يسعى هذا الديوان/ القصيدة المركبة للشاعر العراقي المقيم بالدنمارك إلى اعتصار الشعر من شهوة السؤال، وروح التأمل، والتوق لاستكناه أسرار الوجود والمجهول.

ترانيم ابن آدم

باسم الأنصار

الشاعر والمجهول
لن نقع في فخ التنظير، لأن من اسوأ الأمور في هذا الأطار هو التنظير حول الشعر. فالشعر، مادة سيالة، متحركة، متجددة وغير قابلة للأحتواء. الشعر، كائن زئبقي، كالواقع الحياتي. فكلما حاولنا أحاطته من جهة سال لنا من الجهة الأخرى. بل أنه كالأنسان في مرحلة مراهقته، فكلما حاول الوالدان توجيهه حسبما يريدان، نجده يفعل أشياء أخرى تثير نقمتهما وغضبهما عليه. والسبب برأينا هو لأن المراهق بشكل عام، كائن متمرد، وشيطاني من الدرجة الأولى بحق القيم والمثل والأخلاق. فهذا هو حال الشعر، وهذا مانتمنى أن يكون عليه حال الشاعر أيضا. لذا فأن محاولة رسم تفاصيل منهجية للشعر لأتباعها هي محاولة غير موفقة برأينا.

ولكن لاضير برأينا من التحدث عن أطر عامة للسلوك الشعري، أو عن مناخات جديدة له تجعله قادراً على مسايرة متطلبات الحياة الجديدة، والأهم من هذا مسايرة أعماق الشاعر المليئة بمناخات الرؤيا الهامشية المأخوذة من براكين المجهول الكامنة فيه. ولانقصد بهامشية الرؤيا هنا، بأنها هامشية من حيث القيمة، وانما هامشيتها متأتية من حيث أنها مختلفة ومغايرة للسائد والمألوف. ولانقصد بالمجهول أيضاً هنا، هو ذلك الشئ الذي لايملك الملامح كما هو متعارف عليه، أو هو ذلك الشئ الذي لم يُكتشف بعد مثلما تحدث عنه بودلير ورمبو والسيرياليون، وأنما نقصد به هو ذلك الشئ المختلف تماماً عن ماهو سائد من الأشياء المعلومة، وهو الشئ الذي يملك الملامح والصفات والهوية الواضحة. ولكن وضوح هوية وملامح المجهول لايراها سوى الذي ينظر الى أعماق روحه السحيقة، نظرةً تشبه نظرة الأنسان الأول الى الأشياء حينما أراد فضّ بكارتها ومعرفة أسرارها، وتشبه محاولات الشاعر الحقيقي الدائمة في الهبوط بحبل الدهشة من حافة روحه الى ينابيع الرؤيا والجمال الكامنة فيه، لتدوين حمم الشعر الهاطلة عليه من المجهول.

فالمجهول، كائن يعيش في داخل الأنسان، حاله كحال الأعضاء البشرية المعروفة مثل (القلب والدماغ والمعدة والبنكرياس والرأس وووو الخ) ولكنه لايمتلك شكلاً محدداً كبقية أشكال هذه الاعضاء، وهو يسكن في داخل وخارج كل شئ في العالم أيضاً. فهو ليس ذلك المجرد عن الانسان والعالم. كلا، لأن هذا المجرد هو نتاج الفكر الميتافيزيقي المتهالك. أنه متصل ومنفصل بالوقت نفسه مع الانسان والعالم.  وبرأينا أن الشاعر الحقيقي أو الرائي الحقيقي، هو من القلائل القادرين على الوصول الى هذا المجهول والأمساك به. فهذا الشئ برأينا هو المصدر الحقيقي للشعر ولكل تأمل فلسفي مهم، بل ولكل أبتكار علمي عظيم.

فالمجهول، ليس مجهولاً، وأنما هو شئٌ لايشبه الاشياء. هو شئٌ مستتر، أو لاشئ محسوس، ولكنه غير مدرَك إلا لِمَن يمتلك أدوات الوصول اليه. وهذه الأدوات هي مانتمنى من الشاعر أن يمتلكها، لأنه من خلالها سيستمع للموسيقى القادمة من الأقاصي البعيدة الواقعة في أقاليم روحه غير المرئية بمهارة متلقٍ بارعٍ وذكي، وسيترنم على نغماتها بحرارة راقصٍ مبدعٍ خلاق. للمجهول نار في غاية الحرارة، وله موسيقى في غاية الدهشة، وله ألوان في غاية الأبهار، وله صور في غاية الجمال، وله بالطبع كلمات في غاية العمق، ولكن كل مافي الأمر هو أن هذه الأشياء تختلف عن ماهو متعارف عنها في حياتنا وواقعنا المعاش. بتعبير آخر، نحن نرى أن المجهول ينتج المعاني والأشارات والأيحاءات الى الشاعر، وهذا الأخير ينتج الجمل والصور والمفارقات الشعرية للمتلقي. أنه يعطي الحرارة الشعرية للشاعر، بينما الشاعر يغطي هذه الحرارة برداء الصنعة الشعرية. لذا نحن نرى بأنه، يمثل الحضن الأبدي للشعراء. وبأمكانه أن يكون حضناً لكل أنسان، إن عرف هذا الأنسان كيفية النظر الى أعماق روحه في لحظة عزلته وتأمله مع ذاته، غير أن الفرق بين هذا الأنسان وبين الشاعر هو أن الأول يعكس نتائج ماحصل عليه من هذه العملية على سلوكه الحياتي وربما العملي أيضاً، بينما الشاعر يعكس هذه النتائج على نصه الشعري بالأساس. نحن الأن بحاجة الى أن يستوعب الشاعر لعبة المجهول. أن يذبح بحرارة كائناته الهلامية القادمة اليه من الأزل أمام ذاته مثلما يذبح الأرهابي بحرارة، ضحاياه أمام أنظار العالم من دون رحمة وبثقة وأيمان لايتزحزحان، وذلك من أجل أن يستخرج المعاني والصور والرؤى الشعرية من تلك الكائنات أو بالأحرى من تلك الأسرار التي نشبهّها بالكائنات الهلامية.

المشكلة التي تواجهنا هنا هي التعريف الواضح والدقيق لهذا المجهول، والسبب برأينا يكمن في أن اللغة قاصرة على أيصال حقيقته وهويته بالشكل المتعارف عليه. أنها بحق مهمة شاقة، لأن الوصول الى هذا الشئ يتم عبر الفرد وليس عبر الجماعة. أي أنها قضية فردية بحتة، لذا فمن الصعوبة جدا أن يوصل هذا الفرد مايراه عنه الى المجموع. لذا فإن أفضل تعبير للشاعر عن نغمات هذا المجهول ومعانيه وأشكاله وحرارته برأينا هي النصوص الشعرية والتأملات الشعرية أكثر من أي شئ آخر لأنها الوحيدة القادرة على أختراق نمطية اللغة وعلى التقرب من هوية المجهول. أي أننا بواسطة الشعر نستطيع التعبير عن المجهول أكثر من أي واسطة أخرى، كأن تكون فلسفية أو منطقية أو علمية.

أما كيفية إمساك الشاعر للمجهول، فبأمكاننا القول أن ذلك يتم عبر عدة طرق منها مثلاً: أن يقوم الشاعر بتمزيق صور الشعراء الذين سبقوه وأبعادها تماماً عن حقل مخيلته وذاكرته، سواء كان هذا التمزيق والأبعاد يتم في اللحظة الشعرية الأولى التي تقتحمه أو سواء يتم في اللحظة الشعرية الأخيرة التي يضع فيها الشاعر نقطة النهاية لنصه الشعري. والسبب في ذلك برأينا هو من أجل أن يعطي الشاعر المجال والمساحة المطلوبة لرؤى المجهول الشعرية للأنتشار في جسد النص الشعري، ومن أجل أن لايقع في فخ السرقة من الآخرين أو في فخ التكرار.

بصورة أخرى نتمنى من الشاعر أن لاينظر الى التراث الشعري، كمن ينظر الى العالم من خلال شرفته. لماذا؟! لأن هذا التراث سيكون قابعاً في قيعان الروح العميقة تلقائياً، وذلك من خلال هضمه المستمر له طوال حياته. لذا نحن نقول بأن معطيات الآخر الأبداعية تشكل جزءاً مهماً من هوية الشاعر ومن هوية المجهول المستوطن في أعماقه معاً. ولذا أيضاً نستطيع أن نتفهم أن الكثير من المنجز الشعري قد يكون متقارباً بين شاعر وآخر أحياناً على الرغم من الفوارق الزمانية والمكانية بينهما (ولانقصد هنا بالتقارب الأبداعي هو السرقات الساذجة غير المبررة على الأطلاق)، وذلك أيماناً منا بأن وطن الشعراء الحقيقي هو وطن واحد، وهو برأينا يتجسد في النرفانا البوذية أو في الأشراق الصوفي أو بشكل أوسع في الفضاء الروحاني الفسيح.

ونتمنى أيضاً من الشاعر أن يحاول طرد كل التراث المعرفي من عقله في لحظة الكتابة وذلك من أجل الوصول الى روحية الأنسان الأول البدائي، والى طريقته في التعامل مع الأشياء والى طريقته في أكتشاف العالم وأكتشاف أسرار الوجود، لأن هذه الطريقة برأينا ستعين الشاعر كثيرا على مواجهة المجهول ومن ثم على أستلهام المعاني والأشارات الشعرية منه، عبر التأمل الأصيل. وهو الشئ الآخر الذي نتمنى من الشاعر أن يمارسه مباشرةً بعد أزالته للتراث المعرفي من عقله. فنحن نتمنى من الشاعر أن يبادر بالغرق في بحار التأمل الأصيل، وأن يتمعن بالوقت ذاته في الأستماع لأرقى أنواع الموسيقى المستفزة للذهن والوجدان وأن يتوحد مع الطبيعة تماماً من خلال التغلغل في أعماق الغابات والحدائق الهادئة أو من خلال التأمل في الصحراء والجبال، ومن خلال تأمل البحار والأنهار والبحيرات والتسكع على سواحلها المثيرة في وقت واحد، وأن يتعامل معها وكأنه ولد من رحمها لتوه، لأن ذلك سيجعله يقترب كثيراً جدا من فطرته النقية. فهذه المناخات برأينا هي من أهم المناخات الأستفزازية لينابيع الرؤيا الشعرية ومن أهم السبل التي تعين الشاعر على المزج بين حرارة الفطرة وطراوة المعرفة والوعي. وهي مانتأمل من الشاعر أن يجمع بينهما في اللحظة التي يدوّن بها لحظاته الشعرية الخاطفة.

أما أذا سألنا أحدهم عن المقصود بالتأمل الأصيل، فنحن بدورنا نجيب: أن التأمل الأصيل هو  ذلك الذي يعيد من خلاله الشاعر أعادة قراءة الأسئلة الوجودية والحياتية الكبرى من جهة، وأعادة أكتشاف الأشياء التي من حوله وكأنه أكتشفها بنفسه الآن من جهة أخرى. أي نحن نتمنى من الشاعر أن يتأمل بأستمرار ومن دون ملل أو من دون اللجوء الى الجواب النهائي عن أسئلة (الله، الوجود والعدم، الحياة والموت، الروح، المجهول، الأبدية، الحب، الزمن، التأريخ، الحرية... الخ) وأن يحاول أعادة أكتشاف (الأنهار، البحار، الأشجار، الزهور، النار، الغابات، المدن وتفاصيلها... الخ) وذلك من خلال إلغائه لتسمياتها وصورها التي يعرفها عنها مسبقا. أي أننا نرى أن من مميزات الشاعر الحقيقي هو قدرته على النظر الى الأشياء وكأنه يشاهدها للمرة الأولى، مثلما شاهدها الأنسان الأول للوهلة الأولى، أو مثلما ينظر الطفل الى ألعابه الجديدة للمرة الأولى بدهشة. أي أنه هو ذلك الكائن الذي يمزق كل التراث المعرفي والفلسفي والتأملي الروحاني المخزون في ذاكرته في لحظة تأمله لهذه الاسئلة والاشياء.

ربما هذه ليست طريقة جديدة في التأمل ولانزعم بأننا أبتكرناها. ولكن أن يلجأ الشاعر لهذه الطريقة لأكتشاف العالم ومن ثم أكتشاف هوية المجهول فذلك هو السمو الحقيقي له برأينا، لأن هذا التأمل هو المناخ الأجمل لأستفزاز ينابيع الشعر العظيمة كما أشرنا سابقاً، وهو الفضاء الأرقى للتمتع بلذة الحرارة الشعرية المبثوثة في النص الشعري عبر البكاء الروحي للشاعر لحظة أحتراقه بنار المجهول الأزلية. أجل عبر البكاء الروحي! قد يظن البعض بأن هذا النوع من البكاء هو من النوع الرومانسي والكلاسيكي، ولكننا نقول لهؤلاء، لا وألف لا. بكاء الروح يختلف عن بكاء العيون، على الرغم من أن العيون أحياناً تذرف دموعها حينما تذرف الروح حرارتها، وهو أمر مقبول بلاشك. ولكننا نقصد ببكاء الروح هو ذلك البكاء القديم الذي أطلقته روح الأنسان الأول حينما تساءل عن ماهية المجهول سواء ذلك الذي يعيش في أعماقه أو ذلك الذي يحيط به من كل جهة أو ذلك الذي قذفه الى العالم من دون أرادة منه. تلك الروح الأولى، هي روح الشاعر الحقيقي، وذلك البكاء الأول، هو بكاء الشاعر الحقيقي، وذلك التساؤل الأول، هو تساؤل الشاعر الحقيقي.

الغريب برأينا أن الكثير من البشرية بمن فيهم العديد ممن يتعاطون الشعر والأدب والمعرفة، باتوا يتعاملون مع الكثير من الأمور على أنها أشياء بديهية ولاتحتاج الى التساؤل والحيرة حولها مرة اخرى. ومن أهم هذه الأشياء هي بكاء الروح وهوية المجهول والحرارة الشعرية على سبيل المثال، بل وأيضاً الكثير من الأسئلة الوجودية والحياتية. ولهذا نحن نرى بأن الكثير من الشعر سواء الذي كُتِب في الماضي أو في الحاضر هو شعر بارد وخال من الروح والحرارة على الرغم أحيانا من دقة صنعته من حيث اللغة والبناء مثلاً.

أن لذة النص الشعري برأينا تكمن بالأساس في حرارة الشعر الصادرة من حرارة المجهول القديمة. وهذه الحرارة تبرز في النص الشعري المسترسل بفطرة عالية، وفي النص الشعري اللاهث خلف السؤال بتوتر وأنفعال خلاقين، مثلما كان الأنسان الأول يلهث خلف طريدته وخلف أسئلته المربكة بتوترٍ وإنفعال.  هذه الحرارة هي الحرارة الشعرية المرتجاة. أنها روح الروح. أنها شعلة المجهول، وجوهر الشعر الأصيل. هذه الحرارة هي التي تجعل الروح تبكي، لأنها تمتلك حرارة التساؤل والأكتشاف، وحرارة الخوف من المجهول وحرارة الدهشة، وحرارة الشعر والوجود. أنها الحرارة التي تدفع الشاعر الى هجرة كل ماهو قديم والتفكير واللهاث خلف كل ماهو جديد. وبكل تأكيد أن كل قارئ ذكي ومتأمل سيشعر بحرارة نص الشاعر من دون صعوبة حتى وأن لم يفهم الكثير منه، وبالتالي سيتعرف تلقائياً ولو بشكل بسيط على جانب من جوانب هوية المجهول.

إذاً، لنجعل المجهول ملهمنا الحقيقي للكتابة عن الحياة والوجود شعرياً. 

2007
كوبنهاجن ـ الدنمارك  

تمهيد
ياابن آدم!
خرجتَ الى الحياة صدفة، ودخلتَ مملكة الصمت. رأيتَ الكلمات التي لمْ ترَها من قبل، فقررتَ أن تكون بحجم القلب، وأكبر من الأهواء. لذا دوَّن كلماتَ المجهول الملقاة عليك، ثم أذهب الى الحياة من دون خوف. 

ترنيمة الوجود
إعلمْ ياابنَ آدم!
أنّ الأسرار، جوهرُ الوجود.
......................
......................
أذهبْ على جناح الفطرة الى الأمكنة المهجورة منذ آلاف السنين، وأطرد ظلال الجثث والحروب من رأسك. أمشِ بين أطلالها ببطء. فالبطءُ، أمتلاءٌ وتأملْ. تفحّص تفاصيلها بصمت. ستدرك انّ الصمتَ، سحرٌ وثراء.
أنظرْ!
هاهي الرغبات تشتعل في رأسكَ:
رغبة مشاهدة الأرواح،
رغبة التحدث مع الأموات،
ورغبة أمساك الهواء!
سيقال بأنّكَ تهذي، فقلْ:
الهذيانُ، لغةُ البصيرة.
تجوّلْ بين الأطلال كالتائه. فأعشابُ الأزمنة ستحترق بنيران خطاك، وستثير الأمكنةُ القديمة الأمنياتَ في قلوب الحائرين:
أمنية الغرق في بحر الأسرار،
أمنية اللجوء الى نكهة الزمن الرائح،
وأمنية الألهام.

إعلَمْ أنّ المكانَ، نصٌ يحملُ نزيفَ صانعه.
وأنّ النزيفَ، رؤى الكائن الجمالي.
والرؤى، حقيقةُ المجهول.
ملامحُ المكان تُجسد حضور الراحلين. فأستوعبْ ثراء الأطلال بأدواتك الحسية وتلذذ به للحظات. فعند ذاك، سينسابُ صوتٌ مجهول شفاف جداً الى مسامعك، سيكون له وقع الندى في نفسك، وسيرضخُ قلبُكَ لأرتعاشة مبهمة قد لاتدرك ماهيتها. ربما هي أرتعاشة اللذة/ لذة الحضور/ حضور الصوت. ستشعر بوجود لغة سرية، خفية بينك وبين المكان.
أنها لغة البصيرة،
لغة الرؤيا،
لغة التأمل،
لغة الوجود،
أو لغة الصمت.
ستدرك أنّ اللغة الممتدة بينك وبين خالق النصوص والأمكنة والعوالم، هي لغة الجسور الأثيرية، لغة الحوار السري، لغة الفضح والأكتشاف/ أكتشاف أسرار الوجود المفروشة الى الأبد.

الصامتون،
يلوكون الحكايات والأسرار والصمت:
حكايات الألم واللذة،
أسرار الغياب والحضور،
وصمتهم أزاء الارض والسماء..

أمسكْ نور الخيال، ثم مزّقْ به ستائر الظلام المتكدسة من حولك وأتجهْ الى غاية لايعرفها سواك. أصنع خلاصك بيديك، ودعك من أنتظار لطف الآخرين عليك. خلاصك بسعيك الى أقتحام الخفاء، وليس بالأنتظار. غُصْ بمشعلكَ في أعماق الظلمة وأعلمْ أنّ صدى الصوت سيظل يتردد في أذنيك الى أنْ ترى باباً مغلقاً. أفتحه. حينها سيظهرُ لكَ مشهدٌ محيرٌ:

بحيرةُ نار. نهارٌ يسبحُ فيها. يخرجُ النهار منها بهدوء، ثم يجلسُ على الشاطئ. لحظات ثم يصرخ بعد أنْ ينظر الى الأفق:
ـ أيها الضوء لم أعد أرى..

ستشعر بأن ذلك ليس نهاية المطاف، فالخفاء سيقودك الى خفايا أخرى. وكل باب تفضّ سرَّه سيدلّكَ على قيامة من الأبواب المغلقة. لذا قَرّرْ ياابن آدم، من دون تردد مغادرة هذا العالم، والعودة اليه كلما رغبتَ بفك أبواب الخفايا والأسئلة.

ترنيمة اللاّغاية
إعلَمْ ياابن آدم!
أنّ اللاّغاية،
غاياتٌ متعددة وليست واحدة،
وهي لاغاية وغاية في الوقت ذاته.
..................................
.................................
ليس غريباً أن تلجأ ياابن آدم الى الرصيف هرباً من ثرثرة الأسرة حول القيم المطلقة، والأنسان الكامل. فعلاقتك الخفية مع الرصيف لايعرفها سوى الليل.
الرصيفُ، وطنٌ أعزل.
والليلُ، ملجأ الهاربين من أخلاق النهار.
تذكّرْ بأنّكَ تنتمي للرصيف والليل منذ أن أقترنت بالرؤيا، وانّكَ مشيتَ طويلا في الطرقات الفارغة كي ترمم جراحها، وكي تغني أغنيتك الذائبة كذوبان العمر فوق الأرصفة:

آه أيها الطائر!
رأيتكَ مغنٍياً يصدح صوته الجميل،
لجمهورٍ لايود الاستماع إليه.
صرخةً مدوية في صحراء فارغة.
شمساً ترسل نورها
لعالم يحب الليل فقط.
لاتحزن ياطائري الوحيد!
فأنا مازلتُ أراكَ واقفاً،
على تلك الشجرة المزروعة أمام نافذتي،
على الرغم من رحيلك عنها
منذ زمن طويل،
طويل جداً.

أعتدتَ على قطف ثمار الشجر تحت سقف الليل، وعلمتَ أنّ الثمارَ، أفكارُ الشجر. والشجرَ، أفكارُ الطبيعة. أنتَ من رأى زمن العصافير المسفوح بين الأغصان، وأنت من تحسّس بأنامله أيام الطيور المتكلسة على الجذوع.

أعرِفُ بأنّك فكرتَ بملامسة جسد الحياة الممدد أمامك، وأنكَ سعيتَ الى غاية لاتحلَّق في الفضاء. علمتَ أنّ الأنسان يشرق كالشمعة كلما طرد الرغبات الخالدة عن زمنه، وأنّه يلمع كالقمر كلما أبعد الملذات الأبدية عن قواميسه.
قُلْ حينما تتسمر على الرصيف أمام الأشجار وتحت خيمة الليل:
ـ يافراشة أحلامي المحلقة في السماء البعيدة، ستذوبين حد التلاشي.
ياهواءَ المعنى! ياابنَ المعاني الكثيرة، كُنْ خلاصي.
ياحياتي، أطلقيني في فضاء الغرابة،
فلستُ أنا من يرضخ لتأريخ العائلة.
ياأبناء الرؤيا!
أزيلوا صخبَ المدن عن بصيرتي،
ألهموني القدرة على أرتداء المرايا والتوجه الى الأشياء الخفية.
ياروحي!
لاتراقبي الحياة من نقطة ثابتة.

ياابن آدم!
كثيراً ماأحببتَ الجلوس على رصيف البريق تحت رحمة اللاشئ، وكثيراً ماوجدتَ سنابل الرائيين مزروعة في الأرصفة منذ أنْ سقطت انظاركَ على حقول الضوء. جلستَ تلك الليلة على الرصيف طويلاً، ثم أمسكتَ سنابل الرائيين، وقلت: ياه! أني أتلون بالحكمة والشعر، كلما حملت رؤاهم.

ياأبناء الرؤيا!
دوّنوا كلمةَ الشعر الأزلية في عقول العلماء،
فالعالم خلقه حكيم مصاب بالشعر!

أنظرْ ياابنَ آدم!
هاهي دموع الجمال تسقط فوق سنابل الرائيين،
وهاهي أحلامهم تسبح في عيونه كزوارق مليئة
بصناديق مغلقة!

رائي. حقل فسيح مليئ بالخضرة. صندوق مغلق يقع في وسط الحقل. يفتح الرائي غطاء الصندوق، فيرى بحراً ذهبياً يغمر جسد عشتار، وفصيلاً من الملائكة يحلّق حولها ويصب مياه الشمس في عينيها.

لاتتوانى عن ألقاء أحلام الرائيين في أدراج قلبك السرية،
لا تتأخر عن ألتقاط أوراق الشجر الملقاة على الرصيف،
وحاول أن تقرأ كلمات النار المدونة عليها بهدوء:

الورقة الاولى:
الغايةُ، سجنٌ يسرق الحرية.

الورقة الثانية:
اللاغايةُ، صرخةُ العالم بوجه القيود.

الورقة الثالثة:
المعنى، جوهرُ الأنسان والعالم.

الورقة الرابعة:
اللامعنى، معنى أبدي.

ياه ياابن آدم! أنت من رَدّد طويلا:
ـ مجنونة هي المدونات الناطقة بالكلمات الخبيثة!
كيف نزحزح اليقين الراسخ في العقول والقلوب؟
أتمنى أنْ أرى شطحات راءٍ يحمل الحياة فوق كفه!
مرحى لِمَنْ يبث القلق في النفوس المطمئنة، أخرجْ أيها الماء من أناملي. أخرجْ. فها أنذا أعصر سنابل الرائيين بأحلامي، أخرجْ، لاتنتظر، هيا، أخرجْ وطهّرني من ذنوبي المرتكبة منذ الولادة:
ذنب البقاء في المدينة من دون راية،
ذنب أيامي البعيدة عن الصمت،
ذنب اللهاث خلف التقاليد،
وذنب الأبتعاد عن بحيرة الموسيقى.

آه!
ها أنت ترى الفجيعة في الأفق!
هاهو الماء يتدفق من أناملك بسرور،
هاهو يتزحلق بعيداً عنك تحت النجوم المسكونة بالأعماق التعيسة،
وهاهو يتلألأ بضوء القمر أبتهاجاً بأنفصاله عنك.
ياابن آدم!
أصنعْ طيوراً من أوراق الصيف والطفولة.
أنتَ، رمزُ الشك والأحتمال.
سِرْ أيها النقي صوب المعابد، أدخلها، حطّمْ أمنياتها الغبية، وأصرخْ من فوق سطوحها بأعلى صوتك:
ـ لماذا لاتتوجهين الى طفولتك الغافية ياأحجار المدن؟
لماذا لا تغادرين طقوسك المهينة؟
لماذا لاتذهبين الى ميادين القطيعة والخروج؟

ولكن، إعلمْ ياابن آدم!
أنّ الوحوش الكاسرة ستنهش لحمكَ، ستحطم عظامك، سترتشف دمك، ستطفئ قلبك. ياللقسوة! بل أنّها سترسلك الى المنفى بدمٍ بارد. ولكن لاتحزنْ. المنفى، وطنُ الماء والضوء.
لاتحزن. فخطاك ستبقى محفورة في ذاكرة المدينة حتى وأن كنت لاتكترث بذلك، لاتحزن، لاتحزن، لاتحزن..

ترنيمة السؤال
إعلمْ ياابن آدم!
أنّ كل شئ معرض للموت الاّ السؤال.
..............................................
..............................................
بعيداً عن منازل المدن وصخبها. في العراء المحاط بها، تمتزج الرغبات بالخيال.
من العدالة، أن يتمتع الأنسان بالخيال. فالخيالُ، نافذةُ العقلانيين على الأنفلات، ودرب الغريب الى العالم.
مابهِ رأسك ياابن آدم يصرخ دوماً برغبة غير مسماة؟ أنت تخشى اللجوء الى التسميات.
ترغب الى مالانهاية، ولكن الرغبات المؤقتة فقط.
أتذكرُ بأنك كثيراً، وبالأخص في أيام الصيف، كنتَ تذهب الى خارج المدن على متن المعاناة، وتجلس برفقة العطور تحت أفياء الأشجار المزروعة هناك.
حلمتَ كثيراً بعناقيد الأثير، وتأملتَ أكثر أمواج الخفاء، فأيقنتَ أنّ الآفاقَ المفتوحة، حاضنةُ الألهام. وأنّ الألهامَ، سرقةٌ عظمى من أعماق المجهول.
كلا أبداً لم يكن الألهام هدية. دليلك، هو لغة الصمت. فالمجهول يعطي الألهام، ولكن بعد أن يستفزه الرائي بالأسئلة والظنون.
الرائيون يقترحون السؤال أولاً ثم الجواب ثانياً، ولكن طرحهم للجواب يكون أحتمالياً.
العالمُ، نصٌ لايمكن فك شفراته كلها.

أحملْ معاول الشك بحثاً عن أصنام اليقين، وأتجهْ الى كهف العزلة. ولكن، إعلمْ أنّ الكهفَ لايصبح كهفاً إنْ لم يكُن في داخله:
كفٌ تحب المعرفة،
شمعةٌ صغيرة،
ذهنٌ أصفى من ماء الزلال،
وقلبٌ أوسع من الكون يعشق العالم.

ومهما كانت أعاصير النبوءات الكاذبة شديدة، الاّ أنها لاتستطيع محو أرشيف الكهوف. فأنينُ الأسئلة الاولى، وأرواحُ الأولين الطامحين الى الخلود، دائم الحضور في الكهف.
ساحرةٌ هي رقصة النار، وبالأخص نار الشموع في العزلة. فهي تداعب طفولة الأنسان المنسية دوماً وتخلق المسرة الغامضة في الأعماق. هذا هو سر النار.
وعند اللجوء الى الآفاق الفسيحة، يتفتق الذهن، ويُزهر القلب بورود اللذة. ثم يتلاشى الآخر ببطء. وحينذاك لايوقفك شئ ياابن آدم. أفتحْ نوافذكَ وأبوابك للمجهول لكي تسقط عليك الرسائل بغزارة منه. ولكن! مابها السماء بائرة هذه الليلة؟ ومابها مخيلتك مصابة بالوهن؟! كيف الخلاص؟

أذهبْ ياابن آدم،
الى البراكين.
أسبح في مائها المشتعل بالسخرية.
ولكن لاتظن بأنك ستخرج منها
خالٍ من السموم.
للخطوات الواسعة، رهبة.
وللكلمات المائية، ضوء قمر.
الطرقات ملآى بالحجارة والذكريات.
كنتَ تداعبها في طفولتك،
وتقذف أحجارها في الهواء.
كنتَ تود معرفة حدود الممكن.
فأنت عاشق الأمطار القديم.
ولكن تذكر،
أنّ الامطارَ التي لاتزيل الغبار،
لاتستحق الأنتظار.
أصبرْ،
فذات يوم سينزل المطر
من فمك.

مامِن فرحٍ ينساب هذه الليلة!
هاهي سحب الحزن تظهر في سمائك، ففكرْ بالضياع، وأجعل المتعة، نشيدك الجديد.
جميلٌ أن يكون المرء أبن الحياة والمتعة الزائلة. ولِمَ لا؟ فأنتَ لم تكن بعيداً عن أزقة اللذة ومدن العبث، الاّ حينما تسرقك جنة الوحدة.
أدخلْ حانةَ المدينة القديمة، وسترى امرأة جميلة بجمال الفجر، تمسك كأساً مليئاً بخمر الشمس. يالها من مبهمة! أنظرْ! انّها هنا. أنظرْ جسدها الملفوف بثياب الغياب المؤقت، وأعلم أنّ خمرةَ كأسها ممسوسةٌ بالسحر.
ـ من يعرف سر هذه المرأة؟
أف! تنهض المرأة من مكانها وتلقي خمر الشمس في وجوه السكارى، ثم تخرج من الحانة بهدوء! توجهْ ياابن آدم الى طاولتها، فستجد ألف سؤال وسؤال فوقها!!

كرنفال الألم لن ينتهي. انها الدنيا. حتى الأطفال رسموا أحلامهم تحت سماء الخوف.
هاهي العصافير تبيع ريشها لأكلة لحوم البشر وتصرخ بالمارة:
ـ خذوا هذه الحماقات، لأنها تطهّر الدماء!

رعب، أرتباك، تشظي! الغيلان الملفوفة بالدخان الأسود، تطلق القبور من أفواهها الى جسد النهار، غير أن روحك ستمشي بين القبور، وسترسم طيوراً تبث الحياة في الأموات من جديد.
أطلبْ أغنية الوداع من مغني الحانة، وسيكون لك ماتريد. أرقصْ، غنْ كالصبيان، وأشرب حد الثمالة، ثم أسحقْ الوجع بأقدام الفرح. وبعد ذاك أخرجْ الى المدينة كطيرٍ يحمل النقاء في قلبه.

ترنيمة الرحلات
إعلَمْ ياابن آدم!
أنّ الانسانَ، فكرةُ الوجود.
........................................
.........................................
أحملْ ياابن آدم حقائب النسيم، وأرحل الى الحياة كرحلة الأنسان المنطلقة من يقظة المهد الى نوم اللحد.
الرحلةُ، شجرةُ لبلاب ممتدة على جدران الأكتشاف.
الرحلةُ، أفتراقٌ ولقاء،
غيابٌ وحضور.
للرحلةِ، عطرُ العوالم الجديدة،
رائحةُ الغربة المبللة بالدهشة،
نكهةُ الحرية،
ونشوةُ الخطيئة الأولى.
أبذلْ مابوسعك لأجتياز الصحارى والمدن، الجبال والسهول، البحار والأنهار، الحقول والوديان وتأكدْ بأنّ صوتَ الرحلة سيبقى منطلقا في داخلك، ومعلناً عن مغادرتك لكل المحطات المليئة بملائكة الطمأنينة.
أنتَ مَنْ رأى الصحراءَ، سجادةً جرداء،
والجبالَ، رغبات ساخرة،
السهلَ، لساناً،
البحرَ شيخاً ينطق بالأسرار،
النهرَ شاهداً أخرس،
الحقلَ أمرأةً،
والوادي وليمةً دائمة للجبال.

ساحرةٌ هي جذورُ الأشياء! لاتنظر الى مظاهر العالم فقط ياابن آدم. كُنْ مدينةً لايخدعها حصان طروادة. أجعَلْ روحك تواقة للدهاليز والظلمات. أنتَ من أعتادَ على عذاب السفر والغياب. لاتكُنْ تحت رحمة الأيادي التي تصب الأفكار عليك من كل الجهات. إحذر! 
أنتَ من جلس في أحدى الأحلام البعيدة عن المدن، وأنت من تمنى أنْ يكون، مومياءً شهد كل القرون الغابرة، عبر ثقب الموت. تلك القرون التي أنتصرت فيها الطاعة على العصيان، الجواب على السؤال،
اليقين على الشك،
والمألوف على المختلف.
هذا هو جوهر الهزيمة!
غير أنّ المهزومَ، نهرٌ في ذاكرة التاريخ،
فرسٌ ربيعي يهرول في البراري الفسيحة،
وصوتٌ لايعرف الخريف.
يالفرحنا بك أيها المهزوم، وبصوتك المأخوذ من حنجرة الله.
تَطلّعْ في الوجوه التي تمر بك، كمن يبحث عن ضالته أو توأمه في الأنكسارات.
سَتُشاهد أنّ الكثيرَ منها صائمٌ عن الصمت رغبة بالثرثرة، والقليلَ منها صائمٌ عن الكلام رغبة بالرقص والغناء. ستتأكد بأنّكَ لستَ وحدكَ. الكلامُ من دون سؤال كأناء مثقوب، فلِمَ الثرثرة؟!

 يامَنْ رأى في البعيد طاحونةَ الهواء العملاقة، التي رسمت بهواءها على صفحة الفضاء، صرخَتها بوجوه الملائكة والأخلاق، وبوجوه السيادة والعبودية، إعلم أنّ السيادة تحملُ بذرةَ العبودية.

أستمرْ في التحديق بطاحونة الهواء، وستراها مشغولة بخلق النسيم للكائنات التي تعشق النزق والتمرد. النسيمُ، رئةُ الكلمة الخبيثة. فهل للنسيم من طموحات؟
إعلمْ أنّ طاحونة الهواء تهرس الضحايا في أحشائها من أجل الأستمرار في الحياة!

ياابن آدم!
لاتكنْ فراشة،
أخشى عليك من ضوء الكلمات.
حياتُكَ، طيرٌ واقف في فم تمساح مفتوح!
لَنْ تجد الماء الذي تريد.
ألا يكفي أنك تنام بأحضان الهواء؟!
سافِرْ الى بيوت الموسيقى.
فهناك ستصادف النغمات
التي أكلها المسوخ
قبل قرون وقرون،
أو غادر الى الجبال
المؤدية الى أول كلمة
في التاريخ..

ومن دون انصاف!
كان ضوء الآفاق البعيدة يلوّح للفلاحين، يومض لحيوانات الحقول، ويتلألأ للقرى الآمنة، غير انه كان يرسل الحيرة لك! ولكن تأكّد بأنك محظوظ. أنتَ من رأى تلك الرحلات البيضاء التي كانت تسير بثقة ويقين! كان بأمكانك الأنتماء اليها الاّ انك فضّلتَ الأنتماء للرحلات المليئة بالشك والقلق، وهذا كان مدعاة الى أنْ تقيمَ أحتفالاً خاصاً في العراء لصديقك الشيطان.
ولكن! ما أنْ تودع الشيطان المفدى، لمْلِمْ حقائب رحيلك، وأهبطْ الى أحد المنخفضات الدافئة.
فهناك، ستجد نبتة المعنى. أقطفها، ثم ألتهمها بنهمٍ هائل. فحينذاك، ستصاب بداء الضوء.

ترنيمة النار
إعلمْ ياابن آدم!
أنّ الموتَ، فجرُ الأبدية.
........................
........................
الكوخُ، حلمٌ قديم يحوي دفء الثلوج وصقيع النار، يبثُ الكلماتَ الغامضة في أوردة الروح
ويمنحها أمكانية الرؤيا والنشوة. لذا كنْ ياابن آدم قريباً من الحطب والنار.
للحطبِ، نكهةُ العصور الغابرة.
وللنار، مذاقُ الأبتهالات المقدسة.

ألقِ قطعَ الحطب في موقد النار، كَمنْ يُلقي تأملاً مشتعلاً بالغموض في فم الظلمات. القاءٌ يحفظُ نكهة الغابات المليئة بالطقوس المقدسة، ويحفظ رائحةَ نارِ الكائنات المنذورة للحكمة واللذة. أحملْ وجهك صوب النافذة، وسترى الليل الملفوف بالشتاء ينصت لتهجدات القديسين القادمة من البعيد:

قديسو الكلمة المتمردة على الموت،
وقديسو الرحلة العاشقة لأصل الوجود.
ستدرك بأنها ليلة الخروج الى المعنى.
 
أجلسْ قربَ الموقد على كرسي هزاز، أعتاد على هز أيامك السابحة بالتأمل. فلحظتئذ، سيُشرقُ السؤال منك. تذكّرْ بأنّ السؤالَ سيسيح على الكرسي بهدوء جم، متجهاً صوب النار. وحينما يذوب بموجاتها الشفيفة، سيتحول الى عنقاء!
إعلمْ أنّ النارَ ستدعوك الى الأنصهار بها كلما غرزت بصرك في موقدها. وستشعر أنّ ثمة فماً يناديك، وأنّ يداً تلوّحُ لك من أعماقها كلما غرقت بتأملها.
النارُ، جحيمٌ مليئ باللذة،
شيطانٌ طاهر،
وفردوسٌ مبجل.
وهذا وحده مدعاة لأن ترسل روحك لها كقربان تتوسل به لهيبها. أنتظرْ! لحظات، ثم ستقفز روحك الى أحضانها، وستغرق بها، تغرق، تغرق، وتغرق الى أن تمسك اللحظة المرغوبة.

كوخ صغير. برد شديد يحيط به. ثمة عجوز تجلس فيه، قبالة موقد نار. كانت تعلم حفيدها، كيف يلقي سنواته القادمة في فم النار!

أطِل الجلوس على الكرسي الملطخ بدهشة النار وموسيقاها. الجلوس أمام موقد النار يجعل المرء مثل كاهن قادم من أقرب وريدِ للإله.
النار تمتلك أنغاماً أكثر صخباً من نغم الحياة على الرغم من صمتها الداعي للحذر.
فأحذرْ النار ياابن آدم!
ستصيبك بمسٍ من الواقع.
أعزف على أوتارها بجنون.
التمعن بالنار طويلاً، يأخذ المرء الى فضاء موته الأول والأخير.
تجوّلْ في المكان ذهاباً وأياباً، وفكّرْ بأسرار النار والثلج،
بأسرار الحياة والموت،
بأسرار الوجود والعدم،
بأسرار الخلود والأبدية.
إعلَمْ ياابن آدم! ثمة موتٌ آخر في كنفِ الحياة.
إنّه موتُ السؤال،
موتُ الخطأ،
وموتُ المعنى.
وأعلم أنّ الموتَ،
خروجٌ من الحياة والموت معاً.
الموتُ،
تشتت الجسد،
وطيران الروح،
وبقاءُ المجهول المستتر فيه.

يامَنْ نذَرَ نوافذه للثلوجِ والأمطار والشمس! أقتربْ من نافذة المنزل التي لم تعد تصلح للأنتظار والترقب، وسترى أنّ:
الثلوجَ، نحلةُ الله التي تلسع الأرض وتموت.
الأمطارَ، دموعُ السماء على مصائرنا المبهمة.
والشمسَ، شمسٌ من دون تفسير.
ستشاهد الثلوجَ المتساقطة تغطي كل شئ.
ستراها تسقط،
تسقط،
تسقط وتغطي شجرتك البلورية ألى أن تخفيها عن الأنظار.
إلاّ أنّ الشجرة ستبقى واقفة في رأسك.
أمعنْ النظر بالثلوج  عبر النافذة، وستشعر برغبة قوية في البكاء.
فعلى الرغم من أن الثلوج تعيش في السماء دوماً، إلاّ انها في النهاية، تموت على الأرض.

آه من تلك النار!
تلسعنا ببرودتها،
كلما فكرنا
بالموت.

إعلمْ ياابن آدم!
الموت يجعل الأنسان آخر بعد أن كان ذاتاً في الحياة، ولكن هذا الآخر ربما سيدركُ الذاتَ بعد الموت، لأنه كان في أعماق الذات التي كانت في الحياة.
أقترن ياابن آدم بالحياة أنتقاماً من الموت، ولاتؤمن بالموت كثيراً، فذلك سيجعلك لاتحترم الحياة.

ترنيمة الغياب
إعلمْ ياابن آدم!
أنّ نورَ القلب، بابُ الغياب.
............................
............................
غنَّ، وأرقصْ، وأشعلْ النيران في أعماق الغابات الكثيفة. احتفلْ بالآتي الجديد تحت ظلال الأشجار المتفتحة. فالغاباتُ، شموسٌ مظلمة تستحق الأناشيد السعيدة.
هناك، حيث ندى البصيرة يبلل كل شئ، تذكّرْ ياابن آدم حكايات الأمهات والأجداد عن أسلافنا الغائبين في الأزمنة البعيدة، ثم حدّثنا عن حكاية أمكَ حول أسطورة الغياب:
ـ إيه ياولدي! كان ياما كان في قديم الزمان. كان أحد أجدادنا الخالين من الغبار يعشق الخلود بغرابة. خرج ذات مساء من مدينتنا، ودخل أروقة الغياب.
أحدهم أخبره: إنْ لم تجد التاريخ في النور، فأبحث عنه في الظلام! وبعدما دخل هناك. آه! رأى جملة مكتوبة على الجدران:
القلبُ، وسيلتُنا الى عالم الأسرار.
ياله من مسكين! حينما خرج من هناك، أختفى ولم يعد الى الأبد.

ياابن آدم!
روحك مغسولة بالمحبة الخالصة للغابات، لذا أمشِ في طرقها المعبدة بالألغاز، مدفوعاً بهواء التأني، ومغموراً بالشمس وبنسمات المسافات الخضراء، ثم أطلق العنان لغنائك عن الغياب. سترى طيور الماء ترقص في فضاء الغابة على ذبذبات صوتك الغريب.
الأغاني، سرُ الروح التائقة الى المجد، تحمل القلب على كف الموسيقى وتلقيه في الضفة الأخرى من الظلمات.
تأمّلْ الأشجار الطويلة الشبيهة بنساء أمزونيات، واقرأ كلمات الغائبين والمنتظرين، وتأوهات العاشقين والمفقودين المحفورة على جذوعها الخلابة. تلك الكلمات المحفورة بأظافر الأمل النازح من العيون، ثم غنّ مجدداً:

خذي حبة السنين،
وأرمِها في دربك الصغير.
تذكري جار القمر.
تذكري نهر الشمس.
تذكري أنشودة الأيام الحارة.
أتتذكرين؟
أحمر، إحمرار الرحيل، نهارُكِ الوحيد.
أبيض، بياض الحزن، زمنُكِ النائح على الكلمة الذبيحة.
أخضر، إخضرار القلب، نارُكِ اللاسعة.
أسود، سواد النهار، سمومُ الصحراء المحاطة بك.
فلماذا كل هذا الغياب؟!
الهناك ليس مختلفاً عنا.
نحن الهناك، والهناك نحن.
أريتكِ وجهه الدافئ
في قلبي المسكون بالأخطاء.
أخبرتكِ بأننا سنرحل معاً.
فلماذا كل هذا الغياب؟!
أهي لهفة الخروج الى المجهول؟!
أهي رغبة مغادرة الأرض الملطخة بالهزيمة؟!
أم هو السعى الى أكتشاف مالايأتي؟!
أفكرُ بالرحيل،
بعد أن أغرس شجرتي في قلب المدينة.
الذاكرة لن تخون،
ونحن ذاكرة السماء الدائمة.
بينما ذاكرتنا، هي ذاكرة الشجر.
فلماذا كل هذا الغياب؟!
لنرحل الى الجزر الغارقة بالنقاء،
لنقرأ كتب الماء المدونة بالنار،
لننام على الغيوم المليئة بالشهوة،
لنغني أغنية الصبا في بهاء الوادي،
ولنبحر ابحارنا الأبدي،
ألينا،
الى الهناك!!

آه يااين آدم!
أراكَ تسعى لسماع موسيقى الطبيعة الخفية، وتتمنى معرفتها كلها. أمضِ قدماً في أعماق الغابة، كبوذي يبحث عن شجرة يحتمي بظلها. وأحلمْ بالوصول الى اللارغبة.
فلتذهب، فلتذهب المكتسبات الدائمة، ومارسْ الحياة كما هي.

بركةُ ماء مغطاة بنسيم الربيع. زنبقةٌ صغيرة تتوسط البركة. أوزة بلون الحليب تسبح فيها. توجَهتْ نحو الزنبقة بحذر. دنَتْ منها، ثم ألتهمتها بشراهة. حينئذ، صارت الأوزة تنطق
بالغياب!

الغاباتُ، أسرارٌ طالما حلمتَ الدخول اليها. فأدخلها، وتمعنْ بها عن كثب. ستخرج منها حينذاك أكثر جنوناً من قبل. وكلما تخرج منها لن ترى أثراً لها.
اعزفْ بين الأعشاب:
موسيقى الطفولة،
أنغامَ المعنى،
هسيسَ الصمت،
ولحنَ النشوة.

إعلَمْ ياابن آدم،
أنّ الموسيقى، بيانُ الأنسان الخالد.
أتتذكّر حينما سافرَ النايُ بكَ الى المتواري ذات ربيع؟ كنت قد عزفتَ النغمات الشجية للأمل الدافق من الزهور، وقد عزفتَ ألحان الأبدية للغابات، ثم تمتمتَ مع نفسك:
ـ لماذا تهتز شراشف النوافذ كلما مرّت أغنية الزمن بالقرب منها؟!

ياابن آدم!
جرحُكَ ينزفُ نغماتَ قيثارة قديمة، وتسبح في أنهارك ملاحم وأساطير.
مرحى لغنائك الجديد عن الطيور المهاجرة من بساتين الحياة الى محطات الموت.

امرأة خضراء. رجل ربيعي. خيول قمرية تجري نحوهما. يرتقيان صهوتيهما، ثم ينطلقان صوب الشمس.

أطلِقْ العنان لحنجرتكَ مرة أخرى:
آه ياروحي! أقطفي تفاحة آدم بأكف اللذة، ارسمي لوحة الأيام القادمة، استمعي الى الناي وهو يطلق الأحزان الملونة الى الفضاء، اكتبي عن الرعونة المحلقة فوق مدننا، اذهبي الى الغياب،
فهناك ستصبحين شجرة يستظلّ بها كُل مَنْ حُرِمَ من نعمة الكلام.

ترنيمة الأبدية
إعلم ياابن آدم!
أنّ شجرةَ الحكمة تنبتُ في أرض الخيانة.
................................
................................
أبحرْ  ياابن آدم على متن سفينة ملآى بالمجانين. فالأبحار، توأم الأبدية! لاتأبهْ لنوارس الوصايا المحلقة فوق رأسك. فأمضِ من دون خوف ولاتلتفتْ اليها!
رغبة النظر الى الجزر النائية سترتفع في أعماقك. المسافاتُ، تطول وتقصر، تطول وتقصر.
مَنْ يصبح المُنتظَرْ في البحار؟!.. لاأعرف.

ياابن آدم!
أنظرْ الى كتاب البحر عبر نافذة السفينة. ستقرأ سطوراً مهملة، ولكن عليك أن لاتُخدَع، فما بين السطور، ثمة ألف دهشة ودهشة.
كائنات البحر ترغب بالأنصات للمبحرين.
البحرُ يعشق من يُعلن عن كائناته الخفية، ومن يُلوّن جسدَهُ بحبات السفن المتطلعة الى انارة ظلماته وأسراره.
البحرُ، صائمٌ طوال حياته عن الكلام. فقد احترف الفعل والصنيعة.
كُنْ يابن آدم صديق البحر الصامت.

يامَنْ رأى الموجة العائدة الى البحر!
يامن سمع الريح تغني فرحاً!
قل:
ـ يالصدرك الفسيح الذي يسع العالم كله أيها البحر! أراكَ تملك طيبة لاتملكها الاّ الأمهات،
مع انّكَ ثورةٌ، عنفٌ، وصرخةٌ لاترحم أحياناً.
هل أنا مثلك؟ أنا حائرٌ، مرتبكٌ، قلقٌ. اللعنة. لن أدع نشوتي تضيع في الهواء والرمال.
من الرعونة أنْ لاتبحري ياروحي الى الضفاف غير المأهولة.
من الغباء أن لاتعيشي في أعماق البحار.

إعلم ياابن آدم!
أنّ الخلودَ، ابحارٌ دائم،
سفرٌ أبدي،
وحيوات متعددة لانهائية.
الخلودُ، انتقالٌ مستمر في حاضنة الأبدية.

غادرْ ياابن آدم، مدنَ الأصنام.
غادر لتزرع القرنفل في البساتين الجديدة.
غادر وغادر، الى أنْ تغادر الى الموت وأنتَ على قيد الحياة.

يامَنْ عشق المعنى!
زخرف شلالاتَ الوحدة على جسدك،
أمشِ على الشواطئ عارياً الاّ من الأسمال،
هشمْ قناديلَ الفحم المتدلية في معابد الله،
غنِ أغنية الحياة على مسارح الشعر،
وأزرع لغماً وردياً في مدينة الأوهام.

لاتركنْ سفينتَكَ الى السكون ياابن آدم. لاتقترب من شواطئ الطمأنينة. ابتعدْ عن جنة المومياءات. إعلمْ أنّ مَنْ يأخذ روحَ القمر معه، ويرتقى عربة الشمس، سيرى جحيم الخلود.
أبحرْ الى جزيرة السموم، وأتركْ وصيتك للمبحرين ثم أمضِ في أعماقِ الغابات وحدك. فليحرقوا جسدك بعد الموت وليرموا رماده في البحر.

أثقبْ ظلامَ الغابات بجسدك.
اركب الهواء وحيداً.
تدحرج على الحشائش كالطفل.
أحلامُ الطفولة لن تنطفئ أبداً.
وبوضوح، سترى الحياة عارية من كل شئ الاّ من الموت.
أمشِ بحنان في درب طويل، رفيع، ملتوٍ تظلله أفياء الأشجار الطويلة. آه! ماأطيب رائحة التراب والأعشاب في الغابات!
تأملْ! اللاشئ سيملأ رأسك، بينما القلب سيمتلئ بالرغبة، والشجن سيسحب أقدامك بهدوء الى الأمكنة الخفية. ستشعر بالجدوى كلما مشيت في دروب الغابات الطويلة. سترى أحجار الدرب الصغيرة متحفزة كالأسئلة، وسترى الحشائش القصيرة النابتة في حافتي الدرب شامخة كالدهشة! الأسئلة والدهشة، دربك الجديد ياابن آدم!
ولكن!
الى أين تأخذه أيها الدرب؟
أتأخذه الى الأبدية؟!

وفي نهاية الدرب سترى جبلاً شاهقاً مفعماً بالخضرة والطيور. اصعَدْه وأغمضْ عينيك بهدوء فوق القمة، ثم اسحبْ نفساً عميقاً الى أنْ يمتلئ صدرك بحفنةٍ من الأسئلة.

روحٌ تسبح في بحيرة صغيرة. طيورٌ متلألئة تعوم حول الروح. ثمة زورقٌ ناصع البياض،
ينساب بهدوء فوق مويجات البحيرة. أشجارٌ من نار ترتصف بعناية على الضفاف. كان كل شئ يغوص في السكينة. لحظات، ثم يقفزَ نورٌ من أعماق الروح، ويحلّقَ في فضاء المجهول الى الأبد.

تمنيت َسرَّ الأسرار ياابن آدم، ولكنك مثل ذرة رمل في صحراء رمادية.
عصي على الأدراك هو السر الأعظم.

الصخور ملقاة في طريق الأسماك،
والزهور تتنفس حزن النايات الهادئة.
بحارُكَ المنسية غزتها الأمطار،
وأيقظتْ مرجانك النائم.
الأمطارُ، رغبتُكَ الدفينة.
لذا صرتَ زهرةً لاتعرف النوم.

كفى ياابن آدم كفى!
ذرفتَ دموعَكَ المبللة بالقلق.
دوّنتَ صوتكَ المسكون باللعنة.
ركضتَ خلفَ الأسرار بلهفة.
أنظرْ الى وجهكَ الممزق بشظايا الزمن الوردي.
إلقِ التصورات عن السر الأعظم في الوديان،
ودوّنْ رؤاكَ فقط.
إمضِ نحو الأزقة المبللة بالموسيقى.
إتجهْ صوبَ المدن الخالية الاّ من الصمت.
غِبْ في الحقول العامرة بالموائد واللذة.
الزمنُ الذي مضى لاتلتفت اليه أبداً.
انشغلْ بالحاضر،
وأجعله سرّك الأجمل.

كوبنهاجن ـ الدنمارك
2004 ـ 2007

شاعر وكاتب عراقي ـ الدنمارك
basimalansar@hotmail.com