يستخلص الكاتب المصري المقيم بنيويورك من رحلة مجد أم كلثوم العربي دروسا قيمة علها تقيل الواقع العربي من عثرات انحداره وترديه.

أم كلثوم: رحلة المجد والانحدار العربي

ثلث قرن علي رحيلها

فرانسوا باسيلي

في الخامس من فبراير عام 1975 رحلت أم كلثوم التي شكلت ظاهرة مدهشة ليس في مجال الابداع الفني المصري والعربي فقط ولكن العالمي ايضا فلم يعرف العالم مثل ظاهرة أم كلثوم بابعادها الفنية والانسانية والاجتماعية والسياسية. حتي ان هذه الفنانة التي بدات إبداعها الفني وهي طفلة في قريتها طماي تنشد لأناشيد الدينية مع والدها وشقيقها في مطلع العشرينات من القرن الماضي، وهي منزوية خجولة مغطاه الراس، وصلت بعد ذلك الي مكانة الرؤساء والملوك. فهكذا كان يتم استقبالها من الدول العربية والغربية التي زارتها بعد ان اصبح لقبها الذي منحته لها جماهير المستمتعين بفنها كوكب الشرق. وحتي ان الرئيس الفرنسي تشالز ديجول أحد عمالقة العالم في القرن العشرين كتب لها قائلا وهي تغادر فرنسا بعد غنائها بها لقد لمست بغنائك شغاف قلبي وقلوب الملايين من الفرنسيين.

وليس هدفي هنا هو سرد حياة هذه الفنانة الفذة ولا استعراض جوانب تميزها فهناك عشرات الكتب والاف المقالات وعدد من المسلسلات والافلام الدرامية التي قدمت هذا.. وكذلك مقالات بالانجليزية ظهرت في اوروبا والولايات المتحدة وبرامج تسجيلية شاهدتها في محطات التليفزيون الامريكية.. فأم كلثوم معروفة بدرجة كافية علي مستوي العالم حتي انه في عام 2000 اظهر استطلاع للراي في اوروبا ان الاوروبيين يعتبرونها أحد اهم مائة شخصية ظهرت في العالم في القرن العشرين. لكن هدفي من الكتابة عنها الان والعالم العربي يعيش إحدي أشد مراحل تاريخه إنحدارا وتهاويا وخرابا ثقافيا وسياسيا وروحيا هو استجلاء وفهم العوامل التي استطاعت بها أم كلثوم أن تبني قواعد مجدها الفني؛ وتقديم رؤيتي التي تقول إن هذه القواعد هي نفسها قواعد بناء النهضة للمجتمعات العربية اليوم. فالمجتمع في نهاية الامر هو مجموع الافراد المكونين له. واحيانا يغرق المفكرون الاكاديميون في تفاصيل دراساتهم المشتبكة الفروع الي حد فقدان الرؤية لما هو تحت ابصارهم من حقائق واقعية بسيطة. والواقع هو ان المنهج الحياتي واسلوب الفكر والعمل الذي اتبعته أم كلثوم وقامت به ببناء قواعد مجدها الفني الشخصي هو نفسه المنهج والاسلوب الذي تحتاجه الامة العربية لبناء قواعد المجد الحضاري العربي المنشود. وفي التعبير عن هذا استعير مفردات احد اعمال أم كلثوم الخالدة مصر تتحدث عن نفسها التي كتبها شاعر النيل حافظ ابراهيم ورددتها الاجيال المصرية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي منشدين: وقف الخلق ينظرون جميعا/ كيف ابني قواعد المجد وحدي.

الثقافة قاعدة أولي
الذي منح أم كلثوم ما حققته من تفرد وخصوصية، ميزتها عن زميلاتها من مطربات ذلك الزمان في مطلع تواجدها الفني مثل منيرة المهدية هو مقدار الثقافة التي حصلت عليها. فهذه الفتاة الشابة عرفت بحسها الفطري أن الثقافة العامة ستكون هي بوابتها للدخول الي مواطن وشخصيات ومراكز النخبة في مصر في ذلك الزمان. وستكون في نفس الوقت هي أداتها التي تمكنها من تطوير ذوقها الفني الخاص بما يمنحها قدرة اختيار الكلمات والألحان واستيعابها ثم التعبير عنها بصوتها وابداعها الخاص. بينما اكتفت منافساتها من مطربات العصر بامتلاك الصوت الجميل الذي ضاع منهن في غمار أعمال هابطة، واغنيات مبتذلة مثل ارخي الستارة اللي في ريحنا. بينما تمكنت أم كلثوم بثقافتها من تقديم قصائد لأمير الشعراء أحمد شوقي وغيره من شعراء مصر الكبار مثل حافظ ابراهيم واحمد رامي وابراهيم ناجي. ومما ساعد أم كلثوم علي الاستيعاب السريع لثقافة عصرها صداقتها لأحمد رامي الذي اشرف بنفسه علي مهمة تعريفها بامهات الكتب. وكان يعيرها كتابا جديدا كل اسبوع، ثم يناقشها فيه. فتعرفت بذلك علي عيون الادب والفكر العربي والعالمي المترجم. ومكنها ذكاء الفلاحة المصرية الفطري من استيعاب هذه كلها ودمجها في تكوينها الفكري والوجداني. ويمكن القول أنه بدون هذه القاعدة الثقافية المتينة الواسعة ما كان لأم كلثوم أن تتعدي الحدود الطبيعية للمطربات الموهوبات الاخريات مثل ليلي مراد وشادية وصباح وغيرهن. ولا نكاد نعثر لأي من هؤلاء علي قصيدة واحدة تصمد للزمن، فليس في ثقافتهن ما يمكنهن من الوصول الي هذا المستوي الثقافي الفني الرفيع.

والقاعدة الثقافية هي ايضا أولى متطلبات النهضة العربية. ويبدأ ذلك بالنظام التعليمي المتطور الذي يركز علي تكوين عقلية متحفزة مسائلة مشاكسة فكريا.

مفهوم أرحب للتدين
استطاعت أم كلثوم من صغرها وبذكائها وحدسها القروي الفطري أن تكتشف أن الفن الجميل لا يتعارض مع التدين الحقيقي بل هو امتداد طبيعي له. وان الفن هو تعبير إبداعي عن أشواق الإنسان وحاجاته العاطفية والروحية. ولذلك لم تستسلم للمفهوم المنغلق للتدين الذي كان سائدا في زمن طفولتها، والذي دفعها في البداية لقصر غنائها علي الانشاد الديني. فما أن وسعت مداركها الذهنية حتي استوعبت إمكانية تعانق الفن مع أشواق الروح الانسانية السامية. فتحررت من أغلال المفاهيم الضيقة للتدين التي يروجها المتشددون المتزمتون فقراء الروح الذين يطاردون الجمال في كل اشكاله. فراحت تقدم اغنيات راقية تعتمد الكلمة الشاعرية المرهفة، واللحن المعبر المبدع، والاداء الصادق الصارم دون خلاعة أو ابتذال. واستطاعت أم كلثوم بهذا ان تفرض علي مجتمعها الذي كان متزمتا مفهوما أوسع وأجمل وأكثر إنسانية وروحانية للتدين. وكانت حياتها الخاصة والعامة وسلوكها الشخصي يؤكد هذا بشكل واضح. فلم يستطع أحد من المتزمتين في حياتها أن يرفع صوته قائلا إن الفن حرام، كما يقول البعض الآن في مصر. ومنذ رحيل أم كلثوم حيث اضطرت بعض المطربات والممثلات إلى اعتزال الفن أمام هذه الدعاوي المنغلقة ضد الفن والفنانين. لقد رحلت أم كلثوم في الوقت المناسب، قبل أن تري المجتمع المصري حولها يعود القهقري إلى عصور الظلمات ثقافيا وفنيا وإبداعيا واجتماعيا.

إن هذا الحل الفردي الذي قدمته أم كلثوم لعلاقة الفن بالتدين والنموذج الذي فضت به هذه الاشكالية المفتعلة يصلح لكي يكون النموذج المطلوب اليوم لبناء نهضة عربية قوية. فلا نهضة لمجتمع يحارب الإبداع أو يضعه في ركن معتم كما هو الحال اليوم مع الدروشة الدينية السائدة التي لا تعرف من التدين الحقيقي سوي مظاهره الميكانيكية دون روحه الإنسانية الخلاقة المبدعة المحررة لطاقات الناس والامة.

شخصنة العمل وإتقانه
تكاد أن تكون ثقافة شخصنة العمل ـ أي اعتبار عمل الانسان جزءا أساسيا من شخصية الفرد بما يمنح هذا من معني ومجال للتعبير عن الابداع الشخصي ـ تكاد أن تكون هذه الثقافة غائبة تماما عن المجتمع العربي وغريبة عنه. فنادرون هؤلاء الذين يشعرون بالفخر والاعتزاز باعمالهم وبأنها المجال الأول لابتكار معني وجودهم ورسالتهم علي الارض. بينما نجد أن ثقافة شخصنة العمل هذه، والشعور بالفخر في اتقانه والتميز به، موجودة في أعلي صورها في المجتمع الرأسمالي الامريكي، وبدرجة متوسطة في المجتمع الاوروبي. ومع ذلك فان أم كلثوم كانت تتمتع بهذه الخاصية، وكانت تقول اإن عملها ليس فقط جزءا مهما من وجودها، وإنما هو وجودها كله.

والانسان العربي اليوم يخلو قاموسه الثقافي والعملي من مفهوم الاهتمام بالعمل واتقانه رغم ان مظاهر التدين التي تستغرقه تتضمن آيات تؤكد له أن الله يحب إذا أدي إنسان عملا أن يتقنه، وتقول له إن العمل عبادة. ومما يؤكد أن حالة الدروشةالدينية الراهنة ليست تدينا ولا ايمانا حقيقيا، أننا لا نري في مجتمعاتنا العربية المتدروشة سوي الاستهتار بالعمل، بل وازدرائه، والترفع الغبي عليه، أو تلفيقه أينما كان للتخلص منه باسرع وقت، وباي شكل، دون أية مشاعر بالمسئولية نحوه. ولا تقوم نهضة لامة هذه أخلاقها ومفاهيمها عن العمل، وعلاقته بروح الانسان وإبداعه.

الحرية والكرامة الإنسانية
كانت أم كلثوم تحترم نفسها وتعتز بها وبكرامتها. عندما طلب منها خال الملك فاروق الاول في العهد الملكي الزواج وافقت ولكن الاسرة الملكية عارضت الزواج لان أم كلثوم فلاحة مصرية وليست من جنس الملوك والامراء! وعرض عليها خال الملك ان يتزوجا سرا زواجا عرفيا فرفضت في اباء. كما كانت أم كلثوم تقدر حريتها الفنية وتمارسها وبدون حرية لا يحدث ابداع وبلغت من ممارستها للحرية الفكرية والفنية انها لم تكن تختار الكلمات التي تغنيها بنفسها فقط بل كانت تقوم بعمل تغيير او تبديل في هذه الكلمات لتلازم شخصيتها الفنية حتي انها غيرت كلمات في قصيدة لأمير الشعراء احمد شوقي نفسه. كما منحتها مكانتها الفنية الفريدة حرية الحركة الإبداعية علي اعلي مستويات تلك الحرية وأكثر تجلياتها ثراء ودلالة.

الوطنية الصادقة والعالمية الواثقة
لم يمنع اهتمام أم كلثوم الفائق والكلي بعملها وفنها أن تكون منتمية كلية لوطنها المصري والعربي. فقد قدمت اكثر الأناشيد الوطنية توهجا وحماسا عام 56  عندما تعرضت مصر للعدوان الثلاثي من اسرائيل وانجلترا وفرنسا. بل تحول نشيدها والله زمان يا سلاحي، من ألحان كمال الطويل، إلى سلام مصر الجمهوري في ذلك الوقت. قبل ان يتغير في عهد السادات الي موسيقي بلادي بلادي للعبقري سيد درويش. وكان لإغنيات أم كلثوم الحماسية، وكذلك أغنيات فايدة كامل وعبد الحليم وعبد الوهاب وغيرهم أكبر الأثر في مد المشاعر الوطنية المتدفقة للمصرين جميعا بالذخيرة الروحية الوجدانية التي ساعدتهم علي المقاومة والتحدي، والتي ظهرت في أوجها في المقاومة الباسلة لأهالي مدينة بورسعيد. وعندما وقع العدوان الاسرائيلي عام 67 واستطاع كسر الجيش المصري واحتلال سيناء وتهديد باقي المدن المصرية قامت أم كلثوم بتحويل عملها الغنائي الي حركة مقاومة فنية لا تكف عن العمل ليلا ونهارا. وقررت ان تكون كل حفلاتها لصالح المجهود الحربي لاعادة بناء الجيش، وهو ما كان قد قررته الثورة التي لم تعلن الاستسلام، بل شنت من موقع ضعف عسكري واضح حرب استنزاف باهظة التكلفة، بهدف الإبقاء علي الروح القتالية للجيش والشعب معا، حتي لحظة تحرير الارض. وهو ما حدث فعلا بعد ذلك في حرب العبور الباهرة، التي احتفلت بها أم كلثوم مع بقية الشعب المصري.

ولم تكن وطنية أم كلثوم منغلقة متعصبة فقد كان العهد الناصري عهد انفتاح علي العالم، لتاسيس حركة عدم الانحياز وحركة الدول الافريقية الاسوية والتحالف مع جميع حركات التحرر في العالم. وأصرت أم كلثوم علي عدم إلغاء حفلاتها بفرنسا رغم ضربة 67، فقامت بها فعلا. كما زارت عددا من الدول العربية تغني فيها لصالح المجهود الحربي. فمنحها عبد الناصر جوازا دبلوماسيا، باعتبارها سفيرة علي أعلي مستوي. وكان هذا تاكيدا لواقع حي كانت تستقبلها الدول فيه كما يستقبل الملوك والرؤساء. وهي مكانة لم يعرفها مطرب أو مطربة عربية أو أجنبية أخري في تاريخ الفن.

وتضرب أم كلثوم بهذا كله مثالا لحاضرنا العربي الراهن: إن الوطنية الصادقة لا تتعارض مع العالمية والانفتاح، شرط أن تظل مخلصة لنفسها، ولاهدافها الوطنية.

الوحدة العربية الوجدانية
في أحد لقاءات عبد الناصر بأم كلثوم، وكان بينهما تقدير كبير متبادل، بل ومحبة شخصية وانسانية ومصرية حميمة، قال لها ـ في نبرة حزن وامتنان في نفس الوقت ـ لقد استطعت يا أم كلثوم تحقيق ما فشلنا نحن في تحقيقه. ولما تساءلت أم كلثوم في دهشة: ما هذا ياريس؟ قال عبد الناصر، وكأنه يلفظ اسم حلم جميل صعب المنال، الوحدة العربية. ثم قال: إنه في ليلة الخميس الأول من كل شهر، حين تغني أم كلثوم حفلتها الشهرية الشهيرة، يستطيع الانسان أن يمشي في أي شارع لأية مدينة عربية من المحيط للخليج، فيسمع صوت أم كلثوم تغني في الراديو، يستمع إليها كل العرب بنفس الشغف واللهفة والتجاوب الوجداني.

والحقيقة أن وحدة الوجدان العربي هو الواقع الملموس والمضئ في ظروف الظلام والتيه العربي الحالي. فهناك وحدة عربية وجدانية لا لبس فيها اليوم. تظهر في مظاهر إبداعية فنية وفكرية وثقافية. وكانت أم كلثوم هي احدي الإرهاصات الأولى لها. كما تظهر أيضا في التجاوب الجماهيري في الشوارع العربية للقضايا العربية الدامية اليوم في فلسطين والعراق وكل ارض عربية أخرى تعاني الاحتلال أو الظلم والطغيان والفساد والقهر. وفي المشاركة الوجدانية في كل نصر حضاري أو سياسي أو ثقافي او حتي كروي علي ندرة هذه كلها في أي أرض عربية. وحينما لبت أم كلثوم أمنية عبد الناصر أن يري لها عملا مع عبد الوهاب، رغم أن روحها التنافسية الشديدة كانت دائما تمنعها من ذلك من قبل، شاهدنا لهما معا عملا بالغ الجمال، هو أنت عمري، الذي قلب المزاج الموسيقي المصري والعربي رأسا علي عقب بمجرد انطلاقه.

وهكذا تقدم لنا أم كلثوم درسا آخر، ونموذجا علي أهمية تخطي الحواجز الشخصية التي تمنع تعاون الاشقاء، وهذا ما تعانيه الأقطار العربية اليوم، التي تقف في موقع المنافسة والغيرة والخوف من بعضها البعض، رغم أنها لو تخطت هذه الحواجز الشخصية القطرية المصطنعة لحققت نهضة عربية، وإبداعا انسانيا، وحلقت في سماء أبعد وأعلى.

بهذه الخصائص المحددة استطاعت أم كلثوم أن تبني قواعد مجدها الفني. وبنفس هذه الخصائص التي تنطبق علي الافراد، كما علي الجماعات، تستطيع المجتمعات العربية أن تبني قواعد النهضة العربية المنتظرة.