نشرت (الكلمة) في العدد الماضي دراسة للكاتب السوداني حامد فضل الله اسثارت الباحثة السورية للعودة من جديد لتمحيص بعض أفكار الكاتب الفلسطيني وأطروحاته.

الثقافة التأصيلية الفاعلة

رغداء زيدان

سبق أن نشرت مقالا عن كتاب "نحو ثقافة تأصيلية" للكاتب محمد شاويش في مجلته (الكلمة) العدد 7، يوليو/ تموز 2007م. وقد قرأت في عدد مارس/ آذار 2008م من نفس المجلة نقداً وتحليلاً لنفس الكتاب بقلم الدكتور حامد فضل الله. وقد وجدت بعد أن قرأت المقال المذكور أن هناك أموراً أرى أنه من المهم بيانها وفق وجهة نظري الخاصة، والتي تكوّنت من خلال متابعة كتابات الأستاذ محمد شاويش المنشورة. وأزعم أنه تكوّن عندي فهم عام للأفكار التي يدعو إليها الأستاذ محمد شاويش وخصوصاً تلك التي يتحدث فيها عن "التأصيل" و"التيار التأصيلي".

ليس هدف مقالي بالطبع الرد على مقال الأستاذ حامد فضل الله، ولكنني أود في هذا المقال أن أتحدث عن "التأصيل" كثقافة توعية دعا إليها الأستاذ محمد شاويش لتمكّن أمتنا من الانطلاق نحو الفاعلية، وتكون أساساً نبني عليه نهضتنا المرتقبة، معتمدة فيما أقول على أفكار الأستاذ محمد التي عرضها في مقالاته وكتاباته المختلفة.

التأصيل: أساسيات

يميز الأستاذ محمد شاويش بين ما أسماه "التأصيل الصافي" أو "الكلاسكي" و"التأصيل الفاعل"، ويقصد بـ "التأصيل الصافي" ذلك الفكر الذي يدافع عن هوية مجتمعنا والذي يرى في حضارتنا جوانب إنسانية ومميزات كثيرة تفتقدها الحضارة الغربية، بالإضافة إلى أنه يبحث في مفهوم "الاستلاب" الذي وقع في فخه الفكر العربي وانعكس على مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الفنية، والذي جعلنا نحتقر ما عندنا من مكونات حضارية وخصائص مميزة ودفعنا للسعي بكل جهدنا لاستيراد قالب حضاري وثقافي غربي لا يناسبنا وليس بأفضل مما عندنا، ولكن الاستلاب مرض أصابنا وجعلنا نتمثل المثل العامي (كل فرنجي برنجي!).

 وتعتبر المقالات التي يضمها كتاب "نحو ثقافة تأصيلية"، والتي كتبها الأستاذ محمد شاويش في الفترة ما بين 1992ـ 2001م نموذجاً مهماً لتوضيح معنى "التأصيل الصافي" الذي حاول الكاتب تقديمه وتوضيحه للرأي العام. ويمكن أن أستشهد بما قاله الأستاذ محمد في مقاله "من التأصيل إلى التأصيل الفاعل" لتوضيح مقصوده بـ "التيار الصافي" حيث قال: " في اعتقادي أن طريقة تفكير هذا التيار في حد ذاتها إنجاز لا بد من المحافظة عليه، وبفضل طريقة التفكير الخاصة هذه طرحت مواضيع للبحث العلمي ما كان يمكن للتيار الآخر الذي يرى التبني البسيط لكل ما في الحضارة الأخرى "بخيرها وشرها وحلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره" (طه حسين) أن يطرحها، من نوع قضية التحليل الملموس لوظائف البنية الثقافية المحلية وارتباطاتها مع بعضها وبالتالي فهم مغزى وجدوى بل وضرورة وجود بعض المكونات الثقافية التي كانت تبدو للمغربين مجرد مكونات ضارة. ومن هذه القضايا التي ينفرد الفكر التأصيلي بالقدرة على طرحها القضية المعاكسة للقضية السابقة: أي عدم وجود مغزى أو جدوى أو ضرورة لبعض العناصر الثقافية التي جرى استيرادها ومحاولة إدخالها بالقوة وزرعها في نسيجنا الثقافي الخاص. هذا النقد كان يشكل بلا ريب عنصر فرملة للانفتاح الفوضوي بلا حدود الذي كان من شأنه أن يقود العرب إلى وضع مجتمعات أخرى جارة وبعيدة حطمت ثقافاتها الخاصة ولم تبن بدلاً منها ثقافة غربية متماسكة بل تحول المجتمع ببساطة إلى أنقاض (كما في أمثلة بعض المجتمعات الأفريقية وغيرها)"

ومن هنا كان اهتمام الأستاذ محمد شاويش بتسليط الضوء على أفكار مجموعة من الكتاب والمفكرين مختلفي الاتجاهات، والذين كتبوا مدافعين عن حضارتنا وهويتنا، ومنتقدين للحضارة الغربية المسيطرة، ولتلك "المسلمات" و"النماذج المفروضة" (كما سماها الأستاذ محمد) فكان منهم الأديب والمفكر والمعماري والسياسي والاقتصادي ... (سواء قديماً كمحمود شاكر وعبد الله النديم وغيرهم أم حديثاً كجلال أمين وعبد الوهاب المسيري وحسن فتحي وعادل حسين وغريغوار مرشو وجورج قرم ومنير شفيق ... إلخ). وقد رأى الأستاذ محمد أن ما يجمع هؤلاء هو الفكر "التأصيلي"، ولم يكن يقصد الترجمة لهم أو تقييمهم، فهو وجد في بعض أبحاثهم وأفكارهم ما يؤسس لنشوء تيار تأصيلي حقيقي يدافع عن حضارتنا بجوانبها المختلفة وهويتنا وأحقيتها بالبقاء، وينتقد ذلك الاندفاع الهائل نحو تلقف كل ما هو غربي، مهما كان سيئاً على أساس أنه الأفضل والأجمل والأرقى، ومبيناً جوانب سوئه. والجدير بالذكر أن هذا التيار (أقصد التيار التأصيلي كتيار فكري مستقل وواضح) لم يكن واضح المعالم حتى عند الأستاذ محمد نفسه، وبالتأكيد فإن هؤلاء المفكرين لا يعرفون أنهم يجتمعون ضمن إطار "تأصيلي" واحد، ولكن الأستاذ محمد هو أول من تنبه إلى هذا، وهو أول من تحدث عنه ووصفه بل و"أصّله".

وتأتي مقالات كتابه "نحو ثقافة تأصيلية" وكثير من مقالاته الأخرى التي كتبها في تلك الفترة من عام 1992 إلى عام 2001م لتناقش مواضيع تصب في خانة "التأصيل الصافي" الذي لم يكن يهدف إلى الدفاع عن الهوية فقط، ولكنه كان يعالج تلك "المسلمات" و"النماذج المفروضة" التي تلقفها الفكر العربي بتسليم عجيب يدل على مدى "الاستلاب" الذي يعاني منه الفكر العربي (بالمناسبة، فإن الأستاذ محمد كتب دراسة عن "الاستلاب" نشرها في كتاب سنة 1995م عن دار الكنوز بعنوان "حول الحب والاستلاب" ويبدو أن الدار لم تقدم عملاً متقناًً فكانت الطبعة كثيرة الأخطاء وفيها نواقص كثيرة مما ظلم الدراسة الهامة والرائدة حول مفهوم الاستلاب الاجتماعي وأثره). وأرى أن مقاله "مسلمات استشراقية" ومقاله "ثقافة النماذج المفروضة" من المقالات الرائدة في وصف كيفية تشكل الفكر العربي الحديث المريض "بالاستلاب" للغرب ولمسلماته ونماذجه التي أصبحت المثال الذي لا يقبل النقد أو التقييم فضلاً عن التقويم!

أما "التأصيل الفاعل" فقد وجد الأستاذ محمد من خلال دراساته وأبحاثه في "التأصيل" أن هناك مشكلة في كل الأبحاث والدراسات التي يمكن ضمها ضمن إطار "التأصيل الصافي" وقد وصف هذه المشكلة في مقاله "في تشابكات النزعة التأصيلية" وهي أن: "كل هذه الدراسات قدمت أدلة مقنعة عن جدارة الهويات الثقافية غير الغربية بالبقاء، بل بالتحديد عن جدارة ثقافتنا الإسلامية بالبقاء، لكن السؤال هو ليس فقط عن جدارة الهوية بالبقاء بل هو عن قدرتها على البقاء. فقد بادت ثقافات كانت لا تقل جدارة إن لم تزد في البقاء عن ثقافة المبيدين، مثلاً ثقافة شعوب أمريكا الأصليين، ولا شيء يضمن أن ثقافتنا الجديرة بالبقاء هي أيضاً لا تباد رغم جدارتها! من هنا واعتباراً من الهزة الكبرى عام 2001 اختلف اتجاه كتاباتي فلم أعد أبحث في موضوع جدارة الهوية بالبقاء، بل صرت أبحث في طرق تغيير الوضع الحضاري الضعيف الذي يؤهلنا للانهيار."

ومن هنا بدأ الأستاذ محمد يدعو لما أسماه "التأصيل الفاعل" والذي يبحث كما قال في طرق تغيير الوضع الحضاري الانحطاطي الذي نعاني منه والذي يهدد حضارتنا بالانهيار، فاهتم بكتابات مالك بن نبي الذي بحث في مشكلات الحضارة فكتب كتابه (مالك بن نبي والوضع الراهن) والذي صدر عن دار الفكر في العام الماضي، حيث ركز على أفكار مالك بن نبي التي تدعو إلى تغيير السلوك الانحطاطي الذي ينتشر في مجتمعاتنا أو كما قال: " انطلاقاً من فرضية مفيدة تقول: المجتمع النهضوي هو مجتمع سلوك أفراده نهضوي والمجتمع المنحط حضارياً هو مجتمع سلوك أفراده منحط حضارياً صار مدار بحثي هو عن طرق تغيير السلوك الحضاري." وعلى هذا فقد تركز اهتمام الأستاذ محمد بالبحث عن الطرق "العملية" القابلة للتطبيق على أرض الواقع، لتغيير السلوكيات الانحطاطية كانعدام المسؤولية وهدر الوقت وعدم اتقان العمل وعدم تقبّل الآخر ... إلخ، ودعا إلى التنظيم والإتقان والتعاون والفاعلية. التغيير المطلوب في نظر الأستاذ محمد هو تغيير سلوك، تغيير عادات، وليس تغيير شكل أولباس أو لغة، ليس استيراد لأفكار أو معتقدات، بل هو انطلاق من ثوابت أساسية وأخلاق إسلامية تحتاج إلى إعادة تفعيل في حياتنا اليومية وتعاملاتنا الاجتماعية.

وأرى أنني أحتاج إلى تنبيه القارئ الكريم إلى نقطة مهمة وهي أن إعلان الأستاذ محمد أن "الإسلام هو الخيمة الأخيرة التي ستلجأ إليها الأمة العربية إذا أرادت أن تأخذ مكانها ولا تندثر. بل هو الخيمة الأخيرة للبشرية جمعاء التي تسير بفرعنة لا مثيل لها، نحو الهاوية" هذا الإعلان لا يمكن أن يقودنا إلى تصنيف الأستاذ محمد ضمن التيار "الإسلاماني" (كما يحلو للأستاذ محمد تسميته) ذلك أن "الإسلامانيين" يسعون إلى تغيير المجتمع وإعادة تركيبه وفق مخطط جاهز عندهم، وهم بذلك يلتقون مع غيرهم من أصحاب الأفكار الثورية التي لا ترى خيراً في المجتمع، وتسعى هي أيضاً إلى تغييره، بينما "التأصيل" هو دفاع عن المجتمع ومكوناته، وسعي إلى تفعيل فضائله والعمل على تنمية مميزاته الحضارية. صحيح أن هناك بعض نقاط الالتقاء بين "الإسلامانيين" و"التأصيليين" ولكن ليس هناك منطلق واحد أو هدف واحد.

ولتوضيح ذلك نأخذ مقالاً للأستاذ محمد ناقش فيه قضية الحجاب التي كُتبت فيها مقالات ناقشتها من وجهات نظر مختلفة، فعلى حين كانت قضية الحجاب عند "الإسلامانيين" قضية حكم فقهي وواجب ديني يتم من خلاله تقسيم الناس إلى كفار ومؤمنين، كانت المناقشات على الطرف الآخر التغريبي تناقشه على أساس أنه معيار يقسم المجتمع إلى أقسام تنطوي تحت مسميات التخلف والتقدم والحرية والكبت ... إلخ. بينما نجد أن الأستاذ محمد شاويش ناقش القضية من منظوره "التأصيلي" الذي يدرس الحجاب ضمن سياقه الاجتماعي ومكانة الزي ضمن التركيبة الاجتماعية لمجتمعنا الذي هو أصلاً مجتمع محجب، وقد جاء في مقاله "الحقائق المغيبة في النقاش حول الحجاب: محاولة للوصول إلى رؤية واضحة" قوله: "لقد تحولت مسألة غطاء رأس المرأة إلى علامة لهوية مفروضة على المرأة أولاً وعلى المجتمع الأهلي بأسره ثانياً وصار بالتالي ذريعة لقمع هذين الطرفين، فالمرأة تقمع مباشرة في بلاد متعددة لمجرد ارتدائها هذا الزي في تناقض مع كل عرف إنساني أو ديمقراطي أو ديني أو حتى علماني، ومن جهة أخرى يفرض على المرأة أيضاً أن تتحمل نصيباً إضافياً من الاضطهاد العنصري الموجه أصلاً ضد المسلمين ذكوراً و إناثاً. وحين يتم النقاش بين المتدينين الجدد وخصومهم الاستئصاليين نلاحظ أن النقاش بين الطرفين يدور على أساس مشترك هو السعي  للتحكم القمعي في المجتمع الأهلي التقليدي ومحاولة تغييره بالقوة، حتى لو استلزم ذلك استعمال أساليب لا إنسانية، وهذه الحقيقة الأخيرة هي الغائبة في النقاشات الدائرة حول ما يسمى الحجاب".

إذاً، فـ "التأصيل" لا يسعى إلى التحكم بالمجتمع وقمعه، ولكنه يسعى إلى تفعيل فضائله الموجودة فيه أصلاً، ومجتمعنا مجتمع مسلم إما ديانة أو ثقافة وعلى هذا "فالطموح العملي لتفعيل فضائل حضارية في الإسلام ناتج ببساطة عن ضرورة البقاء. نحن هنا لسنا إزاء طموح للوصول إلى المثال الأعلى الذي هو التطابق التام لواقعنا الإسلامي مع "الإسلام"، أي الإسلام الكامل النموذجي، بل نحن إزاء طموح بسيط "متواضع" لتفعيل فضائل إسلامية من شأن تفعيلها أن يساعدنا على البقاء على قيد الحياة مسجلين في عداد الأمم التي لم تنقرض!" وعلى هذا فـ "التأصيل" لا يعني رفع شعارات كـ "الإسلام هو الحل" أو "الديمقراطية هي الحل" أو "أي فكرة أو مذهب هو الحل" ذلك أن "التأصيل" يسعى لتفعيل المجتمع وتغيير تلك السلوكيات الانحطاطية الموجودة فيه عن طريق التفاعل الجماعي للأفراد وليس عن طريق محاربة الخصائص والمميزات الحضارية لهذا المجتمع وقمعه وتغييره بالقوة.

انظر إلى قول الأستاذ محمد شاويش في مقاله "تفعيل فضائل الإسلام" يقول: "على المجتمع أن يحدد هدف النهضة والسلوك المطلوب من الفرد لتحقيقه، والذي يقوم بإقناع المجتمع بالهدف، هو وفقاً لسنة الاجتماع المضطردة جزء رائد من أفراد المجتمع، هو الجزء الذي امتلك الوعي المطلوب والذي يستطيع أن يقوم بتقديم المثال والمعيار للفعل، بحيث يتحول الفعل إلى عادة ويتحول خرقه إلى سلوك مستهجن يتولى المجتمع تصحيحه. العادة هي بحد ذاتها دافع نفسي قاهر! وأنت حين تكون في المجتمع عادة نهضوية فكأنك ضمنت للمجتمع أن يسير تلقائياً وفق السلوك المطلوب وهذا ما نراه في الغرب في أمثلة بسيطة قد تعد في بعض مجتمعاتنا معجزة نحن غير قادرين على الوصول إليها مثل الوقوف بالدور في صف مثلاً! فالسلوك غير المتطابق مع هذه العادة الحضارية يصححه المجتمع نفسه وليس قوة خارجية كالشرطة مثلاً! ولا شك أن الإيمان والدافع إلى نيل رضى الله والثواب الأخروي والخوف من العقاب دافع عظيم، ولكنه دافع يحتاج إلى تحديد للهدف وإلا ضل السعي حتى لو حسب الناس أنهم يحسنون صنعاً! الإيمان مطلوب ولكن معه مطلوب الوعي بالهدف الحضاري أيضاً".

الثقافة التأصيلية الفاعلة:

إن المتتبع لكتابات الأستاذ محمد يجد أنها تصب كلها في إطار واحد، وهو الإطار النهضوي الفاعل الذي يؤمن بالمجتمع وقدرته على النهوض والفاعلية، والذي لا يعلن عدائه للمجتمع أو احتقاره له ولمكوناته وثقافته، ولكنه يعلن احترامه (بل أستطيع القول حبه وشغفه العاقل البعيد عن التعصب والاندفاع) لهذه الحضارة، والذي يؤمن بقدرة أفراد هذا المجتمع على العمل الجماعي دون انتظار لحل استئصالي أو انقلابي يسعى للاستيلاء على السلطة والتغيير القمعي أو القهري. ويدعو إلى وجود فئة واعية تكون قدوة ومثالا يحتذى حتى يصبح "السلوك النهضوي" عادة مترسخة في المجتمع تحل محل "السلوك الانحطاطي" المترسخ حالياً في أمتنا، والذي يهدد حضارتنا وثقافتنا بل وجودنا نفسه.

لذلك فقد كانت الدعوة إلى نشر ثقافة تأصيلية فاعلة هي شغل الأستاذ محمد الشاغل في السنوات الماضية، ولذلك فقد اهتم بكل فكرة أو نموذج عملي يقدم صورة مثالاً للنهضة الفاعلة الحقيقة التي تحافظ على كياننا وهويتنا وديننا (هناك مقال جميل للأستاذ محمد عن كتاب "قصيدة تربوية" لمكارنكو، وهو كتاب يصف فيه كاتبه تجربته العملية في تغيير سلوك أحداث جانحين وتحوليهم إلى أعضاء في جماعة فاعلة، وقد استشهد الأستاذ محمد بهذه التجربة في أكثر من مقال له، باعتبارها نموذجاً عملياً لتغير السلوك الانحطاطي). إن كتاب "نحو ثقافة تأصيلية" يعتبر كتاباً مؤسساً لتيار "تأصيلي" بدأنا نتلمسه في كتابات كثيرة لكتاب مهمين لمسوا بفطرتهم السليمة وحسهم الإنساني الخطر الذي يتهدد حضارتنا بل والعالم أجمع من جراء سيطرة الثقافة الغربية وأفكارها على العالم، ذلك الخطر الذي ينذر بإلغاء التعدد والتنوع الثقافي العالمي، وينذر بمزيد من العنف والتخريب ودمار البيئة. ويعتبر الأستاذ محمد أول من وصف هذا التيار وقدمه وميزه، ودعا إلى نشر ثقافته كوسيلة دفاعية ضد هذا الزحف المتوحش للعولمة ومفاهيمها المسيطرة.

وأكثر ما يميز كتابات الأستاذ محمد شاويش ذلك التفاؤل الذي ينطلق من مبدأ الإيمان بقدرة المجتمعات العربية على إحداث التغيير النهضوي المطلوب، بشرط وجود ذلك الوعي الحضاري المطلوب، والذي وصفه الأستاذ محمد في مقاله "ما هو الوعي المطلوب الآن" بقوله: "أنني لا أؤمن بأن هذا الوعي الممارس يأتي فقط من المواعظ، بل من فعل جماعة نموذجية ليس لها اسم ولا بنية تنظيمية ولا تقبل العمل السري والعصبوي، بل تقرر أن تعمل مع المجتمع وفيه بلا تميّز عنه لتحقيق نماذج نهضوية تغري بالتقليد والتوسع التدريجي لتشمل المجتمع كله". المطلوب إذاً هو فئة قدوة تنشر الوعي الحضاري عن طريق الفعل العملي المطبق على أرض الواقع والذي يشمل مناحي الحياة ويعمل على تغيير "السلوك" عندها سيأتي اليوم الذي نرى فيه أن التنظيم حل مكان الفوضى والهدر، والمسؤولية مكان الاستهتار واللامبالاة، واتقان العمل مكان عدم الاتقان، واحترام الآخر وتقبله مكان الطائفية والعنف، واللطافة مكان العبوس والتجهم واحتقار الآخر ... إلخ، وقتها سنرى أمة ناهضة جديرة بالبقاء فعلاً.

كاتبة وباحثة من سوريا