هنا يكشف لنا الباحث المغربي طبيعة الجدل الذي دار في مدينة فاش حول الشاعر أحمد شوق بعد رحيله، وطبيعة القضايا الأدبية والوطنية التي أثارها.

يوم شوقي بفاس سنة 1932

محمد زهير

كان يوم شوقي بفاس تظاهرة بليغة الدلالة في شرطها التاريخي، على مراميها الوطنية القومية والأدبية.. أقيمت هذه التظاهرة سنة 1932 بمدينة فاس، في شكل محفل خطابي أدبي ونقدي، بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاة الشاعر أحمد شوقي (1868-1932). وقد جمعت وقائع هذا اليوم في كتاب "يوم شوقي بفاس"، نشر بالمغرب في السنة نفسها (1932)، محتويا القصائد والكلمات والمقالات التي أعدتها لذلك اليوم نخبة من أدباء المغرب ومثقفيه، من أجل:

ـ  "تأبين شاعر الكنانة وفخر الضاد" كما جاء في مقدمة الكتاب التي كتبها محمد علال الفاسي، الزعيم الوطني الشهير، وكان يومئذ في مطلع شبابه.

ـ تأكيد مواقف وطنية وقومية، عبر تلك التظاهرة التي كانت لها أكثر من دلالة، في سياق شرط المقاومة الوطنية للسياسة الاستعمارية، الهادفة إلى تفكيك وحدة المغرب الداخلية، وعزله عن امتداده القومي، والحيلولة دون تواصل حركة نهضته مع الحركة النهضوية في مصر وغيرها من أقطار الشرق العربي الناهضة.

لقد كان المغرب يومها محتلا من فرنسا وإسبانيا. ومعلوم أن من ثوابت السياسة الاستعمارية، العمل على تفكيك وحدة البلد المحتل، بإثارة عوامل التفرقة والشتات، وسن القوانين الجائرة الهادفة إلى ذلك.. وفي هذا الإطار نشير إلى مجيء تظاهرة يوم شوقي بفاس، في أعقاب صدور ظهير عرف بالظهير البربري، صدر بتاريخ 16 ماي 1930. ومرمى المستعمر منه تقسيم المغاربة تقسيما عنصريا، فاصلا بينهم إلى عرب وقانونهم شريعة الإسلام، وأمازيغ يحتكمون إلى قانون آخر أراده المستعمر، حتى يجد السبيل إلى شق وحدة المغاربة، ومن ثمة إمكان إخضاعهم وشد قبضته عليهم.

ويوم شوقي بفاس، كان من ردود الفعل الوطنية القومية على هذا الحادث الاستعماري الذي ساهم بقوة ـ عكس ما قصده المستعمر ـ في بلورة العمل السياسي المنظم في المغرب، وتمتين وحدة المغاربة في مواجهة خطط المحتل وضغوطه. وكما عمل المحتل على تفكيك وحدة المغرب الداخلية، عمل أيضا على عزله عن عمقه القومي، فقابل العمل الوطني المغربي قصد العزل هذا، بالإلحاح على الامتداد العربي الإسلامي.. فإقامة أربعينية شوقي، تأكيد لهذا الامتداد وحرص عليه، أي تأكيد لهوية المغرب التي لا تنفصل عن عمقه القومي. ومن ثمة ـ يقول محمد علال الفاسي في مقدمة الكتاب ـ فقد "أراد الذين فكروا في إقامة ذكرى الأربعين لأمير الشعراء رحمه الله أن يكون هذا اليوم يوما مشهودا، وحفلا في التاريخ الأدبي معدودا يتناسب وعظمة صاحبه، ويكون برهانا  صادقا على مكانته ومنزلته في القلوب" ليس لكونه شاعرا متمكنا وحسب، ولكن إلى ذلك، باعتباره ـ وبالأساس ـ شاعر العروبة والإسلام.. وهو ما شدد عليه كل المساهمين في يوم شوقي بفاس. وهذا يعني أن الغاية من إقامة هذا اليوم، تتجاوز حدود تنظيم حفل تأبين لشاعر كبير، إلى ما هو أبعد، أي تنظيم تظاهرة أدبية ذات مقاصد وطنية قومية. والساهرون على تنظيم هذه التظاهرة كانوا طلبة جامع القرويين بحاضرة فاس، الجامع الديني العتيد، والمعلمة العلمية الراسخة، شأن نظيره جامع ابن يوسف بحاضرة مراكش.

وتنظيم هذه التظاهرة من طلبة جامع القرويين، له أيضا دلالته العميقة على الموقع المركزي للمنظومة الدينية الإسلامية في فكر الحركة الوطنية المغربية، خاصة في منزعها الإصلاحي المتفتح، الذي كان أكثر ظهورا يومئذ، وشكل مرحلة أساسية في تطوير الثقافة المغربية الحديثة، والفكر السياسي في عهد الاحتلال.

إن رمزية أربعينية شوقي بفاس متعددة الأبعاد. فهي تأكيد لهوية المغرب، وتحفيز لشروط نهضته، ومظهر من مقاومته الوطنية، ومؤشر قوي الدلالة على التوجه الجديد للأدب، في منحاه الوطني القومي الإصلاحي، الذي اتضح منحاه في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو منحى يعنى برسالة الأدب، ويقوّمه على أساس من انحيازه إلى قضايا الوطن والمجتمع والأمة، فيريده معبرا عنها، محفزا منافحا مظاهرا محرضا، داعيا إلى إصلاح اختلالات المجتمع، مساهما بفاعلية في هذا الإصلاح، منفتحا على الثقافة الأجنبية في حدود اختياره الإصلاحي، الذي دعا إلى إصلاح شأن الأدب، كدعوته، أو في علاقة مع دعوته إلى إصلاح شؤون الدين والمجتمع والسياسة.. وليس المجال هنا للوقوف عند ذلك، ولكننا نشير فقط إلى أن في الاحتفال بشوقي شاعرا وداعية إسلاميا ما يقرب من بعض ملامح المنحى الإصلاحي المغربي الحديث في الأدب، مرتبطا بالهوية والدين والسياسة والمجتمع.. وهو ما رآه هذا المنحى شاخصا في مثال شوقي، فكان احتفاؤه به على ذلك النحو المشهود.

في مقدمة محمد علال الفاسي لكتاب "يوم شوقي بفاس" ذهب إلى أن الناس لم يعرفوا من شاعرية شوقي في حياته إلا اليسير السطحي. ولكن بعد وفاته يمكن دراسته ومعرفة قيمته وقيمة شاعريته الفذة النادرة، وقد استكمل عظمته وأدى رسالته.. ولقد مضت أشهر على موته دون أن يخف أثر وقع فاجعتها على النفوس، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق.. وإزاء هذا الأسى الشامل على شوقي، تساءل علال الفاسي: "لماذا هذا الأسف العميق ينشر جلبابه على الشرق كله؟ ولماذا يتحد العالم العربي في بكاء هذا الشاعر وندبه؟ ألكونه بلغ شأوا عاليا في الشاعرية ومنازلها، وكيف؟ وفي الشرق شعراء كثيرون وفي مصر والعراق بالخصوص أفذاذ ونبغاء إذا عد شوقي أميرهم فهم لا يقلون عن درجته في العبقرية والنبوغ، أو على الأقل في الشهرة والذيوع". وفي رأي محمد علال الفاسي أن ليس الشاعرية ولا المكانة ولا حظ شوقي الموفور في الحياة، بكافية كلها لأن تكون سببا مباشرا لما أحدثه فقد شوقي من ضجة كبرى ومأتم عظيم، ولكن السبب الأساس أن شوقي هو "زعيم الوحدة العربية ورسول الجامعة الإسلامية المنادي لها والداعي للإيمان بها، والمنتصب كمثل سام لخدمتها وتنشيط أعضائها دون تفرقة أو محاباة، يساير زعماءها في كل الأنحاء فيلهب فيهم الحماس، وينشدهم أناشيد التقديس والإعجاب، ويشرف من عليائه على أبنائها فيذكرهم بماضي أسلافهم ويعلمهم كيف يندبون مجدهم الغابر وفخرهم السالف، حتى إذا أجهشوا بالبكاء عاب منهم الرضى بمرتبة النسوة واستحثهم للنهوض والعمل فقاموا يعملون وهو من ورائهم يستفزهم بأغاني النصيحة والإخلاص.

وتلك هي الميزة التي رفعت شوقي من رتبة الشاعر إلى رتبة الدعاة، وتلك هي الصفة التي يبكى من أجلها شوقي في كل أنحاء العربية الفيحاء".

لهذا السبب إذن، كان لفقد شوقي كل ذلكم الأثر. وعليه أجمع مؤبنوه معزين ومتمنين خلفا، في لحظة تاريخية شديدة الحرج، شديدة الحاجة إلى من يعضد جهود الأمة العربية الإسلامية في التحرر والنهضة.

وكل ما تضمنه كتاب "يوم شوقي بفاس" من قصائد وكلمات ومقالات، مداره الإشادة بدور شوقي في الدعوة إلى رص صفوف الأمة وتآزرها وتحفيزها على مقاومة عوامل انتكاسها، وتعضيد صحوتها ودعم نهضتها.. ومن ثمة كان الاحتفاء بشوقي باعتباره رمزا قوميا، كما عبر عمر بن عبد الجليل في كلمته، التي لخص فيها دواعي احتفاء المغاربة بشخص شوقي وشعره، فقال: "ولأننا عرب بقوميتنا ولغتنا وثقافتنا، ولأننا مسلمون بديننا وقوانيننا وعوائدنا، ولأننا شرقيون بميولنا وعواطفنا وغرائزنا، كان فرضا حتما علينا أن نطالب بحظنا من تراث شوقي الخالد، وأن نقوم بواجبات ذكراه وواجبات الولاء للبلد الطيب الذي أنبته أحسن نبات طفلا، وأغدق عليه نعمه وسوَّده وأمَّره شابا وكهلا وشيخا، وحفظ له ذكراه بعد أن صعدت روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى".

وبدافع من هذا التقدير الخاص لشوقي، انبرى بعض المساهمين في الكتاب إلى الدفاع عن الشاعر ضد من اتهموه بالتقليد. وكان الدفاع من مدخل إظهار علاقة شعر شوقي الوطيدة بعصره، وبيان مقياس العصرية في شعره وفي شعر أي شاعر آخر. ونستحضر هنا بالذات مقالة أحمد بالافريج "شوقي أشعر العصريين"، حيث التأكيد على عصرية شوقي، بل التأكيد على كونه أشعر العصريين، على أساس تمييز بالافريج بين العلم والفن. فقانون كل منهما في التطور مختلف عن الآخر. فالعلم ـ يرى بالافريج ـ قابل للتبدل باستمرار، أما الفن ـ والفن أساسه الجمال ـ فخالد لا يعتري جوهره تغيير. والشعر أحد أشكال الفن، لغته الإحساس والعاطفة "وما هاتان إلا فطرتان فطر الله الناس عليهما هما هما منذ كان الكون إلى الآن". وهذا ما يجعل الناس يعجبون بشاعر قديم رغم ما بينه وبينهم من مدد زمنية طويلة.. وعلى أساس من هذا الرأي، أكد بالافريج عصرية شوقي.. بل أكد كونه أشعر العصريين بالنظر إلى قوة شاعريته وبلاغة شعره وانشغاله بقضايا زمنه.

لم يكن إذن، يوم شوقي بفاس مجرد مناسبة للاحتفاء بشاعر قضى، بل كان الاحتفاء تظاهرة أدبية وطنية قومية، وقد وجدت نخبة من أدباء المغرب ونقاده ومثقفيه، في شعر شوقي ما يستجيب لرؤيتها الفكرية، وموقفها السياسي، واختيارها الأدبي فكان ذلك اليوم إحدى العلامات التاريخية بقوة رمزيته وتعدد دلالاته..