هل هي وطاويط حقيقية أم استعارية تلك التي يرسمها لنا القاص المصري؟ أم تراه يكشف عبر استعارته تلك عن بعض تفاصيل الواقع الرازح المزعج، وعن أن وراء لغط الإسلاميين الكثير خواء حقيقي!؟

وطاويط

رجب سعد السيّد

.

مهما كان الحالُ، يجبُ أن أكون شاكرا لصديقي. استضافني في هذا المسكن، بعد نجاتي من الزلزال، الذي هدم بيتي وقتل زوجتي. قال لي: شقةٌ صغيرة متواضعة، ولكنها تفي بالغرض، مؤقتاً. حين دخلتُ المسكنَ لأول مرة، عقب خروجي من المستشفى، لم أكن أرى إلاَّ جدراناً بديلة، أشعرُ بينها بأمان افتقدته منذ انتشالي من بين أنقاض المنزل المتهدم. ليس أبشع من فقدان المأوى. ليس أهم للإنسان من سقف يقضي الليل تحته. كانت حجرةُ النوم طيبة؛ ومساحةٌ للمعيشة مفروشةٌ بالضروري من الأثاث؛ وركنٌ لإعداد الطعام؛ وحمَّامٌ بسيط. وقلت: أعيش فيها حتى أجد لنفسي مسكناً جديداً. وقلت أيضاً: لا يهمني الوسطُ المحيطُ بالمكان الذي أعيش به، ما دام لي بابٌ أُغلِقُهُ فيُبعدُني عن كل الناس والأشياء بالخارج.

مرَّ عليَّ هنا عامان، أعاني عجزيَ عن إيجاد شقة جديدة. أشعرُ أحياناً بأنني سأقضي بقية حياتي هنا، فينقبضَ قلبيَ ويعتصرُني حزنٌ ومرارة؛ ولكني أعودُ، صاغراً، إلى هذه الجدران. كان بيتي يبدو راسخاً، وتمكَّن منه الزلزالُ، وهذه البناية المتهالكة تحمَّلت، وعَبَرَت الهزةَ القوية. لكن شقوقاَ عميقةَ، مستقيمة ومائلة، تنتشرُ في كل مكان؛ ومعظمُ درجات السُّلَّم متآكلٌ أو مفقودٌ. الظلامُ يعشش في الفراغ الداخلي، فلا يتميز ليلٌ من نهار. والسُّكَّانُ غير ظاهرين. أصعدُ وأهبطُ فلا أقابل أحداً. فقط، أسمعُ أصواتَهم، تأتيني من شُققهم. كل أصوات الحياة اليومية، نهارية وليلية، وإن كان يومهم يبدأ مع الغروب، ويستمر لغطُهم طوال ساعات الليل. كانت تسليتي في البداية. أصوات غريبة متنوعة النبرات، معظمها قبيح. كنت أستغرب.. كأنهم في عراك دائم. اعتدت أصوات جيراني المجهولين.. لم أر سحنة أي منهم. لا أعرفهم إلاَّ من أصواتهم الزاعقة، ومن أسمائهم التي ارتضوا أن يتنادوا بها، على غرابتها وشذوذها.

بمرور الأيام، أفقدني الاعتياد دهشتي الأولى؛ ثم بدأت أكره أصواتهم، بعد أن صارت تتسلل إلى مضجعي، وتسلبني حقي في فسحات من هدوء، للتأمل، أو للاستماع إلى معزوفة من مجموعة شرائطي الموسيقية. لا أحب الموسيقى إلاَّ خافتة؛ ولكني اضطررت إلى رفع الصوت لأتغلب على الأصوات الخارجية، وأخشى أن أكون فقدت حبي لصوت الموسيقى الخافت. يجب أن أعترف أن معزوفاتي لم تعد تمتعني بدرجتها العالية. لجأت إلى الشرطة، وقابلت ضابطاً كبيراً، أنصت إليَّ باهتمام وأنا أشرح له أن أمني مستباح، وأن أصوات من لا أراهم تقتحم عليَّ سكني الخاص وتسلبني حقي في شيئ من الهدوء. قلت له إنهم يكدرون ما أنشده من لحظات صفو، ويستولون على خطوط دفاعاتي الليلية، وتأتيني أصواتهم لتصب في أذنيَّ، فأشعر بشفاههم تلتصق بخارج أذنيَّ، حتى أنني أمد يدي فأكاد أجدهما وقد تدلت منهما زوائد من شفاه مسودة، تلتصق بها روائح كريهة من دخان السجائر والحشيش.

انتهت مقابلة المسئول الأمني بإهمال واضح من جانبه، وألمح إلى الصديق المشترك، الذي توسط لأتمكن من مقابلته، بأنني أعاني ضغطاً نفسياً يتعين عليَّ معالجته. وقال لي زميلي بالمختبر: لن تخرج من هذا المكان إلاَّ إلى مصحة عقلية! كان يعلق على أحلام اليقظة التي أخذت تستولي عليَّ في وحدتي بين جدران مسكني وتحت مطارق الأصوات الزاعقة. في أول حلم، رأيتني أخترع قذيفة روبوتية دقيقة، باحثة عن الترددات الصوتية التي تتجاوز درجة بعينها تحتملها الأذن البشرية، فتدمر مصدرها.. تحطم صمامات تكبير وتضخيم الصوت في أجهزة الإذاعة، أو تقطِّع الأحبالَ الصوتية في الحنجرة التي يغني صاحبها أو يشتم بصوت عال. وفي حلم آخر، فضَّلتُ أن يكون التدمير بواسطة قوى شرٍّ خفية، تأتيني من جوف الظلام الموحش المنتشر في جنبات البناية، أتحالفُ معها، مهما كان ما تطلبه من مقابل، فأسلطها على أصحاب الأصوات التي لا تنقطع عن الزعيق، فتزهق أرواحهم، فينتهي ضجيجهم إلى الأبد. وحين يصل بي الضيق وانقطاع الأمل في أن أجد ساعة من الهدوء، أعرف خلالها طعم نوم هانئ، إلى أعلى مدى، أقبل أن يكون الخلاص بزلزال آخر، أقوى هذه المرة، بحيث يقضي على جميع السكان، وأنا بينهم!

طلبت من صديق قديم يعمل صيدلانياً أن يزودني بعقار مأمون يعينني على النوم. جاءني بالعقار، وقال إنه أسوأ الحلول. قدم لي مع العقار سدادات مطاطية للأذنين، تثبتان بهما فتنتهي عند عتبتهما حدة الأصوات. أخيراً، بدأت أنام من أول الليل، لا أسمع غير طنين لا تتضح فيه أصوات. غير أن دفاعاتي تتساقط عند الفجر، مع انطلاق مكبرات صوت عديدة، تزعق فيها بالآذان أصوات معظمها منفر، مشروخ، يقاوم النعاس. تمكنت السدادات من صد هجمات أصوات المكبرات البعيدة، وعجزت أمام مكبر وحيد، يتفجر بالصوت، كأنه معلق بسور شرفة مسكني.

انتهزت واحدة من المرات القليلة التي أقابل فيها جيراناً، في صعودي أو هبوطي. وجدت امرأة تنوء بحمل أكياس بلاستيكية سوداء كبيرة. استجمعت كل شجاعتي واستوقفتها، طالبا من وقتها دقيقة. استجابت ووقفت تحدق بي. سألتها عن مكبِّر الصوت اللصيق. نطقت بما لم أفهمه: الشيخ وطواط.. الشيخ وطواط!. وعادت تلملم أكياسها السوداء وتختفي في عتمة ممرات المنزل.

إذن، فثمة شيخ، إسمه وطواط، هو سبيلي إلى معالجة مسألة مكبر الصوت الوحيد المتبقي القادر على اختراق السدود إلى أذنيّ. عليّ أن أبحث عنه وأراجعه، لعله يرأف بحالي، ونجد حلاً مرضياً. وكنت ألاحظ أن مكبر الصوت الخفي القريب من شرفتي لا يعمل إلاّ فجراً، وقد أدهشني ذلك. وكنت مستغرقاً بالتفكير في طريقة للوصول إلى الشيخ وطواط، عندما دق باب شقتي، لأول مرة منذ سكنتها، فانتابني فزع؛ ولكني سرعان ما تمالكت نفسي، وقمت لأرى من يكون زائري الأول. كانت سيدة الأكياس السوداء. وكانت، هذه المرة، بلا غطاء شعر، كما تبينت أن رداءها منزلي صيفي، لا يليق بالوقوف بباب جار وحيد. الأغرب أنها كانت تبتسم، ولاحظتُ أن ابتسامتها لا تخلو من جمال. كانت تبدو في شيئ من الارتباك، وكانت تنقل لي ما تعرفه عن الشيخ وطواط، خادم المسجد الكائن بالبناية. أخبرتني، كأنها تبرق لي، أن الوصول للمسجد يتطلب الخروج من البناية تماماً، ثم الدخول من باب خلفي، وارتقاء سلم حديدي يصل إلى الطابق الثاني، حيث يتخذ الشيخ وطواط من قاعة كبيرة، كان يشغلها مصنع حلويات احترق منذ سنوات قليلة، مسجدا؛ وانتهت بنصيحتي ألاَّ أصلي خلفه، وقالت إن ذيله نجس!. شكرتها، وجاملتها بالدعوة إلى فنجان قهوة، فلملمت نفسها كأنها خجلى، وانسحبت مغمغمة، واختفت في العتمة.

عند الفجر، كنت مستيقظاً، في حالة تأهب، بانتظار انطلاق أذان الشيخ وطواط. كانت دهشتي كبيرة عندما وجدت صوت المؤذن جميلاً جداً. لم ألحظ ذلك من قبل، فقد كان اختلاط الأصوات يحول دون بروز أي جمال بينها. كانت الكلمات تأتي منغمة، غير محرفة النطق. إذا كان ذلك هو صوته، فلماذا يسمي بالوطواط؟. ولسبب غير معلوم لي، تكاسلت عن مواجهة الشيخ وطواط، وأجلتها لفجر اليوم التالي.

عند عودتي من العمل عصراً، تلكَّأت أمام محل بالبناية يبيع أدوات حدادة. خرج إليَّ صاحب المحل متشككاً. حييته وقلت له إنني جار أسكن بذات البناية، وإنني أسأل عن الشيخ وطواط. بادرني بسؤال: هل سرقك؟. قلت: لا، فأنا لا أعرفه. عاد يسأل: ولم تريد أن تعرفه؟. قلت: أريد أن أقابله، كجيران!. ضحك تاجر الحدايد وهو يغادرني لداخل دكانه متصايحا: وطواط  جار!.. وطواط جار!.. أين هو؟.. لن تجده وإن قلبت الأرض!

كنت مصمماً على مقابلة الشيخ وطواط، لأرجوه أن يكتفي عند الفجر باستخدام مكبر الصوت للأذان والإقامة، ولا داعي للقراءة المطولة في هذا الوقت، تقديراً لظروف المرضى والمؤرَّقين. وما إن انتهت إذاعة آذان الفجر حتى كنت أغادر شقتي، نازلاً إلى الشارع، وملتفاً خلف البناية، تماماً كما وصفت لي الجارة الغامضة. وأخذت أخطو متردداً في شبه قاعة مظلمة، وعند جدار في نهايتها، وجدت بعض حصائر بلاستيكية مفروشة على البلاط المتسخ، ومصباحاً وحيداً قليل القدرة مدلى من السقف، وشخصاً وحيداً منهمكاً في ترتيب أشياء بدولاب صغير، إلى جانبه طاولة صغيرة قصيرة، عليها لاقط صوت وجهاز إذاعة اسطوانات مضغوطة. كان الجهاز يذيع قراءة عذبة الصوت - يجب أن أعترف - لبعض سور القرآن. جلست فوق الحصير، فالتفت إلىَّ الشخص الواقف، فسألته: هل أنت الشيخ وطواط؟. قذفني بكلماته: وطواط في عينك!.. ماذا تريد؟ حاولت أن أعتذر: أنا آسف، أخبرني الجيران بالإسم. عاد يحتد: ماذا تبتغي؟. قلت: الصلاة.. جئت للصلاة معك. واصل احتداده: إذهب وصلِّ بمكان آخر!. تساءلت وقد تسرَّب إليَّ شيئ من التخوف: ولماذا لا أصلي بهذا المصلىَّ؟. قال وهو يقترب مني متفحصاً: لا أحد يأتي إلى هنا.. هل تتبع الشرطة؟ قلت: لا.. أنا أسكن في البناية، وصوت المكبر يقلق نومي فجراً، فجئت أصلي وأرجوك أن تكفَّ الصوت عني، ولو بقدر قليل. قال، غير حافل بما أوضحت: كل السكان يستحسنون الصوت ويطلبون رفعه ليستمتعوا بالأذان والقراءة. قلت: إنهم ليسوا في حفل غنائي، ولكن في حضرة شعيرة مقدسة.

وهنا، انطلق صوت مؤذن يقيم الصلاة، ولم يلبث أن جاء صوت إمام يدعو مأموميه بالانتظام والاعتدال، ثم كبَّرَ، وأخذ يتلو فاتحة الكتاب، وأنا متجمد من شدة الدهشة؛ لقد كان كل ذلك مسجلاً على الاسطوانة. وتحولت الدهشة إلى حالة خوف، فنهضت من جلستى، واتخذت طريقي - مضطرباً - أغادر مصلَّى الشيخ وطواط!.