تتلمس الناقدة اللبنانية في هذه الدراسة الخيوط السردية والرؤى الأساسية في روايات الكاتبة العراقية عالية ممدوح من روايتها الأولى حتى أحدث رواياتها (التشهي).

ولع لا يتحاشى الألم وحب يرتقي بالأنوثة

عالية ممدوح ... متربعة علي عرش اللغة

يمنى العيد


بعد قراءتي لرواية التشهي (الآداب 2007)، بدت لي الكتابة عن عالية ممدوح، الروائية، كتابة عن مسار روائي. مسار في الإبداع السردي العربي وفي تميُّز عوالمه المتخيَّلة. تختلف التشهي، ولكنها تعيدنا إلي روايات عالية ممدوح الأخري، إلي حبَّات النفتالين (2000 طبعة دار الآداب) و الولع (1995) و الغلامة (2000) و المحبوبات (2003). نحن أمام مؤلِّفة روائية مسكونة، في ما تكتب من روايات، بحمولة الذات وأمكنة عيشها. الذات الأنثويّة، العراقيّة، المتبصِّرة في الآخر، المختلف، الذي هو الذكر: الأب والابن والزوج، والذي هو أيضاً الأنثي: الأم والصديقة وزوجة الذكر. الآخر: العراقي والعربي والغربي. الآخر الذي يؤرق الذات ويمسك، بالعلاقه معه، خيط الكتابة وينسج سرَّها. غير أنَّ قولنا بمسار يحكم روايات عالية ممدوح لا يعني أننا نشير إلي سيرة، ولئن كنا نقرأ في هذه الروايات ما يشبه السيرة، بل نشير إلي مؤلفة روائيّة تعرف بذكاء لافت أن تقف في البين حين تنسج هذا المسار لعوالم رواياتها. البين الزمني الذي تتجاوز به الذاكرة، أو ما حدث، إلي ما تراه هي، وتودّ أن تحكي عنه، إلي متخيَّل لا ينسي الماضي ولكنه يدرك أن المستقبل هو الأهم. هكذا بين هذين البُعدين للزمن، بين المرئي واللامرئي، بين الواضح والمحتمل.. يظهر المختلف في ما تصوغه اللغة، في الملتبس الذي يتوهَّج بأكثر من دلالة. المختلف القائم، وبمعني أساسي منه، في علاقة الأنثي بالذكر، بالجنس، بالأيديولوجيا. وفي تراكيب اللغة التي تبثُّ معاني القوة في الأنوثة، القوة في الحضور وليس في التسلُّط والقمع. مسار روائي يحفر عميقاً.

مع هكذا مسار يتَّسع عالم التخيّل تباعاً في ما تكتبه عالية ممدوح من روايات، يتَّسع زمكانيّاً ويغتني، كأنه يتابع مساره. يغتني، يحفر عميقاً وتتشابك فيه المعاني والدلالات بفنيَّة ملحوظة تتجاوز مألوفها، ولكن دون أن يغادر عالم الرواية هذه الذات الأنثوية التي تبدو، أكثر فأكثر، سيدة متربعة علي عرش اللغة، الكلام المكتوب، الكلام الذي يُفصح، دون جهر، عن قبول الاختلاف بين الذكورة والأنوثة.. القول الذي يبني، في الآن نفسه، حيِّزاً دلالياً لاستقلاليّة الأنثي وحريتها دون أن يقطع مع هذا الذكر الذي ينتهي به تسلُّطه وقمعه إلي العجز، العجز الجنسي، باعتبار الجنس هو رمز ذكورته وقوَّته وتسلُّطه، هو رمزها ومبرِّرها، كما هو الحال في "التشهي".

من الطفولة والمراهقة تبدأ حكاية الراوية الأنثي في رواية عالية ممدوح "حبات النفتالين". من العراق، من "أعظمية" بغداد القديمة. تبدأ بالعلاقة مع الأب الذي ينتقل، حسب مسار الرواية، من صورة الأب (الذكر) الطاغي إلي صورة الأب الباكي. تشغل الصورة الأولي، الأب الطاغي، الحيِّز الأكبر من عالم الرواية. مجرّد ذكر هو هذا الأب، يمارس العنف، عنف ذكورته. يضرب، يركل. والابنة الطفلة، "مثل طير مريض"، تتشبَّث بثوب أمها (المهانة هي أيضاً)، تقوم وتقف بين ركلاته "أُمسكه من البوط اللماع وأشدّه من هناك، أتكوَّم بين ساقيه وهو يتحرَّك بي يأخذني من هذا الجانب ويقذفني للآخر، وبلاط الحوش يمتلكني، مأخوذة بصوته الذي يهبط عليَّ كالرصاص" (ص41 طبعة عام2000). لكن هذا الأب الذي كان عند قدومه إلي البيت ينتقل من صورة الأب، المفترضة، "إلي عنفوان الرب". كما تقول الرواية، لم يكن يخيف الفتاة الصغيرة، كما كان "يخيف عادلاً (الأخ) وأمي". كأنها، هي الأنثي، كانت باكراً تشعر بالقوة الكامنة فيها، أو كأنها كانت تحدس بالمتغيِّر، أو تودّه! هكذا يعود الذكر، في القسم الأخير من الرواية إلي أبوّته، إلي ما غاب فيه، في داخله، ونفاه هو عنه. تعود الأبوّة إلي طبيعتها بعد زمن من العنف والاستبداد حوَّل البيت، حسب الرواية، إلي خراب. تعود هذه الأبوّة بعد موت الأم المريضة، المقموعة، المرميّة في عزلتها، وبعد أن كانت المدينة، بغداد، قد دخلت، وحسب الرواية أيضاً، في العصيان، وقامت الثورة الناصريّة، وهتف الكل بسقوط الطغاة.

خلع الأب ملابسه الرسميّة، أخذ إجازة وعاد إلي مدينته ليندسَّ مع الحشد الثائر. يتخلي الأب الضابط، المسؤول عن السجن (وظيفته)، عن استبداده، يبكي ندماً بعد أن أدرك أنه السبب في موت زوجته، إقبال، وبعد أن جاء إليه ولداه يجرجران مأساتهما، يسعيان للدخول في حضنه. "يطوقني بذراعيه، تهطل دموعه، يبكي أبي. يترك يديه عنّا ويرفعهما إلي رأسه، يغطي وجهه، صوت نحيبه يعلو ويتعلق في هواء الغرفة" (ص 165).  "تغيَّر أبي"، تستنتج الراوية. كأنها تودّ أن تقول لنا بأنَّ العنف الذي مارسه الأب لم يكن طبيعة فيه، أو طبيعة ذكورية، بل هو سلوك مرهون بزمن، بموقع في التراتب الإجتماعي والقيمي. وهو بذلك اكتساب تلازم، تاريخياً، مع الذكورة، فصار  العنف  رمزها دون أن يكون، ربما!، من طبيعتها. إنه اختلاف تمثل في السلوك سلطةً وعنفاً... سوف تقبله راوية روايات عالية ممدوح، لكن من موقع القوة التي أشارت إليها في "حبات النفتالين" عندما قالت الابنة بأن ضرب أبيها لم يكن يخيفها، والتي تجلَّت في لغة الرواية، كما سوف تتجلَّي في الراوية الأنثي في روايات عالية ممدوح، وفي لغة هذه الروايات. 

ولع لايتحاشي الالم
ففي "الولع" تعلن الرواية بأنها لا تتحاشي الألم، "علي العكس أتورّط معه، لا أبتره" (ص80). هذا الألم هو، وكما يبدو لنا في هذه الرواية، ألم وقوفها، كأنثي، في البين، بين الألم والعشق. البين الذي يحيل معني العلاقة مع الآخر إلي علاقة مع الذات، إلي ما يحررها من أخلاق العداء والغيرة ويجعلها تقبل الآخر معلنة معاني الحب والحياة التي يصبو إليها الجسد. تعبِّر الراوية عن وعيها لتسلُّط الذكر، الزوج في هذه الرواية، وقساوته عليها. يتزوج هذا الزوج، مصعب، من امرأة ثانية، ولا تفارقه زوجته، هدي. لا تفارق هدي زوجها مصعب الذي تصفه، في رسالة تكتبها لصديقتها بثينة، بأنه مرصوص بالقساوة والمكر. تعرف هدي أن مصعب "كان يستعملنا (نحن زوجاته). يستعملنا "ويبقي هو المستقيم ونحن لا نجد مخرجاً إلاَّ ما يقرِّره". لكن هذه المعرفة، وهذا الواقع، لا يحمل هدي علي الفراق، أو علي الطلاق، بل ولا يمنعها من أن تقول، دون تردُّد أو خجل من نفسها، "إذا وصلنا إلي الدار فسأنزل إلي قدميْه، أجرّهما إلي صدري، أنزع جوربيْهما واحداً بعد الآخر وأمسك بالقدمين، أقبلهما بين يديّ" (ص23). إنها، وكما تقول في مكان آخر من الرواية، علي استعداد "لارتكاب جميع الجرائم للوصول إليه" (ص13). تقف هدي في البين الذي هو، وكما تشي به الرواية، مساحة عشقها لزوجها مصعب وإدراكها، في الآن نفسه، لمعني قساوته. مصعب الذي يعترف، ويقول، بأن لا أحد غيرها "يفهم ما أقول". إنها مساحة لفهمٍ آخر بينهما يتناقض فيه، ربما، الحب وشهوة الجسد، الجنس وسلطته.

يصعد مصعب إلي غرفة النوم مع زوجته الأخري، وداد، تقف هدي خارج الغرفة المغلقة. تشهد علي الخيانة. خيانة مصعب لها، تكرهه، لكن فقط كزوج وليس كرجل. مصعب الرجل تُخجله براءة هدي، أو كما يقول "فتاة الثامنة عشرة (يوم تزوجها)، الوقحة، المضطربة، النفورة". وهدي الراوية تفسِّر وفاءها ل مصعب بالقول بأن الوفاء "فعل صحيح"، و "هو لي وحدي لنفسي". ثمة فهم ووفاء: فهم يحتاجه مصعب ولا يجده إلاَّ في هدي. ووفاء تمارسه هدي ويترك أثره علي علاقتها ب مصعب وإن كان، هذا الوفاء، لنفسها. هكذا تتداخل العلاقة مع الذات بالعلاقة مع الآخر، وتقف الأنوثة، أنوثة الراوية، في البين، البين الذي يتمثل، بدلالة أخري، في هذا السؤال الذي تطرحه هدي علي نفسها:" هل أنا أنثي أم ذكر؟" (ص13). أو: "إلي من أنتمي، له (مصعب الذكر)، أم لها (الأنثي، زوجة مصعب الثانية)، إلي جسمي أم إلي جسم زوجي؟" (ص7). فهل هو البين بين الذكورة والأنوثة؟ تجد الراوية نفسها وجسدها فيه فتسأل. أم هو كلاهما فيها، فلا تترك مصعب وتذهب، في ما بعد، في "المحبوبات"، إلي النسوة؟

علي أن هذا البين المتمثل، هنا، في السؤال الذي تطرحه الأنثي، الراوية، علي ذاتها، يوسِّع مساحة الدلالة، يجعلها تتخطي، في روايات عالية ممدوح، حدود الثنائية الحادة، الثنائية التي تنهض علي حدٍّ قارّ، والتي تفضي، غالباً، إلي عداء مع الآخر وربما إلي نفيه. 

العالم المتخيّل
تتسع مساحة الدلالة في "الولع"، ويتلازم ذلك مع اتساع فضاء عالم الرواية. فالعالم المتخيّل الذي كان محيط فضائه المكاني في "حبات النفتالين" "الأعظمية" في بغداد، والذي كان قوامُ الشخصيات فيه الابنةَ والابن والجدة ثم الأم والأخ... راح يتسع في روايات عالية ممدوح حتي لكأنه بلا حدود، أو كأنه علي حافة الحدود. المطارات التي صارت تنقل الراوية.. تنقلها، في "الولع" إلي الأردن، وتنقلها في المحبوبات" إلي باريس. لتستقر ولا تستقر. هي العراقيّة التي شرَّدتها سطوة الذكورة وسطوة السياسة، وسلطة الاقتتال والحروب لتغدو المطارات هي التي فيها تولد وإليها تعود (كما تقول الراوية في أول الكلام في رواية (المحبوبات).

يتعدَّد فضاء عالم روايات عالية ممدوح، يتنوَّع لكنه يبقي واحداً في مذاق هذه الراوية التي تحكي عن الذات، أو عن مسارٍ لهذه الذات التي عي غير ال أنا، الذات في رحلة علاقتها مع ذاتها ومع الآخر. مع الاختلاف النوعي، والعرقي والحضاري.. وحتي السياسي.. تتوحَّد نكهة الفضاء في مذاقها فتقول: "والأرض المبطَّنة بالشحوب والمرارة هي، هي، في كل مكان. في كاردف أو في الأعظمية، بيروت أو الرباط" (الولع ص62). يتسع الفضاء المكاني، يتعدَّد ويتنوَّع، لكن الإحساس به يبقي عميقاً يتجاوز حدود المكانيّة الجغرافيّة إلي معني الذات، إلي حمولتها الثرية وأحلامها المأمولة. الذات التي تعاين حياتها وتعيش معاناتها بحيث يكون علي المرء، وكما تقول الراوية، أن يجد "بعض الأمور كي ينتسب إليها". لعلّها الكتابة هي هذا الأمر الذي عنته عالية ممدوح أو الذي سعت الراوية لإيجاده كي تكشف عن انتسابها لذاتها الأنثويّة وعن انتمائها لهويتها العراقيّة، فكانت لنا أعمالها الروائية التي حفلت بهذا الانتساب وبهذه الهوية. وكانت الكتابة، أو "الورق"، كما تقول، "أول وآخر المنافي". (الولع ص50).

تحتفل روايات عالية ممدوح بالذات الأنثويّة علي خلفية النفي والاغتراب المزدوج، ويبرز هذا الاحتفال في "المحبوبات". كأن هذا النفي يصل إلي ذروته ويؤول إلي بديل هو عالم الأنوثة المهيمن في هذه الرواية. أو كأنَّ راوية "حبات النفتالين" و"الولع" وحتي "الغلامة" (2000) تصل، في "المحبوبات"، إلي ذروة معاناتها كأنثي.

تترك سهيلة، بطلة رواية "المحبوبات"، الكلام لابنها نادر، بعد أن سقطت في الشلل والصمت، يعتقدون أنها مريضة، ولكنه الضرب الذي لم يعد يحتمل. ضرب الأزواج الذكور. الضرب المبرّح "الرفسات في القفا والهراوات العسكرية" والمسدس في بعض الأوقات "يصوب علينا نحن النساء خلال ثوانٍ، فيشعرون بلذّة طاغية حين يشاهدوننا نستعد للفرار منهما (المحبوبات ص9). ليس المرض بل العنف الذكوري، السلطوي. ولم تكن الأنثي تهرب، كانت تعود إلي الذكر، تبتسم في وجهه وتخفي استياءها "وراء الجدران العالية" (ص9). المرأة التي وجدت في "الورق أول وآخر المنافي" في "الولع"، تعلن في "المحبوبات" انتسابها إلي عالم الأنوثة: ذلك أن سهيلة، بطلتها، التي هي الآن "حبيسة النبذ"، في العزلة، "في منطقة بين الاكتئاب واليأس" لا تجد سوي الصديقات، عربيّات وغربيّات، يتناوبن علي ملازمتها والعناية بها. إنه عالم النسوة بامتياز، الصديقات اللواتي أطلقت عليهن سهيلة، في رسائلها لابنها نادر، اسم "المحبوبات"، وهن كثيرات ولكنهن مسمّيات: كارولين، بلانش، فريال، نرمين، تماضر، سارة، بشري، أسماء، أزهار وتيسا المميّزة بحبِّها لسهيلة. مسميّات ومعرّفات بانتماءاتهن. وبأوضاعهن في العمل والثقافة، وبأحوالهن في العزوبة والزواج، في الضرب، والوجع.. يحطن بها الآن ويتناوبن علي العناية بها، هي التي ذهبت في غيبوبة العمر والمعاناة.

كانت سهيلة، وقبل سقوطها في الصمت، تعبِّر، كما يروي ابنها نادر، نقلاً عن رسائلها إليه، عن خشيتها من فقدان ذاتها: "أودّ لقاءها (تعني ذاتها) مجدّداً. لكني لا أستطيع، لا أحتمل فكرة فقدانها إلي الأبد، سأبقي بانتظارها يا نادر" (ص72 من المحبوبات)، ويقول نادر كأنما يفسِّر سبب ما أصابها: "إذا كان ثمة شيء صرع سهيلة فهو بغداد" (150). كأنَّ هذه الذات هي أكثر من أنثي، أو هي الأنثي في انتمائها إلي بلد، إلي وطن، إلي ماضٍ وتاريخ، لكنها الغربة القسرية، أو النفي والتشرد أي ما يحمل سهيلة علي القول: "كأنني بلا ذاكرة، بلا آباء، بلا أسلاف وتاريخ" (ص130). هي دائماً في البين، في ما هو وليس هو، في الأنثي وغيرها، في الانتماء وخارجه...  يترك هذا البين أثره علي نادر، أو هكذا يبدو لنا الأمر، نحن القرّاء. فنادر، كما يعبِّر، هو في منتصف الطريق: بين الابن والزوج. يتساءل، هو الذي يقول سهيلة ولا يقول أمي: "لماذا أحبتني سهيلة بدرجتي "لا" و "نعم" (ص80).

لا يفهم نادر أمَّه، هو الولد/ الذكر، يصعب عليه أن يعرفها، هي الأنثي الكاتبة  في الرواية  يضربها زوجها ولا تهرب منه. تعود إليه وقد تزوّج من غيرها. لكن نادر، وكما الأب في "حبات النفتالين"، ينتهي في "المحبوبات" إلي البنوّة، يغادر الأب، في "حبات النفتالين" قساوة الذكر التي كانت له في علاقته بابنته. ويغادر الابن في "المحبوبات" قساوة الذكر التي كانت له في علاقته بأمِّه، يصير ابنها. هكذا وبدل سهيلة صار، في نهاية الرواية، يقول أمي. 

علاقة الذات الأنثوية بذاتها
تستقيم العلاقة بين الذكر والأنثي ولكن الرحميّة: الأب بابنته والابن بأمه ولا تستقيم هذه العلاقة علي مستوي الجنس، أو خارج المحرم، بين الزوجين. لعلّه العطل! العطل الذي ينقل العلاقة، أو يفتحها علي علاقة الذات الأنثوية بذاتها المتمثلة في ما سمّته سهيلة المحبوبات، النسوة المتحابات، اللواتي يتكافلن ويشكلن عالماً حميمياً لهن. حتي لكأن الاستقامة هي هنا، في مثل هذه العلاقة، والعطل في مكان آخر، في ما يُحيل علي ذكورة تاريخيّة  سياسيّة  ثقافيّة. هي ذكورة العنف القائم بالجنس، كما تروي (التشهي). ففي "التشهي" تتعدّي عواقب التسلط الذكوري حدود الآخر الأنثوي لتشمل الذكر نفسه. فهي، أي هذه العواقب، لم تتركز، في هذه الرواية، علي ما يصيب الأنثي وقد وصل في "المحبوبات" إلي حدّ سقوط سهيلة في الغيبوبة وهدّدها بالشلل. أو لنقل بأن هذه الرواية، وكما يشير عنوانها، تتناول الذكورة المهووسة بالجنس والمحكومة بشهوته. إنه العنف الجنسي الذي يؤدّي، وعن طريق الترميز والتفريع الدلالي الذي تتوسله الرواية وتمارسه بمهارة ملحوظة، يؤدي إلي ضياع البلد. وضياع هويتها، وثقافتها العربية، المتمثلة في شخصية "ألف".

فهؤلاء الذكور: "سرمد" المترجم والباحث والذي يرمز إلي التثاقف، و"مهنّد" المتسلط  الذي يرمز إلي العنف الجنسي  السياسي، و"أبو مكسيم" الغارق في الجنس وصاحب الترجمة غير الأمينة للبيان الشيوعي، و"أبو العزّ"، الفلسطيني، الذي يتكشف في السرد الروائي، عن سارق... هؤلاء مسؤولون، حسب الرواية، عن خراب البلد، وعن ضياع ألف. إنهم، وكما يقول يوسف، الطبيب، قد "تمركزوا في أعضائهم". وهم، حسب الرواية، "يشهدون كتائب خصصت للقتال من أجل الجنس". ويمكن القول بأن العنف الجنسي  السياسي، وكما نقرأ، في لغة "التشهي"،  يحملنا علي اعتبارها من الأعمال الروائية القليلة التي تناولت هذه العلاقة بين العنف الذكوري وبين الهوية والانتماء علي هذا النحو من التداخل والتشابك الثري بدلالاته الملتبسة وإحالاته البعيدة، والمميّز بتمركزه، في العمق، حول المدينة، بغداد، وما تعنيه من ثقافة وتاريخ وحضارة. وفي هذا السياق تستوقفنا اللغة، لغة عالية ممدوح. عبارتها المشحونة بمشاعر الفقدان "الأليم للذات وللحبيبة وللوطن".

تصوغ هذه الكاتبة لغتها علي خلفية العلاقة بالآخر، العلاقة التي لا تعني القبول أو الرفض، بل تعني الحضور. الحضور الأقوي من الرفض ومن القبول. "أنا معهم (الرجال) ولا ألتقي بهم". تقول. وعلي أساس هذه الخلفية يبرز الالتباس في اللغة. الالتباس الذي يفتح التعبير علي ثراء الدلالة.

تئن لغة عالية ممدوح بالوجع، لكن لترتفع، في الآن نفسه، عنه. ترتفع بالعناق، بتشابك الذراعين، المختلفين. وجع بدون انحناء، وارتفاع بدون قيم برانيّة، قيم أخلاق السائد والمتداول، قيم الذكورة وأخلاقها. إنه وجع يبتدع قيم ارتفاعه. قيم الجسد الأنثوي، قيم الذات التي تتسع لأكثر من الأنوثة/ النوع، تتسع للحب والحياة. إنها اللغة التي يشي فيها العناق بالجسد، ولكن بأكثر من الجنس، بغير الجنس، بما لا ينفيه، بما يجعل منه مساحة للقاء الوجع بالوجع، والقهر بالقهر، والفقدان بالفقدان. 

إضاءة كوامن الذات
تبتدع عالية ممدوح من الدلالات والمعاني ما يضيء كوامن الذات ويكشف مجهولها. وهي بذلك تقدم المختلف، وتنتج وعياً آخر لما ألفناه من علاقات، لهذا الذي قبع في المحترم، وترسّخ في الأيديولوجيا، وراح يجلد رغبات النسوة في الحياة، في الحب. الحب الذي تحفل به روايات عالية ممدوح، والذي تحتفل به راوية "المحبوبات"، تعلن عن رغبتها فيه. تقول: "أحبُّ أن أُحَب"، أحب أن أحَب وأكون محبوبة... أحب تلك اليد التي تمشي علي جسمي بغير نظام ولا هدف، بالزائد الذي لم يفض، وبالناقص الذي فاض، وبالرجال الذين تركتهم علي سجيّة نفسي، أنام معهم واحداً تلو الآخر ولا ألتقي بهم..."الحب بلا قواعد سابقة، بلا حدود مفروضة. حب بلا عنف. حب جسد لجسد لا ينهض عنف الذكورة بينهما. إنه اللقاء مع الذين لا يملكون" إلاَّ سلطان ضعفهم المعتدل القامة، "والذين لا يميزون بيننا وبينهم".

حب ولقاء. أو حب هو لقاء الأنوثة والذكورة، بين امرأة ورجل، بين كائنين. نذرف معه الدموع. دموع نذرفها معاً. نحن وهم، ويغلب علينا الخوف.. الخوف!! الذي ربما هو الفراق الأعظم الذي لا بدّ منه، الفراق الذي يعلنه عيشُ الحياة.