي أهلك الزرع والضرع، وأدي إلي التدخل الأجنبي والخضوع لشروطه وانتهي بالاحتلال، عدنا من جديد إلي دولة تابعة، سلب قرارها وإرادتها، وضاع استقلالها بالكامل. أصبح القرار بيد السفارة الأمريكية في غاردن سيتي، مثل سالفتها دار المعتمد البريطاني،. يعلنه النظام ولا يخجل عندما يتحدث عن الشراكة الإستراتيجية بين مصر وأمريكا، ويجري مناورات النجم الساطع أو لعلها الخيبة الساطعة مع العدو الأمريكي، عدو العرب قاطبة وعدو الإنسانية، وتُوِّج ذلك كله أخيرا بالاتفاق العسكري بين مصر وحلف الأطلسي (الناتو) الحلف الإمبريالي العتيد بقيادته الأمريكية بل وأعلن الوريث جمال من أعلي منبر المؤتمر التاسع لحزبه العلاقات مع واشنطن جزء من الأمن القومي المصري!! (نقلا عن الجزيرة)

خراب إسماعيل عاد بعد قرن أو يزيد في صورة المسخرة. نظام يحكم بالطوارئ منذ تشرين الاول (أكتوبر) 81 ولا يتخلي عنها، بينما شبيهاه في النظم الاستبدادية في كراتشي برويز مشرف وفي جورجيا يعلنان أنها لأيام!!

نظام يعري الصحافيات وينتهك أعراضهن أمام نقابة الصحافيين في الأحداث الشهيرة، ويسحل القضاة، ويخطف الكتاب ويتركهم عرايا في الصحراء، وأخيرا يستعين بالبلطجية ضد الطلبة في حرم الجامعات. وقضاته يحكمون علي أربعة رؤساء تحرير صحف بالحبس والغرامة في جلسة واحدة!! فضلا عن عودة قضاء الحسبة علي أساتذة الجامعات والكتاب والشعراء والمبدعين. ويفتي شيخ الأزهر بجلد الصحافيين ثمانين جلدة، وريث عمر مكرم وعلمائه العظام الذين قادوا ثورات القاهرة وأجبروا نابليون علي الرحيل. هذا فضلا عن فتاوي العصر بإرضاع الكبير وشرب بول الرسول الكريم!!

لم تفقد مصر مكانتها ودورها فحسب بل تحولت إلي هزء وموضوع للتندر والنكات علي اتساع القارات بلا أدني مبالغة. الأمر الذي لمسته في زوار باريس من الأصدقاء من أوروبا وأمريكا وكندا، بل وروي لي بعضهم نكاتا عبرت البحار والمحيطات مما يرددها شعبنا المصري، سلاحنا الذي لا يفل في وجوه الطغاة علي مر العصور منذ قراقوش والحاكم بأمر الله إلي مبارك. وهو ما يفسد بلا شك الظاهرة الملفتة في الرواج المنقطع النظير لرواية عمارة يعقوبيان بعد أن ترجمت إلي لغات العالم الحية، وكذلك فيلمها الذي لاقي نجاحا كبيرا. فلمصر دائما حضورها ومكانتها الخاصة في قلوب البشرية المتحضرة.

خراب الأمم والشعوب في كل العصور موصول الأواصر، قاعدته التي لا فكاك منها هي الطغيان والاستبداد، ومسالك الطغاة في شتي صورها وأشكالها. ومن هنا يعادي الطغاة عادة التاريخ بوجه خاص، ويتخلصون منه بشطبه أو طمسه أو تزويره وتزييفه، ولذلك فإن إعادة قراءة التاريخ خاصة في وثائقه الأصيلة أو كما يسجله المؤرخون الثقاة تمثل حزورة وسلاحا. والعودة إلي حقبة الخديوي إسماعيل باشا بشكل خاص، التي شهدت بداية لتسلل المستعمرين عبر المال والأعمال حتي الهيمنة والتمكن الكامل، وفقدان الاستقلال والاحتلال بعدها، ما يلقي ضوءا كاشفا علي مأساتنا الراهنة. ومن أبرز الكتب والكتابات التي سجلت مأساة ذلك العصر الكتاب الذي سبق ذكره خراب مصر فليس بالكثير أن تفرد له هذه الصفحات.

صدر كتاب تيودور روذنشتين في عام 1910، ونشرت جريدة اللواء صحيفة الحزب الوطني بزعامة مصطفي كامل فصولا منه. نقله إلي العربية كاملا علي أحمد شكري عام 1927 بعنوان تاريخ مصر قبل الاحتلال وبعده. وقد أعادت ثورة يوليو ترجمة فصول منه ووزعتها علي تلاميذ المدارس. ومقدمة المترجم التي صدر بها الكتاب لها أهميتها، لأنها تعكس رؤية شباب ثورة 19 ومثقفيها لثورتهم ومشروعها الوطني الديمقراطي، كما تكشف مدي الاستنارة والوعي بالأهداف البعيدة للثورة الوطنية الديمقراطية في الاقتصاد فضلا عن السياسة. يروي المترجم أنه حاول طبع الكتاب في مصر سنة 1917 ولكن السلطة العسكرية البريطانية رفضته. وبعد أن تقادم العهد علي الترجمة وجاءت حوادث تفتيش المنازل في أوائل 1922 آثرنا أن نتخلص من الكتب وترجماتها وذلك بإحراقها جملة واحدة. أما عن الجانب الاقتصادي في أهداف الثورة فهذه هي رؤيته قد كادت تكون النهضة ناقصة لولا أن قيض الله لها من وضع الدعامة التي يقوم عليها الاستقلال الحقيقي.. ذلك الرجل هو طلعت حرب بحسبنا أن نسرد عليك بعض المشروعات حسب تاريخ تأسيسها. فهناك مطبعة مصر، والشركة المساهمة المصرية لصناعة الورق، والشركة المساهمة المصرية لتجارة وحلج الأقطان، وشركة مصر للتمثيل والسينما، وشركة مصر للنقل والملاحة.. وهناك ما هو أهم.. هناك بنك مصر بل فخر مصر كالغرة في جبين النهضة المصرية. هذه رؤية ثوار 19 فأي ردة وأي حياة نعيشها اليوم وحكامنا يبيعون بنوكنا فخر مصر، ويصرون علي بيعها لأجنبي إستراتيجي! ويمكنون إسرائيل من إرث طلعت حرب العظيم في صناعات الغزل والنسيج باتفاقية الكويز المشبوهة.

ونتابع جذور خراب مصر الراهن قراءة في الوثيقة الحية التي قدمها روذنشتين في كتابه والذي وصف فيه سياسة الانفتاح علي الغرب الاستعماري قبل الاحتلال في عهد إسماعيل وبعده لكي تصبح مصر قطعة من أوروبا بلغة إسماعيل. وبدا منه أن ليس هناك أدني مطابقة علي طريقة السلفيين وبعد مرور ما يزيد علي القرنين، بين الظروف والقوي السائدة والمحركة والفاعلة في عصر إسماعيل وعصر مبارك المشؤوم. وإذا كانت الكولونيالية والاستعمار والإمبريالية، وهي القوي المهيمنة في العصرين، إلا أنها شهدت تطورات عميقة في طبيعتها وأشكالها وآلياتها ووسائلها، ولكن يربط بين العصرين شريان واحد هو الهيمنة في الخارج والاستغلال والقهر، وفي الداخل وجود طبقات وفئات وأفراد علي استعداد كامل ومخز للقبول بها ومشاركتها الأنصبة مهما اختلفت.

تولي إسماعيل خديوية مصر (1863 - 1876) وصادفت ولايته حرب تحرير العبيد في أمريكا (1856 ـ 1861) وانقطاع القطن الأمريكي عن الأسواق العالمية، مما أدي إلي رواج القطن المصري، وانتعاش غير مسبوق في الاقتصاد. وبنهاية هذه الحرب هبطت الأسعار بشكل حاد، ووضعت الخديوي في مأزق وهو الذي اعتاد علي الإنفاق بإسراف دون ضابط أو رقيب، وهو الحاكم المستبد المطلق. قدر الرافعي ديون إسماعيل بين (1864 ـ 1876) بمبلغ مهول بالقياس لزمانه (126.354.360 جنيها إنكليزيا)، وبلغت أعباء الدين سنويا 66% من إيراد البلاد. تعاظم قلق دوائر المال في أوروبا فجاءت بعثة كيف الإنكليزية لفحص مالية مصر عام 1875 وتفاقمت ضائقة إسماعيل المالية فأصدر مرسوم نيسان (أبريل) 1876 بالتوقف عن الدفع.. ولما ذاع الخبر سري الذعر والسخط في الأسواق المالية الأوروبية. استجاب إسماعيل لمطالب وكلاء الدائنين وأصدر مرسوما بإنشاء صندوق الدين، ويعلق الرافعي: كان هذا الصندوق أول هيئة رسمية أوروبية أنشئت لغرض التدخل الأجنبي في شؤون مصر والسيطرة الأوروبية عليها، وأداة اعتداء علي استقلال مصر. وفي إطار الصندوق تقررت الرقابة الثنائية: مستر غوش عضو البرلمان الإنكليزي ومسيو جوبير الفرنسي..

إلي جانب الخديوي كان إسماعيل المفتش ناظر ماليته، وكان معارضا لأي إذعان من الخديوي بكلمات روذنشتين، عارض مشروعاتهم الشيطانية. ويعلق وعلي كل حال فإن خطته آنذاك كانت الخطة التي تقتضي بها الوطنية الصحيحة.. أما من حيث السماح بوضع مالية البلاد تحت المراقبة.. فذلك العمل يعتبر الخطوة الأولي في سبيل تسليم الوطن إلي أيدي الأجانب، وهي الخيانة العظمي بعينها من وجهة نظر إسماعيل المفتش. فلا غرو أن أصبح إبعاد المفتش مسألة تكاد تكون بمثابة حياة أو موت لأنصار النظام الجديد الفكر الجديد! وبعد عناء طويل تحققت الغاية المطلوبة. ذلك أن الخديوي لعجزه من جهة عن مقاومة تهديد مستر غوش، ولعدم قدرته من جهة أخري علي فصل المفتش بالطرق المعتادة، لما له من نفوذ كبير، دعاه للنزهة معه ذات يوم وهناك أوعز بقتله وفي الحال طيّر مراسلو الصحف نبأ سقوط ألد عدو للإصلاح، وما كادت الأنباء تصل بورصة الإسكندرية حتي ارتفعت الاسهم المصرية ثلاثة بنوط في ساعة ونصف. وكتب مراسل التايمز إلي صحيفته بلهجة الفرح يقول: إن إبعاد المفتش يعتبر هنا خاتمة نظام عتيق.

ويمضي روذنشتين بعدها في روايته بحثا عن الحقيقة يحسن بنا أن نلقي نظرة علي حال مصر الاقتصادية لنتمكن من معرفة الأقدار التي طوحت بإسماعيل أولا ثم بمصرنا إلي الهلاك وسوء المنقلب. وهنا يقدم روذنشتين تقييمه الصحيح لإسماعيل ويقيس أعماله بمنظور عصره، عصر النهضة والإصلاحات النهضوية التحديثية. وهو يعدد هذه الإصلاحات من الزراعة والصناعة والثقافة والفنون والتعليم والإدارة والتشريع باستبدال التشريع الإسلامي بالتشريع الحديث، ويحرص أن يستشهد بالأوروبيين الذين ناصبوه العداء مثل مراسل التايمز الذي يقول: تعتبر مصر مثالا باهرا للتقدم، وعن قنصل أمريكا العام طالما قيل بطيش اسماعيل والحقيقة التي لا نزاع فيها أن ما أدخل من التحسينات علي المشروعات العامة كان فوق الوصف، وعن آخر هناك عمل عظيم سيبقي إلي الأبد في تاريخ حكم إسماعيل باشا وهو القضاء علي تجارة الرقيق. كما كتب آخر لقد كان التقدم في التعليم في عهد إسماعيل باشا مما يستوقف الأنظار إعجابا وسيبقي معروفا كذلك في كل بلاد العالم. كما يسجل المؤرخون زيادة دخل مصر وثروتها، صادراتها ووارداتها، ولم يكن ذلك العصـر يعرف لفظة التنمية.

إذن أين المشكلة؟ ولماذا كل هذه الديون والخراب الذي تبعها؟ هنا يضع روذنشتين يده علي بيت الداء، وجذر البلايا: كانت عجلة الخديوي وتجاهله حالة الخزانة عند القيام بهذه التحسينات العظيمة من دواعي الأسف، ولكن لا يمكن بحال أن يقال إنها وحدها سبب للخراب المالي المروع. وقد انتهز الكتاب فرصة متاعب الخديوي المالية فأسهبوا في نقد تلك الصفات التي عرفت عن الشرق. ولكن أليس من المدهش أنهم سكتوا عن الجشع الغربي فلم يذكروه إلا عرضا؟.. طمع الخديوي وشروره والأعمال التي ارتكبها الممولون الأوروبيون سارت جنبا إلي جنب في إحداث الخراب.. وإلقاء المسؤولية كلها علي الخديوي وحده انتهاك للتاريخ. ويقدم نماذج من اعمال السفالة التي اقترفها الممولون الأوروبيون. في أواخر عام 1875 أصبحت مصر مدينة بمبلغ 68 مليون جنيه إلا أن المبلغ الحقيقي الذي وصل إلي خزائنها لم يتجاوز 44 مليون جنيه.. الفارق وجد طريقه إلي اصحاب القروض واعوانهم، إما بصفة سمسرة أو كمكافأة. (ما يذكرنا بصفقة اليمامة السعودية في لندن وشبيهاتها في مصر منذ عام 81. من يدري كم تم قبضه وكم ضاع في أعمال السمسرة والعمولات وكم هُرّب إلي الخارج؟).

ويقدم روذنشتين أمثلة فاجعة عن النهب المنظم الذي مارسه الممولون. فمثلا زادت تكاليف بناء ميناء الإسكندرية بمقدار 80% عن تكاليفه الحقيقية. كما أن خطوط السكك الحديدية بلغت تكاليفها أربعة أضعاف نفقاتها الأصلية، إذ كلفت 13 مليون جنيه، بينما نفقاتها الحقيقية ثلاثة ملايين جنيه، وقس علي ذلك مصانع السكر وغيرها وغيرها.. هؤلاء الأفاقون المحتالون.. وضعوا أصابعهم في آذانهم حتي لا يصل إليها أنين المصريين البائسين. هذه الوسائل الغربية التي لجأت إليها المالية الحديثة هي السبب الأول في الحالة التعيسة التي وجدت مصر نفسها فيها. فالمصروفات الواسعة علي المشروعات والإصلاحات في سبيل التقدم.. وإن كانت باهظة إلا أنها لا تؤدي وحدها إلي الأزمة الحاضرة التي يمكن أن يقال إنها لم تنشأ إلا من الشروط الفادحة للقروض التي كان معظمها خارجا عن طوق الخديوي لقضاء طلبات مستعجلة. انها الشروط الفادحة اذن والهيمنة الاستعمارية لدوائر المال والأعمال الغربية وليست القروض في ذاتها أو الانفتاح علي الغرب والتطلع إلي نقل حضارته، هو ما قاد إلي الخراب.. ومن هنا سنشهد تخلق وانبعاث بذور الثورة الوطنية الديمقراطية في رحم عصر إسماعيل، والتي قادت إلي ثورات عرابي وثورة 19 وثورة يوليو بإنجازاتها الوطنية الكبري والتي أضاعتها وبددتها الثورة المضادة، حتي الخراب الذي نعيشه.. ومن حق المرء هنا أن يتوقف ويتساءل لماذا؟

فالقضية ليست الانغلاق أو الانفتاح، فالانفتاح لا مندوحة عنه، إذا أرادت الشعوب تنمية وتقدما. والعرب عندما انتصروا وسادوا لم يرتدوا ويعودوا إلي ماضيهم وتراثهم القبلي الجاهلي، بل انفتحوا علي أرسطو وحضارة اليونان والرومان.. فالتواصل بين الحضارات محتوم أكثر من الصراع. والأهم في كل الحالات، ومهما تباعدت الأحقاب والأجيال هي شروط هذا الانفتاح ووجهته علي من، ومن أجل من. وقاعدته الذهبية هي المساواة في التبادل وحرية الاختيارات ورفض كل هيمنة وخضوع.. وهذا يقودنا إلي حاضرنا المنكوب.. الانفتاح التبعي وشروط المنظمات الدولية القائمة أدوات الإمبريالية الجديدة، التي أذاقتنا من جديد مرارة الخراب.. نقطة البدء في معركتنا هي التصدي لهذه الهيمنة والتخلص من التبعية وإزاحة نظمها العميلة الاستبدادية الفاسدة، واستئناف مسيرة حركة التحرير الوطنية العربية وزخمها من جديد


كاتب من مصر يقيم في باريس