في نص الكاتب السوري يستبين القارئ من خلال شذرات حكائية في سيرة المعلم محمود سعيد محمد معانٍ يتواشج فيه الذاتي مع التاريخ، الشخصي مع التربوي. فتبدو الشذرات كما لو أنها تحكي على طريقتها سيرة المعلم والقرية والمدينة والوطن والكون.

المعلم محمود سعيد محمد.. ومعنى اللاعنف

علي محمد

في عام 1942 وبعد خدمة سنتين في مدارس الريف، نقل محمود سعيد محمد الحائز على شهادة أهلية التعليم الابتدائية إلى مدرسة تجهيز البنين الرسمية في مدينة اللاذقية، التي شيدت على الضلع الشمالي لساحة الشيخ ضاهر وغدت من معالمها الرئيسة وفخر المدينة.

قدم نفسه لإدارة المدرسة وحدد له "صفاً" يعلمه.

حيا التلاميذ، وكتب على السبورة:

مالي أرى الفرس الشقراء عارية * * * على المرابض لا تطوى فتنجرد

وهكذا كان ما كان..

في تلك الحقبة، كان استخدام العنف ضد التلاميذ في كل مراحل التدريس - ماعدا الجامعية - من أدوات "التربية والتعليم" سواء في المدرسة أم في المنزل. وكان مألوفاً أن يقول والد طفل لمعلم ولده: "اللحم لك والعظم لنا".

عرفت سطوة كل معلم بـ"مسطرة" تخصه. هي في الواقع عصا يهش بها تلامذته. عصا يرقبها التلاميذ بعناية وحذر وتوجس، فهم مرشحون لتذوق بأسها على اليد والظهر والرأس. وكانت "الفلقة" (جلد أسفل القدمين) عقوبة افتتاحية في مخافر الشرطة، واعتبر التهديد بها أمراً عادياً من قبل مراقب الدوام أو المدير في المدارس. ناهيك عن الرفس واللكم والصفع والشتم. ولعل البعص ما زال يذكر مدير مدرسة ابتدائية، عرفته مدينة اللاذقية، كان يطلب من التلميذ الطفل فتح فمه، ليبصق داخله.

كان بعض الآباء يجلدون أبنائهم بالخيزرانة أو قضيب الرمان. وكانت بعض الأمهات في المدينة يضربن بالمقشة، وبالقصبة التي يكشون فيها الدجاجات في الريف أولادهن في مسلسل العقاب الفردي والجماعي.

حسناً.. بدا الأمر كما لو أن مجمل الرأي الجمعي استقر على شرعية تعريف الطفل على الألم، وعلى زرع شعور عميق بالذنب في تكوينه النفسي وحضوره في يوميات زمنه. وكانت أحاديث بعض الكبار تدور عن غولة أو جنيات تخطف الأولاد الذين يعصون الأوامر، وعن نار جهنم وزقومها الجمري، دون نسيان سيرة مشروع اغتصاب فلسطين وتداعياتها المهددة.

-2-

كانت يا ماكانت ومازالت قرية "الرامة" في تلك البقاع الريفية التابعة لمدينة اللاذقية.

في تلك الأزمنة شربت قرية الرامة الماء من بئر تم سبر أعماقه من زمان بعيد. وتطلّب الحصول على ماء بديل من "نبع ديفة" النقي السير بدابة حمير لثلاث ساعات، ولم يكن لدى كل أسرة دابة حمير بالطبع، وإن وجدت فجدول مهامها الريفية وأشغالها مكتظ غالباً على مدار اليوم.

حينئذ كانت القرية بمنأى عن خدمات الدولة، وإن وجدت فيها بعض الأدوات الزراعية المستخدمة من تاريخ يعود إلى آخر العصور الحجرية دون تغيير هام يذكر في تصميمها.

وعانت القرية في فترات الجفاف من شح مياه البئر اليتيم فيها فضلاً عن تلوثها وعكرها المستمر. ومات العديد من الأطفال بسبب الإسهالات المزمنة وأمراض الطفولة النافلة، في وقت لم يكن يربط الضيعة بمدينة اللاذقية -حيث خدمات الطبابة- طريق معبد تسلكه السيارات العامة. ولسد احتياجاتهم سار على الدروب الترابية رجال القرية قاصدين المدينة برفقة دوابهم، يبيعون أحمالهم ويشترون ما يلزم من ملح وثياب وأدوات حديدية للزراعة. وغالباً ما كان المرضى يتركون لحكمة العجائز ومنقوع الأعشاب البرية، بينما تكفلت نساء القرية بكل شؤون الولادات وتعاقب الأجيال ومقاومة الانقراض باستمرار النوع البشري فيها والحياة.

وبالعودة للوراء ربما من المناسب الإشارة إلى أنه في ذات القرية، قرية الرامة، كانت قد ولدت "أم علي سعيدي" وسط مشهدية واقع أحلام أطفال لم يكبروا، ومواويل نواطير الكروم، وروح مواسم الزيتون، وجذوع شجر شربين يهزأ بالصخور، ومجمل قسوة الرأي الجمعي الذي أشير له سابقاً، و"أغصان الليل"، وبحات ناي جارحة...

"أم علي سعيدي".. امرأة ولدت في الرامة لتكون في ذاكرة القرية ومخيلتها أم الجميع وجدة كل الأحفاد.

قُدَّام باب دارتها، جادلت "أم علي سعيدي" بصمت قصبة كش الدجاج والعقاب، فكان لها موقفها الخاص من الدنيا والحياة، ولعقود.. لم يعبر طفل من أمامها إلا وقبلته وسقته كاساً من اللبن، وقالت له: "يا حبيبي يا عيني".

حسناً، كي لا تتشابك حبائل الذاكرة وسرحاتها أود أن أشير إلى التربة الأم التي ترعرع فيها المعلم محمود سعيد محمد، وتناهت إليه نداءاتها الإنسانية.

فيها، في قرية الرامة ولد محمود سعيد محمد. تخطى الإسهال والحصبة ولسع العقارب والزنابير وغيرها من الحشرات، وفي العراء مشى على قدميه عابراً المنحدرات إلى اللاذقية مرات ومرات، قبل أن ينكفئ راجعاً إلى داره حيث تسكن تراجيع الطفولة وتسقر كتب الأجداد القديمة والمخطوطات إلى جوار كتبه الدراسية الخاصة.

-3-

تضمن اليوم التعليمي في تجهيز البنين –كما في المدارس الأخرى- استراحات بين الحصص الدراسية للأساتذة وللطلاب عرفت باسم "فرصة"، حيث يتجمع الأساتذة في صالة مخصصة يدخنون ويشربون الشاي والقهوة، ويتداولون في إعراب بيت من الشعر، وعن جديد خرائطهم لشوارع وحارات اللاذقية التي علموها بالأحمر، والتي يتواجد فيها دائنون لم يسددونهم منذ حين.

في هذه "الفرصة" ينطلق التلاميذ من صفوفهم بحماس واندفاع إلى ساحة المدرسة أو باحتها، لملئها لعباً وصراخاً على مدار ربع ساعة من الزمان، يحررون فيها كماً هائلاً من الطاقة والانفعالات، ولا يفوت بعضهم الاشتباك في عراك وشتائم، إلى أن يتدخل الأستاذ المناوب المكلف بضبط النظام في الساحة، ويسمع حينها صوت لسع العصا وهي تمارس دورها التربوي.

وبيده اليسرى يقرع الأستاذ المناوب الجرس، يثبت الطلاب في أماكنهم بلا حراك، ويتوقف اللعب والصراخ، ومع رنين الجرس التالي، يتحركون ليتجمعوا في أماكن حددت مسبقاً لكل صف تعليمي، ومن ثم ينتظرون أمر التحرك إلى صفوفهم ومقاعد الطلب على العلم.

الانضباط، كمفهوم وممارسة، مهم لإنجاح العملية التعليمية التربوية لأنه من الأسس التنظيمية الأهم، بل ينظر لفشل المعلم المناوب في ضبط التلاميذ في الفرصة، كنقص في مؤهلاته؛ الأمر الذي قد يدفعه إن تكرر الفشل للبحث عن عمل آخر بعيداً عن المؤسسة التعليمية.

دخل محمود قاعة صفه وكتب بيت الشعر إياه على سبورته. لم يكن يحمل مسطرة بيده كبقية الأساتذة. بعد بضعة أيام وفي قاعة المعلمين، قال له بعض زملائه: لماذا لا تحمل عصا؟

أطرق رأسه يلتقط المعنى ولم يجب!

سمع صوت أحدهم يضيف: قد تفقد هيبتك يا محمود.

أخيراً جاء يوم مناوبته .. رجاه أحد المعلمين أن لا ينزل لساحة المدرسة بدون عصا، خاصة أن ذلك سيكون سابقة لم تعرفها مدارس مدينة اللاذقية من قبل.

أمسك محمود الجرس بيده اليسرى ونزل للساحة بيد يمنى حرة من أية أداة. بهت اول من رآه من التلاميذ، وسرى ذلك كموجه .. جمدت الساحة. بقلق بحثت العيون عن العصا. في ومضة خاطفة، تحررت بقع في مخيلتهم، ووثقت .. أن ذلك ممكن وقد حصل.

انقضت دقائق الفرصة من دون حصول مشكله واحدة.

قرع محمود الجرس فهرعوا بسرعة لأماكنهم، وبهدوء دخلوا قاعات صفوفهم. ومن النوافذ التي تطل على الباحة شهد المدير وبعض الاساتذة ذلك.

غمرت محمود سعيد محمد السعادة، أحس صدره مرجاً أخضراً انجردت فيه أمانيه العذاب.

أربع وأربعون سنة قضاها في التعليم، ولم يوجه خلالها إهانة لتلميذ.

استلم في مدرسة عبد الرحمن الغافقي مهام الإدارة، وأصر على مشاركة التلاميذ الوقت في الساحة أثناء الفرصة، كثيرون يذكرون كيف كان يجثو على ركبتيه ليستقبل بحضنه طفلاً يعدو نحوه.

في الغافقي، وفي بداية العام الدراسي الذي تلا "هزيمة حزيران " قال للهيئة التعليمية خلال كلمة ترحيب: "ليس الضباط والجنود وحدهم من هزم في حزيران. نحن هزمنا ايضاً .. فنحن من علم أولئك الجنود والضباط".

في 29 كانون اول 2016، أغمض عينيه على مرجه الأخضر وفرسه العارية كراحة يده اليمنى، حيث لا عنف في منزل أو مدرسة أو..

وداعاً محمود سعيد محمد.. لك الرحمة، ولي ميراث يدك الحرة.

* * *

الهامش

الشعر

"وكان في تلك السن... أن جاء الشعر

جاء بحثاً عني. لا أدري، لستُ أدري.

من أين خرج، من شتاء أم من نهر

لست أدري كيف، ولا متى،

لا، لم يكن أصواتاً، لم يكن

كلمات، ولم يكن صمتاً،

ولكنه من أحد الشوارع استدعاني،

من أغصان الليل،

وفجأة بين الآخرين،

بين نيران عنيفة

أو مع عودتي وحيداً

كان هناك بلا وجه

ولمسني"

(بابلو نيرودا، تر. صالح علماني)