تشير الباحثة الجزائرية في دراستها لمسرحية الحكيم إلى أهمية «يا طالع الشجرة»، لإبرازها إبداع كاتبها وقدرته التجديدية، من خلال تمرده على القواعد الأرسطية، وتأثره بمسرح اللامعقول، خاصة في بنية الشخصية، والحبكة، والزمان والمكان. وتتناول الاختلاف في الآراء النقدية تجاه المسرحية.

خصائص أدب اللامعقول في «ياطالع الشجرة»

قراءة لمسرحية توفيق الحكيم

فتيحة شفيـري

ملخص:
كانت "ياطالع الشجرة" نقلة هامة في تاريخ توفيق الحكيم المسرحي، لأنها أبرزت إمكانياته الكبيرة، وبينت إرادته في خوض غمار التجديد، فهو ضد سيطرة القديم على الأقلام الإبداعية في أي جنس أدبي. إن هذه المسرحية تمرد واضح على القواعد المسرحية الأرسطية، وتأثر كبير فيها بالتجربة المسرحية الغربية لكل من يوجين يونسكو، وصموئيل بيكيت، فلم تكن الشخصيات واضحة فيها، كما أن العقدة لم تقم بصورتها الطبيعية الأرسطية، أما الزمان والمكان فكانا جد متداخلين، يصعب فهمهما من القراءة الأولى للعمل.

لاقت تجربة الحكيم هذه استحسان بعض النقاد، واستهجان بعضهم، فهي مسرحية متميزة حسب الفريق الأول، لأنها أعطت روحا جديدة للمسرح العربي، وكانت في نظر الفريق الثاني شكلا مرفوضا، لأن المسرح العربي في نظرهم مازال يبني نفسه، وفي مرحلة البناء هذه لا نحتاج إلى قالب جديد لا يمكن التحكم فيه، ومهما اختلفت الآراء النقدية تبقى مسرحية الحكيم أثرا هاما يجب أن يحظى بالتحليل والدراسة.

مدخل:
يعتبر توفيق الحكيم من الكتاب المسرحيين العرب، الذين أثّروا تأثيرا كبيرا في المسرح العربي الحديث. لم يعتمد الحكيم على ثقافته العربية في أعماله الدرامية، بل راح يُطور كتاباته تلك من خلال إطلاعه على التيارات المسرحية التي عرفتها أوروبا.

1- تأثر توفيق الحكيم بالمسرح الغربي:
كانت فرنسا البلد الأوروبي الذي استقطب الحكيم لمتابعة دراسته القانونية، وبدلا من الاهتمام بها، انصرف إلى المسرح والتركيز عليه خصوصا المسرح الذهني، الذي مثله أحسن تمثيل: ابسن النرويجي، وبرنارد شو الايرلندي"والمسرحالذهني فن لم يبتكره توفيق الحكيم، بل هو اتجاه عام ظهر في القرن الماضي في الآداب العالمية، فيما يسمى بالدراما الحديثة التي ابتدأها ابسن النرويجي، ثمّ أمعن في هذا الاتجاه برنارد شو الأيرلندي"(1).

وتعددت رحلات الحكيم إلى فرنسا، لتزداد صلاته بوسطها الثقافي، فكانت نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، فترة انتقال جديدة بالنسبة إلى كاتبنا، فالحركة المسرحية آنذاك قد عرفت تيارا مسرحيا جديدا، هو مسرح العبث، الذي استقطب العديد من الكتاب والنقاد من مختلف أنحاء العالم.

وعلى اعتبار أن الحكيم أديبا يطمح للتجديد، وتقديم تنوع مسرحي، فقد كان من الكتاب المسرحيين العرب الأوائل الذين اطلّعوا على المسرح الجديد، وهذا ما تبين في مقدمة مسرحية "يا طالع الشجرة""وأخيرا ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الأخص في السنوات الخمسين لهذا القرن، بوادر مدرسة جديدة في المسرح، ولم أفكر أثناء إقامتي بفرنسا، أن أقترب منها، لم أكن أتصور أني سأهتم يوما، وقد غرست قدمي كل تلك الأعوام في أرض أخرى"(2). وقبل دراسة خصائص مسرح العبث عند كاتبنا، لابد أن نتطرق إلى رواد هذا المسرح، وذكر خصائصه.

2- مسرح العبث:
اقترنت فترة الخمسينيات من القرن العشرين بظهور مسرح جديد، ثار على الأعراف المسرحية التقليدية، التي دامت أمدا طويلا، وثورته تلك شملت الشكل والمضمون معا. وقد قام بهذا التغيير المسرحي أعلام مشهورون مثل يوجين يونسكو وصموئيل بيكيت، وآرثر أداموف، وسنركز أكثر على يونسكو وبيكيت، لأنهما نالا اهتماما كبيرا عند جمهور النقاد.

2-1 يوجين يونسكو:
وُلد يونسكو عام 1912 برومانيا، من أب روماني وأم فرنسية، وبمرور عام على ولادته، ترحل عائلته إلى فرنسا، وتستقر في باريس. دخل يونسكو عالم الكتابة في سن صغيرة جدا، وأول نصوصه كانت عن حياته المضطربة والقلقة، التي عاشها جرّاء خصام والديه المستمر(3).

بدأ يونسكو يتحرر من الشكل المسرحي التقليدي مع أولى مسرحياته "المغنية الصلعاء"la contarice chauve عام 1950، وفيها عالج مشكلة اللغة التي عجزت عن تحقيق التواصل بين الناس، وأُتبعت هذه المسرحية بأعمال أخرى، حطّم فيها يونسكو القواعد المسرحية الأرسطية، فكانت مسرحية "جاك أو الامتثال" jackes ou la soumission، والكراسي les chaisesعام 1952، وفي فترة الستينيات كتب يونسكو "الملك يموت" le roi se meurt، ثم"العطش والجوع" la soif et la fain(4).

2-2 صموئيل بيكيت:
وُلد بيكيت بدبلن بايرلندا عام 1906، ونشأ في عائلة متشددة دينيا. في سنة 1923 تحصل على شهادة الباكالوريوس في الأدب، ليعمل سنة 1930 أستاذا بكليته، ودام عمله هذا ثلاث سنوات(5).

كانت الكتابات الأولى لبيكيت مقتصرة على تلك القصائد التي نظمها باللغة الانجليزية، لكنه في عام 1951 قرر الانصراف عن الانكليزية إلى اللغة الفرنسية، وهذا القرار قد اتخذه عندما استقر في باريس عام 1939، وبهذه اللغة كتب روايتين هما مولى molloy، ورواية "مالون تموت"، لتكون الانطلاقة بعدها إلى عالم المسرح(6).

كتب بيكيت "في انتظار جودو" التي تنتمي إلى مسرح العبث عام 1952، وقد تعرضت هذه المسرحية إلى رفض عنيف من مسارح متعددة، لكن في عام 1955، تمكن بيكيت من عرضها في لندن، ثم في نيويورك عام 1956(7).

تواصلت أعمال بيكيت الدرامية المنتمية إلى مسرح العبث، فكانت مسرحية "المتعذر" l’innommableعام 1953، و"نهاية اللعبة"fin de partie عام 1957، و"رؤوسميّتة"tètes mortesعام1967(8).

توقف بيكيت  بعد هذا عن الكتابة المسرحية، وعاد أدراجه إلى عالم الرواية والسينما، وكأنه "وبهذه العودة قد اقتنع أن مسرح العبث ما هو إلا مجرد هزة"(9).

2-3 خصائص مسرح العبث من خلال مسرحية "الكراسي" ليوجين يونسكوو"في انتظار جودو" لصموئيل بيكيت:
نالت مسرحية "الكراسي" ليوجين يونسكو و"في انتظار جودو" لصموئيل بيكيت إعجاب النقاد، وعن المسرحية الأولى قال ليوناردو برونكو"إنها إحدى قمم مسرح يونسكو، لأنها تُشعر للمرة الأولى، بأن هناك تطابقا ممكنا بيننا وبين الأبطال مهما كان التطابق طفيفا"(10).

وقدمت المسرحية الثانية صورة عن القلق الميتافيزيقي، الذي عرفته سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، وعن حالة الانتظار الدائم التي لن يجني منها الانسان غير الخيبة(11).

أخذت المسرحيتان شكلا جديدا، هو المزيج بين المأساة والملهاة، وعلى الرغم من خروج هاتين المسرحيتين عن التقاليد الآرسطية، إلا أنهما احتوتا معا على الشخصيات والصراع، والحوار، لكن تبقى طريقة تناول الكاتبين لهذه العناصر مختلفة عن صورة حضورها في الأعمال المسرحية التقليدية.

2-3-1 فصول المسرحيتين:
تقوم مسرحية "الكراسي" ليوجين يونسكو على فصل واحد، وتركيز الكاتب على هذه الخاصية مرتبط بنظرته إلى الحياة، التي تتصف بالرتابة واللاتغيير، فكأن الماضي والحاضر والمستقبل قد تحول عند هذا الكاتب إلى زمن واحد، فالشيخ في المسرحية يتحدث عن ماضيه ويُعيده على مسامع زوجته منذ أكثر من75 سنة، ولم تمل هذه الزوجة منهذا الحديث، لأنها اعتبرت حياة زوجها حياتها هي.

ولا يعني اعتماد بيكيت على فصلين في مسرحيته، أنه قد قدم شكلا مخالفا لمسرحية يونسكو، بل على العكس، فهو قد جعل هذين الفصلين متطابقين، كأنهما فصل واحد، ف"فلاديمير" و"استراجون" بطلا "في انتظار جودو"، قد عاشا الرتابة الحياتية نفسها التي عرفتها شخصيتا "الكراسي"، وسبب هذه الرتابة أنهما ينتظران جودو، الذي لن يأتي، ولتمضية الوقت، دخلا في كلام جاف لا معنى له.

2-3-2 صورة البطل في المسرحيتين:
ركّز النقاد اهتمامهم بعد هذا على طبيعة البطل، الذي فقد في هاتين المسرحيتين صفته الأرستقراطية، التي كرّستها المدرسة الكلاسيكية، فالعجوزان في "الكراسي" والمتشردان "في انتظار جودو"، صورة للطبقة المغمورة. والملاحظ أن بطل يونسكو غير معروف اسمه، لأنه"بواب مطلق، وليس كهؤلاء البوابين الذين نسميهم جون أو جورج أو توماس"(12)، حتى وإن عُرف اسم البطل عند بيكيت، فإنه يظل صورة للإنسان الذي فقد هدفه في الحياة، ليجسد البطلان فلاديمير واستراجون حالة الجنس البشري كله(13).

وارتبط البطل في المسرحيتين بمفهوم الوهم، فالعجوزان عند يونسكو يتوهمان قدوم أشخاص إلى منزلهما، ليستمعوا إلى رسالة الشيخ، وغياب هؤلاء الأشخاص جسّد غياب الحقيقة عن هذا العالم، "لعلها التعبير عن حقيقة لم تنضج بعد في الخيال، أو هي ثمرة ذهن عجز عن ابتكار العالم الذي يريده"(14). ويتمظهر عنصر الوهم كذلكفي مسرحية بيكيت، فالمتشردان يتوهمان قدوم شخص يأتي ليُنقذهما من الملل الذي يأسرهما.

ارتبط بطل المسرحيتين بصفة أخرى هي الآلية، فالعجوزان في "الكراسي" يتحركان بطريقة آلية لجلب الكراسي للضيوف، بل إن كل واحد منهما يأمر الآخر دون تفكير أو تخطيط، وهذه الآلية قد اتصف بها فلاديمير واستراجون في مسرحية بيكيت، هذه الآلية التي اتضحت من حلال ردودهما الأوتوماتيكية ومناقشاتهما الوهمية(15).

جعلت هذه الآلية البطل في موضع سخرية وضحك، وعن دور الإضحاك قال يونسكو"إنه تحرير للنفس البشرية من أسرها"(16)، ولكن خلف هذا الضحك مأساة وألم، وكشف لمرارة الواقع الذي يعيش فيه الإنسان.

إذا عرف البطل مفهوم الوهم والآلية، فقد عرف أيضا مفهوم الغربة والوحدة، فالشيخ في "الكراسي"  قد عانى من هاتين القيمتين السلبيتين، عندما شعر باليتم والحاجة إلى أمه التي افتقدها، بل ورفض أن تُعوض زوجته الأم الغائبة، فكأن الشيخ بهذا لايقبل تزييف الحقيقة "والإنسان عند يونسكو وحيد، معزول، ضائع، يُحس باليُتم حتى النخاع"(17). كما يتقاسم فلاديمير واستراجون وحدة قاتلة، فيُحاولان تجنبها في بقائهما معا"وهما بهذا يعيشان داخل دائرة قد اُغلقت باحكام"(18).

وقد ربط بعض النقاد حالة بطل المسرحيتين بحالة يونسكو وبيكيت وغيرهما ممن ينتمي إلى مسرح العبث"في عدم القدرة على الإندماج في المجتمعات التي وُلدوا فيها، أو المجتمعات الجديدة، أو للوجود كله"(19).

2-3-3 الصراع في المسرحيتين:
طرح مسرح العبث أو اللامعقول مفهوما جديدا للصراع، فبعد أن كان مرتبطا بطرفين هما الإنسان والطبيعة، أصبح مقترنا بمفهوم جديد هو الصراع الداخلي الذي يعتري نفس الإنسان، لأن آماله قد تصادمت بزيف الواقع الذي يحياه، والنتيجة أنه أصبح غير قادر على مجابهة الحياة، "لأنه قد أيقن أن الحياة أعقد وأغرب من أن يفهمها"(20).

أضحى البطل إذن في هذا  النوع من المسرح عاجزا، يرضى لنفسه حياة بئيسة، بدلا من الثورة على تلك الحالة وتحقيق وجوده، فالشيخ في "الكراسي" قد قنع بضعفه، وعجزه أمام الواقع،لأن آماله قد تحطمت أمام حاجز الأنانية وحب الذات، وهو لذلك ضعيف، لا يستطيع الانتقام لنفسه، إنه الجانب الطيّب من الإنسان.

كان الحال نفسه في مسرحية بيكيت، فاستراجون عجز عن خلع حذائه بمفرده وهو بهذا يحتاج إلى المساعدة، لأنه يشعر بآلام قدميه، هذه الآلام التي لم يُشاركه فيها صديقه فلاديمير، ليكون هذا الأخير صورة للفرد الأناني الذي لا يهتم بالآخرين وأوجاعهم، إذن فاستراجون يبقى صورة للكائن البشري الذي يعيش منفردا، ومنعزلا، وضعيفا.

ووجود هذه الصفة الضعف، أمر غير معترف به عند أرسطو لقيام الصراع، فالشخصيات عنده يجب أن تكون من الطبقة الرفيعة، حتى تستطيع مجابهة الأقوى منها، كالقوى الغيبية، "لأن الشخصيات الضعيفة العافية لا تستطيع أن تصارع من يتعدى حدود قوتها"(21).

ولن تجد شخصيات مسرح العبث وجودها إلا في عالم جديد أكثر واقعية من العالم الخارجي، والعالم الجديد هذا مؤسس على الأحلام والأساطير، وعن الأساس الأول قال يونسكو"الأحلام هي الكشف عن حقيقة العالم الداخلي، ولذلك فأنا أجد مادتي المسرحية في رغباتي الغامضة، وفي تناقضاتي الداخلية"(22)، أماعن الأسطورة فقال "الهدف من توظيفالأسطورة هو الوصول إلى درجات الوعي والعمومية، والأسطورة تسعى لتعريف الحقيقة"(23).

2-3-4 الحوار:
يخضع الحوار في المسرح التقليدي لدورة تخاطب منطقية، لأنها تتماشى مع منطقية الحياة التي يراها رواده، لكن الأمر يختلف في مسرح العبث، فالحياة في نظر أعلامه غير معقولة ولا منطقية، ومن المستحيل أن يخضع الحوار في سيرورته لمنطق مزيف غائب.

وتأتي اللغة في هذا الحوار الجديد، غير مفهومة وغير منطقية"إنها لغة ميّتة، لا تستطيع أن تنقل شيئا، أو أن تصبح وسيلة من وسائل التخاطب"(24)، وتعكس هذه اللغة وضع الإنسان الغربي الذي عانى الكثير من ويلات الحرب وتبعاتها، ليعيش منعزلا عن الآخرين، فاقد الصلة معهم، إننا بهذا أمام دراما جديدة، أطلق عليها يونسكو"دراما اللاتخاطب"، وقد عبر أحد كتاب هذا المسرح، وهو بيتر بوك عن صورة اللغة الجديدة بقوله "لم أعد أومن بالكلمة، لأن الغرض الذي من أجله خُلقت الكلمة قد انتفى، وأصبحت في معظم الأحيان فشلا ذريعا في أن تكون أداة للتعريف"(25).

يعيش العجوزان في "الكراسي" في جزيرة نائية بعيدا عن الناس، وهما في الوقت نفسه عاجزان عن فهم بعضهما البعض، على الرغم من محاولاتهما في التواصل الفكري"إننا حينما نحاول أن نتبادل دلالات واقعية، إذا بنا جميعا صما بُكما"(26)، فيونسكو من خلال هذه المسرحية يرى أن الناس أصبحت جدرانا، لأنهم لايحاولون فهم بعضهم البعض، لذلك تضحى الحياة اضطرابا وتذبذبا، فالعجوز تتحدث عن ابنها الذي رحل عنها وعن زوجها، أما الشيخ فلا يشاركها الحديث في هذا الموضوع، بل ينشغل عنها برواية حياته الماضية، حيت ترك أمه تحتضر، وذهب هو إلى حفل راقص.

وعبر فلاديمير"في انتظار جودو" من خلال سرده لقصة اللصين اللذين أنقذ المسيح أحدهما وترك الآخر، عن رغبته في الخلاص من حالة الملل التي يعيشها، لكن صديقه استراجون لم يشاركه هذه الرغبة، بل كان صامتا طيلة الوقت. من هذا كله يتضح أن  فلسفة مسرح اللامعقول يُحاول السخرية من اللغة التي كانت تُوهم الناس بقدرتها على تحقيق التواصل"وكانت بذلك نقدا فلسفيا لوضعية الإنسان"(27).

2-3-5 الحدث:
لم يخضع مسرح اللامعقول في بناء الحدث لوحدة الفعل الآرسطية، بداية ووسط ونهاية، فهو يبتعد عن سرد قصة تخضع لنظام سير محدد لتصل إلى الانفراج، بل إن القارىء لهذا النوع من المسرحيات، لا يتمكن من ايجاد بداية أو عقدة أو حل لها

ففي مسرحية يونسكو لايأتي أحد ليستمع إلى رسالة الشيخ، فالكراسي تظل فارغة، والعجوز في توهم مستمر بقدوم أشخاص سيضج لهم المكان،"إن موضوع الرواية، هو العدم أو اللاشيئية التي تنعكس في الكراسي الخالية، والمسرح الخالي، والحياة الفارغة"(28)، وهنا تحقق المسرحية مبدأ التغريب، الذي نجده في مسرح بريخت الملحمي(29).

وتُفتتح مسرحية بيكيت على مشهد انتظار فلاديمير واستراجون لشخص مجهول اسمه"غودو"، الذي لن يأتي أبدا، ومع هذا الانتظار لم تُغير الشخصيتان مكانها، هو الوضع نفسه الذي نجده مع نهاية المسرحية، هذا يعني وجود اللاحدث، أو يمكن وصفه ب"اللاشيئية"، فالانتظار والملل هما السمة الأساسية لحدث هذه المسرحية، بل وما يزيد من غرابة هذه المسرحية، وجود تلك الشجرة المجردة من الأوراق، التي تعبر عن اللامعنى، فلا تعيرها الشخصيتان اهتماما، بل ويظل اللااهتمام جليا في الفصل الثاني من المسرحية، على الرغم من أن تلك الشجرة قد حملت أوراقا، إن هذا يعكس رفض الإنسان لحقيقة الواقع الموهومة.

وقد عوض الكاتبان الحدث المسرحي، بالحركات الآلية للشخصيات، فالعجوزان في "الكراسي" يتصفان بهذه الآلية من خلال حركة الذهاب والاياب على خشبة المسرح، هذه الحركة نجدها كذلك عند فلاديمير واستراجون في مسرحية بيكيت.

وحطّم مسرح العبث وحدة الزمان والمكان، وخلخل تسلسلهما المنطقي الذي ارتبط بالمسرح التقليدي، "فقد كان تسلسل الزمان محكوما بقوانين لايعتريها خلل، وكانت وحدة المكان أمرا لا يتطرق إليه شك"(30).

أصبح الزمان والمكان في هذا المسرح متداخلان، وهذا ما يتماشى مع عالم الأحلام والأساطير، فانعدم الزمن الآلي، ليظهر مقابل ذلك الزمن النفسي(31)، إنه الزمن اللاموضوعي واللامنطقي الذي يُخالف موضوعية ومنطقية الزمن المرتبطان بالحياة وواقعها، أما المكان فهو مكان نفسي يُجسد واقع الأنفس البشرية.

ويبقى المتفرج في هذا المسرح في حالة انتظار دائم للحل، فهو يترقب وصول رسالة الشيخ إلى ضيوفه، وقدوم غودو"تستمر حالة الانتظار هذه حتى بعد أن يُسدل الستار، وهكذا يُحقق مسرح العبث ما كان يريد بريخت تحقيقه من دعوة المتفرجين إلى التفكير وشحذ أذهانهم"(23).

هكذا يقلب مسرح العبث كل القيم والتقاليد التي كانت سائدة في المسرح، ويُقدم عنها بديلا ينبع أساسا من فلسفة كتّابه ونظرتهم إلى الواقع، وتعاملهم اللامألوف مع الأمور.

3- توفيق الحكيم ومسرح العبث أو اللامعقول:
 يُعد الحكيم أحد الكتاب المسرحيين العرب الذين تركوا أثرا كبيرا في المسرح العربي الحديث، وأشرنا في مقدمة مقالنا، إلى أن الحكيم كان كثير التنقل إلى فرنسا، فتأثر بالحركة المسرحية فيها، ولكن ما يهمنا هو علاقته بمسرح العبث أو اللامعقول.

اطّلع كاتبنا على هذا التيار المسرحي عن قرب، بحكم تواجده بفرنسا مابين 1959و1960، لكنه سرعان ما تجاهله ليلتفت إليه من جديد عام 1962، والسبب في عودته هذه اهتمامه بمسألة التجديد في البناء المسرحي، وقد "اعترف شخصيا أن ما جذبه إلى هذا النوع المسرحي، هو شكله غير المألوف، فرغب في خوض التجربة ليتحرر بدوره من القوالب التقليدية الجاهزة"(33).

وإن شارك الحكيم كتاب المسرح الجديد الشكل المسرحي، إلا أنه أنكر مشاركته لهم نظرتهم للوجود القائم عندهم على العبث واللاجدوى، وعلى أساس هذه المخالفة في النظرة للوجود، فقد استبدل الحكيم مصطلح"العبث" بمصطلح "اللامعقول"، فالحياة عنده معقولة في بنائها، أما اللامعقول لديه فهو الشكل الذي تُقولب فيه هذه الحياة(34).

3-1 البناء العام للمسرحية:

ما يلفت الانتباه في مسرحية الحكيم قلة الفصول فيها، وهذا ما رأيناه في مسرحية يونسكو وبيكيت، ويُبرر كاتبنا وجود فصلين في عمله"يا طالع الشجرة"تبريرا فنيا"إني أضفر في هذه المسرحية على النحو الذي يظفر فيه الموسيقي، ويُعانق لحنين مختلفين، ليخرج في النهاية نغما واحدا"(35).

تنتمي هذه المسرحية للخط الذهني التي انطبعت به مسرحيات الحكيم السابقة، فقد لجأ كالعادة إلى الرمزية في المعاني، ليبتعد بذلك عن المعاني البسيطة المباشرة، فجاءعمله وفقا لذلك مربكا، غامضا،"لأن المعنى الباطن لهذه الأفكار، مختف خلف العمل المسرحي ككل، من خلال الشخصيات، والحدث، والحوار، والصراع"(36). حققت هذه المسرحية إذن ضبابية المعنى التي ارتبطت  بها بمسرحية يونسكو وبيكيت، لنكون بهذا  أمام المعنى الرمزي التجريدي.

3-1-1 الشخصيات:
اختار الحكيم شخصيات مسرحيته من عوام الناس، كما رأينا عند يونسكو وبيكيت، و حطمّ مثلهما صورة البطل التقليدي، الذي ينتمي إلى طبقة مرموقة اجتماعيا.

جسد بهادر وبهانة شخصا واحدا، لنكون بهذا أمام مفارقة تُميز النفس البشرية: التفاهم واللاتفاهم، فالصفة الأولى أظهرتها خادمة السيدين للمحقق، التي بيّنت أنهما يعيشان قمة التفاهم التام، والمودة الخالصة.

نتبين هنا رغبة الحكيم فيتقديم صورة خارجية للنفس الإنسانية التي تتميز بالوضوح الظاهر،لكن هذه الصفة تُنتفى عندما يتأمل القارىء حديث الشخصيتين، فكلامهما غير منسجم. الزوج مشغول بالشجرة، والزوجة مهتمة بالبنت التي تريد إنجابها، بل إن كلا واحد منهما لم يبد اعتراضا على كلام الآخر، وهنا تتجلى الصفة الثانية اللاتفاهم.

يتين لنا من هذا كله، أن التفاهم واللاتفاهم وجهان لعملة واحدة: التركيب النفسي للإنسان، الذي قال عنها الحكيم"الإنسان تركيب عجيب منطقي ولا منطقي، معقول ولا معقول"(37)، ويمكن أن نقدم مثالا عن التفاهم الظاهر المقترن باللاتفاهم الباطن، في الحديث الذي جمع الزوجة والمحقق:

الزوجة: هو؟ ... إنه ما تحدث قط عن الشجرة...

المحقق: ولكني سمعته بأذني

الزوجة: ربما سمعت خطأ ياسيدي... أنا التي كنت أحادثه عن الشجرة... وأحادثه دائما عنها... لأني أعرف أنه يُحبها...

المحقق: بل كنت أنت تتحدثين عن... ابنتك...

الزوجة: ابنتي... حقا... ولكنه هو الذي كان يُحدثني عن ابنتي... وهو الذي دائما يُحدثني عنها(38).

كما نلاحظ أن بهادر وبهانة قد جسدا مفارقة في الحضور، فهما حاضران غائبان في الوقت ذاته، وهذا ما يُشبه الأحلام، فالحالم في رؤياه يشعر وكأن ما يراه أمامه حقيقة، وقد كان الحالم هنا المحقق الذي احتار كيف تتجسد أمامه حياة بهادر وبهانة، فهما حاضران عنده من قبيل الأحلام، وغائبان عنه واقعيا، ويتضح هذا الخلط الذي وقع فيه المحقق في الحوار الذي جمعه بالزوجة:

الزوجة: ما هذا الخلط !... هل تفهم ما تقول؟

المحقق: لا...

الزوجة: ولاأنا ... لا أفهم...

المحقق: الواقع أني لا أفهم ما كنتُ أقول... يبدو أنه كلام لا معنى له...

الزوجة: طبعا(39).

أكّد الزوج للمحقق صفة اللاتفاهم، من خلال اعترافه بقتلزوجته "مامن شك أن هذا يسرها، أن يتحوّل جسدها كله إلى سماد... سماد من نوع جيد، يُغذي هذه الشجرة، فيُنتج برتقالا عظيم النمو، وهي التي تهتم اهتماما بالغا بالنمو العظيم"(40). وأكّد الحكيم من خلال مفارقة التفاهم واللاتفاهم، أن شخصياته لا تشعر بأي عاطفة تجاه بعضها"فالزوج رمز الفن مشغول بثمرات إنتاجه، والزوجة مشغولة بثمرة الحياة التي أجهضتها قبل الأوان"(41).

3-1-2 الصراع:
جسدت شخصيات الحكيم الصراع الدائم مع العالم الميتافيزيقي، إنها صورة مختلفة عن طبيعة الصراع الموجود عند يونسكو وبيكبيت، فالإنسان في هذه المسرحية "في صراع أبدي، دائم مع هذه القوة المعنوية التي دونها لا يمكن أن تستقيم له حياة، فصورة هذا الإنسان تُمثل مقاومة مستمرة إلى الأبد"(42).

يبحث بهادر عن المعرفة والحقيقة المرتبطين بالعالم الميتافيزيقي، فتوهم وجودهما من خلال رغبته في رؤية نمو شجرة البرتقال،"لكي تنمو الثمار نموا عظيما، لا بد من تسميد الشجرة بالسماد الجيّد، ومع ذلك فبحمد الله وبركته، ما من برتقال في أي شجرة أخرى يُمكن أن ينمو مثل هذا النمو العظيم"(43).

والدليل على أن الشجرة هي رمز المعرفة، ترديد بهادر للموال الشعبي، الذي وردت فيه لفظة شجرة أكثر من مرّة:

يا طالع الشجرة * * * هات لي معك بقرة

يا طالع الشجرة * * * هات لي معك شجرة

هات لي معك شجرة * * * هات لي معك شجرة(44).

وبحث بهادر عن الحقيقة المطلقة، تجسيد لرغبة الإنسان الدائمة في معرفة أسرار الوجود، وهذه الحيرة يطرحها بهادر على المحقق، الذي يمثل الجانب الواعي للإنسان، فهو يدرك أن أمل بهادر في إيجاد أجوبة لحيرته تلك أمر بعيد المنال، لأن الكون صامت ولن يجد فيه الحائر ردودا مقنعة لأسئلته الكثيرة.

وقد جسدت الزوجة بهانة صورة الكون هذه، فبهادر راح يسألها بإصرار عن سبب غيابها عن البيت مدة ثلاثة أيام، لتجيبه ومع كل سؤال بكلمة"لا"، فيخيب أمله في هذه الإجابات النافية، التي تدفعه إلى قتل هذه الزوجة، والقتل هنا لم يكن ماديا، بل كان معنويا، لأنه ارتبط باستنطاق الكون، ورغبة الإنسان في قهر الحيرة التي تتملكه"فهو هنا لم يفهم الحياة، والذي تقطعت لديه كل روابط الوجود"(45).

يرى الحكيم وجوب قبول الإنسان بميزة الكون هذه، وليلق أسئلته كيفما يشاء(46)، لأن هذا الصمت لا يرتبط بالعبثية كما ذهب إلى ذلك يونسكو وبيكيت، ذلك أن الإنسان عندهما ينفر من صمت  الكون"إذا صمت الكون عنه، فالويل له"(47).

جسد الحكيم إذن حقيقة الإنسان، الذي يحلم بالحقيقة، والوصول إلى المعرفة، ولن يجدهما إلا في عالم الأحلام والأساطير"إن هذه المسرحية لا تُعبر عن مأساة الإنسان المصري، بل عن إنسان الكون كله"(48).

ولكن نتساءل لمَ اختار الحكيم شخصية بسيطة مثل بهادر في طرح قضية البحث عن الحقيقة في هذا الكون الصامت، فهو لا ينتمي إلى مستوى ثقافي عال، إنه مجرد مفتش في قطار.

وقدعلل بعض النقاد سبب هذا الاختيار كما يلي:أن الرغبة في الحقيقة ليست مقصورة على إنسان دون آخر، بل هي موجودة لدى أي كائن بشري، بغض النظر عن الطبقة التي ينتمي إليها، إذن فهناك وعي جماعي بها(49).

3-1-3 الحوار:

بدأ الحكيم مسرحيته هذه، بحوار دار بين الخادمة والمحقق، وأهم ما أبرزه الحكيم في هذا الحوار سمة الآلية التي رأيناها في مسرحية يونسكو ومسرحية بيكيت، فالخادمة تجيب بصفة آلية لاشعورية على أسئلة المحقق، هذه الآلية عكست الجانب الروتيني الذي ميّز حياة بهادر وبهانة التي استمرت تسع سنوات، حيث  لم يطرأ عليها أي تغيير يُذكر.

وينقلنا الحكيم إلى صورة أخرى للحوار دار بين بهادر وبهانة، الذي جاء لامنطقيا ولا مألوفا، وإذا كان الحوار بين الخادمة والمحقق قد اتسم بالوضوح، فقد جاء حوار بهانة وبهادر غامضا ومبهما، لأنه أظهر أفكارا غير متجانسة. إن هاتين الشخصيتين قد شكلتا معا عالما واحدا، هو العالم النفسي المتناقض الذي لا نجد له تبريرات مقنعة:

الزوج: وهذا هو الذي يربكني حقا، أن تكون الرياح ساكنة، ومع ذلك

الزوجة: ومع ذلك سمعت كلامه، فعلتها بنفسي، وفي نفسي وهبت رياح السعد بعد ذلك، وجاء المال، وأنشأنا هذا المنزل الصغير، وهذه الحديقة

الزوج: هذه الحديقة لا تتعرض لمساقط الرياح، ومع ذلك عندما أزهرت شجرة البرتقال خفت على الزهر، لكن الله سلّم ولطف(50).

ما يُلاحظ في هذا الحوار، أن كل شخصية تبدأ كلامها من حيث انتههت الأخرى، وهذا وجدناه في حوار الشيخ والعجوز في مسرحية "الكراسي" ليونسكو، فالعجوز تردد الكلمة الأخيرة التي تأتي في ختام كلام الشيخ:

الشيخ: إن كل أعدائي قد أُجيووا، وأصدقائي قد خدعوني...

العجوز: أصدقائي خدعوني، خدعوني(51).

 والملاحظ  أن حوار الحكيم ويونسكو قد جسّد دلالات رمزية، لكن هذه الدلالات تختلف عند كل واحد منهما، فهي لدى يونسكو تجسيد لعالم آلي فرغ من معناه، وفرغ أيضا من روح التعاون بين أفراد المجتمع، الذين امتازوا بالأنانية وحبّ الذات. أما عند الحكيم فقد ارتبطت بالعالم الداخلي للإنسان المتناقض في رغباته وميوله، إن حياة الإنسان الداخلية إذن أصبحت مكشوفة، وواضحة(52).

عجزت اللغة عند الحكيم في تحقيق دورها، فالزوجان لم يتواصلا مع بعضهما، وظهر هذا جليا في الفصل الأوّل من المسرحية. إن الحكيم هنا طبق ماجاءت به مسرحية يونسكو وبيكيت.

جاءت لغة الحوار بسيطة، وغير معّقدة في الأغلب، ولم يلجأ الحكيم فيها إلى الأسلوب الفصيح، كما أنه لم ينزل إلى المستوى العامي، بل حاول تحقيق التوازن بينهما، وهذه سمة اللغة عند كاتبنا في مسرحياته المختلفة، إنها اللغة الوسطى كما يسميها هو شخصيا.

3-1-3 الحدث:
بدا لنا حادث اختفاء الزوجة بهانة، البداية الحقيقية لمسرحية الحكيم، وخلنا على أساس ذلك أن الكاتب سيسير وفق المنهج الأرسطي في وحدة الحدث من بداية ووسط ونهاية، وما أسهم في هذا الاعتقاد أن المحقق راح يبحث في تفاصيل هذا الاختفاء.

لكن ماجاء في الحوار الذي جمع بهانة والمحقق، قد ألغى احتمال هذه البداية التي أولناها:

المحقق: ولكني جئت هنا، لأنك خرجت من المنزل، وتغيبت واختفيت

الزوجة: ولكنك رأيتني هنا أحادث زوجي ويحادثني

المحقق: نعم هذا رأيته بعيني وسمعته بأذني

الزوجة: لكن ما دمت قد رأيتني هنا بعينيك، وسمعتني بأذنك أحادث زوجي ويحادثني، فلماذا مضيت تباشر التحقيق في أمر تغيبي واختفائي(53).

كما يمكن اعتبار نهاية المسرحية هي البداية الفعلية لها، لأن بهادر مازال يبحث عن الحقيقة في الكون الصامت، إنه بداية الصراع الذي لاينتهي بين الإنسان والواقع الميتافيزيقي"ياطالع الشجرة تنبىء في نهايتها عن ميلاد انسان جديد، يذوب في غمار الحياة مرة أخرى"(54).

اعتمد الحكيم مثل يونسكو وبيكيت على عالم الأحلام والأساطير، وانعكس هذا على تداخل الزمان والمكان. وأول زمن خضعت له هذه المسرحية هو الزمن الحاضر، لكن سرعان ما ينقطع تيار هذا الحاضر، لندخل زمنا آخر هو الزمن الماضي، لتبرز لنا صورة بهادر وبهانة وهما في غاية الانسجام، لكنهما في الواقع كانا يتحدثان حديثا متناقضا.

وتداخل المكان أيضا في هذه المسرحية، فهو من جهة مرتبط بالمجال الطبيعي الخارجي، ومن جهة أخرى نجده مجسدا للعالم الداخلي الذاتي، فبهادر مثلا موجود مع المحقق ، ثمّ في الوقت نفسه نراه في القطار الذي كان مفتشا فيه، لنكون بهذا أمام حياته الماضية قبل أن يُحال على المعاش، وفي هذا الزمن الماضي تظهر لنا شخصية الدرويش، الذي يدخل في حوار نفسي مع بهادر.

وقد احتوى هذا الزمن الماضي زمنا آخر هو المستقبل من خلال تنبؤ الدرويش بحادث قتل بهادر لزوجته بهانة، ليتحول هذا المستقبل وفي الفصل الثاني من المسرحية إى زمن ماض.

كما أن الغاء فواصل الزمان والمكان موجودة في صورة إثمار الشجرة، التي تُنتج البرتقال في الشتاء، والمشمش في الربيع، والتين في الصيف، والرمان في الخريف، والأمر نفسه بالنسبة إلى القطار الذي لا يعرف التوقف، بل كان يعرف سيرا مستمرا، وتجسّد هذا في الحوارالذي جمع المفتش(الزوج) بالدرويش:

المفتش للدرويش: أنت راكب من أي محطة يا سي الشيخ؟

الدرويش: لم أركب منأي محطة

المفتش: تقصد أنك ركبت أثناء الطريق؟

الدرويش: طبعا

المفتش: كان القطار واقفا أو متمهلا؟

الدرويش: بل كان سائرا كالعادة(55).

نلاحظ إذن انعدام الفواصل بين الأزمنة والأمكنة، فالماضي والحاضر والمستقبل كلها  أزمنة انصهرت في وقت واحد، كما أنه في مكان واحد تمازجت الأصوات القادمة من أمكنة مختلفة، كصفير القطار وحفلة "السبوع"، وموال يا طالع الشجرة. هذا التداخل ولّد غموضا عند القارىء. وهنا يظهر هدف الحكيم في جعل هذا القارىء في بحث مستمر عن معنى ما يحدث أمامه حتى بعد إسدال الستار، وهذا ما كانت عليه مسرحية يونسكو وبيكيت.

الخاتمة:
كشفت مسرحية الحكيم هذه عن رغبة مؤلفنا المسرحي في طَرق ماهو جديدا، إنها إذن تجربة جديدة فريدة ومتميّزة، شكّلت لتفسها اهتماما عند جمهور النقاد والقرّاء.

كتب الحكيم هذه المسرحية بتأثير مباشر من مسرح العبث الغربي وخاصة من مسرح يونسكو وبيكيت، باعتبارهما أهم ممثلي هذا المسرح، وما ساعدنا على تثبيت ما ذهبنا إليه، هو تصريحات الحكيم نفسه، التي بيّنت لنا ارتباطه المباشر بالتيار المسرحي الجديد.

تراءت لنا من خلال تجربة الحكيم هذه، قدرته على مجاراة التغييرات المختلفة التي تطرأ في العالم المسرحي، ورغبته في الابتعاد عن أية عصّبية من شأنها أن تضعه في خانة الركود والجمود.

والملاحظ أن الحكيم لم يستمر في الاتجاه اللامألوف هذا في مسرحياته التي تواترت فيما بعد، بل رجع إلى الشكل التقليدي الموروث، هذا الرجوع يوضح أنه أراد تجريب ما شاع في الساحة المسرحية.

(قسم اللغة العربية وآدابها، بودواو، جامعة امحمّدبوقرة، بومرداس، الجزائر)

* * *

الإحالات:
(1)
محمد مندور: مسرح توفيق الحكيم، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، 2004، ص 37

(2) توفيق الحكيم: مقدمة يا طالع الشجرة، دار الشروق ، مصر، 2011، ص 13

(3) Encyclopidia universalis, corpus3, paris 1990, p 558- 559

(4) Ibid, p 558-559.

(5) عبد المنعم حقي: لعبة النهاية ومسرح اللامعقول، مجلة الكاتب المصرية، ع 23، فبراير، 1963، ص 32.

(6) لعبة النهاية ومسرح اللامعقول: ص 32.

(7) Encyclopidia universalis, corpus 3, paris, 1990, p933.

(8) Ibid, p 933.

(9) جورج ولورث: مسرح الاحتجاج والتناقض، ترجمة وتقديم عبد المنعم إسماعيل، المركز العربي للثقافة والعلوم، دت، لبنان، ص88.

(10) ليوناردو برونكو: مسرح الطليعة في فرنسا، المسرح التجريبي في فرنسا، ترجمة يوسف اسكندر، دار الكتاب العربي، مصر، 1967، ص 936.

(11) حياة جاسم محمد: من قضايا المسرح المعاصر، مجلة العربي ، الكويت، 1988، ص 171

(12) عبد المنعم حقي: الكراسي والسريالية، مجلة الكاتب، مصر، ع1، 1963، ص 29.

(13) بامبر جاسكوبين: الدراما في القرن العشرين، ترجمة محمد فتحي، دار الكتاب العربي، مصر، دت، ص 87.

(14) لطفي فام: المسرح الفرنسي المعاصر، الدار القومية للطباعة والنشر، مصر، 1964، ص 213.

(15) آلان روب جرييه: نحو رواية جديدة، ترجمة مصطفى ابراهيم مصطفى، دار المعارف، مصر، دت، ص 109.

(16) أحاديث مع يونسكو: الضحك في مسرح يونسكو، مجلة المسرح، ع 11، نوفمبر 1964، ص 96.

(17) صبري حافظ: اللغة واللامعقول في مسرح يونسكو، مجلة الآداب البيروتية، ع 1، 1963، ص 67.

(18) المسرح الفرنسي المعاصر، ص 264.

(19) عبد المنعم حقي: لعبة النهاية ومسرح اللامعقول، ص 37.

(20) شفيق مجلي: الحوار في مسرح اللامعقول، مجلة المسرح، مصر، ع 21، 1965، ص 49.

(21) فوزي أحمد فهمي: مفهوم التراجيديا عند اليونان، مجلة المسرح، مصر، ع27، مارس، 1966، ص 78.

(22) مسرح الطليعة في فرنسا، ص 198.

(23) نفسه، ص 192.

(24) نبيل حلمي: يونسكو ومشكلة اللغة، مجلة المسرح، ع 11، نوفمبر، 1964، ص 90.

(25) شفيق مجلي: الحوار في مسرح اللامعقول، ص 51.

(26) ليوناردو برونكو: مسرح الطليعة في فرنسا، ص 138.

(27) يونسكو ومشكلة اللغة، ص 90.

(28) رشاد رشدي: نظرية الدراما من أرسطو إلى الآن، دار العودة، لبنان، 1975، ص190.

(29) نفسه، ص 175.

(30) نبيل حلمي: يونسكو ومشكلة اللغة، ص 87.

(31) نبيلة إبراهيم: أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار النهضة، مصر، دت، ص 79.

(32) نظرية الدراما من أرسطو إلى الآن، ص 182.

(33) ألفريد فرج: توفيق الحكيم، مسرحه، فكره، فنه، مجلة "أخبار اليوم"، مصر، 1964، ص 103.

(34) نفسه، ص 102.

(35) توفيق الحكيم: آراء في الشكل والمضمون، المطبعة النموذجية، مكتبة الآداب، مصر، 1963، ص 170.

(36) حسن محسن: المؤثرات الغربية في المسرح المصري المعاصر، دارالنهضة العربية، مصر، 1979.

(37) ألفريد فرج: توفيق الحكيم، مسرحه، وفكره وفنه، ص 92.

(38) توفيق الحكيم: يا طالع الشجرة، دار الشروق، مصر، 2011، ص 108.

(39) نفسه، ص 102.

(40) نفسه، ص 47.

(41) محمد مندور:مسرح توفيق الحكيم: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، 2004، ص 149.

(42) ألفريد فرج: توفيق الحكيم، مسرحه، فكره، فنه، ص 90.

(43) يا طالع الشجرة، ص 37.

(44) نفسه، ص 62.

(45) أحمد كمال زكي: دراسات في النقد الأدبي، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، 1980، ص 298.

(46) توفيق الحكيم ، مسرحه، فكره، فنه، ص 109.

(47) مقدمة يا طالع الشجرة، ص 20.

(48) دراسات في النقد الأدبي، ص 229.

(49) ألفريد فرج: توفيق الحكيم، مسرحه، فكره، فنه، ص 109.

(50) يا طالع الشجرة، ص 35.

(51) يوجين يونسكو: الكراسي، باريس، 1952، ص72.

(52) تسعديت آيت حمودي: أثر الرمزية الغربية في مسرح توفيق الحكيم، دار الحداثة، لبنان، 1986، ص 251.

(53) ياطالع الشجرة، ص 110.

(54) عز الدين اسماعيل: التفسير النفسي لمسرحية يا طالع الشجرة، مجلة المجلة، فبراير 1963، ع 74، ص 40.

(55) يا طالع الشجرة، ص 63.