صحيح أن شخصيات هذه الرواية خليط من شخصيات قديمة خلقها يوسا في روايات سابقة، ومن شخصيات مبتكرة لا ترتقي إلى مستوى ما أبدعه من قبل، إلا أن صاحب «نوبل» (2010) الذي يعتبر أحد أبرز القامات الأدبية المعاصرة، ينجح في روايته في شد حواس قارئه والاحتفاظ باهتمامه حتى الكلمات الأخيرة، بأسلوبه الآسر وتقنياته المتعددة والغنية، وبحواراته الديناميكية التي تعود بنا عشرات السنين إلى الوراء بمجرد الانتقال من سطر إلى آخر، ومن السؤال إلى جوابه.

«البطل المتكتم» يوسا بلغة صالح علماني

المنتصر لا يكثر الكلام

ساري موسى

تجري أحداث «البطل المتكتم» (2013) التي صدرت أخيراً بالعربية (ترجمة صالح علماني ـ «دار الحوار») بين منطقتين مختلفتين من البيرو، وضمن قصتين تبدوان منفصلتين في البداية، لكنهما تتناوبان على امتداد فصول الرواية. يرجع ماريو بارغاس يوسا (1936) ليبث الحياة في شخصيات قرأنا عنها في رواياته السابقة، ويضيئ على جوانب جديدة من حيواتها. نرى أن دون ريغوبيرتو يستعدّ للتقاعد من إدارة شركة التأمين التي يملكها إسماعيل كاريرا في العاصمة ليما. يتهيّأ الرجل للتفرغ كلياً لاهتماماته الفنية ولوحاته الإيروتيكية القيّمة المخبأة وراء سبعة أقفال، كما ينوي التفرغ للاستماع إلى السمفونيات في فجر مكتبه المطل على الخليج، وقراءة الأدب الرفيع. يضع برنامج رحلته القادمة إلى أوروبا برفقة زوجته وابنه. تعود مشاكل ابنه فونتشيتو بقوة، لكن من خارج العائلة هذه المرّة، لا من داخلها. لا علاقة لهذه المشاكل بدونيا لوكريثيا إذاً، زوجة أبيه التي أغواها بالنوم معه في فراشه وهو لم يبلغ الثانية عشرة بعد، في رواية «امتداح الخالة» (1988). عادت دونيا إلى المنزل في نهاية رواية «دفاتر دون ريغوبيرتو» (1997)، بعدما طردها زوجها لإلقائه اللوم عليها في كل ما جرى بينها وبين الصغير الماكر، الذي لعب الدور الرئيس في عودتها.

أما في القصة الأخرى، فنقرأ عن ابتزاز يتعرض له صاحب شركة النقل المزدهرة في بيور فيليثيتو ياناكيه، أي الشركة التي يسهم الرقيب ليتوما في حل لغزها، وهو إحدى الشخصيات في رواية «البيت الأخضر» (1966)، الذي دخل السجن لفترة قبل أن يتطوع في الشرطة. يضيف يوسا إلى شخصياته المستعادة شخصيات جديدة تشكل المركز الذي تدور حوله الأحداث في القصتين؛ فيليثيتو الذي نشأ شبه معدم، ثم توصل بفضل عمله غير المنقطع إلى الغنى بعدما كان مجرد سائق شاحنة. صارت له عشيقة استأجر لها بيتاً وخصص لها حساباً مصرفياً، بعدما أجبر على الزواج من امرأة لم يحبها، لأن أمها ادّعت أنها حبلت منه بعد علاقة عابرة. أما صديق دون ريغوبيرتو اسماعيل العجوز الثمانيني، فيقرّر الزواج من خادمته نكاية بابنيه، بعدما سمعهما يتحدثان فوق رأسه في المستشفى، يحسبان ما سيؤول إليهما من ثروة بعد موته الذي ينتظرانه بفارغ الصبر.

تسير أحداث الرواية في خطين معتادين في روايات الكاتب البيروفي. الخط الأوّل هو خط تشويقي يحمل الطابع البوليسي، ويتمثل في رسائل تهديد تصل إلى فيليثيتو تطالبه بدفع خوات شهرية أو تعرّض مصالحه للخطر. تهديد تلقاه جميع أصحاب الشركات في بيورا، المدينة التي تشهد ازدهاراً ونهضة اقتصادية غير مسبوقة. وفي حين يمتثل الجميع ويدفع، يرفض هذا الكهل التخلي عن فلس من ماله الذي حصّله بتعبه، متذكراً وصية والده بألا يرضى أن يذله أحد. يحمل رسائل الابتزاز ويتوجه إلى الشرطة ليقدم شكوى. ومنذ ذلك الوقت، تكثر الرسائل والمطالب والتهديدات، ويزداد عناده بالمقابل، إلى أن يتم حرق قسم من شركته، ثم تخطف عشيقته مابيل التي يهيم بها. وكذلك يبرز الجانب التشويقي البوليسي في التهديدات الغاضبة التي يوجهها ابنيّ إسماعيل كاريرا إلى زوجة أبيهما، التي منحها كل ثروته حارماً ابنيه العاقين. يهددان أيضاً شاهدي الزواج دون ريغوبيرتو وسائق إسماعيل الخاص، لأنهما يرفضان أن يشهدا على أن العجوز فاقد لقواه العقلية، كي يبطل الزواج ويحظيا بالمال.

أما الخط الثاني، فهو الواقعية السحرية التي نجدها عند صديقة فيليثيتو، المرأة الفقيرة صاحبة دكان الأيقونات والتمائم «التقية أديلايدا»، التي تتمتع بقدرة خارقة على التنبؤ بأحداث المستقبل. نجد الواقعية السحرية أيضاً في الظهورات الغريبة لأديلبيرتو توريس، الرجل الأنيق والمكتئب الذي لا يتمكن أحد من رؤيته سوى فونتشيتو. يروح هذا الرجل يظهر لفونتشيتو ليتحدث معه في مواضيع أكبر من عمره. يحدثه عن الله والإيمان والشيطان، ويتحدث معه في مواضيع جنسية، ينقلها فونتشيتو جميعها إلى أبيه، الذي يجد صعوبة في تصديق وجود هذا الرجل، ويعتقد أن ابنه عاد ليتلاعب بمشاعره ومشاعر زوجته، متخيلاً أموراً لا وجود لها كي يستدر عواطفهما تجاهه.

مع تطور الأحداث، تقترب القصتان اللتان لا تخلوان من بعض المشتركات، إلى أن تتقاطعا في النهاية. من خلال تحقيقات الشرطة، يتضح أن مابيل ليست ضحية لعملية خطف، بل هي شريكة المبتز والخاطف. تنهار عندما تواجه بالحقيقة، وتعترف أن ابن فيليثيتو الأكبر ميغيل، هو المدبر لكل شيء، وهو الشاب الأشقر الأزرق العينين والأبيض البشرة، الذي لطالما شك فيليثيتو الخلاسي كما زوجته، بأبوته له، ليتأكد أخيراً من أن زوجته نفسها حبلت به من أحد العابرين الذين عرفتهم قبله. وعلى الجانب الآخر، في ليما، يموت إسماعيل كاريرا بعد عودته من شهر عسله، فتخاف زوجته على حياتها من ابنيه الجشعين. تتوجه إلى أختها خيرترويدس في مسقط رأسها في بيورا، وهي زوجة فيليثيتو ياناكيه، وهنا تتشكل حلقة الاتصال بين القصتين.

يكمن الحلّ في تسوية كلتا القضيتين بشكل وسطي، بسريّة وتكتم. الفضيحة المزدوجة لفيليثيتو ياناكيه بانكشاف علاقته الغرامية بعشيقة سرية وبكون هذه العشيقة قد خانته مع من يُعرف بأنه ابنه، وتهدئة ابنيّ إسماعيل كاريرا الهائجين. يطلب فيليثيتو من ميغيل أن يتخلى عن اسم عائلة ياناكيه وأن يغادر بيورا، مقابل أن يسقط عنه جميع التهم. ويتم إرضاء ابنيّ إسماعيل بمبلغ من المال مقابل أن يتركا أرميدا بسلام.

صحيح أن شخصيات هذه الرواية خليط من شخصيات قديمة خلقها يوسا في روايات سابقة، ومن شخصيات مبتكرة لا ترتقي إلى مستوى ما أبدعه من قبل، كمايتا (المتخيل لا الحقيقي)، أو «الطفلة الخبيثة» في «شيطنات الطفلة الخبيثة»، إلا أن صاحب «نوبل» (2010) الذي يعتبر أحد أبرز القامات الأدبية المعاصرة، ينجح في روايته في شد حواس قارئه والاحتفاظ باهتمامه حتى الكلمات الأخيرة، بأسلوبه الآسر وتقنياته المتعددة والغنية، وبحواراته الديناميكية التي تعود بنا عشرات السنين إلى الوراء بمجرد الانتقال من سطر إلى آخر، من السؤال إلى جوابه.

 

جريدة الأخبار اللبنانية