أسوار العقل المنفعل المنيعة

بين الرفد والنقد، يقف الجابريّ عملاقا في الفكر العربي

علاءالدين الأعرجي

نعم، نجح 'الجابري' في خرق الكثير من سجون وحصون 'العقل" العربي المنفعل' المنيعة التي كانت موصدة، يحرسها آلاف بل ملايين العمالقة والفدائيين، الذين كفروا بنعمة 'العقل الفاعل' التي منحها الله لهم، فاستسلموا لعقول أحكموا إغلاقها وحراستها، منذ قرابة أربعة عشر قرنا، كانت قد ظهرت فأبدعت، في زمان غير زمانهم وظروف غير ظروفهم. نعم، استطاع المفكر محمد عابد الجابري بـ 'عقله الفاعل' أن يدخل إلى أعماق 'العقل العربي المنفعل' بـ 'العقل المجتمعي' السائد والمتخلف بحكم خضوعه لقيم وأعراف وعادات ومعتقدات، تحولت إلى مسلمات، لا تنتسب حتى لعصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، بل إلى عصر انحدارها في غياهب الفترة المظلمة. نعم، تمكن الجابري، بفكره الثاقب، من ولوج أسوار 'العقل المجتمعي العربي' السائد، ففتح أنفاقا وكـُوى يمكن أن ينفذ منها الجيل المثقف، الذي يتحلى بعقل فاعل، ليدخل إلى حجراتها المقفلة، وصناديقها المثقلة بغبار القرون، ليكشف عن غثها وسمينها. نعم، استطاع الجابري أن ينتبه بـ 'عقله الفاعل'، ربما للمرة الأولى، إلى أن 'مفهوم التراث في الوعي العربي لا يعني فقط حاصل الممكنات التي تحققت، 'بل يعني كذلك 'حاصل الممكنات التي لم تتحقق وكان يمكن أن تتحقق. إنه ( أي التراث) لا يعني 'ما كان فحسب '، بل أيضا، ولربما بالدرجة الأولى، ما كان ينبغي أن يكون'.( 'التراث والحداثة' ـ 1991ـ ص24).

نعم، قالها الجابري مدويّة موجها كلامه لمعظم الكتاب العرب، إن خطابكم كان وما يزال 'خطاب وجدان وليس خطاب عقل'. لقد كان ولا يزال يعبر عما يجده الكاتب العربي في نفسه من انفعالات إزاء الأحداث وليس عن منطق هذه الأحداث' ('الخطاب العربي المعاصر؛ دراسة تحليلية 'ط 4 ـ ص 38). نعم، فضح الجابري الخطاب السلفي الذي ما يزال ينوه بـ 'العقل' ويدعو إلى الاحتكام إليه، ولكن أي عقل؟ إنه العقل الذي يرجع في اشتقاقه إلى 'عقلتَ البعير إذا جمعتَ قوائمه ومنعته من الحركة أي من النهوض' ('الخطاب العربي المعاصر' ـ ص73). نعم، إن الجابري قالها بملء فمه: 'أن يحتوينا التراث شيء، وان نحتوي التراث شيء آخر... إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث؛ القطيعة التي تحولنا من ( كائنات تراثية) إلى ( كائنات لها تراث)، أي إلى شخصيات يشكل التراث أحد مقوماتها'. ('نحن والتراث' المركز الثقافي العربي ـ 1993ـ ص 21). وقالها بصراحة أيضا : 'القارئ العربي مؤطر بتراثه، بمعنى أن التراث يحتويه احتواء يفقده استقلاله وحريته. لقد تلقى القارىء العربي، ويتلقى تراثه منذ ميلاده ككلمات ومفاهيم، كلغة وتفكير كحكايات وخرافات وخيال، كطريقة في التعامل مع الأشياء، كأسلوب في التفكير كمعارف وحقائق'. ( 'نحن والتراث'، المرجع السابق ـ ص22). وقال عن الصحوة: 'إن النائم الذي ينام ليلته ليصحو في الغد، يستطيع أن يتابع مسيرة حياته كالمعتاد... اما اهل الكهف فلا تكفيهم الصحوة لمتابعة مسيرة الحياة، بل يحتاجون إلى تجديد عقولهم أولا، حتى يستطيعوا أن يروا الحياة الجديدة على حقيقتها' ( 'الدين والدولة وتطبيق الشريعة' ـ بيروت ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ طبعة 2004 ـ ص127).

كثير من الناس الصالحين الذين يفارقوننا إلى العالم الآخر ندعو إلى الله أن يتغمدهم بالخلود في فردوس الحياة الآجلة. ولكن قليلا منهم يفرض، هو نفسه، خلوده في الحياة العاجلة على مرّ السنين والأجيال والقرون. فتاريخ المعرفة حافل بذكر قلة من الرجال والنساء الذين خلفوا لهم أثراً متميزا، بل غير بعضهم وجهة التاريخ. ومنهم الأنبياء وكبار الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين وعظام رجال المجتمع البشري، منذ فجر التاريخ إلى اليوم، أي كل شخص استطاع أن يقدم للبشرية عامة أو لمجتمعه خاصة، خدمة كبيرة تساهم في رفع مستواه الحضاري؛ العقلي أو العلمي، الاقتصادي أو الاجتماعي. المفكر محمد عابد الجابري واحد من هؤلاء العباقرة، الذين سيخلدهم التاريخ، إذ تمكن من خدمة الفكر العربي على نحو يندر مثيله. فقد قدم إلى الثقافة العربية عطاءات شامخة خلال ما يقارب نصف قرن. ولئن كنا نشير باهتمام إلى انتاجه الزاخر إذ تجاوزت أعماله ثلاثين مؤلفا فضلا عن عشرات البحوث ومئات المقالات والمداخلات، فإن الثقافة العربية تعتز بوجه خاص بنوعية هذه المؤلفات، ومستواها الفكري، وهدفها الأعلى في بناء مجتمع واع يتمكن من تذليل التحديات الهائلة التي تواجهه. فهو يعتبر' صاحب مشروع فكري رامَ إمساك تاريخ الثقافة العربية الوسيط في كليته لا في أبعاضه، والبحث في أمشاجه عما يؤسس وحدته وينتظم بنيته'. (عبد الإله بلقزيز، 'محمد عابد الجابري، صاحب المشروع، صاحب المقالة' في كتاب' التراث والنهضة، قراءات في أعمال محمد عابد الجابري' مجموعة باحثين، بيروت ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ 2004 ـ ص65).

ويشير ناقده الأشهر، الأكثر تطرفا والأشد قساوة، جورج طرابيشي، إلى أن كتاب الجابري الأول من سلسلة أعماله في 'نقد العقل العربي' وهو 'تكوين العقل العربي' الذي قرأه باهتمام شديد، يشير إلى أنه علق عليه تعليقا مطولا في مجلة 'الوحدة' مثمنا له تثمينا عاليا باعتباره 'أطروحة عن العقل وفي سبيل العقل' ويضيف قائلا: 'وعلى الرغم مما أبديته من انتقادات واعتراضات جزئية فقد ختمت التعليق بالقول: إن الذهن بعد مطالعة تكوين العقل العربي لا يبقى كما كان قبلها. فنحن أمام أطروحة تغير، وليس مجرد أطروحة تثقف'('نظرية العقل' ـ ص8) علما بأن هذا الحكم كان قبل أن يمعن الأستاذ طرابيشي في نقد الجابري، حيث انقلب عليه رأسا على عقب. ومع ذلك فإن كاتب هذه السطور شعر بهذا التغير بعد قراءة كتاب 'التكوين' هذا، لا سيما بعد أن عدت إلى قراءة فصوله الأولى أكثر من مرة. وفي أثناء حواري مع الأستاذ الجابري على هامش الدورة السابعة عشرة للمؤتمر القومي العربي، في الدار البيضاء، قلت له إنني أقرأ بعض الفصول من كتاباتك مثنى وثلاثاً ورباعاً، بل عشرات المرات أحيانا، ولا سيما الفصول الأولى من كتاب 'التكوين'، فقال معلقا: 'لا بأس عليك فقد قرأ ابن سينا بعض أعمال أرسطو خمسين مرة'. فقلت معقبا: 'شكرا على هذه المقارنة، التي تضمر قياسا مع الفارق، وتنطوي على إطراء مزدوج، قد يستحقه المفكر الجابري ولا يستحقه كاتب هذه السطور'. ( انظر حواري المسهب معه المنشور في صحيفة 'القدس العربي' في 18/7/ 2006))

وفعلا فإنني لمست هذا التغير، بعد أن انعمت النظر في هذا الكتاب العمدة الصادر عام 1984، واستكملته بأعمال الجابري السابقة ثم اللاحقة، التي شعرت أنها تعكس كثيرا من كوامن صدري، وآرائي المكبوتة، تعكسها بعبارة بليغة جزلة وتأسيس موضوعيّ دقيق، ومنها كتاب 'نحن والتراث' ( 1980)، الذي أعلن فيه صراحة أن العقل العربي قام بـ 'إلغاء الزمان والتطورعن طريق رؤية الحاضر والمستقبل، من خلال الماضي، فهو فكر لا تاريخي ذو ( زمان راكد) لا يتحرك ولا يتموج. 'لذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه الحلول الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل'( ط 6، ص19). وأعقبته بدراسة 'الخطاب العربي المعاصر'( 1982)، الذي اعتبرته، مدخلا ثانيا لـ' نقد العقل العربي'. وفي هذا الكتاب التحليلي القيم أتفق مع المؤلف في رفضه الادعاء بأن العرب تمكنوا من تحقيق شيء يذكر من نهضتهم المأمولة. بل يتساءل، في مقدمته، هل هم 'يغالبون، بدون أمل، الخطى التي تنزلق بهم إلى الوراء'؟.( ط 4 ـ ص7) وهي حقيقة لاحظها كاتب هذه السطور منذ زمن طويل. وقد تفاقمت على نحو متواصل حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من كوارث متزايدة، وما ينتظرنا من ويلات ربما أدهى وأمر. ثم يشير الجابري إلى مختلف الميادين التي بحثها المفكرون لتشخيص الداء، ويردف قائلا: 'ميدان واحد لم تتجه إليه أصابع الاتهام بعد، وبشكل جدي صارم، هو تلك القوة أو الملكة أو الأداة التي بها يقرأ العربي ويرى ويحلم ويفكر ويحاكم...إنه العقل العربي ذاته'( ط4 ـ ص7-8).
ثم شرع الأستاذ الجابري في إصدار مشروعه الجبار في 'نقد العقل العربي'، أو بالأحرى تشريح هذا العقل، الذي بدأه بـ 'تكوين العقل العربي'( 1982)، فـ 'بنية العقل العربي'( 1986)، فـ 'العقل السياسي العربي'(1990)، وصولا إلى 'العقل الأخلاقي العربي' ( 2001). وقبل هذه المجموعة المتميزة، وفيما بينها، صدرت له مؤلفات مهمة كثيرة، تتناول مختلف جوانب الفكر العربي الحديث، وترتبط مباشرة بالأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية السائدة على الساحة العربية. ومما يذكر أن جميع مؤلفات الجابري تقريبا صدرت عن 'مركز دراسات الوحدة العربية'، في بيروت.

فضل الجابري على كاتب هذه السطور

وعودة إلى وجه التغير او التطور الذي حققه الجابري في فكر كاتب السطور، تأكيدا لمقولة طرابيشي، أن كتاب 'التكوين' لا يثقف فقط بل يغير، أعترف بفضل مجمل كتابات مفكرنا الكبير على محاولاتي في الإدلاء بدلوي الصغيرة في ميدان 'العقل العربي' وعلاقته بتخلفنا الحضاري، وذلك من خلال كتابي 'أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل' والذي استكمل بالجزأين الثاني والثالث، في 19 فصلا، منشورة في مجلة 'صوت داهش' الغراء الصادرة في نيويورك. وفي هذه الكتابات أعتقد أنني توصلت، بكل تواضع، إلى طرح ثلاث نظريات جديدة قد تختلف عن نظريات الجابري. وقد شرحت بعض هذه الاختلافات أثناء مناقشة الطبعة الأولى للكتاب، في الندوة الثانية التي جرت لمناقشته في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، في 21/12/2004، حيث اشترك في المناقشة عدد من أساتذة الجامعات والباحثين. كما شرحت بعضها أيضا في مقالة بعنوان 'بين نقد العربي ورفده، الجابري بعد مرور ربع قرن على تشريح العقل العربي' (بيروت: مجلة 'المستقبل العربي' ، أيار/ مايو 2008).

الفقيد المفكرمحمد عابد الجابري يعتبر مدرسة فكرية كاملة، تتجلى بوجه خاص من خلال طرحه لنقد 'العقل العربي'، باعتباره السبب الجذري لتخلفنا الحضاري، وبالتالي ضعفنا المادي والمعنوي على جميع الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية والفكرية والتنظيمية والثقافية، مما أدى إلى فشلنا المتواصل أمام العدو الإسرائيلي الذي تفوق علينا في جميع هذه الميادين، على الرغم من كثرة عددنا وما نملكه من موارد طبيعية وبشرية. لذلك وصلنا إلى هذه المرحلة من التردي الذي قد يؤدي إلى الانهيار الكامل والخضوع التام لإملاءات إسرائيل وأمريكا، كما يحدث فعلا اليوم إلى حد مُذل. وكمثال على ذلك، لنقارن فقط بين موقف البلدان العربية من الحرب على غزة والموقف المشرّف لتركيا.

الجابري يفتح أبواب نقد العقل العربي
ومن جهة أخرى فإن المفكر الجابري قام، من خلال تحطيم أسوار العقل العربي، ومجابهته بهذا التقحم والتحليل والتشريح، بفتح أبواب فكرية متعددة اضطلع بها مفكرون كبار، قاموا بالتعليق أو الرد على الجابري سلبا أو إيجابا، مما شكل حركة فكرية ثقافية ثرّة يمكن أن تبشر بنهضة حضارية جديدة، إذا تواصلت هذه الحركة بعد وفاته، وهذا ما آمله. ومن جملة هذه الاعمال نذكر على سبيل المثال فقط، ما كتبه جورج طرابيشي، من نقد شديد بل هجوم عنيف، أحيانا، في أربعة مجلدات، تحت عنوان 'نقد نقد العقل العربي' وهي: 'نظرية العقل' و' إشكاليات العقل العربي'، و' وحدة العقل العربي'، و' العقل المستقيل في الإسلام'، كل ذلك فضلا عن كتابه الخامس عن 'مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام'. وقد تعتبر هذه المجموعة أوسع وأشمل نقد وتحليل لفكر الجابري. وعلى الرغم مما شاب المجلدات الأربعة، من هجوم عنيف، يتجاوز حدود النقد أحيانا، فإننا نعترف بقيمة المعلومات التاريخية والفكرية الواردة فيها، وعمق كثير من المفاهيم والآراء التي تناولتها، وأهمية المستندات التي دعمتها، ولكننا نظل نحتفظ بحق التعقيب عليها، قدر الإمكان، في مناسبات أخرى.

كما نذكر، بين المؤلفات البارزة الأخرى التي تناولت نقد الجابري: يحيى محمد في 'نقد العقل العربي في الميزان'، و هشام غصيب في 'هل هناك عقل عربي؟'. هذا بالإضافة إلى ما كتبه علي حرب في كتابه 'مداخلات'، و كمال عبد اللطيف في 'نقد العقل أم عقل التوافق؟'، وما كتبه طه عبد الرحمن في 'تجديد المنهج في تقديم التراث' وإبراهيم محمود في 'البنيوية وتجلياتها في الفكر العربي المعاصر' وحسام الألوسي وحسن حنفي، والطيب تيزيني وعبد القادر بو عرفة، وغيرهم الكثيرون، فضلا عن العديد من المقابلات والمناقشات والنقود، ( جمع نقد) التي أجراها 'مركز دراسات الوحدة العربية' في بيروت، ونشرت في مجلته الشهرية الثرّة 'المستقبل العربي'، والتي اختتمها بإصدار كتاب 'التراث والنهضة، قراءات في أعمال محمد عابد الجابري'، حيث كتب نخبة من المفكرين البارزين، الذين درسوا فكر الجابري بعمق، وقدموه بتقدير كبير، مع تعريضه للتحليل والنقد البناء، الجديرين بالتمعن والتعقيب. ومنهم عبد الإله بلقزيز وحسن حنفي وعبد السلام بنعبد العالي وطارق البشري وكمال عبد اللطيف وأحمد ماضي وسالم يفوت ومحمد عبد الواحد العسري وجمال مفرج وأحمد برقاوي ومحمد مصباحي وغيرهم من كبار النقاد. كما نشر كاتب هذه السطور، بهذا الصدد، مقالة تحليلية في صحيفة 'القدس العربي' ( لندن، في 5/5/2006) تحت عنوان: 'بمناسبة صدور كتاب التراث والنهضة: قراءات في أعمال الجابري : كتابات تتميز بالجرأة وتتجاوز الخطوط الحمراء المفروضة من العقل المجتمعي. الديني والدنيوي، خطورة كتابات الجابري تنبع من قدرتها على تشخيص أزمة الانسان العربي وفشل المشروع النهضوي'.

باحث عربي من العراق يقيم في نيويورك
alaraji@nj.rr.com