الجابري وإعادة فهم «القرآن» الحكيم

عبدالرحمن الحاج

مع أن دافع محمد عابد الجابري في دراساته في «نقد العقل العربي» كان نكسة حزيران (يونيو) 1967 وظهور «الصحوة الإسلامية» في السبعينات ثم «الثورة الخُمينية في إيران» (كما يقول هو بنفسه)، إلا أنه في نهاية المطاف وجد نفسه أمام مشروع نقدي كبير هو«نقد العقل العربي»، المشروع الذي سيشغل الفكر العربي خلال ما يزيد على عقد ونصف، غير أنه ينتقل بعد الانتهاء من «نقد العقل العربي» في أجزائه الأربعة إلى دراسة القرآن ذاته، ومع أن هذا الانتقال يبدو منطقياً للغاية بحسب المسار الذي رسمته دراساته السابقة، إلا أن الجابري يتردد في تقديم كتابه على أنه «ذيل وتكملة» لمشروع نقد العقل العربي. واقع الحال وسياق البحوث كانا - برأينا - يقوده إلى دراسة القرآن، حيث يرى الجابري في نفسه أنه بات الآن - بعد دراساته - «أقدر على التعامل مع مفاتيح هذا الباب» مما لو فعل ذلك من قبل. ومع أن السبب المباشر لدراسته «مدخل إلى القرآن الكريم» يرجع إلى أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 «وما تلا ذلك من أحداث جسام وردود فعل غاب فيها العقل»، مما حفز الجابري لكتابة هذا المؤلف بغاية مباشرة «التعريف» بالقرآن الكريم «للقراء العرب وأيضاً للقراء الأجانب»، تعريفاً زعم فيه أنه ينأى به عن «التوظيف الأيديولوجي والاستغلال الدعوي الظَّرفي». وما أن انتهى الجابري من كتابه التعريفي (مدخل إلى القرآن) (2004) في جزئه الأول، حتى وجد نفسه أمام الجزء الثاني وهو«فهم القرآن»، «لأن «فهم القرآن» يستعيد (...) سؤال «التعريف بالقرآن» بكل حمولته وآفاقه»، وعلى رغم من أنه خطط - كما يشير في مقدمة الجزء الأول - ليكون هذا الجزء مكملاً للتعريف، فقد كان من المقرر أن يقتصر موضوع الجزء الثاني على جملة موضوعات محددة في القرآن، إلا أن «مصاحبة جميع التفاسير المتوافرة» جعلته يرى بأن المنهجية المخطط لها سابقاً لن تفي بالغرض، و«ترقى إلى مستوى الرؤى والآفاق التي طرحها [التعريف] (...) ما لم يتجاوز مجرد الاقتصار على جملة موضوعات في القرآن، إلى فهم القرآن ككل، [أي] إلى تفسيره.

هكذا شرع الجابري بكتابة ما سماه «فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول» في ثلاثة أجزاء أقسام (نشر الجزء الأول منه في شباط/ فبراير عام 2008، والجزء الثاني في تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه، والجزء الثالث والأخير في شباط عام 2009)، ويثير العنوان المركب للكتاب «فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول» وثوقية مفرطة غير معتادة من الجابري، وبشكل خاص يثير العنوان الفرعي «التفسير الواضح حسب ترتيب النزول» الاستفهام عن تسمية هذا «الفهم» بـ «التفسير الواضح»، فمن جهةٍ أولى إن ما يتضمنه هذا الفهم هو«تفسير» (وهذا الـ «تفسير» أمر لا نعثر على أي تعريف في الأجزاء الثلاثة فضلاً عن كتاب المدخل!)، ومن جهة أخرى فإن «الوضوح» - على ما ذكره في مقدمة الكتاب - يتجلى أولاً هو في طريقة كتابة القرآن (بما سماه «علامات الإفهام»، والتي تكاد تتطابق مع مدلول علامات الترقيم، فهي علامات يزعم أنها تساعد على فهم القرآن «بوضوح») وفي طريقة فهمه، فبأي معنى يقصد الجابري «الوضوح» كصفة لتفسيره؟

يعزو الجابري فكرته عن «فهم» القرآن إلى عبارة للإمام الشاطبي، في كتابه الذائع «الموافقات»، التي يقول فيها إن «المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكِّي، وكذلك المكّي بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم يصح [الفهم]»، غير أن الشاطبي لم يكن يقصد بـ «فهم القرآن» مقرناً بعبارة «القرآن يشرح بعضه بعضاً» ما استخلصه الجابري من أنه يعني فهم الكتاب. والحقيقة أن فكرة الشاطبي تتجاوز مبدأ فهم القرآن وفق ترتيب النزول «مساوقاً فعلاً لمسيرة الدعوة»، أي «قراءة القرآن بالسيرة، وقراءة السيرة بالقرآن» على حد تعبير الجابري، الذي يرى أن «تسلسل سوره ـ بحسب ترتيب النزول ـ يُباطنه تسلسل منطقي سرعان ما نكتشفه عندما نتنبَّه إلى الموضوع الذي تركز عليه هذه المجموعة من السور أو تلك في تسلسلها، وبالرجوع إلى وقائع السيرة نكتشف أن ذلك المنطق، الذي يُباطن تسلسل السور داخل كل مجموعة، يتطابق في مضمونه مع تسلسل هذه الوقائع»، فالشاطبي يرى أن كليات القرآن نزلت في أوائل السور المكية، وأن ما نزل بعدها مستند إلى هذه الأصول. فإذا تقرر أن الشاطبي يرى في الخطاب القرآني كلاً واحداً يستند بعضه إلى بعض، أخره إلى أوله، وأوله إلى آخره، ومن كلياته إلى فرعياته، ومن مكيه إلى مدنيه، وهذا يعني أن مسألة مسايرة الحوادث الواقعة بالسيرة في فهم القرآن أمر غير مقصود من كلام الشاطبي.

من حق الجابري أن يرى تفسير القرآن مواكباً لأحداث السيرة، فهذا أمر لا يمكن للمرء أن يقطع بخطئه، غير أنه ليس من حق الجابري نسبة ذلك وتأسيسه على الشاطبي الذي لم يكن يخطر بباله ما فهمه الجابري منه، ولا كان مقصوداً في شيء من كلامه. يؤسس الجابري فهمه للقرآن على أقسام المدني والمكي، وتقسيم مكيِّ القرآن تقسيماً سداسياً مستوحىً في شكل واضح من تقسيم نولدكه الذي أخذه عنه بلاشير. وعلى رغم أن الجابري انتقد تقسيم بلاشير (المنقول عن نولدكه) الآنف الذكر «إجمالاً، بأنه لا جديد [فيه]، فالتحقيب الذي اعتمده بلاشير مبني على التمييز بين خصائص القرآن المكي ومميزات القرآن المدني، وهي أمور معروفة، وقد فصل القول فيها كثير من المؤلفين المسلمين قديماً وحديثاً، (...) أما ترتيب السور داخل هذا التحقيب، سواء كمجموعات، أو داخل كل مجموعة على حدة، فلا شيء يفسِّره، فقد جاء اعتباطياً إلى حد كبير»!!، وذلك على رغم أن تقسيم بلاشير ـ كما هو واضح ـ محاولة لمطابقة موضوعات السور مع السيرة النبوية، إلا أن الجابري عاد واعتمد على المعيار نفسه، أي «المطابقة بين المسارين: مسار السيرة النبوية، والمسار التكويني للقرآن» في تقسيم القرآن إلى مراحل ويستوحي التقسيم ذاته لنولدكه!!.

الشيء الذي يجب أن نذكِّر به أن المنهج الذي اتبعه الجابري هو منهج معروف في خطوطه العامة، وقد أشار هو بنفسه إلى أن فكرة تفسير القرآن وفقاً لترتيب النزول تعود إلى المستشرق الفرنسي ريجس بلاشير الذي قام بترجمة «معاني القرآن» إلى الفرنسية (1947-1950) على أساس ترتيب النزول الذي وضعه ثيودور نولدكه، وإلى محمد عزة دروزة في «التفسير الحديث» (1961-1964)، ونضيف نحن تفسير عبد الرحمن حبنكة الميداني (1927-2004) «معارج التفكر ودقائق التدبر»، أي أنه من حيث خطوط المنهجية العامة لم يأتِ بجديد، وإنما جديده يكمن في تفاصيل المنهج وطريقة تطبيقه التي جعلته يسميه «التفسير الواضح». على رغم أن الجابري يعترف بأن مسألة الترتيب التي «فصل القول فيها كثير من المؤلفين قديماً وحديثاً» لا يحسمها النص التاريخي (الوثائق التاريخية) الصحيح، ذلك أن الوثائق (النصوص) التي تتعلق بالترتيب التاريخي للقرآن مضطربة وليست على درجة من التوثيق يمكن الاطمئنان إليها في شكل تام، فضلاً عن أن «كثيراً منها يطرح مشكلة التوافق السياق» (سياق السيرة النبوية الشريفة)، إلا أن الجابري يعود ليستند إليها على أساس أن الاستناد إليها لمعرفة ترتيب القرآن أمر لا مفر منه، إنه «ترتيب ضروري، ولكنه لا يكفي». الجابري يرى ضرورة لإعادة ترتيب القرآن بالاستناد إلى «لوائح الترتيب المتشابهة» معياراً «جديداً» لملء الفراغ المنهجي في ضبط نزول السور وإزالة الاضطراب في لوائح الترتيب، هو خصائص «التمييز بين المكي والمدني» والاتساق «وقائع السيرة النبوية».

هذان المعياران يفرضهما الغرض، وهو«بناء تصور منطقي عن المسار التكويني للنص القرآني»، حيث لا بد من اللجوء إلى «التصرف» لحل المشكلة، أي لا بد من «اجتهاد مبني على الظن والترجيح»، فهو تصرف «تبرره النتائج التي يمكن استخلاصها منه». حسناً إذاً، إذا كان هذا هو الموقف «العلمي» للجابري، فلم منح نفسه الحق أن ينتقد بقسوة محاولة بلاشير (ومِن ورائه نولدكه) الذي قام بالأمر نفسه «تماماً»؟! فقد استند نولدكه إلى معيار مركب، يستند من جهة الى «الإشارات التي تحيل في القرآن إلى وقائع تاريخية» تتعلق بالسيرة النبوية، ومن جهة أخرى يستند الى «خصائص النص القرآني، وبالخصوص منها الفرق الواضح بين السور المكية والسور المدنية، سواء على مستوى الأسلوب، أو على مستوى الموضوعات». غير أن الجابري مع ذلك عقَّب بالقول: «إنه لا جديد» في تحقيب بلاشير لترتيب القرآن!

من حق الجابري وغيره أن يفسروا المصحف وفق ترتيب النزول، وهذا النمط التفسيري يمثل بطبيعة الحال ضرورة لفهم كيف توطد الإسلام في البيئة العربية في القرن السابع الميلادي، ولكشف العلاقة الحميمة بين الخطاب القرآني وظروف تنزيله، غير أن هذا النمط التفسيري تعتريه احتمالية مضاعفة تقلل من قيمته، فمن جهة ترتيب النزول غير قابل للحسم بعد، بسبب إشكالات ذكرها الجابري نفسه، والمفسر يحتاج لما سماه الجابري «التصرف» الاجتهادي الظني ليطمئن إلى ترتيب معين، عبر «خلق» معايير خاصة به (قابلة للرد والطعن)، ومن جهة ثانية فإن المفسر يقوم بتأويل الآيات اعتماداً على التأويل الأول (ترتيب النزول)، أي أن التفسير ههنا هو في واقع الحال «تأويل التأويل»!! فهل هذا هو«التفسير الواضح»؟! أين يكمن الوضوح في تلافيف التأويل المضاعف هذا؟! لقد أشار الصديق الدكتور رضوان السيد محقاً في مقاله عن «محمد عابد الجابري وتفسير القرآن» (الحياة - 8 أيار/ مايو 2010) إلى أن هذا «أدعى الى ألاّ يكون التفسير واضحاً على الإطلاق». إنه لأمر مثير للدهشة أن يكون يسمَّى الكتاب بـ «التفسير الواضح حسب ترتيب النزول» ولا يتضمن أي من أجزائه الثلاثة تعريفاً ولو إجرائياً لمفهوم «التفسير»! ولا حتى في الكتاب المؤسس «مدخل إلى القرآن»!، فليس ثمة أي نوع من الضبط والتعريف لمفهوم التفسير كما أشرنا من قبل، فهل يعني ذلك أن الجابري يستخدم مصطلح التفسير وفقاً لاصطلاح علماء القرآن؟ أم أنه يستقي مفهوم «التفسير» وكذلك «الفهم» من النظريات الإبستمولوجية الحديثة؟ «فهم القرآن» - كما يطرحه في كتاب التعريفي بالقرآن «مدخل إلى القرآن»، ليس هو من «أنواع الفهم التي شيدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن» فهم في عموم الأحوال يدرسونه في مقامات مختلفة عن المقام الذي يدرس فيه الجابري للقرآن هذا الفهم للظاهرة القرآنية غايته النظر إلى «القرآن بوصفه معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا.

لقد شعر الجابري أن هذه المقدمة قد تقود القارئ للالتباس، فيظن أن ما سيقوم به الجابري هو«كتابة تفسير للقرآن»، فسارع الجابري فوراً لرد هذا الخاطر «المتسرع» وأعلن قائلاً: «إننا لا نريد أن يفهم القارئ أننا بصدد كتابة تفسير للقرآن»، فهذا «الفهم للقرآن» في الواقع ليس أكثر من مجرد «تعريف بالقرآن»، و«التعريف بالشيء قد يكون بوصفه من الخارج، وقد يكون بتبيان مسائله وموضوعاته وإبراز حديثه عن نفسه، إن تم مثل هذا الحديث إلخ. وهذا كله لا يمكن القيام به بالنسبة إلى القرآن من دون الرجوع إلى خطابه، وبالتالي محاولة فهم هذا الخطاب»، وبالتالي لا بد من فهم القرآن من أجل تعريفه الأمر الذي سيقتضي بالضرورة «تفسيراً لنصوص من القرآن»، لكن ذلك لا يعني أنه تفسير للقرآن، إنه فقط في جزء منه تفسير «لبعض» آيات من القرآن لا أكثر.

في النهاية تمثل محاولة الجابري محاولة محمودة لقراءة القرآن من منظور تطور تاريخي لنصوصه، إلا أننا نؤكد أن هذا لا يعني أن الجابري من الناحية المنهجية قد ابتكر شيئاً جديداً، فهو في النهاية يستعيد منهجاً مسبوقاً، ومن الصعب وفق هذا فهم هذا الإعجاب بنفسه بعد إنجاز الجزء الثاني حين يقول: «يمكن القول، من دون فخر زائد ولا تواضع زائف، إنه لأول مرة أصبح ممكناً عرض القرآن ومحاولة فهمه بكلام متصل مسترسل يشد بعضه بعضاً، كلام يلخص مسار التنزيل ومسيرة الدعوة في تسلسل يرضي النزوع المنطقي في العقل البشري»!! فالرجل اتبع خطوات نولدكه (على رغم نقده الشديد لها) مع بعض التعديل، ونحن ندعو إلى مقارنة واسعة مع مؤلَّف «تاريخ القرآن» ربما تقود إلى مراجعة مشروع الجابري بوصفه نسخة مطورَّة عن مشروع نولدكه.

ومع ذلك وعلى رغم كل الملاحظات التي أشرنا إليها في هذا البحث عن «فهم القرآن» فإن الكتاب في النهاية يمثل إضافة لفهم السيرة النبوية قبل أن يكون إضافة لفهم القرآن، ذلك أن فائدة مراجعة خطاب عالمي لرسالة خاتمة لا يمكن أن يُحشر في زوايا تاريخ النزول، إنما يمكن أن يكون مساعداً لفهم التاريخ، وهذه هي الإضافة الحقيقية التي تقدمها منهجية «التفسير وفق ترتيب النزول»، وإذا كان لا بد من تحديد إضافة الجابري في حلقات سلسلة هذا النوع من التفاسير فهي أنه اجتهد في تعديل الترتيب محاولاً أن يربطه بوقائع السيرة على نحو متواصل، الأمر الذي لم يكن ملاحظاً على هذا النحو من قبل (وخصوصاً في تفسير عزة دروزة)، بحيث صار «فهم القرآن» لدى الجابري أقرب إلى «فهم السيرة» من خلال القرآن وليس العكس.

 

كاتب سوري عن جريدة الحياة