في هذه الرواية للكاتبة المصرية يتراوح موقف الرواي من أبيه بين رغبته في معرفته والتنكر لجنونه أو لرؤاه المتهمة اجتماعيا بالجنون. وفي نفس الوقت يستغرق في تأمل علاقته الشائكة مع "وصال" التي تثير لديه أسئلة لا تنتهي، ورافقته على مدار أطوار حياته المتعددة. وفصول الرواية المكثفة تكسب السرد إيقاعا سريعا وتتيح إمكانيات عديدة للقراءة والتأويل.

هلاوس

سهام بدوي

إهداء

إلى هذه السحابة العالية

حتى يكاد ألا يراها أحد.

إلى عم سحابة

وإلى روح شيخي الجليل

عزت الدهشان

إليهما

فى رقدتيهما وفى خلودهما.

__________________

ومن هنا فقد صار عقلي غريبا عن روحي.

مولانا جلال الدين الرومي

(1)

كانوا ينادونني في الشارع: ياابن المجنون، إلى أن كبرت واشتد عودى، ورفعنى أبى من فوق أحدهم وقد كدت أن (أخلص عليه).

قال أبى: سيبه ربنا يسامحه.

ورفعنى ـ كما ترفع العنز ـ فوق كتفه وصعد بى.

مرة أخرى فكّنى بعد أن ربطنى العيال وتركونى فى الخرابة اللى فى آخر الشارع، وأنا أدافع عنه.

ظللت لأكثر من أسبوع لاأبرح البيت،خاصة وأن البنت اللى كانت عينى عليها قد عرفت.وكنت لا أرانى الرجل اللائق بها. خاصة وأنها بنت صعايدة وإحنا... إحنا فلاحين.

وأجّلت انتقامى من هذا الشارع لفترة أخرى، أكون قد صرت أكبر وأقوى.

***

وشكّلنا الفريق تحت بيتهم، وبدأنا نلعب بخطة 4/ 2/4.

كنت أسوأ مهاجم، وأخيب حارس مرمى، ولم يعد أمامى سوى مهمة الدفاع، التى فشلت فيها هى أيضا؛ حتى أننى اضطررت إلى التوقف والبحث عن رياضة أخرى، تحسّن وضعى فى عينيها.

رفع الأثقال. فالحديد كتلة ثابتة فى موقعها،محددة المعالم  لاتحتاج إلى خطط وليس فيها سخف المراوغة والمباغتة والمخاطرة. إلى جانب أنك وحدك المتحكم. فأنت تختار الوقت والحمولة على قدر طاقتك. كذلك فللتعب ثمن !

فما إن تتقدم فى هذه الرياضة، حتى تجد لجسمك هيبة بين الخلق. خاصة فى وسط الأولاد، وسحرا وجاذبية  فى الوسط البناتى.

ليس مهما كم كيلو تمكنت من رفعه، فهى ليست ولدا لتدخل إلى (نادى الأبطال لرفع الأثقال) وتعرف الحقيقة. لكن المهم والمبهج واللافت للنظر هو أنها صارت تقف كثيرا فوق سطوح بيتهم. وترفع صوت عبد الحليم، وتحتمل شمس الصيف القائظة والتى تعاكس رومانسية ونعومة صوت حليم، وأسمع من الداخل:

أول مرة تحب ياقلبى

وأول يوم اتهنى

و........

انا لك على طول خليك لىّ

خد عين منى وطل علىّ

وكانت مرحلة عبد الحليم هذه تزامن نفس المرحلة التى صارت فيها كل مشابك الغسيل، غسيلهم طبعا، فوق سطوح بيتنا،بأوراق صغيرة بيضاء بها خط جميل يصعب الحكم عليه:ألبنت أم لولد!!

فهو كبير ورفيع وحاد لا تبدو عليه رقة بقدر ماهو واضح ولا يحتاج إلى مراجعة. تفهمه من اللحظة الأولى. ربما لهذا لم أحبه كثيرا وقتها؛ فهو لايعطيك أية شبهة من شك. هو واضح. براءة الوضوح وجمال الوضوح وجفافه وطعمه الماسخ.

خطها كان شركا!

وعشقت الحديد، ورائحة كفىّ اللتين تحتفظان بعبقه المعدنى المجنزر الصدئ.وجهزت عصا بها أثقال وأكسيجين وكريمات، وكانت الجمعة هى يوم التدريب السطوحى.

أدهن جسمى كله بماء الأكسيجين ليلمع وليصفرّ شعرصدرى ويداى: تشقير.

أما كل هذه الكريمات فهى لإبراز عضلات جسمى، وهى............... هى كانت تجلس كل جمعة أمامى ـ سطوحنا يواجه سطوحهم ـ والشارع بحره صغير. تجلس بين الفراخ بكافة الأعمار،والأرانب والحمام والماعز، مستعمرة أحياء.

لقد كانت الجمعة  هى يوم التغذية الأساسى ـ فى اعتقادى ـ فى حياة هذه الكائنات.

أبتسم لها، تنظر إلىّ فى خفر لايخفيه بُعد البيتين، وننسى الثانوية العامة والجيران والصعايدة والفلاحين.

من قبلُ، كنت ألمحها وحدها فوق هذا السطوح، تنتحى جانبا وتبكى. أراها ولاترانى ولاأرى أحدا يصعد خلفها أبدا.

هذا فى الماضى،الآن صرت أراها أقل حزنا، لقد تمنيت حقا، كم تمنيت من الله أن تبقى سعيدة هكذا دوما.

مرحلة الحديد هذه استمرت لثلاث سنوات كاملة متواصلة  هى مرحلة الثانوى. كم كنت صبورا مع الحديد ومعها!!

ولأن الصبر يصل بك إلى المراد، فقد بدأت أجنى بعض ما غرست.

صارت تدبر ـ كأية امرأة محبة ـ أمورنا؛ لتتقابل أرواحنا دون علم الرقباء. وصرنا أكثر خبرة وقربا بعد أن اكتشفنا القمر، والله، أنا لم أكن رومانسيا  وقتها، هى التى فعلت هذا بى. جازاها الله.

القمر، الليل , السماء والنجوم فوق سطوح بيتهم، كنت أعشق هذا البيت، وحتى الآن.

تعلمت حب بيتهم من كثرة ما كلمتنى عن حبها لبيتنا.

بعد نوم عائلتها، تفتح لى بابه ونصعد. تذكر يداى وأصابعى وشفتاىّ وشعر صدرى الكثير الكثير.

ماأجمل الليل!!

وعلى غير العادة من أن دوام الحال محال، فلم يكتشف أحد لقاءاتنا هذه، من أهلها على الأقل، برغم أننى لم أتنكر مطلقا فى زى امرأة مثلا لأصعد إليها. فقد كانت للشارع عادات ثابتة فيما يتعلق بالنوم والصحو، تجعلنا نطمئن. ونادرا ماكانت تتغير إلا فى حالات خاصة نعرفها جيدا تتصل بموت أو فرح أو عيد أو هجرة من أو إلى الشارع، شارع سحابة.

وأما الشباب الذى عرف حكايتنا فلم يخنها، الدنيا وقتها كانت .. كانت بخير.

حينما وضعت يدى أول مرة فوق صدرها، كادت تختنق بعد أن حبست أنفاسها تماما. أذكر هذا كأنه حدث الآن. خفت حقا عليها. فعادةً  البنت ترفض أو تدوخ قليلا أو كثيرا، تصمت، تسقط بين يديك حتى، لكن أن تتوقف عن التنفس فهذا لم أره أو أسمع به من قبل. كان جديدا علىّ ومخيفا فى آن.

وكان هذا آخر لقاء بيننا فليتنى اكتفيت بالقمر وقبلات الخد.

صارت تخافنى، خاصة وأنها كانت ترانى فى كل أفراح الحتة. هل خمنت أن هذه اليد خبيرة بما يكفى لتخاف كل هذا الخوف؟

 لماذا خافت هكذا؟

يد خبيرة. نعم. اعترف. لكن لماذا تخاف البنات اليد الخبيرة؟؟

مع أن هناك نقص بل ندرة فى تلك اليد!!

يخفن فيتحولن إلى رجل زيها زيك. وهنا تتحول الخبرة إلى نقمة. فما هو إلا وقت قصير تقضيه الواحدة منهن فى سكرة اللذة حتى ترمى الزجاجة فى وجهك، أو على الأرض.

وتراها ناهضة رامية بالكلمة الرقية، الكلمة اللعنة: حرام.

وهو حرام فعلا!! لكن أى حرام؟

وحينما لمست صدر (وصال) فى تلك الليلة القمرية فوق سطوح بيتهم، شعرت بهذه اليد الخبيرة العارفة وقد تواضعت كثيرا، بل فقدت الثقة فى خبرتها وشطارتها. مع أننى فى الصباح التالى، رصدت بذاكرتى البصرية الحادة  أبعاد هذا الصدر الصغيرـ نوعا ما ـ فوجدته من حيث الجغرافيا لايختلف كثيرا عن صدور كثيرة نواهد كنت قد داعبتها وعرفتها برغبة أو عن غير رغبة.

لكن لمَ يبق طعم هذا الصدر فى أصابعى وكفىّ؟ كأنه طعم الراحة ربما.

ولماذا هذا الخوف والرهبة اللتان تلفاننى؟ أهو صوت أبيها الذى أخشى مباغتته لنا، أم أن جسم حبيبتك يكون شيئا آخر؟

أنظر إلى يدىّ بغيظ الآن، غيظ من لايعرف كيف يدين متهما يعلم جيدا مدى مسئوليته وتورطه.

نظرت إلى يدىّ، فكّرت فى أن اليد التى تذنب هى ذاتها التى يجب أن تكفّر. ثم صعدت إلى سطوح دارنا. الدور الثانى، البيت من دورين أيضا كدار وصال.

وكبقية بيوت شارع سحابة.

حولى كائنات من كل صنف. داجنة وغير. حبست كل هذا فى الأعشاش. واتجهت نحو هدفى.

كان يوما بألف شمس.لم أهتم بكل هذا،أخذت الكتل الحديدية وضاعفتها وضاعفت عدد ساعات التمرين، دونما إفطار. وطبعا أصبت بهبوط حاد، وأتت الإسعاف ورفعونى كدكر البط المسلوق: عرقى مرقى.

آخر ما وقعت عليه عينى صوتها: انت مجنون والله.

نعم العين تسمع أحيانا.

وهاهو الهبوط الحاد يعيدها. هو الثمن والمهر. إذن لن تغلّق الأبواب والنوافذ، فى وجهى، كما فعلت لأكثر من شهرين متواليين دون رحمة.

قلت:

ياوصال لقد استعدتك. نجحت العملية الانتحارية إذن.

لم يحدث هذا بالطبع، فقد كنت فاقد الوعى تماما.

واحتجزت ليومين لمراقبة حالة قلبى دون أن  يفهموا أنه اتفاق بينى وبينه.

لو صنعت الشئ بإخلاص وانتظرته بإيمان هو لا محالة قادم.

مرضى والهبوط أيقظا الحب فى صدر وصال: نعم.

وعاد الود والوصل من جديد.

زارتنى أمها وإخوتها الثلاثة.أما بنات الصعايدة فلا يزرن أحدا ولايخرجن إلا للتعليم أو بيت الزوج.

ولم يعد لى سطوح عم رشدى: أبوها. فهى عنيدة عند صعيدى لاعلاج له. كنت أريد بناء صورة رجولتى لديها. وهى لم تفهم حجم أزمتى وقتها. هى ليست رجلا لتفهم.

وحينما طلبت منها أن تصعد هىّ  إلى سطوحنا، كدت أفقدها من جديد، فعدّلت الخطة، وحاولت تجميل وإصلاح صورة رجولتى فى نهود أخرى تستجيب فيتوارى الأمل فى الشفاء.

كنت ألمسها كما ألمس صدرى أنا. أتحسسها وأقبض عليها فأجدها دافئة طرية مستكينة ولكن....... ترتد يدى إلىّ كما سافرت خاوية تماما. أتحسس عضلات صدرى أنا  وأضحك من هذا الفارق البسيط بين تكور طرى وآخر متماسك.

أهذا هو كل الفارق بيننا؟

***

وفى الجامعة، دخلت إلى مستويات أخرى أكثر عمقا. استطعت الاندماج والفصل بين علاقتى بجسدى  وتلك الأجساد النحيلة الناعمة أو المكتنزة. لكن القمر ظلّ عدوى الوحيد. فالقمر لم يجمعنى بامرأة أو فتاة بعد وصال. وابتعدت السماء المرشوشة بالنجوم عنى. كرهتنى بنات الشارع ربما لأن البنات كن يشعرن بكل شئ، وربما لأنهن وجدننى زى القرع. وابتعد عنى شباب الشارع؛ لأننى مغرور وطالع فيها!! أو ابتعدت أنا.

 طبعا هذا كلام تقريبى وربما مبالغ فيه، فأنا ذكى بما يكفى لأعرف كيف أدير علاقتى بالناس. كيف أدافع؟ متى أومئ؟ لم أصمت؟ ومئات الطرق الأخرى. إدارة العلاقة بالناس موهبة لم  تكن لتنقصنى أبدا.

وفى الشارع، كانت لى امرأة متزوجة وكام بنت يعجبهن جسدى دون شك. كانت أيضا لى شلة للشرب وللسمر وللفساد، كله على حسابى. لم لا!!

كنتُ أعمل فى تلك الفنادق التى تعطى دون حساب، وتأخذ أيضا بالمثل. تلك الفنادق التى تصلح بجدارة كأستاذ للغة العربية. تعلمت فيها أن بكارة من بكور أى: أن تستيقظ مبكرا ليس إلا. وأن فندقة على نفس الوزن الموسيقي: زندقة.

ونسيتُ وصال وسطوح عم رشدى والقمر، لم أنس لكننى انشغلت. ذلك النوع من الانشغال الذى يفوق النسيان. كنت مشغولا بمعرفة إمكانات جسمى. نعم هو كذلك، لكن ليس هذا فقط ؛ لأننى كنت أعانى من تلك الكائنات الطائرة التى كانت تدخل أحلامى وهى قابضة على أجنحة بيضاء ترفرف طالبة العدل والحرية.

كانت أحلاما مزعجة ومتكررة. فالأجنحة مدماة ونازفة ـ فى أحايين كثيرة ـ بفعل أسنان المشابك الحادة. أما صوت الرفرفة المخنوقة فقد أفسد علىّ كثيرا لحظات بطولة واستعراض جسدانى؛ حتى أننى شعرت بانسحابى وكأنه انسحاب جيوش من العصافير أمام احتمال هبوب عاصفة ما.وقاومت، حاولت أن أقاوم تلك الخيبات الصغيرة. لماذا؟

لأن أجساد النساء تستحق التعب!!

كانت سمعتى قد ساءت، وتزوجت وصال أثناء الدراسة الجامعية وتركتنى.

واكتشفت أنا إمكانيات أكبر لعملى كمضيف ثم كمدير عام لخدمة الغرف فى الفنادق ذات النجوم الكثيرة والنساء الكثيرة. عربيات وخواجات خليجى وتانجو وتشاتشا و... بلدى كمان. من لايشجع الوطنى!!. والحمد لله أننى قد جهزت هذه العضلات. فعلا القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود.

وكلما ازدادت الأجنحة فى مناماتى، كلما ابتعد القمر وكلما رأيت أبى، أغطس فى الفنادق أكثر وأكثر. علاجه  كان بيحتاج  فلوس كتيرة.

والنساء؟

والنساء لاتنتهى أجسادهن. طابور حتى يوم القيامة يهلك عمرك وعمر اللى خلّفوك.

 ثم، وبعد، ولأن ........

ولأن النفوس تنقلب ـ غالبا ـ بعد كل إفراط إلى الضد، ليس الزهد قصدى ولكنه الفتور السأم والملل والضجر، وصولا إلى عدم الرغبة فى أى شئ. سدّة النفس إجمالا. ومن إفراط إلى تفريط. هكذا انقلب بى المقام من مقبل على كل شئ إلى  فارٍ من كل شئ. شخص صامت شارد كئيب. لقد تحولت إلى بطل مأسوي.

 تخيلوا علىّ ابن عم سحابة شخص مكتئب!!

هنا اكتشفت أبى من جديد. وبانت لى أمى التى كانت ترانى وردة البيت المفتحة؛ ربما لأننى الوحيد الذى جعلها تنطق كلمة (جامعة) فى البيت. كانت تدللنى فأتحسس شفتىّ ظانا أننى لونتهما مثلا. تدللنى فأتحسس شعر ذقنى الذى ـ استطال كأى مكتئب ـ وتدللنى فأتلفت حولى خوفا من أن يسمعها أحد المارة.  فهى دائما ما تجلس أمام الدار كعادة الناس فى شارع سحابة.

حاولت التركيز والتفكير بإيجابية مرة أخرى.

ربما ظروف أبى وضعتنى مكانه، كتعويض مثلا. لكن الأخ الأكبر هو الأحق بهذا الدور. كذلك لاتدلل المرأة الرجل هكذا أبدا، وإلا كان هذا خطأ فى استقبال إمكاناته. ما أفعله الآن هو خبط رأسى فى الحائط لأفيق. هى أمك أيها الأحمق!! على أية حال، استطعت تجاوز الأزمة. كنت أتجنبها.

أزمة؟؟ نعم ليست مبالغة. ففى لحظات كانت تثب حتى تواجهنى  تقرص  خدىّ فيحمرا. وتفتح أزرار القميص حتى ينكشف شعر صدرى. أرفع يدها التى وضعتها على  الجرح: جرح قلبى.أغلق أزرار القميص، أتمتم: سامحك الله ياأمى أنت ووصال.

وصال القابعة الآن فى قلب دار عم رشدى. فى أولى زياراتها بعد الزواج.

هى: رايح فين؟

 أنا: فى داهية غالبا.

هى: روح شوف أبوك أحسن من الدواهى. وخد له لقمة سخنة معاك.

هى من بعيد: هاتروح؟

 أنا من بعيد: مش عارف والله.

(2)

قلت إن الولاد فى الشارع كانوا ينادوننى:

ـ ياابن المجنون.

وقلت إن هذا قد سبب لى ألما كبيرا، وعداءات وكراهيات كثيرة ومبكرة جدا، بالنسبة لفتى فى نهاية مراهقته. ولم أقل إن هذا اللقب ـ ابن المجنون ـ قد جعلنى أعود إلى البيت لأتأكد من كونه مقيدا ومحبوسا حبسا يخفيه عن عيون الشارع. حبسا يحمينى من كل هذه الأنوف التى تتابعه بينما هو يهذى. أنوف تسمع وتتشمم وتتذوق وتلوك سيرتنا. تغير على حقه فى الهذيان. أنوف سوداء لامعة اللعاب بوجوه بشرية.

ولاأدرى لماذا كانت النوبات ترتبط  بفصل الصيف، ذلك الفصل الذى صرت أكرهه، وسأبقى. أما أعلى وأخطر معدلات المداهمة فقد اقترن دائما بالليالى المقمرة الكاملة الضوء، المكتملة القمر. يقمر القمر فتتحول حياتنا إلى جحيم.

ثلاث ليال.

فى ليلة ـ منها ـ لم ننتبه إلى ماكان يخفيه عنا.قطّع الحبال وجرح يديه أيضا. حرر جسده من حبسته،  واتجه إلى الشرفة. عرفت منكِ ـ وكنتِ أقرب جارة إلينا كنت أكثرهن عشقا للسهر ـ عرفت أنه بقى الليل كله، وساعات الفجر الأولى، يتحدث ويصرخ، يخلق ويقتل، يتعب فيبكى. قلت إنه كان يسب الزعيم ويتهمه بالكفر والعمالة لروسيا، بينما السكين مرفوعة هكذا عاليا. وقلت إنه توقف عن البكاء عندما رآك. وضحكنا لأن الزعيم صديق للأمريكان وليس للروس. عموما لكل زعيمه. راح يحدثك عن الموتى بالداخل.

ـ كلهم ماتوا ياوصل.

ـ كلهم!! إزاى ياعم سحابة؟

ـ المركب غرقت خلاص. أنا بس اللى طلعت.بقوة الله هو مش عايزنى أموت دلوقتى.

ـ طيب ممكن تدخل تنام. لسّه كتير على الفجر. ولما يدّن هاصحيك.

يصمت قليلا ثم يلبى بعد أن يلقى السكين فى بحر الشارع. وعند دخوله نصحو نحن على كل تلك الأصوات الحادة لكائنات تتحطم. كان يعشق تكسير الأكواب الزجاجية، وأطباق الصينى.

كان يحب هذا خاصة فى الليل. صوت تكسير الزجاج والصينى. لاأذكر أنه كان يكسر شيئا نهارا.

ـ هل كان يريد الانتقام من الصمت من الليل؟ أى ثأر كان يحمله قلبه؟

ولماذا كان يناديك وصل دوما؟

ومنعتهم تلك الليلة من تقييده. احتضنته كالطفل وبقى نائما بجوارى ثم  وسدته سريره. كان وجهه للحائط ويده المجروحة المربوطة، مرمية خلفه فى وجهى.

خرجت إليك ابتسامتك، جعلت المهمة صعبة. لكنك فهمتى أننى مضطر إلى وصد شبابيك البيت فى وجه كل تلك العيون الحمراء الخارجة لتوها من النوم لتتسلى بنا. وكل تلك الأنوف السوداء المبتلة التى تتشمم الرائحة. كنت أسمع الأصوات:

 (ربنا يحوش عنه ويشفيه).

(المستشفى أحسن للى زيه)

(ارحمونا بقى من المورستان ده)

 صرت معتادا على رد تلك الدعوات الصالحة والنصائح الميتة من تلك الأجساد والوجوه التى لايتحرك فيها شئ سوى ألسنتها، التى يكاد يكون حظها من المحبة لسانها.

قلبك وحده كان يكفينى فى تلك الليالى. برغم أن صوتك لم يكن مسموعا، ووجهك كان بعيدا عنى لكنه لم يغب أبدا.

أراك خلف ذلك الشباك الصغير الموارب.  أكاد أسمع صوت أنفاسك الدافئة، أشم رائحة نومك تلفنى.وصدرك أراه بيدىّ حتى الآن.صغير، طفل وأم فى آن. أحتضن أبى بقوة  أكثر. أحبه وأتعذب من أجله.

هكذا تبدأ الرحلة.

***

(3)

هذا هو ماحدث ليلتها. كنت أجلس وهو وأخى الأكبر. أمى وأخى الصغير كانا نائمين.الأكبر شبه غاف على الكنبة. كانت الاحتفالات بمرور(........) ـ لا أدرى كم سنة على ثورة الجيش ـ وأتى الزعيم بملامح منكسرة واقترب من الشاشة وكانت عيناه على الورقة على غير عادة الزعماء. الصوت مهزوز ذابل، والعينان يحتميان بالمكتوب، تهربان ممن يتعلق به من المشاهدين والسامعين.. فى ذلك الوقت لم أتابع الحدث أبدا بل كنت مشغولا بكيفية إقناع وصال بالخروج معى.التليفزيون بالنسبة لى كان عنصرا مساعدا على التّخفى. أمام التليفزيون كل فرد  حاضر بجسمه، مهاجر بروحه.طبعا لم أكن لألتفت له.كان كرسيه يحدث صوتا كعادة أى خشب عتيق وبالٍ. تلك الذاكرة اللعينة!! انا لاأذكر كيف حدث ماحدث.لا تأتى التفاصيل، تفر غيظا وعندا فىّ! ربما تكوّر أكثر فى الكرسي، ربما اربدّ وجهه قليلا وتعرق. ربما كتم أنفاسه أكثر.. منع الأكسيجين، فصار وجهه قاتما يميل إلى الزرقة أدخلنى مباشرة إلى اللحظة.دم اللحظة.باغتنى.

أهو وجه الزعيم؟

أهى تلك الورقة المهزوزة؟

رأيته وهو يتقدم نحو التليفزيون، الزعيم يمسح عرقه الآن، وهى نفس لحظة الهجوم. يدان كبيرتان تحملان الجهاز وبداخله الزعيم وتلقى به أرضا.وكدوى قنبلة: إضاءة قوية جدا ثم إظلام تام. نجم تألق وهوى. ابيضّ فاسودّ.نوّر فأظلم. الماكينة المسكينة تتفتت إلى شظايا، وهو يضحك ويسب ويلعن. البيجاما الخضراء واليدان الكبيرتان والزعيم المحروق والجهاز المدمر والخوف اللانهائى.ما كل هذه الفوضى؟ كائنات دقيقة تمنعك السير، صراخ أمى ... دخان خانق ... صراخ أمى ... دقات على الباب ... صراخ أمى ... ثم ضحك جنونى منه ... فوضى ... فوضى ... فوضى ... عيون تنظر بجانب إلى العالم. عيونه مفتوحة بأقصى اتساع ممكن ... صراخ.

يجلس فوق خرابات ويضحك. لايتوقف الدق على الباب.. لايستطيع أحد منا أن يقترب ليفتح..  عن أبى سمعت صوتا يسأل من الخارج.. وعنا أيضا... هل خاف الناس من صوت الانفجار أم من الدخان الأسود الخارج من شبابيك البيت...صرخت بأعلى صوتى لمن يدق على باب البيت

ـ مفيش حاجة بس شوية فوضى.ماتخافوش .. دى شوية فوضى .. فوضى .. فوضى ..

فوضى لايحتملها القلب. أكثر مما يحتمل القلب. من هذا الرجل؟

أهذا أبى!! كل هذه الطاقة المدمرة.

راح يدوس أشلاء وشظايا التليفزيون ليتصدر اللون الأحمر المشهد.

دمه..هذا الذى أراه هو دمه يصرخ: (إنت راجل كذاب  كذاب.. كذاب...) (كلكم كذابين وولاد كلب .. أنا هااحاكمكم كلكم .. يا...) ويربطه أخى، ويبقى مقيدا هكذا لثلاثة أيام وهى أطول فترة حتى الآن.

من قبل كنا نقيّده لساعة أو عدة ساعات، أو فترة الليل. هذه المرة قيد لأكثر من خمسين ساعة.أما هو فقد كان يهذى، لا يأكل وتقريبا لم ينم كل تلك الساعات. وهى أطول فترة يقظة بالنسبة له: ثلاث أيام بلياليها. بعد هذه الفترة أخفى أبى كل الحبال الموجودة فى البيت، قطّع حبال الغسيل أخفى كل مفاتيح الغرف ولم نعثر عليها أبدا.ضحكت ليلا حينما تذكرته وهو يصرخ فى وجوهنا: يابهايم باحميكم ومش عاجبكم!! 

وضحكت أكثر عندما تذكرت الطفل الصغير الذى كان يدق الباب ـ ابن الجيران ـ ونظرت إلى كفيه حينما سألته فوضعهما خلفه:

ـ عايز إيه ياحبيبى؟

ـ عمو أنا عايز أتفرج.

ـ والله ياابنى عندك حق، ماهى فرجة!

(4)

لا أدرى كيف حدث ذلك!! فوجئنا به وقد اختفى.ساعات.. تمتد لأيام.. تمتد لأسابيع.

اختفى سحابة.

لا وجود له فى قوائم حوادث المستشفيات أو أقسام الشرطة ولا لدى الأقارب أو المعارف أو الأصدقاء ولاحتى فى البلد: المنصورة، حيث بيت أبيه وأرضه التى....

لاأعرف من كل هذا سوى النتيجة.عودة سحابة. كان القمر محاقا.والشتاء فى عزه.

بعد أن تعبنا من البحث عاد سحابة. فجر ليلة شتوية قارصة البرد. بملابسه الداخلية ينتفض.

وبدأ يضيع منا. يعزف على ناى لم يره أحد من قبل، عزف خبير.يعزف ولا يجيب أحدا.حتى الفجر. لم ينطق كلمة واحدة حتى نام.

وفى الصباح كانت أمى تضحك لأنه قال لها إنه تزوج واحدة برقبتها. كنت أنا أيضا أضحك من تلك الفراشات التى كانت فى علبة بلاستيكية فى جيبه. من أين أتى بها؟ كيف اصطادها؟ وكيف حافظ عليها سليمة هكذا برغم جفاف الموت.

أسئلة أخرى توضع إلى جوار الناى والأسابيع التى اختفاها واللحية التى استطالت للمرة الأولى كأنها ابنة شهور، لا ابنة أسابيع. سحابة أو الشيخ سحابة كما أصبح فى الشارع ـ من وقتها ـ بعد تلك اللحية التى رفض أن يحلقها.

صائد الفراشات وعازف الناى. من أية غابة أو من أية جنة أتيت بكل هذا؟

أسئلة ... حبلى بأخرى.

 سحابة اللغز. سحابة الحيرة. سحابة أول معلّم لى.وأول درس. سحابة هو أول من علمنى أن الإجابات تموت ويبقى السؤال.

(5)

ويعود عم سحابة.الشيخ سحابة كما يحلو لشارعنا أن يسميه.يعود إلى الناى.

بالليل أو فى ساعات الصباح الأولى نسمع:

هوه صحيح الهوى غلاب

معرفش أنا

و.......

ياحلاوة الدنيا ياحلاوة

و....

الناس المغرمين مايعملوش كده

***

سحابة أكثر نحولا من نايه. يتمايل معه، يحايله ويراضيه إلى أن يتبين له الخط الأبيض من الخط الأسود من الفجر. وينام  حاضنا نايه وتمر الأيام هادئة لفترة. فلماذا لم يكتشف هذا الناى من زمان؟ ينام سحابة برغم اكتمال القمر!!

***

من الشرفة تطلعت إلى شارع سحابة. كم أكره هذا الشارع. طوله الثعباني، عرضه السقيم، ورشة الميكانيكا التى تشطره شطرين.كل الدكاكين الحقيرة التى تلتصق بمقدمة البيوت كصراصير البالوعات الطويلة خاوية الأحشاء.كل هؤلاء الأجلاف الذين نزحوا إلى العاصمة، حاملين طينهم معهم.

طين، بهائم، أجلاف. كم يعجبنى هذا الاختصار.

أغمضت عينى لأتخلص من شارع سحابة. كانت تجلس بالداخل: حكمت. أو أحكام  كما كان يحلو له أن يناديها دائما.أنجبت له ثلاثة  أبطن. تقدس العمل المنزلي.هى صاحبة فكرة شراء قطعة الأرض فى حلوان، وبناء هذا البيت هنا بعد أن كنا من سكان العباسية. على الأقل كنا أقرب!!

ولأنها معتادة على حلب الجاموسة مع الفجر والذهاب إلى غيط أبيها ؛ فقد سحبت معها هذه العادات إلى القاهرة. وبدلا من الجاموسة صارت تسحب الغسالة المصرية ذات الموتور الألمانى، إنتاج مصنع 36 الحربى. تغلى الماء وتدير الجاموسة أقصد الغسالة وتبدأ فى الحلب. حينما يصحو سحابة فى السادسة للذهاب إلى وردية السابعة فى(شركة حلوان للغزل والنسيج) تكون هى قد انتهت من غسيلها ونشرته، وأعدت الفطور وحددت وجبة الغذاء، وطبعا مسحت البيت.هى أم مثالية تهتم بكل شئ إلا رأسى.الصداع صار صاحب بيت. أجّر رأسى مدى الحياة: حياتى فى هذا البيت أو هذا المارستان.

تعبت من تكرار رجائى.بل لقد أنسانى إهمالها طلبى أصلا.وتعلمت النوم إلى جوار كل هذا الصخب والصداع.كل هذا النشاط التافه الفانى.كل هذه الحركة الحيوانية.

***

وفتحت عينى.

كانت تنشر ملابس داخلية من كل نوع. حريمى ورجالى.تكفى لعشرين ليلة.يحلو لى أحيانا الوقوف ومراقبة مؤخرتها. تنحنى، تخطف قطعة الغسيل مبتلة هامدة مستسلمة لليد الآمرة.تنفضها فيتناثر حباب الماء غير المرغوب فيه، تعود فتطرحه فوق الحبل تحت لهيب يوليو.

ألمح عينيها تدعونى بنظرة جانبية، وبنفس اللحظة تزجرنى.

إغواء وإدانة!! في آن والله في آن.

طبعا الوقوف كثيرا أمام امرأة مكتنزة بكل فصوص اللحم والشحم يبعث على الزهد والقرف معا. أدخل تاركا المشهد كله، منسحبا قبل أن تكشفنى وصال وتبقى وقعة سودة. مايغيظنى حقا الآن هو نسيان اسم هذه الجارة الأثيرة إلى أمى مع أنها كانت تأتى من أجلى أنا، والله أعلم.

تركت الشارع مع الأسف ؛ لأن زوجها المغفل قد اشترى لها  (بيت ملك) فهى مش أقل من حد.

أظن أن اسمها كان عفاف. والله اسم على مسمى. أين أنت ياست عفاف، والنبى مشتاقين.

حبكة الجلابية الستان الحمرا، والنظرة الحبلى بكل مالذ وطاب، البياض والحمار الرباني. عيبك الوحيد هو وجودك ملاصقة لبيت وصال

(6)

فى ذلك اليوم نزلت إلى الشارع حافيا بالبيجاما. كانت أكوام البشر تقف أمام دارنا بملابس البيت أيضا.اقتربت من العربة البيضاء الواقفة أمامه، ككلب عملاق رأسه وألف جزمة أن اللص بداخل هذا البيت.

لم أفهم جيدا الصورة للوهلة الأولى. بعد كلام سريع مع الضابط أخبرتهم أن أمى بخير وأن البلاغ كيدى.لم يقتنعوا.أتت أمى بنفسها.أكدت أنها بخير، وحلفت بأيمانات المصطفى.

بعد السجائر ودور الشاى، تحركت عربة الإسعاف ذات السارينة البغيضة، خلفها سيارة النجدة تاركتين أسئلة ومصمصة ودعوات وطبعا نصائح.

(كده حرام).

(ابعتوه المستشفى أحسن).

ثم انسحبت الأضواء والأصوات التى أغرقت شارع سحابة.

وبعد بحث عن أبى الشيخ سحابة، اكتشفت أنه يختبئ فى الدولاب بين الستائر النظيفة، والملاءات  والفوط الزائدة عن الحاجة.

وفى النصف الأخير من الليل، قال أبى:

ـ كمية سم تقتل فيل، ولاحوّقت فيها. مره بت كلب.

ضحكت وسألت القاتل:

ـ وليه بلغت الإسعاف، كانوا ممكن يلحقوها؟

ـ انا بلغت الإسعاف عشان تشيل الجثة وتدفنها، وتريحنا من شرها وكمان عشان الريحة.

طبعا تلك المرأة التى يتحدث عنها ليست أمى: حكمت. قلت هذا لنفسى لأحميها من عقد الذنب.

ونظرت بقلبى إليها. وجدت امرأة بملامح قاسية لاتخلو من جمال. أرملة يحيا زوجها. عصبية جدا من شيل الهم. تجرى بطولها على ثلاثة عيال.

زاد وزنها بإفراط. لم تفرح فالمرض داهم أبى قبل الثلاثين و كنت فى الابتدائية وقتها.

امرأة لاتعرف عمرها قط. تعرف أنها زُفّت لأبى قبل أن تأتيها العادة الشهرية.ألمح أصابعها الآن وهى تفرغ الكوسة، فى الصالة لتحشيها. تُخرج القلب الغض الأخضر الطرى؛ لتضع مكانه الأرز بالخلطة: خلطة المحشى.أضحك عندما تسألنى:

ـ انت فى سنه كام دلوقتى ياواد يا علىّ؟

إلا أنها لم تسألنى ولا مرة عن اسم كليتى.وأعتقد أنها لم تكن تعرف حتى !!

من جديد أسمعه:

ـ زى القطة بسبع أرواح… لا لا قطة ده إيه.. قول زى الحية..

كان جسدى الآن أقرب إلى أبى منها،وكان هو يتخذه مسندا وهو يشرب الشاى، ويدخن.

سألنى:

ـ انت عارف مكان الناى ياواد ياعلى. إجرى هاته.

ـدلوقتى. فى النهار.

ـالحاجات دى ملهاش وقت، ياابنى روح هاته.

أبعدت جسده المرتخى عنى، وذهبت. مددت له يدى بالناى، لكنه كان منشغلا بالكتابة.

(تعبت روحى)

(السياسة برتقال خادع)

(شرموطة كبيرة)

(اللاخداع يضيع)

(الخداع لا خداع)

(كل البرتقال سياسة)

(الكاميرات فى كل مكان فى بيتى)

(الكاميرات تراقبنى)

(فى الفجر هاييجى البوكس وياخدنى)

(ده شارع وسخ.شارع مجانين )

و..و.. و!!

(اخواتى بيناموا مع مراتى)…

(وأنا موافق)

ثم مئات الأرقام. أرقام سيارات ووصف دقيق لكل سيارة.أى مرور تتبع. عدد المرات التى راقبته فيها، وكيف هرب.وشكل وعيون _ تحديدا عيون السوّاق.

ومن جديد عاد يحدق فى الفراغ.

نظراته الجانبية التى تحمل طعم ألف جريمة ودم ألف قتيل.

عيون ثابتة كأن النور سحب منها. عيون زجاجية. ألهذا كان يكسر كل الأكواب ليلا..هل كان يرانا من زجاج أيضا..

ولايتكلم. يتركنى أقرأ  أوراقه.

أفتش فى كل ورقة، أبحث عنه.أين أنت ياأبى؟أريد أن أقابلك الآن. أقيم الخطط، أهيئ نفسى أضبط مؤشرها على نفس الموجة، نفس نوع الذبذبة لكننى لاأستقبلك. روحك تراوغنى وتهرب.تخطؤك إشاراتى لأجد نفسى دائما فى الطريق الخطأ.وهكذا نفترق. هكذا ننفصل أو ننفصم: أنت وجنونك، وأنا وعقلى.

"الفصام مرض ذو ألف وجه".

قال الأطباء. فأى وجه من هذه الوجوه هو أنت. سحابة الحقيقى: أبى؟؟

أقترب منه؛ حتى أصير ملاصقا له، وأبعد ما أكون عنه.

يرمى سيجارته مشتعلة فوق السجادة. يحتضن نايه، ويبدآن بكاءهما المتواصل.

وتنقطع الجذور.لاتربطنا سوى تلك المرأة الجالسة فى الصالة. وننفرد فى غرفتين.كل فى ركنه.

(7)

تعددت الحكايات.

تعددت الحكايات التى تؤرخ لزمن وسبب مرض أبى.

أمى تقول إن ذلك حدث بعد أن سرق إخوته نصيبه فى أرض أبيه.زوّروا توقيعه ورفض هو الطعن بالتزوير، لكنه غاب عن عمله لأكثر من أسبوعين. لم يخرج  من غرفته سوى لقضاء الحاجة، ودون أن يكلم أحدا. يطلب ممن يحمل له صينية الأكل أن يذوق كل الأصناف وينتظر سقوطه بفعل السم.

لايأكل إلا بعد حامل الأكل / الموت. يأكل ثم يتكور من جديد. ككرة من القماش انبعجت إثر دوس الأقدام والأحذية لها. كرة صامتة فقدت صفة التكور ومن ثم تعذرت حركتها الحرة، وكثرت الأقدام التى تحثها على  الركض أو الدحرجة.

انبعاجها يعوقها  ويحولها إلى أسوأ أنواع الكرات.كرة لاتدخل المرمى، لاتعرف طعم الفوز.

ويقول أخى الأكبر إنه عاد من حرب 67 منهارا.ظل صامتا لأيام امتدت إلى شهر. انقطع عن العمل. ثم انقلب الحال. صار يكلم نفسه فى كل مكان:الحمام، غرفة نومه، يكلمها حتى فى الشارع، بين الناس. كأن النكسة فتحت  عليه باب الشهوة: شهوة الكلام.

يكلم أشخاصا لاوجود لهم، يصرخ فيهم، يتقوقع ينحنى، ينبعج كل جسده كأصيص من الفخار زادت عليه النار، ولم تحركه يد خبيرة، أو ترفعه.صارت له هيئة مضحكة، أقرب إلى خيال مآته  مشوّه، فى حال الانحناء أو السجود.

ولاتعرف من يحميه بالضبط فى وضعه هذا؟

ربما هذا الوضع لايحتاج إلى حماية!!

يصرخ فى أحلامه وفى يقظته.يهش كائنات حديدية، يدفعها عن جسده. يسألك فتجيبه وهو أسوأ خطأ يمكن أن يرتكبه إنسان: أن يجيب على أسئلته.

يبقى يسأل السؤال ذاته طيلة اليوم، كأنما لايسمع إجابة. كأنما يعاقب كل الإجابات.

يحدثك لدقائق حديث الواعى ثم يتوه.يضيع منك وسط أسئلة عن الله والموت والثأر والشعب والجنرالات وأولاد الكلب.

ويمد يده. يمدها كأنما يتلقى جثة. جثة ضخمة أبدية سيبقى عمره كله فى انتظارها أو حملها.

قال أخى:

ـ لم يخرج من غرفته إلا بعد خطاب التنحى. هام فى الشوارع ثم عاد فجرا مع ناس أولاد حلال.

قالوا إنه كان يجلس بجوار سيدنا الحسين،يكلمه ويشتم ويلعن.ثم نام بجوار المقام. وكانوا يسكنون  شارعا مجاورا.

قالوا لى: انتبهوا له شوية ياابنى ده مع الله. زى الأطفال.كان خالع كل لبسه والبوليس كان عايز يخده.احنا اترجيناهم.

كان يبكى وقت أن عاد. ثم وقف فى وسط الصالة  وبدأ يحكى.أما أنا فقد رأيت ساحة قتال أمامى؛ حتى أننى صرت أخفى رأسى بيدي حينما أمر بجواره ؛ اتقاء لشر دانة قد تسقط، أو صاروخ ينطلق، أو دبابة أو لغم فى أرض الشقة، أما الجثث  فقد كانت فى كل مكان.والرمال لم تكن لتشرب كل هذه الدماء. وكان الثأر قادما أيضا.

أما الحكاية الثالثة، فقد كانت ... لاأدرى لمن. أحد الأقارب .. أحد الجيران ..

كانت تروى قصة انضمام أبى لتنظيم الإخوان المسلمين، ثم اعتقاله وتعذيبه مددا طويلة.

ونفس النتيجة: صمت.. انعزال ثم عنف..هياج وعدوانية تلتها جلسات كهربائية على المخ، تطورت إلى احتجاز فى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، ثم إحالة إلى المعاش المبكر، حسب الفقرة كذا من المادة كذا من القانون كذا للعاملين بالقطاع كذا لدولة كذا. أخيرا حصوله على مكافأة نهاية الخدمة.

هذا هو أبى. جمعته من بين ثلاث حكايات، تتفرق فى التفاصيل وتتفق فى النهايات.

أب موزع بين شفاه الناس وخيالاتهم وبين صنوف من العذاب التى لاتستوعبها كل الخيالات.

ومثلما تؤخذ الجنسية بمدة الإقامة،كذلك المرض.

وهكذا صارت خيالاته، ضلالاته، حيواته الظلية، هواجسه، تعشش فى روحى، تسكن عقلى، وتتغذى علىّ.

(9)

أزحت كتب السنة الأخيرة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جانبا. وقررت أن أدخل معه أرض الملعب.

هو/ هدف باطل أحسبه ازاى. وبعدين هيعمل إيه حتى لو حسبته والنتيجة 5/0 !!

( صوت صفارة حاد ورفيع )

أنا/ خمسة صفر سنة 67

هو/........

يصمت قليلا، تتوه عيناه فى السقف الأبيض، يبقى دون حراك.

حكمت/ إرحمونى شوية حرام عليكو.. خد أبوك ياعلى وادخلوا الأوضة. كفايانا جرس وفضايح.

زمان كانت تقول: خده ودخّله واقفل عليه.

هو/ جواز عتريس من فؤاده باطل.

أنا/ باطل

هى/ خارج الكادر الآن.

وأدخله الغرفة. أقيده إلى السرير النحاسي ذى القوائم المثبتة فى الأرض بمعرفة الحدّاد.لايقاومنى. أترك الحبل طيعا بعض الشئ. يصعد إلى السرير. يقف رافعا يده:                                                                                                          إننى أعلنها من فوق هذا المنبر.. دمك مباح وكل الخونة وأحكام المجنونة بنت المجانين. كلكم تجار. وديستويفسكي الكافر.. ووزير البر والبحر والجو  وطبعا أركان حرب السَريّة.

أنا / مين ديستويفسكى ده يابابا؟

هو / واحد من الخبرا الروس..كان عندى فى المصنع…

أنا / عمل إيه يعنى؟

هو / وبعد التنحى هاأقدمك محاكمة عسكرية. واخواتى ولاد الكلاب العملا. وسأشرف على كل شئ بنفسى. وهاابلغ سيادة الريس.

وتدخل حكمت.

ـ ربنا يسترها على عقلك ياوليدى. عاجبك كده هاتجنن الواد.

هو / ياشارع حلاليف.فوقوا معايا شوية خلينا  نلحق البلد.

وبعد أن يصدر قرارات الطرد والنفى والحرق وتحديد الإقامة، يسقط على وجهه، يهمد جسمه، وينزوى فى ركن مظلم من حياة أخرى.

أتركه، أعد القهوة وأفكر فى ديستويفسكى هذا ربما كان مسئولا عما نحن فيه. أقترب منه. من وجهه، هو نائم ذلك النوم الكيميائى. ينام كطفل صغير تاه وتعبت قدماه من اللف والدوران؛بحثا عن تلك السيدة التى اختفت بذيل جلابيتها تاركة يدا خاوية..طفلا تائها.

كان أبى فى تمام تكوره ووحدته الآن. تلك الكرة المنبعجة  كم تذكرنى به!!

أحدق فى وجه الوحدة.

أنا وحدى أفكر

هو وحده نائم.

هى وحدها تبكى.

هكذا يمكن للوحدة أن تجمع الناس.

ومن بعيد  أصوات الشارع تحمل الصباح الجديد.

عم اسماعيل بياع الجرايد. بدرية بياعة البليلة السخنة. عم حسنين بياع المدمس الطازه.

أما صباح بياعة البرسيم فقد سبقت الجميع ؛ ربما لأن حيوانات وطيور شارع سحابة تسبق ناسه فى اليقظة.

ثم أصوات البيوت.صباح مزعج ومفاجئ.عرفت أننى لن أنام. شعرت بحنين غامض وجارف لحضن امرأة. امرأة ليست أمى ولا وصال.

امرأة من عالم آخر.امرأة فاسقة ؛ فهى ـ وهى فقط ـ التى تستطيع امتصاص سموم روحى وقلبى.

نزلت إلى الشارع.سرت حتى نهايته. عكس اتجاه  كل البيوت التى تعرفنى. بعيدا عن كل سحابة وعوالمه.

سرت بعيدا. أبعد مايكون.. أبعد ماأستطيع.

بينما أوجه سحابة تلف الأفق من حولى.

أوجه تنغرس فيها عيون قاتلة وتائهة وفاسقة وطيبة ومزيفة.. زجاجية وضريرة … أوجه كلها عمى.

(10)

من أوراق على بن سحابة

** الناس مجانين بالضرورة، أما كونهم غير مجانين فصورة أخرى من الجنون.

    باسكال

** ليست حكمة العصور وحدها هى مايسرى فينا، بل إن جنون هذه العصور ليسرى فينا بالمثل.

    نيتشة

** أين يتوقف الجنون، وأين يبدأ الجنون؟؟

    ابن سحابة

** العمى هو الصفة المميزة للجنون.

    ابن سحابة

** وإن كان هذا جنونا .. إلا أن بداخله منهجا.

    هاملت

** إنى أنا الذى أفكر لا يمكن أن أكون مجنونا!!

     ديكارت

** سواء أكنت مجنونا أم لا، فأنا أفكر.

     فوكو

** حتى لو كان كل ما أفكر فيه ملوثا بالزيف أو الجنون، فإنى أفكر. إنى موجود حين أفكر.

    واحد مجنون

** اللغة نوع من الجنون العذب؛ فعند الحديث بها يرقص الإنسان فوق جميع الأشياء.

    نيتشة

**دى كلها بلد مجانين.

    عم سحابة ابن المهدى

***

وعدت من جديد.

أقرب مايكون منه، وأبعد مايكون عن نفسى.

نفسى....

نفسى!!!!!!!

نفسى؟؟؟؟؟؟

***

(11)

فى تلك الليلة حدثنى سحابة كثيرا عن مصنعه.عن أثواب النسيج والألوان ورائحة القماش.

ـ هى شركة ولا مصنع يابابا؟

ـ مصنع ياابنى لكن هم اللى بهايم!!

وضحك وهو يسألنى عن الشيك: مكافأة نهاية الخدمة.

أمال رأسه قليلا، أسندها إلى كتف القانون الحكيم.

ـ خرجونى طبى.مش كده؟ عشان مجنون.

 فيهم الخير والله.وعاد يقول:

ـ وحشنى المصنع والطريق الزراعى والمكنة.وحشتنى البوابة وانت داخل. كارت التوقيع، صوت الماتور الداير. حتى رئيس الوردية الرذل.

لكن القانون عنده حق.انا مجنون.القانون ميعرفش المجانين. (القانون لايحمى المجانين ) أضفت أنا فى زمان آخر.

هو / القانون هو اللى بيظبط كل حاجة فى الفرقة.أمال إيه؟

انت  فاكر سموه قانون من شوية.

هو / هات الناى ياابنى من تحت المخدة. إيدى مش طايلة.

وأنا وهو معا:

(.. طلعت يامحلا نورها شمس الشموسة

يلاّ بنا نملا ونحلب لبن الجاموسة)

لبن الجاموسة .......

(12)

هكذا منع أبى من العمل.وهكذا صار لأمى حسابا لأول مرة ـ فى بنك مصر/ فرع حلوان.

ومن أواخر السبعينيات تقريبا صار  (الختم) مربوطا دائما فى حبل السوتيان. تنقله من واحد لآخر. ختم صغير نحاسي,ناعم كجلد حية وعليه كتابة تشبه الرقش إلا أنها تعنى اسمها.

حكمت أدهم المعداوى.

كتابة ملفوفة كأنها تخفى جريمة، ورقم صغير يذكرك برقم نزيل فى سجن أو عنبر فى مستشفى. خاتم بشبه خاتم الإصبع لكن قدره أن يشرب الحبر ليحيا.

كان سحابة قد صارحنى بأنه ينوى السفر سرا إلى البلد.لم أهتم قلت:ضلالة من ضلالاته.وهى كلمة علمتنيها طبيبته.

عاد بعد يوم وليلة، دون قلق من أحد. فقد صار محترف اختفاء.اعتدنا نحن غيابه.غياباته صارت سره الجديد.

وأطلعنى على السر.

سألته ببلاهة: كيف قبلوا؟ هذا عقد باطل.

قال: إنت مجنون ياعلى؟ وطى صوتك، بعدين الحية تسمع.

سألته: انت بعت إيه قبله.. قل لى؟

 هو: لأ مش هااقولك. انت ناوى تقول لها.

  أنا: وحياتك مش هااحكى لها حاجة. عيب!!

 هو: أنا أصلى أيام العز كنت اشتريت فدان طين من ورا امك.ده غير الأرض اللى خدوها اعمامك.

أنا: وبعدين؟

هو: وبعدين خلاص. بعته.

: هو كان مزروع.

: طبعا.

: وبعته ليه؟

: عشان ده.

وقرأت:

محافظة القاهرة

الإدارة العامة للجبانات

الشئون المالية والإدارية

ـــــــــــــ

ملف رقم 89/9/ 77/82891

القسيمة رقم87622

بتاريخ 24/5/1986

إسم ولقب المرخص له: سحابة المهدي يسرى عبد الله

صناعته ومحل إقامته:عامل فنى.شركة حلوان للغزل والنسيج.حدائق حلوان.52 شارع سحابة

العمل المرخص به وجهته: إنشاء حوش وبداخله مقبرة ذات عينين، القطعة رقم 444 على مساحة 40 متر مربع، مع عمل مظلة بالمنطقة رقم ...،

الحدود والأبعاد:

** الحد البحرى وطوله ......

** الحد القبلى وطوله ........

** الحد شرقى وطوله ........

** الحد الغربى وطوله .......

شروط الترخيص:

1) الواجهة بالطوب الرملى... والباب من الحديد المشغول ....

2) هذا ترخيص انتفاع وليس تمليك ..

   (عندهم حق هم الميتين يملكوا)

3) عدم الإخلال بأحكام قانون جبانات المسلمين..

4) على المرخص له تسوير الأرض التى هى من الأموال العامة للدولة....

5) الحصول على رخصة إشغال الطريق..

6) المبادرة بإخطار مصلحة الآثار إذا اكتشفت آثار أثناء عمليات الحفر ...

7) ممنوع ....

8) ممنوع ....

9) ممنوع التسوير حول المقابر الفردية ...

10) يشترط اتباع الشروط الصحية المرفقة عند بناء دورات مياه .....

تحريرا فى:

المهندس        وكيل الإدارة          مدير الشئون المالية والإدارية

مدير الإدارة الهندسية للجبانة

الرسوم الكلية:

300 جنيه مصرى

دفعة أولى

ــــــــــــــــــ

أنا / تبيع فدان مزروع عشان قبر؟

هو/ أنا عايزك تطلع راجل وتخبيه معاك.

: مين فيهم العقد ولا القبر؟؟

: السر.

والآن صار فى جيبى عقد صغير مطوى.عقد مقبرة سحابة. ضحكت من كل شئ. لقد عاش مجنونا قاهريا ويريد أن......

سحقا له وللقاهرة، وللعقل والجنون.

وخلف ثورتى الصامتة، فرد سجادة الصلاة، وأقام صلاة المغرب.

كانت سورة الرحمن تلفنا الآن. تجوب الغرفة وتحملنا معها.

(13)

نزلت على إثر مكالمة هاتفية فى تمام الثالثة من صباح يوم ما.

كتبت التعهد وألبسته ملابسه وخرجنا. صوت (الصول النوباتشى) نصائحه وأوامره، شخطه ونتره.كدت أقتله لكننى اكتفيت بسحب أبى من يده والاختفاء به بعيدا.اقتربت من أبى وضعته فى التاكسى الذى انتظرنى أمام قسم شرطة السيدة زينب.

فى الداخل أسندت رأسى إلى كتفه وبكيت.

مسح على رأسى وأحسست بنفسه وهو يلثم شعرى بهدوء.قال:

ـ متزعلش منى. والله محدش ضربنى.دول ناس ولاد حلال.

ورأيتنى خارج التاكسى  السائر بسرعة ال120 كيلو على كورنيش حلوان، أنزع ملابسى. هذا القميص فى وجه كل هذه المبانى الأسمنتية. ضد كل الألوان الرمادية و غبار الأسمنت ضد  ال 139 مصنعا التى بناها عبد الناصر فى حلوان (مشفى حلوان).

كل ملابسى ضد كل اللصوص والجبناء، ضد كل مايمنع سيرك الحر وتفكيرك الحر. وهذا الحذاء فى وجه الفقر والخيانة والجنون.فى وجه القبح والتشوه والتلوث.تلوث الماء والهواء والضمير.ضد أول وثانى وثالث وعاشر أكسيد الكربون. ضد كل الأكاسيد. كل هذا العرى ضد الحقائق القبيحة العارية. عرى بعرى!!

دخل التاكسى شارع سحابة المجنون. أنزلته ودخلنا.وفى غرفتى فشلت فى تحديد بداية هذا الكابوس: الجنون.

ظل السؤال يحلق حولى كقتيل ينتظر الثأر؛ ليبرد دمه.

ومن جديد أحاطتنى وجوه سحابة المتعددة تطالبنى بالثأر. ونادانى. كان وجهه يتصبب عرقا، وكان يبكى فى صمت.سألنى أن أربطه إلى السرير، وأن أتأكد من غلق أنبوبة الغاز.تكوّر فى سريره الذى سمعت اهتزازاته مع رعشات سحابة.أعاد طلبه مرة تلو الأخرى بصوت أجش لاعلاقة له بصوت أبى.

اربطنى ... اربطنى ... اربطنى ... اربطنى

صوت ثعبان يحتضر. فحيح مكتوم لايريد أن يؤذى أى إنسي. 

عواء من عالم سحيق، وكلمات قادمة من بئر موصولة بباب جهنم. سفلية، موحشة وضارية ونارية أيضا.    

(اربطنى انا قتلتهم كلهم).

النوبة هذه المرة بعيدة عن الهياج والعدوانية والصمت. هى نوبة بكاء وارتعاشات.

ماالذى أفكر فيه الآن؟ كيف أربطه واتركه مرعوبا هكذا؟

لم لاأحتضنه؟

مابك ياأبى؟ انظر إلىّ.تعالى معى نعد الشاى.

(اربطنى ممكن أخنقك. ممكن ارمى الريس من الشباك)

(اقفل الأنبوبة. الغاز فى كل مكان. شامم)!!

رفعت صوت عبد الباسط بالرحمن التى يحبها. أعددت الشاى. وهلّ الفجر.من إذاعة الشرق الأوسط صوت الشيخ رفعت الرائق دوما كنهر وليد.

كنت وهو فى شارع عرضه خمسة أمتار بالكاد، وطوله … لم يهمنى طوله أبدا. دائما كنت أراقب العرض لا الطول. فالعرض وحده هو الذى أعطانى انطباعا بالسجن دوما. أما الطول ـ طول شارع سحابة ـ فكأنه دودة ميتة تصلبت فى وضع كاريكاتورى محزن ومثير للشفقة فى آن.

اشترينا البليلة والفول والبرسيم واللبن، وضحكنا من شارع سحابة ومن كل الجبانات.

هو: أنا مجنون وانت كمان. انت عارف؟

أنا: إنت اللى هاتجهز لنا الفطار.

هو: غريبة أمك ازاى نايمة لدلوقتى.تكنش ماتت؟

ـ يابابا حرام عليك

ـ إنت ابن كلب زيها

ـ وبعدين!!

ـ انت عارف والله الست دى بميت راجل. لكن........

ـ وأنا اللى هااطلع بالأكل للفراخ والحمام.أنا أفطرهم وانت تفطرنا

ـ إنت عايزنا نرجع؟

ـ أيوة. أنا عندى محاضرات، تبدأ تسعة بالظبط.

ـ لكن أنا زعلان منك!

ـ خير؟

ـ أنا شفت فى أوضتك إزايز خمرة.ياابنى حرام عليك صحتك.عشان خاطرى ارميها.إحنا ناس مسلمين ومش لازم نغضب ربنا...

انفصلت عنه.وفى طريقى إلى الجامعة، كان بيت وصال أمام عينى، وكنت قد صممت على أن أنتهى هذه السنة من كلية  الاقتصاد والعلوم السياسية.فسبع سنوات لاتليق بغباء هذه الكلية!!

وحينما فكرت فى مستقبلى بعد الدراسة، رأيت كيف تحمينى هذه الكلية وجدرانها من ذلك الوحش:المستقبل.

وحينما دخلت من باب الجامعة ضحكت من كم الأمن المركزي المتشح بالسواد،الحامل من المعدات العدائية مالذ وطاب.

فوضى من جديد. فوضى فى البيت وأخرى فى الجامعة.

ـ فيه إيه؟

ـ انت مالك؟

وبين جريح وثائر ومنكسر وذاهل كنت أنا الضاحك الوحيد.

نعم عندكم حق، من حق المصريين طرد السفيرين وإغلاق السفارتين وتحرير الأرض و..و..و...و

***

تذكرت وصال وهى أمام أحد المعارض التى يقيمها الطلاب الثوريين ـ كما يسمون أنفسهم ـ فى "يوم الأرض" تناقش أحد المنتمين للجماعات الإسلامية فى فكرة الجبهة.

ـ خلاص انا هاانسحب من العلاقة دى.انت سلبي

ـ أنا مش سلبي، أنا مش ناوى أشتغل سياسة..

ـ ياابنى انت بتدرسها و...

ـ ياماما  ده أدعى إنى أبعدها عن حياتى.. كفاية اللى حصل لأبويا.

السياسة هتفضل  كابوسى الدائم.حاولى تفهمينى مرة.

أنا مش هااكون حر أبدا.

أنظر إلى قبة الجامعة وعلوها، أنظر إلى شهادتى وأبتسم.أمشى بظهرى؛ فهو الوضع الوحيد الذى يتيح لى تنفيذ رغبتى فى رؤية القبة وفى الوقت نفسه عدم إضاعة الوقت بالتحجر فى المكان وفى الذكرى  اليوم يسمونه يوم التخرج. وأنا أول الدفعة!!

***

(14)

ــــــ

الجمهورية العربية المتحدة                                    الإسم: جمال عبدالناصر حسين

الإقليم المصري                                       تاريخ ومحل الميلاد 16 يناير 1918

وزارة الداخلية                               الإسكندرية

مصلحة تحقيق الشخصية                             الديانة: مسلم

رقم واحد                                               الحالة الاجتماعية: متزوج

قسم مصر الجديدة                                     الوظيفة أو المهنة: رئيس الجمهورية العربية المتحدة

محافظة القاهرة                              العنوان: 1 شارع منشية الطيران

يسري مفعول هذه البطاقة لغاية                     منشية البكري ـ القاهرة

أول مارس 1961                                    محل العمل: القصر الجمهوري ـ بالقاهرة

تحريرا في أول مارس 1958                      توقيع صاحب البطاقة: جمال عبدالناصر

ـــــــــــ                             

لماذا يحمل أبى هذه الصورة دائما معه؟

كأنها بطاقته هو!!

ولماذا تبدو الطيبة والود فى بسمة ذلك الرجل إلى هذا الحد؟

(الوداع ياجمال ياحبيب الملايين .. الوداع)

ولماذا سحبتنى أمى من يدى يوم موته لنسير مع الكل لتوديعه؟

لماذا كانت تلطم خديها هكذا؟

ولم رفض أبى أن يأتى معنا؟

ولماذا تركتنى وصال؟

ولماذا نبحث دوما عن إجابة؟

يضيع السؤال وتنمحى الإجابة تنتهى حياتها هى أيضا ؛ ليأتى آخرون ليبحثوا عن أسئلة وإجابات يضيعون بها حياتهم.

للحماقة أيضا تاريخ.

للحماقة حظ وافر.

فطوبى للحمقى.

(15)

أزحت المتفرجين من الأهل والأقارب والأصدقاء والمعارف والجيران والفضوليين من العابرين.

اقتربت من بركة الدم. لم أجد الجثة. كانت ملقاة بعيدا بجوار الرصيف مغطاة بأوراق الجرائد كعادة المصريين فى ستر الجثث.

حاولت نزع الجرائد الملتصقة بالجثة لأتعرف عليها.

أوراق الجرائد امتزجت بالدم والتصقت باللحم، لايمكن نزعها.

يجب أن أفركها من الدم المتجلط القانى أولا

هذا فوق احتمال أعصابى، لكن للضرورة أحكام. كانت جثة أبى.

كانت مشطورة شطرين، كأنه منشار فنان هو الفاعل. وقرأت فى الجريدة: الحادث قضاء وقدرا

العابر كان مخالفا لقواعد المرور صرخت

حتى الأن أصرخ: أبى أبى..........أبى

واستيقظت وما استيقظت.

(16)

صعدت ووصال إليه. الطابق السادس من المبنى الرابع بحى هادئ  من أحياء القاهرة. الغرفة ستائرها زرقاء ولون الحوائط أيضا ولون الوجوه لو لم تخنى الذاكرة.

ماذا فُعل بها؟ لماذا كانت زرقاء هكذا..

كان هذا هو سؤالى الأول، لحظة رؤيتها.

فى الخارج  ضجة لامبرر لها. صوت العصافير الساعية إلى بيوتاتها، تلك الأكنان الواهنة فى أشجار تخفى المجانين قدر المستطاع رحمة بالعقلاء أهل الخارج. فى نفس اللحظة التى كنت أتفقد المكان صوتا وصورة، كانا يتحاوران على خلفية الزقزقة:

ـ ازيك ياعم سحابة.

ـ.........................

يضغط باليدين مصدر السمع،يضغط أكثر على أذنيه. كأن كل إصبع قد حفر له موقعا أو خندقا.

ـ فاكرنى؟

يسأل مباغتا:

اتطلقتى ولا لسه؟

تضحك ناظرة إلىّ:

ـ خلاص ياعم سحابة.

ـ طب يله خديه وامشوا. انا مش ناقص قرف.

يضغط أكثر أذنيه.

سيجارة يرميها شخص دخل فجأة دون حركة أو كلمة بعد أن خطفها من يده  وداسها بحذائه.  ينهضه ويسحبه وهو يغمغم:

ـ كل مرة نقول نفس الكلام، عندك جلسة ياسحابة.التدخين ممنوع قبل الجلسات.

حينما مر شبحه بجوارنا كان من الواضح أنه قد فقد الكثير من وزنه، كان يعوم فى البيجاما.

وعادوا به بعد نصف ساعة تقريبا. انطرح الجسد فوق السرير (لايهش ولا ينش ) انطرح أبى كفرخة انتهت لتوها من ارتعاشات حلاوة الروح؛ فهمدت. يدان باردتان، العرق فوق الجبين والباب يدخل هواء يوليو المكتوم.

ـ وصال ارجعى انتى، أنا مش ممكن أسيبه الليلة دى.

اضطجعت بجواره. مسحت عرقه، ولم أطق لمس يديه الباردتين.

نعم، النفس تمرض أيضا ولكن  لم، لماذا؟مم؟

كم أخاف هذا المرض الوَحْش!!

كلما جلست مع طبيب من أطبائه ورأيت تخبطه وارتباكه، ازددت رعبا. يقولون إن المرض يتجدد فى أجيال أخرى، وفى أعمار متباينة. حتى الجنون يحلو له أن يجدد شبابه، لاشئ فى هذا الكون يريد أن ينتهى..

بعد رحيل وصال رحت أرتب لمهاجمة المرض. ياحبيبتى لو حصل لى زيه حطينى  فى مصحة خاصة.ماتسبينيش  لهم هنا.وخلى الحكاية سرا.لاتجعليننى أرى النور حتى أرحل.

كانت تحمل القهوتين وتتجه نحوى.

ـ مالك ياعلي؟

ـ مفيش.

ـ طب كلمنى.

ـ أنا فعلا كنت بااكلمك!!

ـ أهلا أهلا

يهل الضحك مع نور المغربية الخافت.

ـ دى فى الجينات. خلى بالك!!

ـ هى إيه ياحبيبى؟

ـ العباسية.

اقتربت منى.قبلتنى. قربت القهوة وقالت كلاما طمأننى.

وفى سريره كان ينتفض.

-أنامش قادر أحميه ياوصال

-لكن ياحبيبى  هو شايف انت......

ـ أبويا فى دنيا تانية. جسمه معايا وروحه سرقوها منه. هيفضل يتعذب لغاية آخر يوم فى حياته.مش هيعرف للنوم طعم. كل نومه صحيان كوابيس وبكا وصريخ.

وأخذته فى حضنى لكنه لم يستجب لأى محاولة للتهدئة. زادت الرعشة والحمى ودخل فى حمى اختيارية أعقبتها نوبة بكاء هستيرية؛ كأنما لم يبك من قبل. نام حتى الصباح أسوأ أنواع النوم؛ نوم كامل اليقظة:يحدث أباه وكل الشارع، حتى بائعة البليلة.

كنا على طرفى نقيض. هو فى أول السرير، متقوقع ينتفض، وأنا فى نهايته. وكان عم سحابه فى نوم كيميائى ولكن فى سرير آخر فى مستشفاه أو فى معتقله.

فكرت فى طول المدة التى قضاها علىّ معه وبت أخاف عليه.نصف شهر مدة طويلة جدا، وإن تخللتها فترات خروج مؤقت على مسئولية الابن.

لاأدرى كيف يمكن للحب أن يشفى؟

لاأدرى إن كان قادرا أصلا أو لا. فحتى المعجزات لها حدود.

كل ماأعرفه أننى معه فى نفس القارب بلا مجداف سوى صوت الرغبة فى النجاة.

(17)

تحرك باب غرفته ثم انفتح وهلّ سحابه باسما متعطرا شاحب الوجه بسبب ضوء الشمعات المرتعش. أمى: رايح فين ان شاء الله كده؟

أبى: مجلس قيادة الثورة ياهانم.

هى: ناوى على جُرسة جديدة يعنى!!

أنا: مش لما النور ييجى أحسن يابابا؟

هو: هم اللى قطعوا النور يا حمار. افهم مرة فى حياتك

هى: اقعد على حيلك الله يهديك.

فى زيه العسكرى الكامل:

ـ انا مش أقل من أى واحد فيهم.أنا دلوقتى مشير.فاهمين يابقر؟

ضحكت وهو يعطينى عنوان مجلس قيادة الثورة فى المنيل. لم أكن أعرفه من قبل.

وبصوت عسكرى حازم:

ـ انا هاابقى هناك لو حصلت أى حاجة.

ـ تمام ياافندم.بس عبد الناصر مش هناك دلوقتى.زمانه نايم فى بيته.

ـ عبد الناصر ما بينمش يابهيم،لازم أسجل حالة.

ودفعنى وطار.

وما هى إلا لحظات إلا والكهرباء تغرق الشارع.كنت أمام البيت بينما الولاد خلفه:

(عم سحابه لابس ظابط.. عم سحابه لابس ظابط)

فى منتصف الشارع وقف يضحك:

ـ شفت ياعلي، لازم العين الحمرا. انا عارفهم كويس قوى.

فى الدور الثانى. فى غرفته، كان بين  الله وعبد الناصر. يكلم هذا ويأمر ذاك  (كان يردد نفس الأغنية مع أولاد الشارع ويرقص معهم)

أما من هذا الذى يتكلم الآن فلا علم عندى.كما لاعلم لى.

ـ أنا  ربنا بعتنى ليك فى الوقت المناسب.احمد ربنا إنى موجود.

ياجمال إنت فى موقف صعب.أنا جيت أفهمك..

كلهم بيخدعوك ورفدونى عشان مااقولش لك الحقيقة!!

أنا جيت لك عريان عشان تشوف الحقيقة بنفسك..

فاهم............

وما زلت لاأفهم كيف يجرؤ أى طبيب على تصنيف خلل النفس وحبسها فى صناديق مفهرسة ومغلقة للتشابه.

إن كل تشابه ـ عندى ـ  يحوى حتما شبهة الغش.

ووالله يا سحابة إن أطباءك لمدّعون. إنهم لمدّعون.

كان يقف فى منتصف غرفته فوق الكرسي كامل العرى.

ولما رأيته عرفت أنه ما من أحد يمكنه الاقتراب. للعري قدسية وهيبة.

أغلقت باب الغرفة، وجلست أمام بابها ككلب وفي أمين.

(18)

رحت أتابعه كاتما ضحكى. يجرى سحابه وراءه متوعدا.

ـ والله هااكلك بريشك ياابن الكلب.

يفر الديك المسكين ـ حاملا عمره فى كفه ـ إلى سطوح الجيران. ومن بيت لآخر حتى يضيع.

أما أبى فقد كان يعنى مايقول ؛ بعد أن أزعجه آذان الديك قبله.

صراخ أمى من الداخل يضحكنى أكثر.

ـ طفّشت الديك يافالح، منّك لله.

ـ والله لو رجع لآكله بريشه. أنا حلفت له، وهو سمعنى كويس.

(حوارهما لايضحكنى. المضحك حقا هو نظرة الفزع فى عين الديك).

ـ ربنا يتوب علىّ وأطفش أنا كمان، أهج على راسى من جنانك ياابن تفيده!

ولم ييأس سحابة من أنه سيعثر عليه يوما ما، ويخرسه إلى الأبد. لن يُسمح إلا بمؤذن واحد فى هذا البيت.

ويعزف أبى على نايه عزف محب.شجن ولوعة وانتظار وحنين.

وتمر الأيام على أنغام الناى. وقبل الفجر بقليل، يأتى الديك العتقي الشركسي، يأتى برجليه.

أذاكر العلاقات الدولية ومدى تأثيرها على ال.........

يرمى أبى بالناى فوق السرير، وينصب الكمين.يبدو أن الديك الغلبان قد واتته نوبة حنين إلى البيت الذى تربى فيه (آخر نوبة حنين فيما يبدو، وككل نوبة حنين لها ثمن لابد. وكان عليه أن يدفع).

ـ جيت لقضاك ياحلو

ويهجم أبى عليه:

ـ قلت لك لو شفتك هنا تانى، هيكون آخر يوم فى عمرك.

يخنقه ويعلقه على باب البيت.

ـ كل الديوك خافت إلا انت واجع راسى ومش همك حد!!

كده تبقى عبرة.

فى الصباح، صعدت أمى فوق كرسى صغير، وراحت تخلص ديكها العزيز المتربى على الغالى من مشنقته. حررت الرقبة وألقته فى صفيحة الزبالة معتقدة أن الفاعلة هى جارتنا الست أم إحسان لأنها رفضت أن تخطب ابنتها لى. التهمة لم تقترب من أبى ؛ لأنه بات فى الزاوية تلك الليلة. ثم إننى كنت الشاهد الوحيد على الجريمة، والشاهد الوحيد وجد أن أم إحسان تستحق العقاب. الشاهد الوحيد متواطئ.......حتى الآن..متواطئ.

(19)

فرح صعيدى

لا أعرف ماالذى تقوله تلك المرأة للعريس ؛فهى تقترب منه ـ تكاد تلصق فمها بأذنه ـ لانسمع نحن شيئا،فقط نرى تململ الرجل فى مقعده، بعض العرق المفاجئ، بينما هى تضحك بالستين سنه التى تحملها ولا تظهر على جسمها الفتيّ المشدود.

تضحك بمجون وخلاعة وفُجور، كل ماشئتم من ألفاظ التهتك، تضحك بصوت عال ؛ ليرى من هو لاهٍ، الرجل المرتبك الذى خلقته.

لاتترك عرسا ( خطبة أو زفاف ) إلا ورقصت وغنت فيه.

تبدأ الأعنيات بالأغنية الشهيرة:

أول ما دخل دخل عالسرير

لبسها الحرير واتكل على الله...

وتنتهى ب:

يامقطّع ياقميص النوم..

وملوّن على كل لون.........

تغنى وترقص فى نفس الوقت، تدب بوزنها وجسدها المكتنز خاصة الأرداف على عادة المصريات؛فتأتى الشوارب الصعيدية القوية، تحيط بها رافعة العصي(الشوم) فى مزيج من الرقص البدوى والتحطيب الصعيدى.تؤدى الرقصات بينما العيون تتابع بشغف نقاط التماس بين لحمها وتلك الأجساد الناشفة كأعجاز نخل خاوية.

الحق أن نقاط التماس كانت من الكثرة لدرجة يصعب معها الإحصاء والعد. نقاط هى من صنعها فى أغلب الأحايين.

أحيانا تنفعل مع إيقاع المزمار البلدي؛ حتى أن أحدهم ينسحب تاركا الحلبة لذوى القلوب الشجاعة، متحججا بأن والد العروس يطلبه.أما جمع الشباب فكان يتابع بالاهتمام نفسه الذى يتابعون به مباراة من المباريات. كيف يُحرز الهدف؟ متى؟ فى شبكة من؟

فى حظات التوهج القصوى يصفقون:

ـ ياعم ارحم. مش كده يااخوانا...حرام عليكو..

بعض النساء يطلقون عليها لقب الفاجر.بديلا لاسمها.

ـ الفاجر هترقص برضه.الصعيد ماعدش صعيد يااولاد.

ترد أخرى:

ـ صعيد إيه يااختى. ودى مالها ومال الصعيد.دى راضعة فُجر البندر كله.

أما خواطر أو الفاجر، فهى المرأة الوحيدة التى نعرف اسمها، الباقيات ينعتن بأسماء أولادهن: أم فلان وأم علان.

خواطر هى اللاكتراث بعينه.تخمن النميمة وتضبطها متلبسة فتشد إحداهن من يدها:

ـ تعالى ياحبيبتى، جاعدة ورا ليه كيف عواجيز الفرح.جومى افرحى الفرْح حلو.ولأن (أم توحة) اتتها الفرصة طازجة على طبق من فضة، فهى ترد:

ـ ماحَدَاناش نساوين يترجصوا ياخيتى. سيبنا لك انت الفرح.

وترمى الطرحة من حول وسطها وتعود إلى مقعدها؛ لاستكمال الفرح الأكبر.

أما أنا فكم من مرة وكم من فرح رقصت معها تحت سمع وبصر وصال، وغيرتها أيضا.

والله أنا كنت زمان فاجر فعلا..

***

كانت خواطر دائمة  الجلوس أمام البيت فوق مصطبة صغيرة، تفرش فوقها حصيرة وتتربع.فى البداية كانت تجهز الأكل، لاتدخل إلا لتضعه فوق النار.ثم صارت لاتغادر الشارع بعد أن زوجت ابنها الكبير لتأتى بواحدة للبيت وتتفرغ هى تماما للشارع. فتحت غرفة صغيرة فى الدور الأول على الشارع.وضعت بعض الحلوى واللوازم المنزلية وبعض الخضار ؛ ليصير الشارع لها بيتا.

ولما لم تظهر لأربعين يوما متواصلة، زرتها.قالت إنها خِلصت من المرارة.

ـ ياولدى الزمن خطف الولدين البكارى وما فاضلش حاجة تانى تفرح..كان زمان عاد..

بعض الناس لايليق بهم الحزن. خواطر واحدة منهم.

بعض الناس يعطيك قوة فقط بمجرد النظر إليه، خواطر واحدة منهم.

بعض الناس إذا احتضنك حررك بحضنه الرحب الدافئ، خواطر واحدة منهم، وإن هدّها موت الضنى.

(20)

كسرتُ زجاجة المصل ( الجلوكوز) ودورق المياة. اقتربت من مكتبها وقدمت لها الطلب.

ـ إيه ده؟

ـ طلب خروج.

كانت مبتلة ودافئة. بعد الحب.

وكان سحابة يشاهد  كل شئ من بعيد،أسمعه من خلف الباب يطلب منى أن ألقيها من النافذة.

لففتها فى ملاءة السرير، فتحت البلكون وألقيتها منه. من الدور السادس. من أعلى كانت جميلة جدا فى بركة الدم التى أحاطت بها.

وتسلقتُ المواسير عاريا؛ حتى وصلت إلى الأرض.الأشجار الكثيفة كانت تستر كل شئ. ظللت أجرى بعيدا عن الجثة.صرت بعيدا عن المصحة، وعنها.

كانت جثة  يارا ـ طبيبة أبى ـ خلفى.

وكان مكانا موارب الباب، دخلت دونما تفكير. أحاطتنى الراهبات من كل جهة. سقطت تحت أرجلهن، وحينما فتحت عينيّ  كن قد ألبسننى ثوبا.

وفى زى راهبة خرجت من الدير، لا أسمع سوى صرخة يارا قبل أن ألقيها، وإصبع سحابة وهى تشير إلي.

وفى الصباح قرأت فى الصحف:

(مجنون يغتصب طبيبته ويلقى بها من الدور السادس) ويهرب.

يصدر حكم الإعدام  وأرى أبى فوق المقصلة. أجرى فى زى راهبة، يحاصرنى الثالوث: قاتل / ضحية / شاهد.

أو: قاتلان وضحية.

ثم أفتح باب القصر وأمر بخدم وحشم وحرملك وأروقة وبسط سحرية ودرك وبصاصين. تتعرقل حركتى كثيرا، إلا أننى أتمكن فى النهاية من الهرب. لكن كيف تهرب من العرق والرائحة وحرارة الأنفاس والأكف التى تستنجد..تبقى الرائحة جحيم القاتل.

لم أكن أدرى أقتلت أم كنت أحلم. أوهم أم حقيقة؟ يقين يلد أوهاما أو وهم يستحيل يقينا؟؟؟

يوميات

13 نوفمبر:

يوم ما من أيام دوران الأرض حول نفسها، ناسية القمر والشمس وكل الكواكب الأخرى، فقط نفسها.

در حول نفسك تصنع يوما تماما كأمنا الأرض.

نظرت إلى نفسى فى المرآة وقلت لها:

ـ صباح الهروب.

ستصحو أمى لتسألنى عن وجهتى،وسأخبرها كذبا أننى سأتسلم عملا فى سيناء. سأترك سحابة غارقا فى نومه الكيميائي إياه.

ستفتح وصال عينيها لتجد رسالة صغيرة فيها عنوانى الجديد.

13 نوفمبر

سأنسى شارع سحابة كله، بغسالاته اليدوية المزعجة،

والتى لاينتهى أبدا غسيلها القذر.

وأمى الهشّة التى تدّعى البطولة والصمود مقابل منحة السلطة. وأنسى الأخوين الغبيين اللذين تزوجا تحت سيف المخاطرة بطفل يحمل نفس التاريخ: تاريخ سحابة.

بطولة أخرى مزيفة.

عداءات تاريخية قررت نسفها. فالعداءات تسأم أيضا. تبغى تجديد دمها.

13 نوفمبر

يوم اختارته لى الأرض: يوم الرحمة.

يوم دارت فيه الأرض أسرع من المعتاد،ثم أبطأت فجأة ؛ حتى أحسست حركتها. كم هو مفزع أن تقف فى قلب الدوران.

لو أنك فى المركز اعلم أنك مستهدف.اهرب إذن ياعلى..

سيتم كل شئ كما دبرت له. لن أغير رأيي هذه المرة.

فقط  وصال. فصعب جدا عليّ مغادرة مصر بدونها.

قبّلتُ جبينه، ألقيت نظرة على الجميع. وداع نظرى فقط.

قلبى كان بعيدا.لا مشاعر لديّ لأحد.حتى القبلة التى ألصقتها بجبين سحابة كانت من قبيل الواجب، ليس إلا.

أكل تلك الكوابيس كانت بسبب هذا القرار؟

ربما!!

***

(21)

أنا ـ أيوة قرار نهائي.

هى ـ على فين ياابن عم سحابة؟ قول تانى؟

ـ رايح أمثّل مصر.

ـ هى مصر ناقصة ممثلين!!

ـ يعنى هى جت عندى وتقف!! ثم إنى دارس علوم سياسية وقانون دولى.يعنى لازم أمثل.

ـ وتمثلها فين إن شاء الله؟

ـ فى الحياة ريجنسي.

ـ الفندق!! الله الله. ياعينى على الديبلوماسية.

ـ لعلمك ياهانم الديبلوماسية منهج مش....وليها فى كل حاجة..

وبعدين هاارجعلك بالدكتوراه.

ـ هو ده موقفك من البلد اللى........

ـ اسمعى ياوصال، أنا راجل بلا موقف، أنا ابن النتايج

ـ غيّر النتايج دى اللى مش.........

ـ ياصباح الاكليشهات. ياحبيبتى افهمينى. أنا عايز أعيش فى هدوء وبس. وبعدين كده هاادخّل للبلد عملة صعبة، يعنى هاساعدها برضة.افهمينى وسيبك من اتحاد الطلاب الثوريين بتاع الجامعة ده..الدنيا اتغيرت ياحبيبتى.

ـ انت أنانى. انت راجل أنانى..

ـ ومجنون ابن مجنون.ياوصال انتى شايفة بنفسك.أنا فعلا أعصابى تعبت قوى. مؤخرا من شهر تقريبا مانمتش.انتى فاهمة ده معناه إيه؟

ـ عموما انت هتكون وحدك. إنت اخترت. أنا مقدرش أعيش بره مصر أبدا.

ـ اتفقنا.. يبقى آجى مصر إجازات طويلة شوية وخلاص.وانتى خليكى للبلد.

ـ سامحينى أرجوكى.

ـ مبروك عليك.

ـ لكن لسه الدكتوراه!!

ـ لأ، مبروك عليك  التمثيل.

وطلبت منه إيقاف الأغنية.

ـ ليه؟

ـحاسة إن الكلام ناقص..فيه بخل.

ـ كل أغانى الزمن ده ناقصة

ـ هيه بس الأغانى اللى ناقصة؟

ـ كلها احتمالات. شفتى انتى وقعتى فى نفس التناقض

ـ انا فعلا وقعت!!

ـ وصال والنبى أنا مش ناقص.. أنا عندى اللى يكفينى

وزيادة.

وتتابع الغربان العملاقة البيضاء التى تحلق تحليقها. غربان بمحركات نفاثة،وقابلة للسقوط فى أية لحظة أيضا.

تفكر وصال  فى أنها ستعود وحدها، وسيكون عليها أن  ترفع هذه الفيات الخضراء فى جراج ما، حتى يعود صاحبها.

وتفكروحدها / وأفكر وحدى.

تقول: (يارجل: لاتداوى ألما بالاثم )

وأقول: ( أحبك لكن وفق شروط قلبى)

وتقول:

( فقط فى هذا البيت الذى كان يجبرك بابه دائما على الانحناء ؛لتدخل. ذلك الباب الذى لايخدش غير الغرباء الذين لايعرفون أو الذين ينسون: باب بيت عم سحابة.والله إننى لاأكاد أراك إلا هناك، وهناك فقط).

وفى كافيتريا المطار، كنت أجلس شاردة. أفكر فى أنه كلما كانت اليد ثابتة والمشروب ـ الذى بداخل الكوب ـ غامقا، كلما اتضحت معالم الوجه وبانت تجاعيده.وبرقت العينان على السطح.

أنظر إلى وجهى فى القهوة فأجده بلونها.

أما علي فقد كان الآن فى صالة الرحيل.

وزن الحقائب، تلك الكتل التى أخفتْه تماما عنى، والتفت إليّ ليلوّح لى.

قالت: البعد يولد النسيان...

قال: البعد ينعش الذاكرة...

قالت: النسيان ينقص القلب....

قال: النسيان يجدد الخلايا...

قالت: أنت أنت..........

قال: وأنتى أنتى............

(22)

هناك قد وصل. وهنا وصلت هى.

فى بيتنا فى شارع سحابة، وضعتُ الكوتشينة إلى جوار القهوة. نظرتُ إليه لكننى شعرتُ بالغيظ من وجوده فجأة.

هذه الهزات  الموقعة من ذيله أشعرتنى بالزمن. وهذه النظرات الحنونة لاتؤنسنى بقدر  ما توحشنى.

أسمعه:

ـ ( هو راح وسابك لىّ. مش كده؟).

أسمعنى:

ـ (زى ما خلانى اتخلّص من الطفل،ها تخلّص منك واحدة بواحدة، من يسافر يحمل معه متعلقاته).

وبكرة هااخلص كل إجراءات الطلاق.عندى الحق نفسه.

جلس بعيدا يترقب. عيناه الوديعتان تستدعيان ـ ككل وداعة ـ كل ميول وأساليب  العنف والعدوانية..

سنأكل فى مواعيد مختلفة. لن تنام بالقرب منى.سأغير اسمك.سأتركك بلا كلام لأيام. أنت وحيد من الآن: هذا هو ثمن بقائك هنا.

الوحدة هى الثمن والشرط.

لاتلمسنى.لاتهز ذيلك عند رؤيتى. لاتتبعنى. لاتسهر بجانبى وقت مرضى. بالمقابل سأعطيك اسمه.

هل يعجبك الاسم؟

هل تعرف لم كانت أمى تكره جنسكم؟

تقول إنه يطرد الملائكة من الدار، وإنه نجس.

أتعرف لقد كانت أمى لغزا. كنت لاأعرفها تقريبا.

ولاأعرف هل كانت سعيدة بنا أم لا؟ أكانت تحب أبى أم..؟

دائما تناديه:أبو خالد.ككل نساء شارع سحابة، فى حين هو يناديها: فطومتى.

هناك فى جانب خافت، كانا يجلسان حتى الثالثة أو الرابعة من فجر الجمعة يلعبان الكوتشينة:هى نفسها التى فى يدى الآن. كانت سهرة الخميس دائما للست، والكوتشينة.

كان هو دائما يكسب. وكانت هى التى تجلسنى إلى جوارها وتمنعه من إرغامى على النوم.

أمد ساقىّ تحت الطبلية، وأراقب.

أشجعها فى صمت، وكل دقات قلبى مع أصابعه.

إننى مازلت أسأل نفسى: أيعد لعب الكوتشينة حتى فجر الجمعة ـ كل جمعة ـ  أيعد حبا؟

لاأعرف كما لاأعرف لم كانت تجلس أمامه؟

أحيانا تكسب بعض الجولات الداخلية الصغيرة.إلا أن النتيجة كانت غالبا لصالحه.النهاية دائما كانت له؛ حتى أننى صرت أشجعه هو.

ربما لهذا السبب قررت أن تتركه وحده مع مكاسبه، مع الطبلية والكوتشينة وكل هذه الجُمع.

يوم موتها هى المرة الوحيدة التى تبادلا فيها الأدوار!.

جايز!!

أسمعه:

ـ ( لاأحد يخسر دوما )

ـ عندك حق؛ لهذا كانت أمى تخسر. حتى هذا الفرح بالجولات الداخلية، كان فرحا باهتا.بسمات مرسومة بحساب فوق شفاه مضمومة بإحكام. أما أسنانه هو فكانت دائمة الظهور. بيضاء صغيرة شديدة اللمعان ومنتظمة كمكاسبه. صوته عالٍ ؛ حتى أننى كنت أعرف النتيجة دونما متابعة، ومن داخل الحلم أحيانا.

هل تشعرنا الخسارات المتكررة برغبة فى النوم؟

وأغفو بين الخسارات والمكاسب، وأسمعنى:

ـ انتى خسرتى ياماما؟

ـ أيوة، أصل أبوكى حرّيف.

كنت أعرف خساراتها من صوته.

فهل كانت تحبه ؛وظلت تخسر ليبقى هو سعيدا؟

هل يرتبط الحب بالخسارة؟

أم أنها كانت تخسر تحت تهديد صوته العالى، وكلماته التى توهمها بالخسارة، وبضرورة الانسحاب والتسليم بالأمر الواقع؟؟

أم لاهذا ولا ذاك، وبقيتُ أنا المؤرقة؟

أمى الخاسرة كل ليلة جمعة أمام أبى:

أمى  الحبيبة:

لم كنتى دائما تلعبين؟

لم كنتى دائما تخسرين؟

لم كنتى تحرصين على إبقائى لأرى خساراتك؟

أكنتى تصرين على تعليمى فن الخسارة؟

أكنتى تعلميننى ألا أقامر مستقبلا؟

ولم تضغطين يدى وأنت تقتربين من الخسارة؟

أتعدّيننى أنا لاستقبالها؟

حتى الآن تضغطينها.

أما أنا فقد كرهت كل ليلة خميس، وكل لعبة تشبه الكوتشينة. كل لعبة ينبغى أن يكون فيها خسران وكسبان، شأن كل اللعب التى تعلمتها منكِ:أنت وأبى.........

***

(23)

صعد أبى إلى مئذنة المسجد.أذّن لصلاة الفجر، وأمّ الناس.

عاد إلى البيت، تمتم بأدعية وأوراد ثم نام.

فى الصباح، تبدّل حاله تماما.

لم تكن هناك شعرة واحدة بيضاء فى رأسه، أو لحيته.

كان وجهه مشدودا لامعا كابن العشرين.

أين ال 58 سنة التى يحملها؟ لاعلم لأحد.

أين ألقاها؟

أى سلة تلك التى تلقى فيها السنوات الفائضة عن الحاجة هكذا؟

لو أخبرنى والله ماكنت سافرت. لكنه بخيل.

ـ قوم شوف أبوك. صبغ شعره. فاضل يتجوز!!

نظرتُ إليها وضحكت ؛ فقد تبينت حجم الورطة.

ولم يلحظ هو شيئا كالعادة.

صار يضحك طوال الوقت. ضحك برئ وطفولى من عالم آخر. ضحك ابن أرض أخرى، ليست أرض الجنون.

كان يضحك والضحك معدٍ ؛ فصرنا نضحك كلنا كثيرا.

كان وأصبح وأضحى وصار وبات فى عالم آخر.

بعيدا عن شارع وبيت ودنيا سحابة التى نعرفها.

يصير الشيخ سحابة. فليكن. يعود شابا لابأس ولاتأثير، إننى راحل.

هل أصبح حقا شابا، أم أنها أولى مراحل جنونى  أنا أنا أنا........

علي بن سحابة!!

(24)

امتدادات أخرى

الرسالة 1

القاهرة فى:23 نوفمبر

زوجى الحبيب علي

كيف أنت؟

تليفونك بالأمس طمأننى والله. تعرف دائما كيف تفاجئنى.

سألتنى لم لاأكتب إليك؟ ولم أكن أدرى كيف أجيب.فمذ عشرة أيام كنت فى حضنى واليوم بات على أن أكتب إلى رجل غائب.

عموما الكتابة قد تقربنا كما قلت، لكنها لن تدواى الألم الذى يسببه الفراق.

عموما،

بعد سفرك ملأت الفوضى حياتى.رحت ومازلت أرتب أوراقى.أصنف الإصابات من حيث قربها أو بعدها عن حبى لك.

الأخطاء جراحات وبعض الجراح قد يكون قاتلا.

ماذا سيفعل غيابك بى؟ لاأدرى بعد.

وصال. فجر القاهرة. حلوان.شارع سحابة

الرسالة 2

القاهرة فجرا

الغالى دوما علىّ:

ستسألنى: ماذا تفعلين عندما لايكون هناك طعم لأى شئ؟

وسأجيبك: لاشئ.أجلس وأستمتع باللا طعم.

تسألنى: والنوم ياوصال؟

أجيبك: يحملك دائما.

تسألنى:أين أنت الآن؟ فى لحظة كتابة هذه الرسالة؟

أجيبك: أنا بين الوجد والفقد يانور عينى ودواء قلبى.

وصال..

فجر القاهرة

شارع سحابة

***

رسالة

على

بالأمس غيّروا باب البيت: بيت عم سحابة.

(عرفت أنها فكرتك ).

استبدلتَ الحى بالميت، الخشب بالحديد.

رميت الشجرة لنار الحطّاب. ورأيت اليوم بابا آخر.

أتذكر بابنا القديم، الباب الذى طالما جعلك تنحنى قبل الدخول. كطفل طال عوده فصار ينحنى من تحت ذراع أمه ليمر.

انحناءة الوصل والقرب وتمام الطاعة.

انحناءة عمرها من عمر حبنا. أتذكر؟؟

كنت تنحنى قليلا وألمح طرف عينك المحبة.

قلت لأمك إنك تريد واجهة تشبه العمارات والفيلات.

أتت العمارات ورحل البيت.لست الوحيد الذي فعل ذلك، فأبي أيضا بل وكل شارع سحابة. فما الأمر؟

(لم يعد هناك بيت واحد بباب خشبي فى شارع عم سحابة، كأنهم يخافون هجوما قادما، كأنهم لايثقون فى الشجرة، تلك التى طالما حمتهم.)

و........، وذهب جزء منا مع هذا الباب. كلما هممت بالدخول تنظر لابنة الثالثة عشرة وتبتسم لها،هى الواقفة فوق سطوح بيتهم تتنسم الهواء الآتى مع خطواتك.

تضحك ولا تدخل إلا إذا دخلت أنت.

اليوم رأيت الباب الحديدى بزجاجه الأخضر الميت.

قرب الفجر اقتربت منه، لمسته، كان صلبا رطبا أو لزجا. فالحديد أو الزجاج لايحتملان طراوة الفجر..لايفهمان الندى

الخشب فقط، بل أقصد الشجرة.

وقال لى طعمه المعدنى إنك لم تعد أنت.

أعلن لى أنك لم تعد أنت.

وبمكر شديد سرق كنوزا ما.

وإننى أنتظر بنفس المكر صدأه القريب.

***

رسالة .....

قبل غروب شمس القاهرة بقليل:

أجلس وحدى على ضفاف النيل.

بينى وبينك أكثرمن ساعة حتى مع التوقيت الشتوى، وخمس ساعات بقياس المكان.

القاهرة / باريس

حصار ابن لادن: اختراع الميديا

بجوارى كتاب مفتوح على هروب البطلة

قبل الهروب قالت:

ضع نصف قلبك فى نصف قلبى لنصنع قلبا صحيحا.

وبلا هدف راحت تسير فى شوارع القاهرة..

حاولت إيجاد تفاهم ما مع هذه السيدة / البطلة

ذات الأربعين ربيعا

أغاظنى جدا أنها سمحت للكاتب بكل هذه الحقوق..

تخيل ياعلى

طوال الرحلة لم تكن تحب اسمها ولا البطل حتى!!

هى باحتْ لى.

كما أسرتْ لى بما تنوى فعله:

ستبدأ بالهجوم.

واجهت المؤلف:

لستَ ممن يجيدون كتابة قصص الحب؛ لذلك سأتركك وأرحل بحثا عن مؤلف آخر يمكنه حماية قصة حب بسيطة.

سأتحسر على رحلتى معك طوال الرواية، ثقتى فيك وتسليمى بموهبتك.

على:

انا وصال الآن:

طبعا الرواية رديئة جدا ككل روايات الغرام، غرام عصرالعولمة.

ولابد من تخطى كل ماهو ردئ.بشكل ما من الأشكال.

النهايات تتعدد. ولكن كل نهاية تتشابه مع بنات جنسها فى أنها تحمل طعم الرحلة بكاملها.

وأنا وصال أو لبنى: بطلة هذه الرواية التعسة، قررت أن أصوّب فى الفراغ.

أصوب فى الفراغ ثم أدّعى الخسارة، شأن كل من يصوب فى الفراغ.

واليوم الموافق السادس من أكتوبر،

تقريبا أكثر من عامين على سفرك،

وهو يوم مناسب للاحتفال بالخسارات.

الاحتفال:

نعم، كم أود أن اكتب هذه الكلمة ملايين المرات ؛لأصدقها ولأجد معنى ما.

الرسالة رقم 300

على:

نعم كما قلت لى قبل سفرك

لك الحق فى أن تختار نفسك وتنجو بها

لك الحق فى أن تتخلى عن سحابة وترفض البقاء إلى جوار النهايات: تراقب وتواسى.

ولى نفس الحق.

سأنهى إجراءات الطلاق وحدى كما أنا وحدى الآن.

محاميك سيعلمك بكل شيء.

وهل تبقت أشياء!!

وصال.

***

رسالة

حبيبتى وزوجتى وقلبى وجنتى وحبى الأبدى وكنزى ونجمتى:

أنا بكرة هااكون عندك فى القاهرة

رقم الرحلة والتليفون الجوال بتاعى على ميساج عندك فى الإنبوكس بتاعك. افتحى النت الليلة ضرورى لو سمحتى.

انا طول الليل بااحاول أطلبك لكن محدش بيرد علىّ.

أرجوكى ماتخافيش لما تشوفينى شايب. عموما الشيب وقار وهيبة بين الناس.

وطبعا هاتعرفى جوزك ولاإيه؟

***

(برقية لم ترسل لعدم الاستدلال على العميل).

على بن سحابة

***

رسالة .. قديمة أخرى

دى صور لى فى أماكن مختلفة فى فرنسا ؛ عشان تشوفى البلد جميلة قد إيه.

لما ارجع هااشترى نصيب إخواتى وامى فى البيت ونبيعه.

هنا انا عندى بيت جميل جدا ـ انتى عارفة جوزك بيحب حياة البهوات ـ  مش ناقصه غيرك ياحبيبتى.

يعنى ناقصه كتير قوى.

نرجع لموضوعنا

أنا عرفت إن كل واحد فيهم بنى بيت له فى المقطم.كده جميل سهّلوا على المهمة.

يبقى فاضل أمى وهى المشكلة الحقيقية ؛لأنها متعلقة بالبيت زى ماانتى عارفة. هى اللى بنته تقريبا.شوفى، ممكن أقنعها ترجع البلد.واشترى لها بيت هناك.

لما آجى نشوف حل للمشكلة دى.

أنا مش عايزها فى الشارع ده.وانتى كمان.خصوصا بعد موت سحابة.

على

باريس ـ فجرا

***

رسالة

على،

صباح الخير:

ردا على فكرة بيع البيت، سأحكى لك حكاية. فأرجوك إذا كنت مشغولا أو تفكر فى مشكلات ديبلوماسية لاتقرأ هذه الرسالة الآن.

فقط عدنى بهذا.

تبدأ الحكاية الآن.

منذ عدة أيام كان العيد القومى لمحافظة القاهرة.فوجئنا برجال البلدية بزيهم الأزرق الموحّد ينتشرون فى كل الشوارع فى نفس الوقت.

حملة نظافة؟

نتيجتها:

صندوق زبالة لكل مواطن؟؟...

لا.

حملة لجمع أموال العوائد؟

لا.

حملة تشجير؟

شجرة لكل مواطن مثلا؟ أو حتى لكل شارع؟

لا.

يبدو أنهم يخافون على أرواح الشجر من الأسمنت.

إذن؟؟

لم تطل الحيرة بنا. فقد أخرج الرجال اللافتات الزرقاء ذات الكتابة البيضاء وبدأوا بترقيم البيوت وتغيير أسماء الشوارع.

انت وحظك.

شارع كان من نصيبه: العبور

آخر: جمال عبد الناصر

الثالث: النخيل

الرابع: أم كلثوم

الخامس اسمه امتداد..تخيل شارع اسمه امتداد!!

وكان من نصيبنا

من نصيب شارعنا اسم: السلام.

الناس فى الشارع اعترضوا عايزين اسم شارعهم.

رد الرجال:

ـ مفيش عندنا سحابة ده. مش عايزين وجع راس. دى قرارات عليا.

ولم ينم الولاد ليلتها.

بعضهم لم ير عم سحابة أصلا.

كانوا كأنهم يجهزون زينة رمضان.

بعد منتصف الليل تقريبا كان اسم سحابة فى أكثر من خمس لافتات بنفس المواصفات.

نزعوا السلام،احتفظوا به عند خواطر فى الدكان؛ تحسبا لأى صدام مع البلدية. أرجوك ابعد عن سحابة.

وصال، شارع سحابة

بلكون الدور الثالث / بيت عم سحابة.

***

رسالة

علي: ستصلك رسالة من عم سحابة قريبا

لم يكن معه العنوان لكننى وعدته بان أرسلها نيابة عنه.

طبعا ترد عليه على طول.

ابعت لى الجواب وسأعطيه له سرا. هو أراد  ذلك.بيخاف من... انت عارف.

وحاول أن تتصل به بالتليفون

أعتقد أنه يحتاج إلى هذا. كف عن كل هذه القسوة ياعلي.

اطمئن. لاتخف من صوته. أعتقد انه لم يعد هناك شئ قادر على أن يرجعك.حتى صوت عم سحابة!!

وصال.

***

رسالة ...

أنا أبوك ياعلى

أنا مش كويس.

أمك كسرت لى الناى، من يومين، لأ من شهر.أنا مش فاكر لكن كان قبل الفجر.وكتبت كل حاجة باسمها،حتى القرافة بتاعتى.قبرى كمان خدته.إن شاء الله هتشوف فيه الويل وويل الويل.

الفجر منعتنى أصليه بره البيت.أنا سامع الجماعة.صوتهم واصلنى.فى ودنى منين مااروح: الله حي.. الله حي

قول لها تسيبنى أروح ياابنى.أنا باارتاح هناك، والله ماعملت حاجة لحد. بس أحيانا ألاقينى مش عايز أرجع أقوم آخد فى وشى أو أنام  فى الزاوية.ده حرام؟؟

عموما انا بااكتب لك عشان اقولك إنى هااهج بعيد عن أمنا الغولة.

انت عارف انها بتكرهنى ودايما بتدعى علىّ لكن ربنا مبيسمعش كلامها.

انا مش زعلان منها ولا من حد.لكن الفجرية هااسافر مع جماعة طيبين: أهل طريقة، مابيعرفوش يكرهوا.

وبيحبوا الغُنا.

أنا اصلى مش قادر ياابنى والله.

أمك بتحرقنى بالنار، وبترمى المية الباردة علىّ فى السرير

ولما باصحى تقول لى إنى بلّيت السرير وانا نايم

لكن عموما ربنا بيخلّص.

طول الليل تصرخ من عضمها،ربطت كل مفاصلها.

النقرس أكَلْها.

كل الشارع سامع صوتها، وبيضحك عليها.شارع وسخ مفيش وراه غير سيرة الناس.

شارع مجانين.انا هااشيل اسمى من عليه، وهااسيبه

وانت إوعاك ترجع

شوف أمنا الغولة جاية علىّ. هااكتب لك تانى بعدين

لما اهرب.

على فكرة أنا ممكن اقتلها قبل مااسافر.مش عارف لسّه.هااشوف

أبوك

سحابة.

ملحوظة:

ياعلى، امك ريحتها فاحت فى الحتة..

جابت لنا العار.

الفاجرة.

انا لسه مش عارف مين هوه لكن مش هاينفد من إيدى.

خلاص ماعدش فيه حد شريف.

كلنا أوساخ

أبوك:

سحابة.

***

(25)

أفرد جسدى باستقامة عكس الاتجاه.رأسى مكان قدمىّ. أفرده.. أمطه حتى يكاد يتمزق.

تلك الاستقامة تؤلم ألما شديدا. شد عضلى ينتشر فى أجزاء متفرقة من جسدى.لاأهتم. أستمر

يخف جسدى، يخف حتى أرانى وأنا أطير.

طيران ضد الاتجاه، طيران إلى الخلف رغما عنى.

أتحلل فى هواء الغرفة ذرات فاسدة وسامة.

فاسدة وسامة.

أحط بعيدا..

أحط فوق جسد سحابة. أوثقه،أكتم فمه بكفىّ.

يصرخ.أضغط بكل قوة؛ حتى يستسلم.يذعن لى جسده الرخو، يهمد.

أتركه وأحلق باتّجاه وصال.

كم هى خفيفة هذه المرأة كعصفور.عصفور فى مخالبى.

لاأشعر بأى ثقل. لاأنزلها ولاأفترسها.أريد فقط هذا الإحساس:إننى أحمل جسدا خفيفا.

أريد أن أشرب دماء هذه الخفة ؛ لتسرى فى عروقى.

فتتحول الفريسة إلى بساط سحرى طائر.

كم هو ممتع وبهيج أن تكون خفيفا!!

أحوّم فى الآفاق.ولكن رجفة الجسد تسرق فرحتى بالخفة.

أفلت مااقتنصت مضحيا بتلك الثروة. الثمن أكبر من قدرتى.ينفلت جسد وصال، يسقط بسرعة جسد ثقيل جدا!!

يهبط جسدى. يحط فوق الجثتين.

من سحابة إلى وصال  والعكس...

أترك الجثتين  وأتجه نحو شارع سحابة. أحوّم فوقه كسحابة سوداء فى يوم خانق. كغراب لانهاية لجناحيه السوداوين. لانهاية لنعيقه...

أصرخ فيهم وانا أضحك:

ـ أنا سحابة المجنون أعود إليكم من جديد.

لماذا كان يصرخ سحابة فى الليل بكل صوته..بكل قلبه؟

لأنه كان يرى امتدادى، يرى ذلك الغراب الذى سأكونه.

ولماذا كان يبكى؟

لأنه كان يعرف أن جسدى وروحى سيشربان كل ذلك ويتسممان.

وهاأنا ذا فى الليل الكبير، وحدى.

أهتف: يا سحابة أسمعك، صراخك ونايك  وأنينك، ضلالاتك وكوابيسك وضحكك السجين.

لكل ضحكة ألف صدى، ولكل صدى ألف قفص، وفى كل قفص ألف غراب اسمه: عليّ.

أتكور وحدى فى ليل باريس البارد الكبير الأسود الواسع العيون.

أنا الديبلوماسي الناجح.

أتكور بين البروتوكولات والاتفاقيات واللقاءات الرسمية وغير ال..

بين السهرات والدعوات والعشاءات.بين العلاقات المشبوهة والأطعمة المعلبة والمشروبات الروحية..بين المخدرات والبراهين والأدلة.. بين الحياد وعدم التورط والموضوعية: شروط أى بحث علمي ناجح.

أتكور جسدا فوق جسد.

أتكور جسدا فى جسد. سحابة فى سحابة

أشم أنفاسه وعرقه، أخلع نظّارتى. أزيح أطروحة الدكتوراه عن صدرى،أتنفس.

أرى كل تلك الكلاب التى تملأ شوارع باريس، كل تلك الوحدة، وأتذكّر كلبى فى القاهرة.

هل طردته يا وصال كما طلقتنى؟

وأسمع صوتها الآتي من أعماقي:

Colette Magny

في

Heure Grave:

كوليت ماني تغني لي وحدي:

يامن يبكي الآن بدون سبب في مكان ما في العالم..

يامن يبكي علي..

يامن يضحك الآن في مكان ما في جوف الليل..

يامن يضحك بداخلي.. يامن يضحك مني..

يامن يمشي ـ الآن ـ في العالم بدون سبب..

تعالى نحوي...

تعالى نحوي.. تعالى...

وأتكور من جديد، عينين مفتوحتين. أفكر فى برنامج الغد، أدير قرص الهاتف.ثم أترك نفسى لامرأة ما.

فى ليل باريس الكبير.

(26)

للبيع اتصل ب:

موبايل:

**  0033625107770

منزل:

**0140159355

بريد ألكتروني:

** ali sahaba@hotmail.com

(27)

من وصال إلى وصال:

حلوان فى ليلة طويلة:

ينتهى العمل والحياة العامة وتعود الناس إلى البيوت.

أعود أنا وصال بنت عم رشدى إلى بيت أمى وإلى نفس الغرفة التى كانت تجلس فيها مع أبى لتلعب الكوتشينة.

أستسلم بتلذذ وطمع للخسارات كلها.

هزائم صغيرة متكررة تصيبك بالسأم والضجر من شدة تمسكها بك. طفل يعتمد عليك لايعلم كم أنت ضعيف واهن.

ـ الهزائم المتكررة ليست هزائم.

تقول وصال لنفسها فى نفس الليلة ونفس الغرفة.

وتبدأ فى مقارنة ما بين نوع هزائمها وهزائم أمها.

هى كانت تستسلم للهزيمة أمام أبى الذى لايشبع أبدا ولايكف عن طلب المزيد.

فهل كانت تقتل فرحته بالنصر النظيف بذلك التكرار؟

ـ حتى الانتصارات المتكررة مملة!

تقول وصال لأبيها ولنفسها ولعلي...

وتقترب أكثر من أمها.

جوهر النصر فى منافسة ند لند.

وتسأل نفسها: الخسارة بين شبهة الحب وشبهة البغضاء،أنخسر لأننا نحب أو نكره أو رغما عنا؟

لاشىء يحدث رغما عنا.

فى الحرب الكل يخسر. الكسبان هو خسران أيضا؟ لماذا؟

لأن الحرب لاتصلح أن تكون هدفا؟

 وهكذا بعد الطلاق صرت أكثر حزنا.

***

تخرج إلى شارع سحابة، ترقب الإعلان: إعلان البيع، وتفكر فى سبب حبها لذلك الرجل القابع فى ليل تلك المدينة الباردة الهدوء والجمال

تدخل إلى غرفة أمها، تسأل نفسها السؤال الأخير

ـ متى أقرر التخلص منه؟

ـ أو متى أقبل الاستمرار معه عن طيب خاطر؟

ـ أو متى أتوقف عن عدم التفكير فى كونى سعيدة أم لا؟

ـ أخاسرة أنا أم رابحة؟

ـ متى أوقف تلك اللعبة؟

لايصلح الطلاق نهاية

 للعب طرقه الخاصة

إذا كان الزواج والطلاق ـ كلاهما ـ لعبة فلماذا أنا جادة هكذا؟؟

هاجس يجتاح تفكيرها ويشرّدها: كيف هى ملامح علي الآن؟

أنفه، فمه، ذقنه، شكل بطنه، شعر صدره: الشجرة المصلوبة من بداية الصدر وحتى الجذور؟؟؟؟ شجرة وحيدة

طريقته فى الحب؟

أى جانب من رأسه ملأه الشيب أكثر؟

هل تغير لون عينيه؟ فى المرة الأخيرة كان بلون العسل؟

وتعود من جديد إلى اللعبة ذاتها

اللعبة هى هى.اختلف الزمان والمكان واللاعبون.وبقيت اللعبة خالدة

يفرد علي ورق الكوتشينة ويفنّطه. يشتت الأوراق المتشابهة التشابهات تحمل شبهة الغش دوما

ـ دوما؟

ـ لاشىء يحق له أن يأخد تلك الرتبة. تلك اللعنة:الديمومة / الخلود.

علي: لازم أفنط الورق. دى أصول اللعبة

وصال: نفسى اتسدت

علي: هل أقرأ لك الطالع. أتثقى فىّ؟ وفتح يدى.

بينما أنا هناك فى ليلة أخرى. مع عم رشدى والست فطومة.

بينهما أمام الطبلية أكون. نعم عنده الحق. الأوراق يجب أن تجتمع فرادى، هذه هى أصول اللعبة.

(اجتماع فردي هو علامة النزاهة وضمان المكسب).

(أوراق تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى).

والآن سيوقف أبى الدور كله ويعيده؛ لأنه لمح متشابهان وقد اجتمعا!!

وأسمع أمى: ياسيدى مش هاتفرق.

ـ والله مش هاتفرق.أقولها لنفسي.

أقولها لنفسى.

عندك حق يافطومة، أقصد كان عندك حق.

***

(27)

ينزع أولاد الشارع ( اليافطة ) بتفاصيلها ويخبرون كل من أتى ليسأل عن البيت أن صاحب البيت قد مات محروقا، وأن الأساسات ضعيفة والبيت مسكون.. كله أرواح شريرة:جن كافر.

يستعيذ الراغب فى الشراء بالله ويتراجع.

***

ويسألنى علي عن السبب فى تأخير البيع.

لاأجيب.

يطلب منى ان أتابع الموضوع، أضحك لأنه كلما أتى شخص يعرف أن البيع قد تم لآخر، وهكذا لايشترى أحد.

ويبقى بيت عم سحابة خرابة كبيرة  محمية بشباب الشارع: الجيل الجديد الذى ورث عشق عم سحابة دون أن يراه

بينما يرقد هو فى تلك الجبانة العامة التى يرقد فيها الموتى من عائلته فى المنصورة بعد أن باعت حكمت قبره

ويرقد علي فى بيت كبير فى باريس

وتأتى على الشارع أفواج من السكّان الجدد الذين لانعرف لهم أصل.فقد ارتفعت بيوت شارع سحابة إلى خمسة أو ستة طوابق

وأجّر أصحاب البيوت لمن يدفع أكثر

وزفت أكثر من عشرين عروسا، ودخلن شارع عم سحابة دون أن نعلم شيئا عن أصولهن ورجالهن. بنات من شبرا ومن الفلاحين ومن امبابة.

***

(28)

ويعود علي ويبيع كل الشقق التى تعلو أرض البيت: بيت عم سحابة

لكن تبقى الأرض ملكا للشارع.. ربما

يتزوج من طبيبة نفسية فرنسية ويحصل على الجنسية.

يرفض الإنجاب فتطلقه

يشترى فيلا فى حى المعادى الهادىء

يرفض العودة  إلى  وصال بعد أن عرف أنها لبست الحجاب

يتقابلان مرة واحدة فى فيلته فى المعادى ويتفقا على أن الحب أيضا يموت

يرفضان أيضا وهم الصداقة. القطيعة هى الأنسب لحالتهما

يتبنى هو طفلا بعد أن علم أنه لاينجب.ويحضر له خادمة فليبينية

لكنه مازال يضحك من غباء العقم. يختار مجال السياحة والسفريّات ويشيد قرية سياحية بدوية فى صحراء الفرافرة المصرية يعطيها كل وقت لديه

ويضيف بطلاقه من الست الفرنساوية رقما جديدا لعدد الطلاقات المدونة فى ذاكرة شارع سحابة والتى تعدت العشرين أيضا كزفافاته

.. مجرد صدفة والله....

مايو 2004 القاهرة  حلوان