يقطر الشاعر المغربي في هذا الديوان تجربة السجن السياسي التي عاشها، وينطوي شكل القصيدة فيه على كثير من الرؤى والدلالات، بصورة تضفي على محتوى الشكل أهمية خاصة.

كوّة

ديوان

أحمد الجوهري

 

 مقتبسة

"أغلقوا علي الباب

سيظل بيني وبينه فاصل كلمة

ولن أقولها لأفتحه

سأختنق

فهذا هو الأفضل

هذا هو الشعر

والجواب"

أنسي الحاج، الوليمة، ص126.

إهداء

الى التي سحبتها من العدم

نور قدومي من العدم

صوب نور الحياة

الى بنيتي مديحة..."

                أحمد الجوهري

كـــوة

... أنا الراجي

أن تعصر القصيدة

كلما دار المفتاح

في قفل الباب

دالية ألم عتيقة

فتتدفق الخمرة

من خلال كوة

في الأوراق ...

قمـر

أيها القمر

بدل أن تدخل رأسك

في الكوة، فتنحصر

هيء لي ذراعيك

في الباحة

لأدرج عليهما

وأطير...

باب الليل

باب من باب

باب في باب

باب على باب

باب يدير ظهره للارض

باب يحتبسني

فأنكمش داخل درعي

كسلحفاة...

*  *  *

مثل ليل ينقط ماءه

بين ملقط الصمت وفك المفازة

أرى جسدي في جسدي

كأسا فارغا في عز المنفى

مثل ليل يقلب في السرير

حيض الأحلام

*  *  *

أمد يدي في الكوة

أنقع حواس الحنين

كي تنجب عيناي امرأة

مثل شمعة

تكثر من أكل نفسها

أنسى نفسي في الحياة

وأنام في العدم ...

صرير الليل

-1-

في الليل

الذي يسبقه صرير الباب

في كل ليل

أسبق الحياة

التي تتلوى مثل حشرة جريحة

-2-

يدي

تنسى دخيلتها الفارغة

أنظر الى الكوة مثبتة في

الجدار

وأنتظر أن تسقط السماء

بدلو مثقوب

-3-

القمر

الذي يستيقظ من أجل نفسه

لا يقترب ولا يبتعد

الشباك يسيل خجولا

مشغول أنا

بعشب الألم

الذي ينمو في جسدي المهجور

*  *  *

مشغول أنا

بالشمعة التي تعري

نار الحياة

بماء الموت ...

-4-

أستعيد الليل بلا سبب

أرسم امرأة

على الورق

فتنطبق الأشجار بأغصانها علي

وأعجز أن أصالح الغيمة

اللامرئية

في صحرائي

أرسم طائرا على الورق

فيذكرني بحاجته

الى العالم المكشوف ...

كمائن الصمت

-1-

... لا أعرف

لماذا يسقط طنين الذباب

في فنجان الصمت؟

-2-

... الزمن في خيمة الصمت

يعبر كالبابونج غفلة عين السجان

ويترك لي

سعال اللغة ...

-3-

حين يكون الكلام

مدعوا

لفداحة الصمت في الزنزانة

تختبئ الذكريات

في الذكريات

كالقنافذ ...

-4-

... تنام نجمة

ونجمة

في ظلال الصمت

وتخاف فرقعة المفتاح

في القفل

-5-

طقطقة المفاتيح ...

في السجان

أشبه بعنكبوت

تجري

فوق عنق الصمت

-6-

الصمت

مدفأة الكلام

-7-

الصمت غيوم تظلك

أما الكلام

ريح تتطاير فيه أعشاش

الطيور

كالمصائر حين تسيل في الغرابيل

-8-

أعرف الآن

أن الزنزانة مفازة

الكلام لسعة رتيلاء

أما الصمت

فهو الحكمة المتبقية لكل عابر

ضربة غياب واحدة

وأنا لست مفتاحا

لأسلم للقفل

يقينه

في الباحة

عيناك تحبوان مع الأسوار

هناك فقط غيمة بيضاء

ترشح أسرارا باردة

وتحت قدميك

طوابير النمل

ماذا لو نامت هذه الأسوار

على ظهرها

ليهرب قطيع الندم

وأدمن التجوال في شجرة

دون أن أساوم خيالها الدافئ

بكلمات ملونة؟

*  *  *

هنا لا حلم يبقى

ملك أحد

ولست عاقلا

لألمس بأصابع العقل

ظلمة باردة

*  *  *

وما أبرهن عليه بشكل جيد

هو الغرابة

وزنزانة أشبه بحدبة كبيرة

على ظهر الأرض

كل السماء ملكك

إذا كانت لك السماء

*  *  *

فما بال هذه الشمعة

لا تقامر إلا على حصان واحد

حصان يخسر دائما؟

وما بال هذا الألم يبتلع

خيال اللغة

كالأسبرين؟

*  *  *

الكوة

محروسة بيأس قديم

تسهر على تفتيته الى صمت

بيد غافية

والقمر ينام وسط السماء

أشبه بقبعة طافية لغريق

والنجوم دموع صغيرة

الرمادي في ذهن الزنزانة لون باسل

فساتين الحنين ثقيلة علي

أنا الطيف الذي تنجبه

عيناي

أنا الذي يخاف أن يصل

دائما من الماضي

المزار

دائما

أشهر قلبي

كالمجداف

في بحيرة مرتشفة

حين لا تأتي

التي أعنى بها

كبؤبؤ عيني

الى المزار

محنة

حجر من حصاة

حصاة من حجر

من أوقد فتنة الحجر

واختفى كالحصاة؟

*  *  *

ضاق زورق اللغة

كبرت في الغياب

غفوت

صحوت

نمت فوق ظهر الجدار

*  *  *

كأنك كنت تجهل

أن الأزل

لا يميل إلا لجانب الليل

كأن قلبي

ينبض على قرقعتين

واحدة تقلب الهاوية

كالطهاة

وأخرى تقارعني

بثياب الحداد

*  *  *

في البداية

وفي النهاية

لا نتألم جيدا

إلا في أجسادنا

في الخبث تلتقي الريح

والغبار

*  *  *

واليد التي انسدت يد كفيفة البصر

ليلتقي أذن الفراغ الذي ابتعد

في الفراغ

*  *  *

لا أعرف هل استولى الآسى

أخيرا على الأمواج؟

لو يطير الآن سقف

الزنزانة

لأطمئن على القمر

يمشي للجنون...

عقرب الليل

-1-

... كلما كان قلب الكروم

قانعا بالموت

في نبيذ حزين

يهبط الليل أعمى

على شمس الروح ...

-2-

... من ترك صنبور الليل

يدمع في الجنون

الداكن؟

وكيف أبصر الحبر

أول العتمة

يوم السقوط في البياض؟

-3-

... أيتها الشبابيك

يخيل إلي

أن الحلم عين في اليد

عين صافية

تحب الشعر أيضا...

-4-

... ليمطر الليل

ليمطر

ليمطر

رجائي أن لا تجف السماء

على مشارف الجنون

-5-

أيتها النافذة

التي تتمنطق بالقضبان

ما أشد هشاشة

أسلحتي!

سيجارة رخيصة

أقاسمها تمارين النار

وشمعة

تحمل راسها

السكران بالدموع

وتسير به الى الجنازة ...

الشباك

أنظر من الشباك

ولا أرى القمر

العتمة هي أول من يصل

وما تبقى منها

يرطب الصمت

هكذا شاطأت بياض الكلام

من غبرة الطالع

حتى دخان الشموع

*  *  *

الشباك نام

ووجه الغياب

الذي استسلمت فيه

أسرار الفصول

أين سيرمي بمسلة

الكآبة..

وأحتفظ بخطوة الماء؟؟

*  *  *

الشباك في الجدار

والشباك في الذهن

شباك واحد

يتساقط على جرحى

النحيل العظام

*  *  *

هكذا كلما صاتت

صفارة الشباك

أصعد الى شفتي

القصيدة

أسكر من خمرتها

وأنام

خابية الوساوس

ما افتقدت ثقتي بالينابيع لكن ينقصني نهر

لأسبح فيه ثانية

الزنزانة رحلة الى ليل مفؤود،

وعيناي مبحوحتان

على صلافة الجدران

خذ عني إملاءات القرقعة

واغفر جهل المفتاح

وارتكني أنسى راسي في رأسي

حين يختلط خمر الصمت بي

لا أرض لي ليبسط الفراغ يده

لا سماء لي لتجمع الغيمة ماءها

قبل أن تجرب رأفة الهاوية

يظل جسدي ظنا،

فكيف يسطع دمي بما ليس فيه؟

أدلكم على حياة مدلهمة

ولا أشرق البتة

أقتعد حلم الأرض متكورا

فيفتك السجان بحلمي أمام عيني،

ويقطع آخر خيط

يوصلني بالعالم

الكلام كوة في جدار صمتي

روحي كوة في جدار جسدي

الليل والنهار يضاعفان جرعات الكآبة لعيني

هكذا أمسيت لا أشرب نفسي

إلا ومقبض الغياب في يدي

فراسخ الروح

أنا مثل نهر يفيء

الى مالا تعرفه الأرض

عن الينابيع

أنا كأس فارغ

والزنزانة المستورة عن الشمس

اعتادت معرفتي

حين أسترق السمع

الى قرقعة المفاتيح

*  *  *

أما الشباك

أمضغ قضمات من

فطيرة الانتظار

وقبل هبوب الألم

أسير بعيدا عن نفسي

أكاد ألفظ اسمي

أفكر كيف يكون المشي

من عنب الدالية

الى الكأس....؟

*  *  *

حين تنزل الأرض

في حذاء السجان

أفتح كوة اللغة

كي يطير حمام الزمان

وأبادل غيمة الشتاء

عزيمة الماء

*  *  *

حواسي لا يسكنها إلا الفراغ

والشباك المفتوح

يحضن كرمة الخوف

هكذا أتشاجر كل يوم

مع هواء شحيح

وأنسى أن بعض الأشجار

تميل من ثقل أغصانها

*  *  *

لا تجفل إذا سمعت الحنين

في يدي

فالموت خاطف

كالقبلة

يفرغ الجسد من ساكنه

ويجمع بيديه

فراسخ الروح.

قصفة الغياب

-1-

الزنزانة تشرق من بين ضلوعي

دون أن يدير دفنها أحد

الجدران الرمادية ترتجف

في يدي

يدي التي تختفي في المسافة

التي تنظرها...

-2-

أقلم أعذاق الألم كأصابع

وفي كلامي وقع الأرض

التي هوت من ذراع الكلام

وطيور تأخذ الأشجار جانبا

وتشرب من ألوانها

كأن الطريق الوحيد للجرح هو الجسد،

فيا أيها القمر

المخمور بخيالات الكوة

كيف تعبر من دمي دون أن تنيخ حيرتك حيرتي،

دمي الذي لا يمتلك غير الكلمات من أجل هذا العالم؟..

-3-

دائما أجلس أمام نفسي

كي أفتح الأرض

فتشربني الجدران كماء

ما أبعد نفسي

تتقافز فوق بعضها كالأمواج

وتسيل أنفاسها

في قصفة الغياب ...

غمــازات

-1-

... الشباك لا يقفز من قضبانه

يجرب التحديق فقط

كل الليالي تدخل سريري بدونك

كل الليالي أدحرجها في يد العتمات

فتذيب رضاب الفراغ

-2-

كنت أدخل نفسي بابا تغلقها علي الغربة

فألتقي الغريب

يحيط الجهات كلها بطمأنينة الماء

-3-

كنت أخرج من نفسي

أضفر من وبر السحب حبلا

كي أصطاد القمر

فيستدير نور الشمعة كعيني

أو كياقة القميص

-4-

لا تترك وجهك على الجدار

الذي أحدث فيه الغياب غمازات

دق الأرض

كي أرى كيف تعبر بيني وبينك

هذه السماء...

-5-

لو أن الحياة أعطتني يدها

لاختلف الحنين عن نفسه

وما خاف الطائر على جناحيه

من الشمس

-6-

لا تطلب من الزنزانة

أن تتوقف عن الهطول

أنا الجراح المتبقية لي

وهذه الليالي مثل الباب

لا تقترب ولا تبتعد

إلا في كوة الظنون ...

مراكش 2007

إضاءة

"كوة" هو الديوان الأول للشاعر أحمد الجوهري ـ وهو شاعر تعرض الى الاختطاف يوم 20 يناير 1985، وقضى 70 يوما في المعتقل السري درب مولاي الشريف، تمت محاكمته ضمن مجموعة 16 يوم 5 أبريل 1985، صدر في حقه حكم بثلاث سنوات سجنا نافدة. لم يطلق سراحه إلا بعد قضاء المدة الكاملة، وذلك يوم 28 مارس 1988

وقد صدر هذا الديوان عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش في طبعة أولى هذه السنة في 80 صفحة. وقد ولدت قصائد "كوة" من رحم تجربة الاعتقال السياسي المريرة، والتي أمست اليوم تشكل تجربة أدب الاعتقال الممتدة في تاريخ الأدب العربي الحديث، مع التأكيد على خصوصية المتن المغربي، والذي عرف طفرة في المنجز النصي السنوات الأخيرة. مما يستدعي قراءته وفق هذه الرؤية، مع مزيد من التفكير النظري في أواليات واستراتيجية القراءة لهذا المثن، بحكم تفرد هذه التجارب ببناءاتها وصيغ مقولها. ويؤكد الناقد عبدالجليل الأزدي أن قصيدة الشاعر أحمد الجوهري "لا تشعر ولا تشعر، وإنما تتأمل وتفكر، ودون أن تتحذلق في الكلام، ترسل من كواها رؤية واضحة تذهب توا صوب الملقى مع نيتشه، عبر معجم مغلق انغلاق الزنزانة التي جعلت المتكلم في القصيدة ينتظر ويترقب، ويرجو الخلاص والحرية". تستدعي قصائد كوة موضوعاتها من رحم تجربة الاعتقال، من الألم الى ضوء الحرية. مرورا بالغياب، وخيبات الانكسار ... لكن، بعيدا عن هذه الهيمنة لثيمات تبدو منطقية في رؤى نصوص كوة، إلا أن الديوان يسكنه الشعر الى حد بعيد، إذ تصيغ التجربة قصائدها، والقصائد تستدعي أحمد الجوهري الشاعر.   (ع. م.)

.