يقربنا الكاتب الليبي من أحدث الإصدارات التي تناولت الرواية الليبية من سرديات الخطاب الى سرديات الحكاية من خلال تناول تجربة ثلاثة روائيين ليبيين. وعبرها نقترب من سمات الخطاب الروائي الليبي الحديث، وجماليات اشتغاله.

جماليات الرواية الليبية

محمد الأصفر

جماليات الرواية الليبية من سرديات الخطاب إلى سرديات الحكاية هو عنوان كتاب نقدي جديد للناقد الليبي المتميز الأستاذ عبدالحكيم المالكي وهو من منشورات جامعة 7 أكتوبر بمصراته. هذا الكتاب صدر الشهر الماضي ويقع في 218 صفحة من القطع الكبير مدعمة بجداول وأشكال توضيجة غاية في الدقة والعلمية التي تساعد القارئ على فهم واستيعاب رؤية الناقد النقدية وما يريد أن بيبنه من نتائج واستخلاصات.

والجدير بالذكر أن هذا الكتاب صدر بعد صدور الموسوعة النقدية الضخمة للأستاذ المالكي عن دائرة الثقافة والإعلام بدولة الإمارات العربية للمتحدة التي أخضع فيها الكاتب أكثر من 20 عملا روائيا من 9 دول عربية للنقد والدراسة والتحليل في محاولة للوصول بالنقدي العربي إلى نظرية موحدة تجمع بين علوم السرديات وعلوم السيميائات. أما هذا الكتاب فيعتبر خطوة جديدة في مشوار الكاتب النقدي المتميز الذي بدأه بحصد جائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال النقد الأدبي 2005 عن كتابه آفاق جديدة في الرواية العربية، ثم جائزة دار نعمان للثقافة والنشر بلبنان سنة 2006، ثم ألحقه بإصدار كتابين عن مجلس الثقافة العام بليبيا هما كتاب السرديات والقصة القصيرة الليبية وكتاب استنطاق النص الروائي الذي بذل فيه جهدا إضافيا من حيث اشتغاله على نصوص روائية ليبية لروائيين شباب لم ينالوا الحظ الكافي من المعامل النقدية في خطوة للفت الأنظار لهم مثل الروائي محمد الأصفر وسليمان زيدان والصديق بودوارة ونجوي بن شتوان وغيرهم، ومحاولة لسبر الآفاق الجديدة التي وصلتها الرواية الليبية الحديثة واكتشاف ما قد تخبئه هذه التجارب المتميزة من ظواهر إبداعية تستحق الاهتمام.

أما هذا الكتاب (جماليات الرواية الليبية) فقد اقتصر الاشتغال فيه على ثلاثة روائيين ليبيين فقط، اثنان من جيل واحد وهما الروائي الكبير إبراهيم الكوني والأستاذ أحمد إبراهيم الفقيه، أما الروائي الثالث فهو الأستاذ عبدالله الغزال وهو من الجيل الجديد، وربما وقع اختيار الكاتب عليه كأنموذج لجيل المحدثين باعتباره يمثل ظاهرة ملفتة تستحق الدراسة والاهتمام بعد النجاحات المتوالية التي حققتها أعماله السردية في زمن قصير جدا بداية من روايته الشهيرة التابوت ورواية القوقعة ومجموعته القصصية السوأة التي حصدت جائزة الشارقة الأولى للإبداع العربي 2004م. وروايته الأخيرة الخوف أبقاني حيا التي نفذت في ثالث أيام معرض القاهرة للكتاب.

مهما يكن الأمر، يقول الأستاذ المالكي في مقدمة الكتاب: "حققت الرواية الليبية - التي بدأت تحبو في الستينات من خلال أربعة أعمال روائية- نجاحاً متميزاً علي المستوي التقني، وعلى مستوي التراكم العددي للمنتج، ونحن نسعى في هذا الكتاب إلي متابعة بعض الأعمال الروائية التي نحاول من خلالها التعرف علي جانب من المنجز الروائي الليبي فنياً وجمالياً في مستواه الخطابي، وعلى مدى ما حققته الرواية الليبية من زخم على المستوى التقني لتلك البنية العميقة المندسة لحكايتها". كما عالج الأستاذ الناقد هذه الأعمال الروائية من حيث توظيف تقنية تعدد الرواة كما يسميها "د.سمر روحي الفيصل"، أو تعدد الأصوات كما يراه (أ.أحمد الشيلابي) ويرى أن تسجل هذه التقنية للأستاذ "أحمد نصر"، في روايته (وميض في جدار الليل) أي كأول رواية ليبية تتحقق فيها هذه التقنية. ويضيف المالكي في مقدمة الكتاب: (ننطلق إذن لنتعرف علي الرواية الليبية من خلال مجموعة من الأدوات الإجرائية التي تنتمي من حيث الجذور للسرديات، كما جسدها ـ عربياً ـ "سعيد يقطين" لنحاول عبرها تحقيق رؤية علمية للرواية الليبية عبر المستويات التالية:
أولا: دراسة الاشتغال على المستوى الزمني في رواية نزيف الحجر (علاقة زمن خطاب مع زمن الحكاية)، وهذا العمل له عِدة أسباب مركزية تدفعنا له لعل أهمها غياب الاشتغال ضمن المنجز النقدي الليبي عن الزمن باستثناء كتاب (فاطمة الحاجي) عن الزمن في الرواية الليبية (دراسة لثلاثية أحمد الفقيه). من جهة أخرى وجدنا في نزيف الحجر مادة غاية في التميز، فجانب الزمن يقدم خامة رائعة للاشتغال حيث أزمنة الحكاية، بينها آماد سحيقة ويتم عبر الخطاب تأطيرها ضمن الزمن الحاضر ونجدنا ننتقل من اللحظة الحاسمة للقاء "أسوف" مع "قابيل" ليبدأ الراوي في العودة الزمنية عبر إيقاع خاص ويرسم لنا الجذور الخاصة بكل منهما كما أن مستوى الحكاية أو ما يمكن أن نسميه تأسيسا لسرديات الحكاية، يتميز ببنية غريبة من التضادات بين الفواعل على المستوى الزمني (للسير)، حيث هناك باستمرار بنية صراع، ينتهي بجزاء في كل حدث {سيرة} من الأحداث المركزية السبعة، بحيث أصبحت هذه الأحداث أشبه بالسيرة الوعظية (غير المباشرة).

سبب إضافي أخر لهذه الدراسة هو إحساسنا العميق بأن إبراهيم الكوني مغبون كمبدع من قبل النقاد والكتاب في بلادنا، فليس هناك تفاعل حقيقي من كُتَّاب الوطن، مع هذه القامة التي فرضت نفسها في خضم الكتابة السردية، وفي اعتقادي إن الكوني لا يحرجنا نحن الليبيين فقط وإنما العرب عموماً، خصوصا ونحن نترك للغير فرصة دراسته والتفاعل مع تجربته الهائلة دون أن نحاول ممارسة أي اشتغال على هذه النصوص التي تمثل مادة مميزة لأي ناقد يرغب في الاشتغال، لهذا كان لا بد على مستوى الحكاية من أن يكون هناك اشتغال على رواية واو الصغرى أيضا، التي تميزت حكايتها بنظام متميز من السرد نجد فيها فعل (الأسطرة) وفعل صياغة المجتمع الحكائي النمطي المتكرر ضمن تجربة الكوني، كما تتميز بعلاقات غريبة ضمن مستوى الحكاية بين الشخصيات المركزية، لهذا كله أحببنا أن نشتغل عليها لمزيد من المراكمة ضمن اشتغال هذه المدونة الكبرى لإبراهيم الكوني.

ثانياً : بخصوص ثلاثية أحمد الفقيه:
تمثل الثلاثية العمل الأكثر قوة لأحمد الفقيه بعد عمله الروائي الأول (المنشور في كتاب): حقول الرماد، ولشعورنا بالرغبة في تجلية مارأيناه من بنية متميزة ضمن حكايتها وكذلك من اشتغال متميز ضمن الصيغة السردية، قررنا أن نضمنها هنا ضمن هذا الكتاب باعتبارها مع تجربة الكوني السابقة تشكل جزء من أهم أجزاء التجربة الكتابية الليبية الناضجة فنيا ضمن بداية القرن الماضي.

ثالثا: التابوت لعبدالله الغزال:
تمثل التابوت في رأيي إرهاص أو إعلان عن تجربة متميزة من الكتابة قادمة، ولقد تلاها ما يؤكد هذا، فتجربة الكاتب التالية في مجموعته السوأة تدل على ذلك وبقوة، والأمر نفسه في رواية القوقعة التي صدرت السنة الماضية للكاتب والتي تُحقق في رأيي لون جديد من الكتابة سيكون له إن أستمر بنفس النمطية أن يضع بصمته الخاصة ضمن التجربة العربية كلها، ولعل هذا ما تنبأ به سعيد يقطين وهو يقدم لهذه الرواية {القوقعة}
«عبد الله الغزال روائي متمكن، وله قدرة كبيرة على خلق عوالم روائية تمتح من واقع التجربة المعيشة، وعنده إمكانات مذهلة للتعبير عن فضاءات جديدة ومتنوعة. إنه إغناء متميز للتجربة السردية العربية في ليبيا، ومساهمة غنية في المشهد الروائي العربي». كما إننا وجدنا في التابوت ضمن الصيغة السردية والرؤية ترابط غريب بحيث أصبحت الصيغة السردية وكذلك الرؤية مادة للفصل بين الشخصيات أو تعدد الرؤى داخل الرواية، لهذا كله أحببنا أن يكون جزء من كتابنا هذا عن الصيغة السردية و الرؤى في هذه الرواية.

ننطلق من سرديات الخطاب في اشتغالنا على الزمن والصيغة السردية والرؤية ضمن القسم الثاني، أما فيما يخص القسم الثالث الخاص بدراسة بنية الحكاية في الروايات المذكورة سابقا، فهو اشتغال حر مع المحافظة على المبادئ الرئيسية الكبرى للسرديات وذلك بسبب غياب المادة النظرية سواء في ليبيا أو في الدراسات العربية، على الرغم من أن هناك دراسات جديدة في الرواية الليبية تناولت مفردات الحكاية كدراسة "حسن الأشلم" الضخمة عن الشخصية في أعمال خليفة حسين مصطفى، أو دراسة بلسم الشيباني عن الفضاء في رباعية الخسوف للكوني، لكنها كانت تستند غالبا لمستوى أخر مختلف عن المستوى الذي ننطلق منه ضمن السرديات، حيث نحاول هنا أن نكون متمسكين بالجذور السردية التي انطلقنا منها وسنحاول أن تكون تلك الرؤى والمبادئ على قلتها (ضمن مستوى الحكاية) هي مرتكزنا ضمن الاشتغال والله الموفق.

ختاما يمكن القول بأن هذا الكتاب يأتي تتويجا للخطوات الجادة التي يسلكها الأستاذ المالكي في مشواره النقدي الذي طالما لفت الأنظار في الأوساط العربية من خلال رؤاه العميقة ونظرته المرتكزة على أسس علمية ومنهجية تنهل من النظريات الحديثة ومن التخوم البعيدة الجديدة التي وصلت إليها اكتشافات النقد في العالم وخاصة الأوروبي صاحب السبق في هذا المضمار. وإن كان هذا الكتاب قد صدر متأخرا بعض الشيء (صدر الكتاب بعد 3 سنوات من استلام المخطوط). إلا أن قيام جامعة 7 أكتوبر بمصراته بإصداره ضمن منشوراتها في تجربتها الأولى يعتبر خطوة جيدة. وهو بلا شك إضافة نوعية وهامة للمكتبة الليبية الهزيلة المعنية بالكتب والدراسات النقدية.