يتناول الكاتب المغربي هنا أحدث روايات الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم، ويكشف عما يجمعها برواية الطيب صالح الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» حيث أن الجنس في الروايتين يتضافر مع السياسة ومع أطياف من العبث. لكن الأمر في رواية صنع الله أكثر انشغالا بالداء العربي المقيم: القمع والاستبداد.

الجنس والسياسة .. والعبث في «برلين 69»

قراءة في رواية صنع الله إبراهيم الجديدة

سعيد بوخليط

آخر العناوين التي أصدرها الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم، حسب متابعتي، لمنجزه - هو أقرب الروائيين العرب إلى قلبي بعد عبد الرحمن منيف- رواية: برلين 69. نفس الإطار الإيديولوجي والرؤية الفنية والإبداعية، كما تحددت لديه، منذ أول نص له: تلك الرائحة (1966)، التي وثق من خلالها ليوميات اعتقاله في سجن الواحات طيلة خمس سنوات (1959-1964)، ثم على امتداد مسافة زمنية، قاربت إلى الآن خمسة عقود، راكم إثناءها صنع الله إبراهيم روايات مثل: اللجنة، بيروت، ذات، شرف، وردة، أمريكانلي، التلصص، نجمة أغسطس، العمامة والقبعة، القانون الفرنسي، الجليد وقوفا عند النص الحالي برلين69 .

ظل هذا الروائي اليساري، الذي انتمى خلال الحقبة الناصرية إلى التنظيم السري الشيوعي، منشغلا دائما بهاجس فضح وتشريح الأمراض المجتمعية المصرية خصوصا، وعبرها العربية عموما، الناتجة عن منظومة الديكتاتوريات التي تحكم شعوب المنطقة بالحديد والنار، ورصده الكافكاوي الساخر للأنساق الانتهازية المتوارية خلف جدران الطابوهات، وبالتأكيد الثالوث المحرم :السياسة، الدين، الجنس. بكيفية شيزوفرينية عصابية، فقط لمجرد أن تنعش باستمرار تلك الديكتاتوريات بقاءها الأبدي، على حساب طبعا التخريب الممنهج والبنيوي للمرتكزات الحضارية الأساسية، والإلقاء بشعوبها في دوامة التيه.

عاش صنع الله إبراهيم، مختلف مسارات الإخفاق العربي، بدءا بهزيمة 1967، فجاء متنه تأريخا إستيتيقيا وفق رؤية تقدمية، لتجليات ذلك على الحياة اليومية للناس، بحيث نقف على أدق التفاصيل، لذلك يستحسن حسب ظني، الاعتياد على قراءة ما يكتبه الرجل، دفعة واحدة دون قطائع زمانية متباعدة، كي يتم الاستمتاع حقا بما يجري، وتستوعب بوضوح أبعاده الخفية والجلية، ولا تضيع الخيط الرابط لذلك، مادام يتداخل لديه وفق مسافات دقيقة جدا، يصعب في أغلب الأحيان، تمييز التوثيقي عن الوثائقي ثم الجمالي الفني، بين طيات سرد مكثف، سميك، وسريع الانجاز، قد يفقد القارئ، في لحظة فتور ذهني، متواليات الأبعاد الناظمة للنسيج الحكائي، حسب كل مجال على حدة. فما بالك إن توقفت عن قراءة العمل لفترة ثم عدت إليه ثانية. ذات الشعور انتابني، مع تلك الرائحة ونجمة أغسطس وبيروت بيروت ثم برلين69 .

إذا صرح صنع الله إبراهيم، خلال بعض لقاءاته، أنه بطيء على مستوى الكتابة، مما يدفعه كي يرفض دائما الالتزام صحفيا بكتابة المقالة، مفضلا ادخار وتوظيف هذا الجهد المفترض لكتابة الرواية، فإنه حقيقة تصعب ملاحقته سرديا، ويحتاج إلى سرعة وسعة نفس، قصد تعيين وضبط مستويات السيري والموضوعي، الإيديولوجي والإبداعي، الواقعي والعبثي.

يستلهم غالبا، هذا الروائي الفذ والملتزم، موضوعا سياسيا كبيرا ودسما، فيتحول به من المجال السوسيو- سياسي إلى حيز الكتابة الروائية، مخضعا إياه لقوانينها الخاصة، على سبيل الذكر، لا الحصر: ''تلك الرائحة''، هي بيان انتقادي لحكم جمال عبد الناصر. ''نجمة أغسطس"، رصد لحيثيات بناء السد العالي. "بيروت بيروت''، استعادة لتفاصيل الحرب الأهلية اللبنانية كما عاينها صنع الله إبراهيم. ''اللجنة''،عبارة عن نص يسخر بروح كافكاوية من أجواء سياسات الانفتاح التي تبناها السادات. ثم رواية ''برلين 69"، والتي يعتبرها بالمناسبة صنع الله إبراهيم، أنضج أعماله، بقوله: «إن أحداث رواية ''برلين69"، كانت تتفاعل وتتصارع داخلي منذ أربعين عاما، ولذلك فإني أعتبرها أنضج أعمالي الأدبية، إذ كتبتها في فترة شعرت فيها بنضجي ككاتب وكذلك كإنسان، بالإضافة إلى نضج أدواتي وثقافتي». رواية استثمرت النتائج النفسية المترتبة عن فصل جدار برلين بين ألمانيا الشرقية والغربية، حقبة الحرب الباردة، ومدى اختلاف الظروف المعيشية والحياتية بين نصفي البلد الواحد، كي ينتقد صنع الله إبراهيم المآل البيروقراطي للتطبيق الاشتراكي، الذي قتل منابع الحياة وتشيأت معه إنسانية الفرد، سواء في ألمانيا أو مصر، وكيف تحول الجنس جراء ذلك، من حس بيولوجي ينبغي أن يأخذ حيزه الطبيعي المتوازن سيكولوجيا، فتتحقق معه إنسانية الإنسان السوي، كي يصير هاجسا مرضيا وغريزة شبقة منفلتة تسيطر على العربي وتشل تفكيره تماما، بل تصير مرجعيته المطلقة في هذا العالم. إذن، كما يدل عليها عنوانها، فرواية برلين69، بمثابة استحضار لذات المكان والزمان، مع مختلف دلالات الفترة التاريخية المؤرخة لظروف الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي والرأسمالي، والصراعات الندية اليومية على جميع الأصعدة،الإعلامية والإيديولوجية، لدى هذا الطرف أو ذاك.

على امتداد فصولها الأربعة التي قاربت251 صفحة، يصعب على القارئ أن يتبين ولو من خلال إشارة واحدة، تكشف حقا هل تواجد وقتها صنع الله إبراهيم في برلين الشرقية، أم فقط هي مجرد أحداث متخيلة، استنتجها بناء على معطيات ظروف المرحلة؟ محاولا باستحضاره للعقائدية الشمولية المستبدة طبعا بحقوق الفرد، إعادة انتقاده للمنظومة العربية بكل تجلياتها. طبعا،هناك كتاب وثقوا لأمكنة اعتمادا فقط على حدوس وتصورات افتراضية. بيد أن صنع الله إبراهيم، سيقطع بهذا الخصوص دابر الشك باليقين، عندما أكد في إحدى لقاءاته مع الجمهور، بأنه: «عاش في ألمانيا ثلاث سنوات، كان يقوم خلالها بتدوين مشاهداته، مما يراه أو يسمعه، ويخفيه في مكان سري، لكن ذلك لايعني أن الرواية هي سيرة ذاتية». اعتراف، ربما يدفعنا كي نطرح التساؤلين التاليين: لماذا انتظر الروائي، جل هذه الفترة الطويلة، كي يخرج نصه؟ ثم ما درجات ومستويات تماهيه مع صادق الحلواني الشخصية الرئيسة؟

قد يسهل الحسم مع الاستفسار الأول، مادام الوضع العربي المختل جوهريا، مثلما شكل الخلفية الضمنية، الغائبة– الحاضرة، لحبكة "برلين69"،لازالت تغمره بل زاد انغماسا في مستنقع المساوئ المرضية، التي رصدتها بسخرية سوداوية، مختلف حلقات المشروع الروائي لصنع الله إبراهيم: القمع، الخوف، البيروقراطية، الانتهازية، الانبطاح، التشيؤ، الكبت، الحرمان، التلصص، التفاوت الطبقي بتناقضاته الاجتماعية الرهيبة، انتفاء العدالة. كل ذلك ضمن نواة استمرار الأفق الثوري لدى الروائي وإيمانه بضرورة الانقلاب على الوضع القائم. ولعل من أهم مواقفه العملية المشهورة المنسجمة مع نزوعه اليساري، رفضه سنة 2003، تسلم جائزة الرواية العربية التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وتبلغ قيمتها المالية 16 ألف دولار، مؤكدا بأن الحكومة المصرية: «لاتملك مصداقية منحها»، قائلا بالضبط: «أعلن اعتذاري عن عدم قبول الجائزة لأنها صادرة عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد وتسمح للسفير الاسرائيلي بالبقاء في مصر. في حين أن إسرائيل تقتل وتغتصب». أيضا إلى جانب هذا التبرير العلني، يقال بأن رفضه ذلك، جاء تحديا لوزير الثقافة فاروق حسني، الذي أفصح خلال إحدى تصريحاته عن سعيه لإدخال المثقفين الحظيرة. تجدر الإشارة، إلى أن لجنة التحكيم ترأسها الطيب صالح، وكان عبد الرحمن منيف، أول اسم توج بتلك الجائزة.

أما بخصوص مدى تماثل أو اختلاف، صنع الله إبراهيم، مع بطل الرواية، فيصعب حقيقة التأكيد أو النفي. الصحفي صادق الحلواني، الشاب المصري الذي سافر أواخر الستينات إلى برلين الشرقية كي يعمل في القسم العربي لوكالة الإنباء الألمانية المعروفة اختصارا ب''أ. د.ن ''، غير أن وازعه الأصلي في واقع الأمر، لمغادرته مصر والرحيل صوب ألمانيا، هو توخيه تحقيق الإشباع أو الارتواء الجنسي، عبر إقامته لعلاقات غرامية عدة مع فتيات تتباين جمالا وإثارة وإغراء، انطلاقا من قناعة جاهزة وقبلية مفادها أن الأوروبية عموما سرعان ما تقع في غرام الشاب العربي بمجرد وقع سهام النظرة الأولى! طموح،عبر عنه تهكما على امتداد فقرات الرواية بـ"النشاط الثقافي'' الذي يقتضي عمليا ''برنامجا ثقافيا''، يضع خططا لمغامرات جنسية بهدف اصطياد ألمانيات واستدراجهن إلى غرف النوم. أيضا، هو "نشاط ثقافي" توالى وتواصل بصيغ وأساليب مختلفة عبر صحبة صادق الحلواني مع باقي رفقة زمرة ''الذئاب العربية''، التي لا هاجس لها سوى الجنس، وهي شخصيات أخرى عراقية، كردية، أردنية، مثل: ماجد وفخري وعدنان ونبيل. راكمت حكايات يومية أساسها الملاحقات الاغوائية والعلاقات السريرية البورنوغرافية العابرة، لكنها تلامس بين طيات ذلك، قضايا أكثر عمقا، تنتقل من الخاص إلى العام، ومن الشرق الأوروبي إلى العربي، لاسيما مصر، التي تعيش منذئذ التداعيات السلبية لهزيمة يونيو1967 .

بشكل من الأشكال، يذكرنا التيه الجنسي لصادق الحلواني، بمصطفى سعيد في موسم الهجرة إلى الشمال، إنه مظهر من مظاهر هلوسات العربي المتأتية من ردود أفعال سيكوباتية نحو واقع مهزوم يأكله الانحطاط على جميع المستويات. فقط اختلفت العلل والمبررات: الجنس لدى الطيب صالح، بمثابة غزو بفحولة الزنجي لنساء الغرب، كرد انتقامي على صنيعه الاستعماري. أما مع صنع الله إبراهيم، فالجنس أيضا يمثل سلاحا للمقاومة لكن من أجل تقويض الأساس المذهبي للنظام البطريركي التوتاليتاري، ثم استعادة الفرد كلية في الجغرافية العربية لحقوقه الأصيلة. حرمان واغتيال وجودي على نحو غير مشروع، أفرغه تماما من بعده الإنساني، واختزله فقط إلى "ذئب" محتال، يتحين بأساليب حقيرة وخسيسة أشياء ليست من حقه. بدل أن يصارع بكيفية مشروعة قصد استعادته لحقوقه. الجنس إذن سواء هنا أو هناك، يتحول أساسا إلى مسلك عبثي يمنح إمكانية السخرية من كل شيء، وليس فقط السياسة.

 

صنع الله إبراهيم : برلين69 . دار الثقافة الجديدة الطبعة الأولى 2014

 

http://saidboukhlet.com