تكتب هذه القصة وجع المهمشين وخيالاتهم الجارحة في معظم المدن العربية المنسية. وتكشف لنا عن ثنائية الشبق المحبط والعنف المجاني في عالم انسد فيه الأفق أمام أغلب مواطنيه.

كرينيكو العظيم

محمد العريشية


أوف أوف أوف! إنها مدينة مقرفة. الناس فيها لا تطاق. لا يصادفك إلا من يرفع أنفه في كبرياء كما لو كان جبينه يتفصد بالمسك، والمغفل والغبي من يعتقد أنه يتصرف بكياسة إذ بمجرد أن يقترب يفوح من تحت إبطه عفن السرقة والقرصنة، وتنبعث من بين أسنانه رائحة الآخرين.‏‏‏ إسلوبي المقزز وليد ظروفه لكنه واقعي يا سيدي، واقعي جداً، إنه نتيجة تعايش يومي وإحتكاك الكتف بالكتف، فلم أهبط كما تعرف من السماء. ولم تنشق عني الأرض، بل كنت النبتة المزروعة في غير تربتها، لست أنا من يستعمل هذا التعبير، بل كان أبي من قبلي يضعه تحت لسانه (كالمضغة)، لكنه مات ولم يمت حتى أورثني كراهية الأمكنة الضيقة، وعلمني كيف أكابد الناس بالتبغ والإزدراء.‏‏ ما تقوله ليس فوضى في دماغي كما تفضلت، ها أنذا لم أدخن في حضورك ولم أقلب شفتي إزدراء حول ما تفضلت به، لكن قد يكون السبب أنك تعيش من أجل نفسك، ولا تتعامل مع الهامش المنسي هناك في شارع كولومبيا! نعم شارع كولومبيا هم يطلقون عليه هذا الإسم. أعرف أن حضرتك لا يذهب إلى هناك إذ لا شيء هناك سوى أجيال مهمشة مدجنة تتشمس على الأرصفة.‏‏‏

هل لديك أطفال يا سيدي؟ إثني عشر طفلاً ؟ كثير!، كثير جداً كان ينبغي أن تستعمل الواقي في الأوقات الحميمة، أنا لم أنجب سوى وجهات نظر لكن أعتقد أن إنجاب الأطفال رد منطقي على تدهور المناخ العام. فحين يفقد الرجل الكثير من وزنه الداخلي يكرس وقته لصفع من يصادفه بإنتاج طفل.‏‏‏ ولابد أنك صفعت وجوهاً كثيرة حين بادرت بإنتاج دستة أطفال؟ غضبت! حسناً لا ينبغي لي الولوج إلى مناطقك المحرمة لكن أنصحك بأن تستخدم الواقي، إلا إذا كان هناك المزيد ممن تود صفعهم بإنتاج المزيد من الاطفال.‏‏‏ إسمي؟!!!، لا تقفز إلى النهاية الآن. إسمي شيء يا سيدي. وما تسميتي بالشيء إلا لأني لا شيء أو مجرد شيء لا قيمة له، ولو لديك المزيد من الوقت سأروي لك قصة إسمي. لكن كيف لم تسمع به؟ قبل عشرة أيام كان لاسمي طنين ورنين. أين كنت يا سيدي؟! آه آه. كنت تصفع أحدهم أنت وزوجتك بإنتاج طفل. انظر، كنت بلا عمل ولا ملامح إذ كانت ترتسم على وجهي تكشيرة الموت، ودائماً أغلي كمرجل، لماذا؟ سؤال جميل والجواب يا سيدي له ثمن، سيجارة على الأقل، ضعها هنا خلف أُذني. اسمع، لم يكن غضبي الذي بإمكانه أن ينزل مخاط بعوضة نتيجة مرض أمي وموتها بحقنها دواء خصصه الطبيب لغيرها، ولا كان السبب أيضاً ضياع مدخراتي القليلة في البنك الذي أشهر إفلاسه، بل كان السبب يا سيدي هو تلك الطريقة الفجة التي يعاملني بها الناس. لا تكف عن الإشمئزاز من كلامي، والسبب إنك لا تتحرك في مسارات واسعة، إذ تكتفي بالمشي من الظل إلى الظل خافضاً رأسك كما لو أنك قد بللت سروالك للتو، لكن أنا يا سيدي!! آه آه. أسابق الرياح في الشوارع من الصباح إلى المساء وأعرف المدينة بالشبر بيتاً بيتاً، وجهاً وجهاً، أدرك ما يجري في حدائقها الخلفية وأحفظ عن ظهر قلب ما على جدرانها من عبارات بذيئة تسخر من شخصيات نكرة وأخرى مشهورة، والأهم يا سيدي. كنت صديقاً حميما لـ(كرينكو العظيم) صاحب المقالب المشهور.

إنه إنسان ودود لكنه يواجه صلافة الناس بصعلكته وسخريته الصادمة، إذ حباه الله بقريحة تتفجر بمقالب تجبر أي إنسان على مراجعة جذور شجرته، وما وحّدنا وجعلنا رأسين في قنينة واحدة هو فجاجة أولئك الذين سحقوا آخر قملة بين أظافرهم وراحوا يقسمون المدينة بعلو الفيلات وألوانها، والناس وثيابها، ليس هذا فحسب! بل أنهم اختطوا لأنفسهم (جيتوهات) ليس في مستطاع من هم على شاكلتك وشاكلتي الاقتراب منها أو مجرد النظر اليها، لكن كرينكو العظيم هو الوحيد الذي تمكن من كسر القاعدة.‏‏‏ ذات مرة أخبرني وسط حشد من الشباب، وهو لا يكف عن محاولة سرد حكايته بالصوت والصورة، مستخدماً حركات يديه وتعابير وجهه، أن مجموعة من الفتيات الجميلات كن يتنزهن في متنزه بحري خاص وهن لا يرتدين سوى مايوهات شفافة تشف عن حلمات أثدائهن، وتظهر أفخاذهن كسمك مشوي، ويتبخترن ناثرات شعورهن في الريح ويتراشقن بالماء، أنت لا تعرف مكان المتنزه البحري، إن الدخول اليه مستحيل رابع، غير أن كرينكو العظيم له بصمته الخاصة، انطلق من شاطئ (رجل البقباق) مرة يقمس في البحر كفأس حتى لا يبدو له أثر، وتارة يسبح كدلفين وهو يضرب بذراعيه القويتين اللتين يغطيهما الوشم قلوباً وفؤوساً وبواخر وحروفاً وأسماء وخطوطاً لا تفسير لها، حتى ظهر على مسافة من المتنزه ثم تقدم نحوهن بغتة كما خلقه الله، وحسب ما رواه كرينكو ذلك اليوم، أنه أمضى يوماً وليلة هناك وتمكن من تحبيلهن، إنه رجل يرد على الصفعة بصفعة في المكان الضيق وعلى التكبر برفع إصبعه الوسطى للأعلى والتلويح بها.‏‏‏ وحدث مرة أخرى أن سمع بحفل خاص يحييه فنان لبناني كبير له عنق ثور، لم يُسمح لنا بالدخول لأن التذاكر باهظة، وفيما كان المكان وهو مسرح في الهواء يغص بالضيوف، والجوقة الموسيقية تأخذ مكانها، وتطالب النساء بصراخهن وتأوهاتهن بظهور الفنان على الخشبة، ويرتفع صفير الخصيان من حولهن، حدث ما لم يخطر على بال أحد إذ ظهر كرينكو العظيم وهو يقبل كفيه ويلوح بهما باتجاه الفتيات، ثم وقف أمام الجوقة وبدلاً من الشروع في الغناء بصوته الأبح الصادم، أخذ وسط دهشة الجميع بخلع ملابسه قطعة فأخرى، حتى كشف أخيراً عن شيئه وهو في حالة انتصاب وتوتر كاملين، إذ أسكرته عطور النساء الشبقية، لا ليس من السهل الإمساك به لأنه كان يدهن جسمه من الألف إلى الياء بالزيت حتى لا تتمكن يد من إحكام قبضتها عليه، ثم كان عدّاءً كفهد. أنت تعرف يا سيدي أنه ليس من السهل التقرب أو الوصول إلى وزير من الوزراء، نعم! وزير بكرشه وفساده جعل منه كرينكو العظيم أضحوكة، كان ضيفاً يُحتفى به في مسقط رأسه لعدم تنحيته من منصبه طيلة تسع عشرة سنة، ومفاجأة الحفل هي صعود كرينكو إلى المكان المخصص لتلاوة الخطب، وكانت قراءته لخطبته المبهمة غاية في العشوائية، إذ جعل من الضمة فتحة والكسرة سكون، وعلى الرغم من هذا تفاعل معه الجميع بالتصفيق والصفير، لأن التسكين والكسر في السياسة يعمي البصيرة ويصم الأُذن عن الإصغاء لطقطقة عظام اللغة وتكسرها، وعندما أنهى خطبته حملوه فوق الأكتاف كي يصافح الوزير وحين وصل عنده أخذ بتقبيله ـ بشفتيه المتشققتين من البرد والريح الشبيهتين بمكنسة قش ـ في وجهه ورأسه وجبينه وعينه ثم عضه في أنفه حتى امتلأ فمه بدم الوزير ومخاطه وذاب كالملح.‏‏‏ أقول لك إنه كرينكو العظيم وأنت تعجن وتخبز، إنه كالشبح لا توجد نافذة إلا وقد قذف تحتها منيه بعد منتصف الليل، وهو يراقب الفتيات وهن يتقلبن على أسرتهن في الحر، ولا زوجاً إلا ويعرف كيف يعتلي زوجته، له عينان كعيني عظاءة ميتة، ووجه يقف شعر رأسك حين تراه للمرة الاولى، لكن سرعان ما يدخل إلى قلبك لأنه ودود، يلين كثيراً ويصبح قلبه كورقة (كلينكس) إذا حدثته عن ظلم أو وجع، يسرق من الاغنياء ليطعم غيره لكنه مات.‏‏‏ لا شيء.

لكني كلما أذكره أبكي لأن وجوده كان يخفف من وطأة الظلم، إذ كان قصاصه عادلاً، إذهب الآن وانظر كيف تُعامل الناس المهمشين العاجزين، إذ أن السخرية الاجتماعية ترادف القمع السياسي، أحدهم يجلدك بلسانه والآخر بالكرباج، وأنت شرطي مسكين يُسرق البنك في يوم عطلتك فبدلاً من البحث عن الجناة يُزج بك معي، آه لو كان كرينكو العظيم حياً وأخبرته لأشفى غليلك، لكن يا للأسف!! مات وأنت في أمس الحاجة إليه. نعم، أنا يا سيدي ابتسمت لي امرأة فلوحت لها بشفتي كاشفاً عن لساني وأسناني، فجرجرني شرطي لعين إلى هنا متهماً إياي بالمتسكع ومسبب الشغب، كنت بعد موت صديقي كرينكو أقف قرب حانوت لبيع العطور كي أطرد نتانة المدينة من رئتي بالعطور المنسابة من الحانوت، مغمضاً عيني غارقاً في لذة الروائح المجنحة في الجو، وحين غمرتني العطور من الداخل فتحت عيني وإذا بامرأة خارجة من الحانوت واقفة تتأملني، كانت تحمل أكياساً كثيرة في كلتا يديها، وترتدي فستاناً أزرق يناسب حجمها وقامتها الممشوقة، لا. لست وسيماً يا سيدي انظر إلى وجهي إنه كالخراء اليابس وكأن شمساً في السماء السابعة لوحته، لم تتوقف عن الحملقة في وجهي والابتسام، لا أُخفي عليك أن سروالي الداخلي بلله سائل كعصير اللوز وانتصب عمود هناك، نعم، كانت جميلة كفراشة ولها رائحة البطيخ الأصفر الطازج، ثم رقّصت لي حاجبيها وفيما هي على وشك التوجه إلى سيارتها سقط كيس من أكياسها، وكرجل لا يتأخر عن تقديم مساعدة، قفزت وأمسكت بالكيس وهو على قيد ظفر من الأرض، وأخذت الأكياس الأخرى وحملتها معها، وبينما كنت أتهيأ لفتح الباب اعترضتني ذراع كجذع شجرة يغطيها شعر كثيف مشبع بالعرق.‏‏‏

ـ إلى أين؟‏‏‏

ارتفع صوته وراء عنقي‏‏‏

ـ أضع الاكياس في المقعد

قلت.‏‏‏ فطفق يخاطب المرأة وهي تقف عند بابها ويطالبها بعدم الاقتراب أو الاطمئنان لأمثالي من الصعاليك. لم تحر المرأة جواباً والأنكى أنها قلبت شفتيها إزدراء من تدخله الفظ، ملوحة له بأصابعها قائلة في حزم:‏‏‏

ـ ابتعد ابتعد.‏‏‏

ثم ودعتني بترقيص حاجبيها مرة أخرى وانطلقت دون أن تعير الشرطي اهتماماً وهو لايزال مقرفصاً ويسند ذراعيه على نافذة السيارة فطرحته أرضاً، وعندئذ قهقهتُ وضحكتُ يا سيدي ضحكة بإمكانها لو أنها تهبط على الأرض دفعة واحدة أن تتغلغل إلى الأعماق حتى الأرض الثانية أو الثالثة، وإذا كان هناك نفطاً أو غازاً تخرجه. نهض الشرطي عاضاً على لسانه بين أسنانه، رافعاً يده في وجهي، أمسكت بذراعه في الهواء وقد تبدلت سحنتي، وقلت له:‏‏‏

ـ أُدخلها في إستك لو تكررها.‏‏‏

أفلت ذراعه من قبضة يدي واندفع نحوي، بماذا أخبرك يا سيدي؟ بيض ثعابين فقس في رأسي وأصبحت عيناي أنياباً تنفث سماً:‏‏‏

ـ  اقترب.‏‏‏

كنت أسمعه يصرخ ثم تشابكنا بالأيدي وتبادلنا لكمات ونطحات ورفسا بالأقدام والرُكب، ثم مثلما تمد يدك في الليل إلى قن دجاج متحسساً باحثاً عن البيض، كنت أتحسس بيدي في ليل زمجرتنا ولهاثنا البهيمي للعثور على حنجرته، وكان رأسي حينئذ ملاصقاً لرأسه، وأخيراً. وجدتها أحكمت عليها بإصبعيّ الإبهام والسبابة، فغرزتهما بعناية. وأفرغت قوة مئة كيلو في يدي فنزعتها وانفجر دمه غزيراً كريهاً متناثراً في وجهي ملطخاً صدري، لم يصدر صوتاً، بل ترنح مرة أو مرتين للخلف، وذرعه قيء أخضر ضارب إلى الصفرة مختلط بكتل من الدم، ثم تهاوى على الارض فارداً ذراعيه وقدمه اليمنى منثنية تحت الأخرى، أذكر أني كنت واقفاً، لكن على حين غرة شعرت كمن كان يشاهد التلفزيون ويقفل فجأة تاركاً نقطاً سوداً تتراقص في بحر رمادي، مصدراً صوتاً يشبه أزيز الاضطراب، لم أعرف ما حدث إلا هنا. وأما بخصوص إسمي يا سيدي. هل نمت يا سيدي؟! استيقظ استيقظ سأخبرك لماذا يسمونني (كرينكو العظيم)؟‏‏‏

كاتب من ليبيا‏ ‏‏