يقدم الباحث الفلسطيني في هذه الدراسة رؤية جديدة لما يدور في المنطقة العربية من خلال تحليله لدور النفط في الحروب التي وقعت فيها وفي الصراع الدائر بين القوى عليها.

حروب النفط مرشحة للاتساع

رؤية لما يدور في العراق والسودان والعالم العربي

داود تلحمي

في كتابه الاستذكاري الذي صدر في الولايات المتحدة في اواسط ايلول/ سبتمبر 2007 أقر قيصر المالية الامريكية بين العامين 1987 و2006، ألان غرينسبان، ولقبه الرسمي مدير الاحتياطي الفيدرالي، اي المشرف الاول علي النظام المصرفي الامريكي، بانه يحزن لانه يبدو ان ليس من المناسب سياسياً الاعتراف بما يعرفه الجميع: وهو ان حرب العراق كانت بالاساس من اجل النفط. وقد اوردت صحيفة ذي اوبزيرفر البريطانية الاسبوعية هذه الكلمات من كتابه في عددها الصادر يوم 16/9/2007، ومنابر اعلامية اخري.

وفي واقع الحال، تشهد هذه السنوات الاخيرة تصاعداً ملحوظاً في حدة الصراع العالمي من اجل السيطرة علي مصادر الطاقة، وخاصة النفط. وهذا الصراع يتخذ ابعاداً واسعةً بشكل مضطرد، وطابعاً عسكرياً وعنفياً في اكثر من منطقة من مناطق العالم، وليس العراق وحده. يحصل ذلك في ظل تواتر التقارير والدراسات المشيرة الي توقع استمرار تراجع اجمالي حجم الاحتياطي المكتشف من النفط، نتيجة تصاعد الطلب والاستهلاك في العالم، ومحدودية الاكتشافات الجديدة لحقول نفطية اضافية. وهذا التصاعد المتسارع في الطلب والاستهلاك هو، بشكل رئيسي، وراء ارتفاع اسعار النفط في هذه السنوات الاولي من القرن الجديد، ووصولها مؤخراً الي عتبة الـ100 دولاراً للبرميل.

وبالفعل، شهدت السنوات الاخيرة صدور تقارير ودراسات عديدة تتناول معطيات الطاقة، بمصادرها المختلفة في العالم، والتوقعات المستقبلية بشأنها، والتأثيرات المحتملة علي خارطة موازين القوة الاقتصادية، وبالتالي السياسية، في عالم القرن الجديد. ومن بين هذه الدراسات ذلك التقرير الذي صدر في خريف العام 2006 عن مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن، تحت عنوان تبعات اعتماد الولايات المتحدة علي النفط علي امنها القومي، وأعدته لجنة عمل خاصة  (تاسك فورس) باشراف وزير الدفاع والطاقة الاسبق، جيمس شليزنغر، والمدير السابق للمخابرات المركزية، جون دوتش. كما صدر تقرير موسع آخر في تموز/ يوليو 2007 اعدته مجموعة كبيرة من الخبراء بطلب من وزير الطاقة الامريكي، ونشره تحت عنوان معبر: حقائق صعبة حول الطاقة الكونية. 

لا بديل مرئياً عن النفط
ومجمل هذه التقارير تؤكد علي استحالة الاستغناء عن النفط او ايجاد بديل له في المستقبل القريب. وبالنسبة للولايات المتحدة، تؤكد علي عدم واقعية الدعوات الي الاستقلالية في مجال الطاقة، اي توفير كافة احتياجات الطاقة الامريكية من داخل البلد نفسه. فالنفط ما زال حالياً المصدر الاول من بين مصادر الطاقة المستخدمة في العالم، حيث يؤمن زهاء 37 بالمئة من مجمل الطاقة المستهلكة في العالم. وبالرغم من مرور اكثر من ثلاثة عقود علي فورة الاسعار في العامين 1973 ـ 1974 والتوجهات التي رافقتها في الدول الغنية المستهلكة للنفط للاندفاع في البحث عن مصادر بديلة للطاقة، فان النفط بقي حتي الآن المصدر الاول للطاقة، في حين يتواصل استخدام الفحم كمصدر ثان للطاقة (حوالي 25 بالمئة)، كما يتزايد استخدام الغاز الطبيعي كمصدر ثالث (حوالي 23 بالمئة). والتقرير الامريكي المشار اليه يتوقع ان تحتفظ هذه المصادر الثلاثة بنسبة 80 بالمئة من مصادر توليد الطاقة في العالم حتي العام 2030.

بالمقابل، بقي استخدام الطاقة النووية، لتوليد الكهرباء مثلاً، مجالاً محفوفاً، لعدة عقود، بالحذر الشديد ومحاطاً باعتراضات انصار البيئة، خاصة بعد جملة من احداث تسرب الاشعاعات النووية، واشهرها حادثة ثري مايل آيلاند في الولايات المتحدة عام 1979 وحادثة تشيرنوبيل في الاتحاد السوفييتي السابق عام 1986. لكن التطويرات التي اُدخلت علي انظمة الحماية والاحتراز، من جهة، وتقلبات اوضاع مناطق النفط والغاز واسعارهما في انحاء العالم، من جهة أخرى، اعادت الاهتمام بالطاقة النووية لتوليد الكهرباء. وهو ما ادي الي تنامي عدد المفاعلات النووية لهذا الغرض في العالم. لكن نصيب الطاقة النووية من الطاقة المستهلكة في العالم لا يتجاوز حالياً الـ6 بالمئة، وهي نسبة ليست مرشحة لتزايد كبير في العقدين القادمين، حيث تتحدث توقعات التقارير المذكورة عن احتمال مضاعفة هذه النسبة الي 12 بالمئة!.

وصحيح كذلك ان هناك محاولات حثيثة لتنمية مصادر الطاقة الطبيعية المتجددة، كأشعة الشمس والمياه المتدفقة والرياح، وكذلك محاولات لاستخدام بعض المواد الزراعية. لكن مجمل مصادر الطاقة هذه، مع الطاقة النووية، لا توفر حتي الآن اكثر من 15 بالمئة من الطاقة المستخدمة في العالم، في وقت يُقدر فيه تقرير حقائق صعبة ان يتزايد الاستهلاك من حوالي 86 مليون برميل يومياً حالياً الي اكثر من 117 مليون في العام 2030.  وفي حين يُعتبر احتياطي الفحم المعروف في الولايات المتحدة كافياً لقرن قادم علي الاقل، كما ان هذه المادة الاولية متوفرة بكثرة في روسيا والصين وبلدان اخري، ويُعتبر الاحتياطي المكتشف من الغاز الطبيعي في العالم كبيراً نسبياً، يتعرض حجم الاحتياطي المكتشف من النفط للتناقص، كما ذكرنا، علي خلفية تنامي استهلاكه، مع النمو المتسارع لاقتصاديات عدد من الدول الصاعدة، وخاصة دول آسيا الشرقية، والصين اولاً.

وعلي هذه الخلفية، تشهد هذه السنوات الاولي من القرن الجديد احتداماً للصراع العالمي من اجل السيطرة، المباشرة وغير المباشرة، علي مصادر النفط وعلي ممراته. بحيث تحول هذا الصراع الي ما يشبه الحرب الكونية. وهي حرب ساخنة في بعض الحالات، كما هو الحال في العراق وافغانستان، وفي مناطق اخري مضطربة، مثل السودان والصومال، ليست توتراتها ببعيدة عن المسألة النفطية. 

امريكا تنشر قواتها وزيادة الأسعار حتمية
وباعتبار الولايات المتحدة القوة العسكرية الكبري علي الصعيد العالمي، بمسافة واسعة عن دول العالم الاخري (الانفاق العسكري الامريكي الحالي يشكل حوالي 48 بالمئة من مجمل انفاق دول العالم)، فانها تستخدم كل قدراتها العسكرية هذه، في السنوات الاخيرة، لمد نفوذها وسيطرتها علي المناطق النفطية في ارجاء العالم. بدءاً بمنطقة الخليج المشرقية ـ ذات الاحتياطي الاكبر في العالم،  حوالي 55 بالمئة من الاحتياطي المكتشف في العالم في العام 2006 ـ مروراً بالجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطي ومنطقة بحر قزوين، وانتهاءً بشرق وغرب افريقيا ومناطق اخري، بما في ذلك تلك الاراضي والمياه التي يمكن ان تمر عبرها انابيب نقل النفط او الغاز، او البحار والمضائق التي تمر عبرها ناقلات النفط والغاز المسيل.

ومعروف ان الولايات المتحدة، التي كانت، في الماضي، المنتج الاول للنفط، وكانت مكتفية ذاتياً، باتت منذ السبعينيات الماضية بلداً مستورداً للنفط، واخذ احتياطيها من النفط يتناقص. وهي الآن تستورد حوالي 60 بالمئة من استهلاكها النفطي. والهاجس الامريكي لا يتوقف عند حدود حاجة الولايات المتحدة وحدها، بل يمتد الي حاجة حلفائها والدول التي تتداخل اقتصادياتها مع الاقتصاد الامريكي، او تلك التي يهم الولايات المتحدة ابقاءها تحت مظلتها، منذ ان وفرت لها نتائج الحرب العالمية الثانية تلك الفرصة لنشر مظلاتها، والمقصود خاصة بلدان اوروبا الغربية والوسطي، واليابان، ودول حليفة اخري.

لكن ما زاد الامور تعقيداً بالنسبة لصانعي القرار في واشنطن انهم لم يعودوا اللاعب الاوحد في هذا المجال الكوني، كما ظنوا، لوهلة، في مطلع التسعينيات الماضية.  فمنذ العام 1993، باتت الصين، وهي حالياً البلد الخامس المنتج للنفط في العالم، تستورد كميات متزايدة من بلدان اخري، لتلبي حاجاتها المتنامية في ظل صعودها الاقتصادي الصاروخي، المتواصل بوتيرة عالية منذ اكثر من عقدين من الزمن في شتي مجالات الانتاج. وقد اصبحت الصين المستهلك الثاني للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة، والمستورد الثالث له بعد الولايات المتحدة واليابان، التي تستورد تقريباً كل حاجاتها النفطية من بلدان اخري.

اما الهند، العملاق الآسيوي الثاني بعد الصين من حيث الحجم السكاني، والمرشحة لان تتجاوزها سكانياً خلال سنوات قليلة، فهي تستورد 75 بالمئة من حاجتها النفطية. ومعظم واردات هذه البلدان الآسيوية تأتي من منطقة الخليج، اي من ايران والدول العربية الخليجية. اما الدول الاوروبية، فتستورد نسبة اقل من المنطقة الخليجية، معتمدةً علي دول اقرب اليها جغرافياً، مثل النرويج، الدولة الثالثة المصدرة للنفط في العالم، او روسيا، الدولة الثانية المنتجة والمصدرة في العالم، او دول الشمال الافريقي العربية، وخاصة الجزائر وليبيا، او دول نفطية افريقية جنوبي الصحراء الكبري، وحتي دول امريكية لاتينية.

والولايات المتحدة تستجلب نسبة اقل من وارداتها النفطية من المنطقة الخليجية، لا تتجاوز الـ25 بالمئة من مجمل وارداتها هذه، ومعظمها تأتي من العربية السعودية، البلد المورد الثاني لها. فيما تعتمد بشكل اكبر علي وارداتها من دول القارة الامريكية، وخاصة من جارتيها كندا والمكسيك، اللتين تأتيان في المرتبتين الاولي والثالثة كموردين للنفط بالنسبة لها. وتأتي فنزويلا، في امريكا الجنوبية، في المرتبة الرابعة، وبعدها نيجيريا، في افريقيا الغربية، ثم العراق والجزائر وانغولا، ودول افريقية وامريكية لاتينية اخري. وتعتبر واشنطن ان تنمية الواردات من دول قريبة نسبياً اسلم لها علي الامد الاطول، اولاً بسبب تكاليف الشحن الاقل، وثانياً بسبب كون المنطقة الخليجية المشرقية منطقة مضطربة وغير مستقرة سياسياً من وجهة نظرها. وهو ما لا يعني اطلاقاً ان مصير الخليج ومناطق النفط الاخري غير مهمة بالنسبة لواشنطن، بل العكس هو الصحيح. خاصة لكون منطقة الخليج هي صاحبة الاحتياطي المكتشف الاكبر في العالم، وهي المنطقة الاولي التي تستطيع تلبية حجم الطلب المتزايد علي النفط خلال العقدين القادمين وفق التقديرات الراهنة. مع العلم بأن بعض التقديرات تري ان تلبية مجمل هذا التزايد في الطلب لن تكون ممكنة، مما سيقود الي مزيد من ارتفاع اسعاره. 

أحتدام حدة التنافس وبزوغ الصين
كل ذلك يأتي، اذاً، في سياق التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة وعدد من الدول المرشحة لدور كوني متصاعد في السنوات القادمة، وخاصة الصين وروسيا، والي حد ما الهند، وبلدان اخري اقل حجماً. وتتمتع روسيا بمكانة القوة العظمي في مجال الطاقة، لما لديها من مستوي انتاج وحجم احتياطي من النفط والغاز والفحم، تستخدمها حالياً في محاولة لاستعادة دور عالمي لها يقترب مما كان للاتحاد السوفييتي في عصره الذهبي بعد الحرب العالمية الثانية.

أما الصين فهي حالياً في مرتبة متقدمة في اطار التنافس الكوني مع الولايات المتحدة، لكونها تسعي من جانبها لتوسيع وتنويع مصادرها من النفط والغاز، متجهةً الي مختلف مناطق العالم، بدءاً من روسيا وجمهوريات آسيا الوسطي، السوفييتية سابقاً، التي يشاطئ بعضها بحر قزوين الغني بالنفط والغاز، ومروراً بايران التي تقيم معها الصين علاقات اقتصادية متنامية، وكذلك السعودية التي اقامت معها مؤخراً علاقات متطورة، وصلت الي حد تبادل الزيارات الرسمية بين الملك عبدالله والرئيس الصيني هو جن تاو، نجم عنها توقيع عدد من الاتفاقات الهامة.

كما امتدت مساعي البحث عن مصادر الطاقة، وخاصة النفط، لدي الصين الي قارات اخري، بما في ذلك امريكا اللاتينية، حيث تم عقد اتفاقات وترتيب استثمارات واسعة في بلدان نفطية امريكية لاتينية، مثل فنزويلا وبوليفيا والإكوادور، وفي دولة رئيسية في القارة مثل البرازيل، وعدة دول لاتينية اخري. كما تنشط شركات النفط الصينية في انحاء القارة الافريقية، حيث طورت الصين حضورها واستثماراتها هناك، الي حد ازعج الامريكيين والاوروبيين، الذين كانوا يعتبرون القارة السوداء حكراً علي شركاتهم النفطية، وغير النفطية. واعتمدت الصين في علاقاتها هذه مع بلدان العالم الثالث اساليب مختلفة عن تلك التي تستخدمها البلدان والشركات النفطية الغربية، حيث قدمت شروط شراكة مغرية لبلدان افريقيا وامريكا اللاتينية، وبعض البلدان الآسيوية، في مجال استخراج النفط وبناء وتأمين مرافق نقله، وارفقتها بمساعدات وقروض مسهلة، خاصة لتطوير البني التحتية فيها. 

مشاكل السودان والصومال ليست بعيدة عن النفط
ولشركات النفط الصينية حضور واسع حالياً في جنوب وشرق السودان، حيث اكتُشفت حقول نفطية هامة، يمتد بعضها الي منطقة دارفور، المتاخمة لدولة تشاد الي الغرب منها. كما باشرت الشركات الصينية البحث عن النفط في الصومال ايضاً، بالرغم من وضعه الداخلي المضطرب.  وكانت تشاد، الواقعة جنوبي ليبيا وغربي السودان، قد اصبحت دولة منتجة للنفط في العام 2003 بعد اكتشافه من قبل تكتل من الشركات النفطية تقوده كبري الشركات النفطية الخاصة في الولايات المتحدة وفي العالم، اكسون موبيل. وفي حين تحمي واشنطن وتداري النظام الاستبدادي القمعي في تشاد، تستهدف السودان بحملات وضغوط قوية، خاصة بعد ان اتخذت الادارة الامريكية السابقة قراراً في العام 1997 يعتبر النظام هناك داعماً للارهاب، وفق التعبير المستخدم، وهو قرار قضي عملياً بمنع شركاتها من الاستثمار والعمل في السودان. ويبدو ان الشركات النفطية الامريكية والادارة الامريكية نادمةٌ علي قرارها هذا، بعد ان تم اكتشاف واستثمار الحقول النفطية في البلد من قبل عدد من الشركات النفطية الآسيوية، وخاصة شركات صينية وهندية وماليزية.

واذا علمنا ان الصين تستورد قسماً كبيراً من النفط السوداني المستخرج، وان حجم واردات الصين من السودان يصل الي حوالي 64 بالمئة من مجمل الصادرات السودانية، النفطية وغير النفطية، ندرك ان الحملات علي السودان تستهدف الصين ايضاً، بشكل غير مباشر. وليس مستبعداً ان تكون هذه الحملات والضغوط الحادة الامريكية تراهن اما علي احراج الصين لاخراجها، وهو ما لن يحدث، علي الاغلب، او ايجاد مخارج لمأزق شركاتها الطامعة بالكعكة النفطية السودانية، سواء عبر بوابة تغيير النظام في الخرطوم، او الضغط عليه لاحداث انقلاب في سياساته وعلاقاته الخارجية، او عبر تعزيز النزعات الانفصالية في البلد بهدف بلقنته، علي غرار ما جري مع يوغوسلافيا في التسعينيات الماضية.

وفي هذا السياق، تبدو حملات الولايات المتحدة الحالية بشأن اوضاع السكان وحقوق الانسان في دارفور ومناطق السودان الاخري، منافقة، اذا ما اجرينا مقاربة مع صمتها، لا بل تواطؤها وتأييدها المعلن، لانتهاكات اسرائيل الواسعة لحقوق الانسان والقوانين الدولية في الاراضي الفلسطينية المحتلة، كما تجاه البلدان العربية المجاورة. وذلك علاوةً علي ما تقوم به الولايات المتحدة نفسها من تجاوزات رهيبة لهذه الحقوق والقوانين في العراق الذي تحتله قواتها، اضافة الي دورها المفضوح في دفع اسرائيل لشن حربها الدموية والتدميرية علي لبنان في صيف العام 2006.

وهنا، وفي سياق موضوعنا، بامكاننا ايضاً تسجيل الصمت الامريكي الكامل عن سلوكيات انظمة استبدادية فاسدة في بلدان اخري منتجة للنفط في افريقيا، ولكن الشركات النفطية الامريكية حاضرة فيها، مثل نظام ادريس دِبي في تشاد، ثاني اكثر انظمة العالم فساداً في قائمة منظمة الشفافية الدولية للعام 2005، والبلد الخامس الافقر في العالم في ميزان التنمية البشرية للامم المتحدة، حيث 80 بالمئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، في وقت تُهدر فيه عائدات النفط.

وعلي مسافة من تشاد غرباً، هناك نظام غينيا الاستوائية، الدولة الصغيرة (حوالي نصف مليون نسمة) الواقعة علي شواطئ افريقيا الغربية، والتي تتمتع فيها العائلة الحاكمة، التي ترعاها الادارة الامريكية وشركاتها النفطية، بمداخيل النفط الكبيرة لرفاهيتها الخاصة، فيما يبقي اكثر من نصف السكان بدون مياه جارية في منازلهم، مع العلم بان غينيا الاستوائية هي الدولة الثالثة المصدرة للنفط في افريقيا السوداء، جنوبي الصحراء الكبري، بعد نيجيريا وانغولا. وهي ايضاً تحتل، بدورها، موقعاً متقدماً في قائمة الفساد الدولية التي اشرنا اليها، حيث تم تصنيفها بين الدول الثلاث عشرة الاكثر فساداً في العالم (من بين 163 دولة وكياناً) في العام ذاته 2005. كل ذلك، بالطبع، لا يهم الادارة الامريكية، طالما ان هذه الانظمة الفاسدة والقمعية تضع بيضَها ومستقبل شعوبها في السلة الامريكية.

وقد لفت الانتباه، في السنوات الاخيرة، تنامي الحضور العسكري الامريكي المباشر في تلك المنطقة الافريقية الغربية، منطقة خليج غينيا، الذي يقع علي شواطئه البلد النفطي الاهم في افريقيا السوداء، نيجيريا، ولا يبعد عنه كثيراً البلد النفطي الثاني، وهو انغولا. واعلنت الادارة الامريكية رسمياً، يوم 6/2/2007، وعلي لسان وزير الدفاع روبيرت غيتس، قرار الرئيس بوش انشاء قيادة عسكرية امريكية خاصة للقارة الافريقية، علي ان يجري استكمال ترتيبات اقامتها العملية علي الارض قبل 30/9/2008. 

العراق والقواعد العسكرية الأمريكية والنفط
وكما بات واضحاً، فان الحرب الامريكية ـ البريطانية لاحتلال العراق منذ مطلع ربيع العام 2003 هدفت بدرجة اولي الي السيطرة علي بلد نفطي رئيسي في العالم، وبالتالي احكام السيطرة من خلال هذا الاحتلال، ومن خلال القواعد العسكرية الاخري والاساطيل في الخليج، علي مجمل هذه المنطقة الاستراتيجية، في محاولة للتأثير علي مستوي انتاج النفط واسعاره. لكن كل المؤشرات الراهنة تدل علي ان اسعار النفط مرشحة للبقاء مرتفعة، وربما حتي للارتفاع اكثر والوصول الي ارقام قياسية جديدة. واذا كان ارتفاع الاسعار يزيد من ارباح شركات النفط الامريكية، فهو لا يناسب، بالضرورة، مجالات الاقتصاد الاخري في الولايات المتحدة، وفي دول اخري طبعاً. خاصة وان مجال المواصلات، سواء البرية او البحرية او الجوية، ما زال يعتمد بشكل رئيسي، في الولايات المتحدة وغيرها من الدول، علي مشتقات النفط، وان كانت هناك محاولات، محدودة التأثير حتي الآن، لايجاد بدائل، كلية او جزئية، له.

وتطورٌ كهذا يؤثر ايضاً علي المواطن العادي في هذه البلدان، سواء مالك السيارات والشاحنات او المسافر في القطارات والسفن والطائرات. وهو امر له انعكاساته السياسية، بالطبع، علي الحكومات في البلدان الرأسمالية المتطورة، وخاصة في الولايات المتحدة، التي تستهلك وحدها اكثر من 20 بالمئة من اجمالي النفط المستهلك سنوياً في العالم. وقد تعود مواطنوها، طوال عقود طويلة من اسعار النفط المتدنية، علي وقود رخيص للسيارات الامريكية الكبيرة وكثيرة الاستهلاك، اي ان ما يُسمي بنمط الحياة الامريكي، الذي كانت وسائل الدعاية الامريكية تسعي الي ترويجه في العالم، مهدد بالتغير بشكل ملموس في السنوات القادمة. وهو ما تدعو التقارير الرسمية الامريكية المشار اليها اعلاه الي العمل الواعي لتغييره بقصد تقليص استهلاك مشتقات النفط، علماً بان هناك محاولات، ما زالت في بداياتها، لاستخدام الكهرباء او غاز الهيدروجين وغيره كبدائل عن مشتقات النفط في وسائل النقل، وكذلك يجري العمل علي ادخال مواد ذات منشأ زراعي، مثل الايثانول، في وقود السيارات، بما يقلل من استهلاك البنزين. ولكن هذا الاستخدام، بالمقابل، يقود الي رفع اسعار المواد الزراعية المستعملة، وهي نبتة الذرة في الولايات المتحدة، وقصب السكر في البرازيل، البلد الاكثر تقدماً في استخدام الايثانول كوقود للسيارات.

وفي وقت تبدو فيه المغامرة العسكرية الامريكية في العراق مهددة بالفشل، فان الادارة الامريكية، في سعيها الي ايجاد مخارج لمأزقها الراهن هناك، تحاول ان تجد صيغة تلبي، ولو جزئياً وشكلياً، رغبة غالبية المواطنين الامريكيين بمغادرة القوات الامريكية لهذا البلد، وتراعي بشكل اكبر رغبة الشركات النفطية ومراكز القرار السياسي الاستراتيجي التي كانت وراء الحرب في ابقاء حضور ونفوذ امريكيين مؤثرين في العراق، والمنطقة الخليجية عامةً، علي الامد الطويل. وتشير المصادر الاعلامية الي ان القوات الامريكية في العراق بنت 14 قاعدة عسكرية كبيرة مجهزة ومتطورة اُقيمت علي اساس انها باقية لفترة زمنية طويلة. وهو ما يفسر اصرار الادارة الامريكية الحالية علي عدم الخروج من العراق بدون ضمان حد ادني من المكاسب لمعسكر الحرب والنفط الامريكي، ولاستراتيجية الهيمنة الكونية هذه علي المناطق النفطية. ولكن الكلمة الاخيرة في هذا الشأن ليست بالضرورة للطرف القائم بالاحتلال.

ومعروف ان الادارات الامريكية عملت علي اقامة قواعد عسكرية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وبلدان حلف وارسو المنحل في اوروبا الشرقية والجنوبية كما في آسيا الوسطي، وكذلك في البلدان التي فرخها تفكك يوغسلافيا الاتحادية.  كما اقام الامريكيون حضوراً عسكرياً لهم في جورجيا، الجمهورية السوفييتية السابقة الواقعة علي البحر الاسود، بعد تغيير النظام فيها في العام 2003 لصالح انصار الولايات المتحدة. وهو ما سهل علي الولايات المتحدة انجاز انبوب نقل النفط من جمهورية اذربيجان، السوفييتية سابقاً ايضاً، والمتحالفة مع واشنطن حالياً، وتحديداً من عاصمتها باكو علي بحر قزوين وعبر جورجيا (وعاصمتها تبليسي) الي مرفأ جيهان التركي، وهو الانبوب الذي يُعرف باسم انبوب باكو ـ تبليسي ـ جيهان، بحيث يلتف بذلك علي المسارات السابقة عبر روسيا. 

روسيا والصين وتواصل حروب النفط
وقد جرت محاولات ايضاً لجذب جمهوريات آسيا الوسطي الاخري المحيطة ببحر قزوين لمشاريع شبيهة لنقل النفط والغاز. لكن كلاً من روسيا والصين تحركتا في السنوات الاخيرة لمحاصرة التمدد الامريكي في مجال الحضور العسكري وفي مجال الطاقة في هذه المنطقة. وحققت روسيا نجاحاً ملفتاً مؤخراً عندما اجتذبت كلاً من كازاخستان وتركمانستان لترتيبات مشتركة متعلقة بنقل الغاز الطبيعي، المستخرج عندهما، عبر اراضي روسيا غرباً، مع العلم بان هناك ترتيبات اخري شرقاً لنقل النفط والغاز باتجاه الصين وبلدان آسيوية اخري.

وجدير بالاشارة ان الحرب الامريكية علي افغانستان، التي بدت رداً اولياً علي هجمات 11/9/2001 علي نيويورك وواشنطن، لها ايضاً خلفيات نفطية مرتبطة بثروات بحر قزوين. فمنذ اواسط التسعينيات، حاول الامريكيون الاقتراب من حكم طالبان في كابُل لترتيب اقامة خط انابيب لنقل النفط القزويني عبر افغانستان الي باكستان والمحيط الهندي، مما كان سيشكل التفافاً آخر علي المسارين الروسي والصيني، والايراني، المستبعد اصلاً. وقد قامت شركة يونوكال الامريكية بدراسة هذا المشروع، لكنه لم يجد طريقه الي التنفيذ آنذاك، خاصة بعد ان حدثت التفجيرات في سفارتين للولايات المتحدة في شرق افريقيا في العام 1998، ونُسبت في حينه الي تنظيم القاعدة الذي يقوده اسامة بن لادن، المعروف بعلاقاته الافغانية.

وقد اشارت بعض المصادر الصحافية الاوروبية والامريكية الي ان الرئيس الافغاني الذي نصبه الامريكيون بعد احتلالهم لافغانستان في اواخر العام 2001، حامد كرزاي، عمل لفترة من الزمن مستشاراً لشركة يونوكال ذاتها. كما ان السفير الحالي لواشنطن في منظمة الامم المتحدة، زلماي خليلزاد، وهو من اصل افغاني ايضاً، شارك في اعداد دراسة متعلقة بمشروع شركة يونوكال لمد خط انابيب الغاز من تركمانستان عبر افغانستان الي باكستان.

وهكذا تتواصل الحروب العالمية من اجل النفط، التي كانت قد بدأت منذ اوائل القرن العشرين مع بدء الاستخدام المنهجي لمشتقات النفط في وسائل المواصلات، بما في ذلك اثناء الحرب العالمية الاولي. وهو استخدام جري علي نطاق اوسع بكثير خلال الحرب العالمية الثانية، التي كانت، في جانب هام منها، حرباً من اجل النفط، المادة الاولية الضرورية للآلة العسكرية المعاصرة، حيث كانت القيادة النازية لالمانيا، البلد المفتقر لهذه المادة الاولية الهامة في اراضيه، تسعي للوصول الي منابع النفط المعروفة آنذاك، وخاصة عبر اجتياح الاتحاد السوفييتي في العام 1941 املاً بالوصول الي منابع النفط السوفييتي في منطقة القوقاز وبحر قزوين. لكن الهجوم النازي انكسر في شباط/فبراير 1943 علي ابواب مدينة ستالينغراد، القريبة من قزوين.

وسعت اليابان، المفتقرة ايضاً للنفط، من جهتها، خلال الحرب، الي احتلال بلدان نفطية، وبشكل خاص اندونيسيا. وشهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية سلسلة من الحروب والمؤامرات التي استهدفت تعزيز سيطرة الدول الغربية وشركاتها علي المناطق النفطية، من بين اشهرها ذلك الانقلاب الشهير، المدبر من المخابرات الامريكية والبريطانية، كما تقر الوثائق الامريكية والبريطانية المنشورة، علي الزعيم الوطني الايراني محمد مصدق في العام 1953، وهو الانقلاب الذي اعاد شاه ايران الي الحكم والغي التأميمات التي اجراها مصدق. وهو الانجاز الامريكي ـ البريطاني الذي سينهار بعد زهاء ربع القرن عند الاطاحة بالنظام الشاهنشاهي في العام 1979، مما دفع الامريكيين وحلفاءهم للاتجاه، بعد ذلك، للعمل علي ايجاد مواطئ قدم اخري اضافية لهم في المنطقة الخليجية، المنطقة الاهم من بين مناطق النفط في العالم. 

كاتب فلسطين