ينفتح النص الأدبي الجيد على أكثر من تأويل، وهذا ما تكشف عنه هاتين القراءتين لرواية منتصر القفاش الجديدة (مسألة وقت).

الوصول لحقيقة الأمور

(مسألة وقت)

شوقي عبدالحميد يحيى

"مسألة وقت"(1)
إذا كانت الحياة الاقتصادية والاجتماعية قد سحقت الانسان المعاصر، فانشغلت الرواية اليوم بالهموم الحياتية، واعتمدت مفرداتها علي علي عناصر الحياة المعيشة الظاهرية الشيئية، إلا أن الأنا الديكارتية لازالت تحث الفرد في سعيه نحو استكناه ذاته، واكتشاف الخفي من أسباب وحدته في مواجهة العالم، وشعوره الدائم بالعجز أمام سؤاله الذي يؤرقه بحثا عن إجابة. لذلك ومنذ أن بدأ كونديرا في البحث عن الموجود وراء الواقع ـ لا الواقع ذاته ـ في محاولة لكشف لغز الوجود، فإن بعضا من كتاب الرواية لازال يبحث عن عما يدور بالداخل، وما لايزال يعتبر مجهولا ـ رغم ما أحرزه الانسان من تقدم علمي مهول.

ولعل منتصر القفاش من أبرز هؤلاء الآن في مصر من جيل الشباب، والذي بروايته الثالثة (مسألة وقت)  يحفر بأظافره في جوانية الإنسان بحثا عن مفتاح الكنز المخبوء في طيات المغيب من حياته، مستفيدا من المحاولات العديدة للفلاسفة وعلماء النفس الذين سعوا نحو الوصول لهذا الهدف، و يأتي في مقدمتهم "فرويد"، الذي ربط تصرفات الإنسان منذ الطفولة بحياته الجنسية. حيث جعل منتصر القفاش تطور ونمو سارده مرتبط بحياته الجنسية كذلك. مستخدما العلاقات الجدلية الملتبسة الشائكة بين الحلم في النوم واليقظة، بين الموت وما يبعثه الموتي للأحياء من رسائل تؤثر في مسيرة الأحياء، خالقا بذلك ديناميكية الحركة التي تؤدي لتصاعد وتنامي شخوص روايته، وتحرك الساكن ـ الظاهري ـ  وصولا لتحقق تلك الشخوص من داخلها، لا من خارجها، وما ذلك في احتياج إلا "مسألة وقت".

تقتحم "رنا" حياة "يحيي" ـ الراوي ـ بعد موتها، ليوقعنا منصر في أولي فخاخه الفلسفية، في قضية تحديد الزمن، وليؤكد رؤيته بأنه ليس المسافة الواقعة بين حدثين أو لحظتين، وإنما هو مسألة داخلية لكل منا، ووفق رؤيته هو يكون زمنه. إذ أنه ـ منتصر ـ  لا يقدم لنا نظرية فلسفية، وإنما يقدم عملا روائيا، فيدخلنا في الدهشة والتساؤل، هل ماتت رنا فعلا؟ ومتي أتت؟ أقبل موتها أم بعده؟ ليغرسنا في دهاليز تتطلب منا اليقظة والانتباه، وليجعلنا قراء مشاركين، لا متلقين سلبيين. ولا يوضح لنا أنه قد مارس معها الفعل، إلا أنه ينبئنا بأن بلوزتها كانت مقطوعة، فأبدلها بقميص له، لم يكن مهما لـ رنا أن تأخذ بلوزتها، ولم تكن حريصة علي إخفاء قميصه، بقد ما كان هو، هو المتردد، الخائف، المتأني، بينما كانت هي المندفعة، غير الخائفة، غير المترددة، وكأنها تعلم وتحدد ما تريد، وتعطيه رغم زميلتها "ناهد"، التي تشاركه البحث عن لغز رنا، الذي هو غير واضح علي وجه اليقين، فلا هو ولا هي، صرح بما يبحثانه عن رنا، لا من هي رنا، تلك الفتاة التي أعطاها يحيي أربع دروس في الرياضة، في بيتها، وأثبتت أنها أفضل من زميلة أخري، بل تشرح لها، بل إنها تضاهيه إن لم تفقه، لكنها "رنا" هي التي زارته هذه المرة في حجرته، بعد أن ماتت لتحل محلها في نهاية العمل زميلتها "ناهد"، حيث حاولت ارتداء بلوزة رنا التي تركتها لديه، بل ما أن حاول تطويقها في النهاية ـ ولم يزل فيه بعض الوجل، حتي ساعدته هي واستلقت، ودون اتفاق أو كلام، بل: «اجتمعا علي السرير نفسه، لم يقد أي منهما الآخر. تناغمت حركاتهما وبدا جسداهما خبيرين ببعضهما»(2)  وتنجح العملية في هذه المرة ليثبت لنا أولا أن التحقق الذاتي قد اكتمل باكتمال العملية الجنسية، علي أن استخدام الفعل الجنسي هنا لم يكن كالكثيرين من أبناء جيله الذين استخدموا الجنس طمعا في اجتذاب القارئ العربي، أو تعبيرا عن الهروب من ضغوط وقهر السلطة والمجتمع، وإنما جاء استخدام الجنس علميا ـ إن صح القول ـ حيث خضع لقواعد علم النفس وفق ما سبق إيضاحه.

وثانيا أن التحول والتحقق جاء من داخله هو وليس من خارجه: «وشعر بأن قدرة جسده علي ألا ينتهي سريعا إنما من طول ما أبعده من ظنون وهواجس».  وثالثا أن ناهد ليست إلا رنا التي ماتت في أعماق الراوي يوم لم يكن هناك التوافق بين الطرفين، بينما هي حية عندما تم التوافق والتناغم بينهما. وما رنا وناهد إلا لعبة من الكاتب وحيلة من حيل الكتابة. وقد صنع منتصر من الراوي شخصية روائية بجدارة، متوافقا مع الرؤى الفلسفية والنفسية وفق ما سبق الإشارة إليه، خاصة إذا ما تم الربط بين حالة الراوي في البدايات وما هو عليه من خوف وحساب، وبين الأم التي لا تزال تعيش تحت سطوة الأب رغم موته. كذلك الربط بين الراوى وطبيعة العمل التي انتسب إليها، وهي رئيس مجموعة مندوبي المبيعات، والتي تعني عدم الاستقرار ـ  ليس عملا ثابتا ـ وهو ما يتوافق مع طبيعة الشخصية في هذه المرحلة. بضاف لذلك أيضا، تلك الثورة غير المبررة التي قادها مندوبي المبيعات علي يحيي، والتي لم يتضح لنا اسبابها أو دوافعها، غير أنها في المجمل تثبت عدم قدرته علي القيادة، عندما سافر "عبد المجيد" صاحب مكتب المبيعات، وترك قيادة المكتب ليحيي. فضلا عن عدم نجاحه في مهنة التدريس، فمن يقاد لا يستطيع أن يقود أو يعلم.

وكل تلك العوامل والظروف التي أحاط بها منتصر راويه تساعد في تقديم شخصية غير سوية، لا أستطيع أن أقول مهزومة، لأنها أثببت بعد ذلك أنها استطاعت ـ داخليا ـ الانتصار علي هذه الانهزامية، بل وأصبحت فاعلة. الأمر الذي يجعلنا نؤكد أنها شخصية متنامية.

ولم تكن شخصية الراوية هي الوحيدة التي حدث التنامي لها، وإنما الأم أيضا، والتي هي الإمتداد الرأسي لشخصية الراوي، حيث نجد في بدايات الرواية استسلامها الكامل لتعليمات الوالد ـ الميت ـ وانتظار رسائله التي تبني عليها قراراتها، نجدها في نهايات الرواية ـ في الوقت الذي بدأ الراوي ذاته في التحول ـ وقد بدأت تأخذ قرارا وسوف تصر عليه عندما يأتيها زوجها، وكأنها سوف لا تلتفت لمعارضته: «تذكرت الشقة وتمنت لو كان أبوه وافق علي استئجارها. ولو عادت الأيام ستتمسك بها أكثر وسترفض تأجيل الأمر للفرجة علي شقق أخري. لوهلة احتدت نبرة صوتها وبان إصرارها علي إقناع أبيه والرد علي كل كلامه وعدم التراجع مهما طال النقاش»(3) وليؤكد منصر أنه يقدم شخصيات متنامية متصاعدة رغم اختلافات الأزمنة، وعدم ارتباطها بالمنطق الزمني المعروف.

حتي الشخصية الانشطارية رنا/ ناهد  إذا سلمنا وفقا لرؤيتنا بأنهما شخصية واحدة، فإنها أيضا وفق هذه الرؤية تتطور مع تصاعد الحدث في الرواية، وفقا لما تم تحديده حول شخصية كل إذا ما اعتبرنا رنا إحدي مراحل الشخصية وناهد هي مرحلة أخري. كما نجح منتصر في التعبير عن الإيقاع الداخلي للشخوص خاصة الشخصية الرئيسة/ يحيي، من خلال إسلوب السرد الذي اتبعه والذي يزيد في قدرته علي استخدام الخدعة الفنية، حيث أنه رغم الحديث عن المشكلات النفسية وتعقيداتها، وما توافق مع ما قدمت به الرواية كدفعة واحدة متداخلة، حيث لم يستخدم الكاتب عملية التقسيم إلي فصول أو أبواب، أو حتي عملية الترقيم لوضع الفواصل بين الأحداث أو الشخصيات، بما يعطي الإحساس العام بالتداخل والانتقالات غير الممهد لها، فينقل التعقيد الداخلي للشخصيات إلي داخل القارئ ذاته. ويقودنا ذلك إلي: 

الإيقاع المتسق ونسق اللغة
استطاع منتصر القفاش الحفاظ علي حيادية لغته الإخبارية عبر المواقف المختلفة، الأمر الذي أدي إلي اتنساق الإيقاع علي امتداد الصفحات، ووقف هو ـ الكاتب ـ خارج النص، تاركا قارئه يعيش مع الشخوص وفق ما يراه هو، لا وفق ما يراه الكاتب ـ وليس هذا بالضرورة يلغي رؤية الكاتب، وهو ما يسمي بـ (التبئير عند الدرجة صفر)، فكما جاءت شخصية    "يحيي" شخصية حيادية  غير انفعالية، كذلك جاءت اللغة معبرة عن نفس الطبيعة. ففي مفتتح الرواية، وبينما الموقف يستدعي ضرورة الحصول علي إجابات لما يدور بداخله من أسئلة، نجد اللغة والموقف يسيران علي النحو الأتي: «حينما عرض عليها ارتداء أحد قمصانه بدلا من بلوزتها المقطوعة من الظهر، وافقت علي الفور عكس ما كان يتوقع، فكر في سؤالها عما ستقوله عند عودتها إلي البيت، لكنه ابتعد عن الأسئلة التي تستحضر رقابة أسرتها، واقترح عليها إدخال طرف القميص في البنطلون. لم تهتم وظلت تنظر في أنحاء الغرفة. كلامها قليل منذ أن فاجأته بقدومها...... الخ»(4).

وفي موقف آخر، بينما هو في احتياج للخروج من العمل، غير أنه لا يقوي علي إيضاح السبب ويستسلم لرغبة المدير " عبد المجيد " ويسير الحوار بنفس الحيادية المعبرة عن الشخصية من جانب، والمحافظة علي ثبات إيقاع السرد من جانب آخر:

«يظل منتظرا يحيي ليعرض بيانات التوزيع في نهاية اليوم، ويتمني أن تتعثر من تحكي وتفشل في جذب انتباه عبد المجيد.

ـ تعالي يا يحيي اسمع الحكاية دي
ـ دخل لستأذن في الانصراف فهو مضطر لـ.. قاطعه عبد المجيد ودعاه للجلوس.
ـ اسمها إيه؟
ـ الست فاطمة

ضحكت هبة وهي تنظر ليحيي. شرحت أن الست فاطمة زبونة قديمة و...»(5). فها هنا استسلم يحيي وانقاد لرغبة عبد المجيد، وظل السرد علي حياديته، وظل إيقاعه منتظما. 

الرواية والقصة القصيرة
انتهج منتصر القفاش اسلوب القصة القصيرة في كتابة الرواية التي جاءت علي نهج كما لو كانت حلما دار في برهة، وكأنه فجر تلك البرهة ليقدم هذا العالم المتنامي. إذ صدر الرواية بمشهد من ألف ليلة وليلة يتحدث فيه شاب مع ملك الزمان، ذلك لذي يحيلنا إلي فكرة الومان من البداية، وكأنه عالم واسع وله ملك وصولجان وتيجان، ويدور الحديث المدينة المسحورة، تلك المدينة التي ربما عني بها مدينة الحلم الذي يستيقظ منه في نهاية الرواية لنكتشف أن (المعدية) التي أغرقت رنا، إن هي إلا لوحة علي حائط غرفة نومه، ثم يأتيه التليفون المجهول ليطيل الحديث معه ومع صوت رنا دون انتهاء، وكأن الصوت صوت الأبدية والصيرورة في الدوامة، أكان حلما أم حقيقة، أكان ذلك منذ لحظة، أم أنه حدث من سنين؟  ومن المسحور، أهو المسحور أن الناس من حوله هم المسحورون؟

وبالنظر إلي رواية " مسألة وقت " لمنتصر القفاش (14 أكتوبر 1964) في إطار المشهد الروائي في القرن الجديد، ومن خلال روايتيه السابقتين ( تصريح بالغياب 1996 و أن ترى الآن 2002)، نستطيع القول أنه إذا كانت الرواية في الكثير من البلدان العربية تأخذ منحي الرغبة في الحركة نحو التغيير، فإنها في مصر قد يئست من هذه الدعوة، وفقدت حماسها، بعد أن أصبح حديثها حديث الطرشان، فإنها قد آثرت العزلة والدخول إلي الذات، والبحث عن الكوني خارج إطار الهموم المجتمعية. 

shyehia@yahoo.com

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ  "مسألة وقت" منصر القفاش روايات الهلال العدد 709 يناير 2008
2 ـ  ص 115
3 ـ  ص 113
4 ـ  ص 7
5 ـ  ص 59