ينفتح النص الأدبي الجيد على أكثر من تأويل، وهذا ما تكشف عنه هاتين القراءتين لرواية منتصر القفاش الجديدة (مسألة وقت).

إن كنت نائما فاستيقظ

وائل فاروق

تأتي "مسألة وقت" الرواية الثالثة لمنتصر القفاش بعد "تصريح بالغياب" 1996و"أن ترى الآن" 2002 لتبلور الملامح الرئيسة لمشروع روائي فريد أهم ما يميزه أنه ليس سردًا عن/ للعالم الإنساني وإنما هو جزء من العالم،أو هو جزء من الهوية السردية للعالم بتعبير "بول ريكور". كل رواية من الروايات الثلاث هي عين انفتحت فجأة على حضورها الإنساني، لحظة يقظة لوجود خامل استسلم لتيار الزمن فضعفت ذاكرته أو بتعبير أدق ضاع زمنه الخاص، الشخصيات المحورية في الروايات الثلاث شخصيات مفرطة في العادية ـ مجند في الجيش، موظف حسابات في فندق، مشرف على مندوبي مبيعات في مكتب تسويق ـ وهي شخصيات رغم اختلافها وتباين عوالمها  تعاني كلها ضعفًا في الذاكرة .

الراوي العليم الذي اختاره منتصر ليسرد الروايات الثلاث يصدر السرد دائمًا بتساؤل عن البداية: "كيف بدأت الحكاية"، "بداية كلما هممت بتذكرها"،"ربما كانت البداية"، أعمال منتصر كلها تبدأ من لحظة "تذكر" البداية، تبدأ حكايات منتصر عندما تنشط الذاكرة، أليست الحكاية ـ تماما كالذاكرة ـ هي فن تشكيل الزمن الخاص؟

في "تصريح بالغياب" يعود المجند إلى "يوم ضُبطت أوقاته على زمنين مختلفين" لأنه "لا ينسب لنفسه أية حكاية"، و يتقدم إبراهيم في "أن ترى الآن" خطوة حيث "فاجأه حكيه بأشياء لم ينتبه إليها" فيتساءل "ماذا لو كانت الذاكرة مثل الكاميرا بمجرد إخراج الفيلم منها تصير بلا ذاكرة" حيث "كل لقطة هي بداية ونهاية مستكفية بذاتها"، يسعى إبراهيم إلى الإفلات من المسافة بين البداية والنهاية، أما يحيى في "مسألة وقت" فإنه لا يجد مخرجًا منها فقد تورط في حكاية لا نهاية لها "وجدها تتسع وتتشبه بما يحدث كل يوم وتفرض عليه أن يتتبع خطواتها خطوة خطوة"، تنهك يحيى ذاكرته التي يتخيلها "مصنعًا يعمل فيه آلاف العمال" فماذا يفعل؟ "يغمض عينيه..... آمرًا ذاكرته بالكف عن الحركة". لحظة اليقظة إذن هي لحظة التذكر، هي التي تجعل الأمنية المستحيلة أن تكون كل الأيام يوم الجمعة ممكنة، الأمنية التي وجدها يحيى "أفضل طريقة ليحكي حكايته"، لحظة اليقظة هي الحكاية، هي لحظة الكتابة.

يصدر منتصر روايته بفقرة من "ألف ليلة وليلة" يسأل فيها شاب ملك الزمان: "أتدري ما بينك وبين مدينتك؟ فقال الملك: يومان ونصف.عند ذلك قال له الشاب أيها الملك إن كنت نائما فاستيقظ، إن بينك وبين مدينتك سنة للمجد" يقول الشاب للملك "إن كنت نائمًا فاستيقظ"، (إن) الشرطية هنا تنفي النوم كما تنفي اليقظة ـ ربما كان مغمض العينين مثل يحيى ـ فالملك يجد نفسه في مسافة بين النوم واليقظة و"استيقظ" التي يطالبه بها الشاب هي دعوة لأن يعي هذه المسافة بين حالين للوجود، هكذا تتحول غرائبية المدينة المسحورة إلى العادية بوصفها حال من أحوال الوجود ـ أليست هذه المسافة هي الحكاية نفسها؟ ـ ويتحول هذا التصدير إلى ترديد لأصداء أزمة يحيى في موروثه الحكائي واللغوي والديني أيضًا أليست حكاية أهل الكهف أيضًا نوم ويقظة يصحبها سؤال "كم لبثتم؟ قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم" سؤال يكشف عن زمن مراوغ،عن مسافة يجب أن نقطعها ولا نعي مقدارها؟

لحظة اليقظة في (مسألة وقت) تكشف إذن عن ميزة أخرى لكتابة منتصر هي "عادية الغرائبي"، فيحيى الشخصية المحورية كان محاسبًا في مصنع للبلاستيك تم تسريحه لينضم لطابور العاطلين، يقترح عليه أحد الجيران أن يعمل مدرسًا خاصًا فيلتقي "رنا" الطالبة المشاغبة التي تستفزه بمعاملتها له بندية، بعد وقت قصير يعتذر عن الاستمرار لالتحاقه بعمل جديد كمشرف على مندوبي التوزيع في مكتب تسويق للبضائع الصينية، تختفي "رنا" لتظهر فجأة في بيته تخلع ملابسها بسرعة وتشرع في ممارسة الجنس معه، ثم تمضي بسرعة بعد أن تترك له أرقام هواتف للاتصال بها، قبل أن يفيق "يحيى" من مفاجأة زيارتها يصدمه خبر وفاتها، وسبب صدمته ليس موت فتاة صغيرة مثلها غرقًا وإنما حقيقة أنها غرقت قبل زيارتها له وممارسة الجنس معه، فقد غرقت في الساعة العاشرة صباحًا أي قبل أن تزوره بثلاث ساعات كاملة. عرف بعد ذلك أنهم عثروا على جثتها في قاع النيل بعد خمس ساعات كاملة من غرقها. كيف حدث هذا؟ يمضي يحيى في حياته العادية بعد ذلك أسير هذه الساعات الثلاث الفاصلة بين موت رنا وزيارتها له، أسير هذه المسافة السحرية بين الموت والحياة، بين الغياب والحضور. تمثل هذه المسافة المنظور السردي الذي ينساب منه العالم دون إشباع لفضولنا بتفسيرٍ حول حقيقة ما حدث، لا يتغير شيء في عالم يحيى، ما يتغير هو المكان أو بالأحرى الزمان الذي ينظر يحيى منه إلى عالمه.

شيئًا فشيئًا ينتقل بنا السرد برشاقة إلى هذه المسافة السحرية في عالم كل شخصية حتى نشعر أن السعي خلف تفسير يتراجع إلى هامش مركزه "السؤال"، سؤال النص الأساسي ليس حول عودة رنا من الموت وإنما حول الحكاية فيحيى "يرحب بالمعجزات بشرط أن تتضح في حياته لا أن يضمرها ويواصل العيش كما اعتاد"، عودة الموتى للتواصل مع الأحياء أمر عادي، ليست رنا العائدة الوحيدة من الموت، لقد تعود موتى النص زيارة أحيائه في أحلامهم لتوصيل رسائلهم، ما يشغل يحيى ليس موت رنا وعودتها وإنما الرسالة التي كانت تحملها إليه، هكذا تتراجع رنا إلى الهامش فرحلة البحث الظاهرية عنها لا تكشف الكثير عنها ـ أو لا تهتم ـ لأن يحيى يدقق في كل تفاصيل حياته بحثا عن الرسالة المخفية، يحكي حكايته لنا، هل جعل يحيى رنا تموت ليحكي حكايته عملا بنصيحة كتاب "ألف طريقة وطريقة لتحفز نفسك" ألم يقرأ لنا يحيى منه نصيحته  عما نفعل عندما لا نملك القدرة على حكي حكاية، ننسبها لصديق، فإذا حاصرتنا الأسئلة عنه فلنعلن موته "تاركًا حكايته سره معنا، موت الصديق يجعلك المسؤول الوحيد عن حكايته" . يسأل يحيى نفسه كل الأسئلة إلا سؤال واحد، هل أرادت رنا أن تجمعه بناهد صديقتها؟ ناهد هي الوحيدة التي تشارك يحيى سره فقد زارتها رنا بعد موتها بل وأخبرتها عن يحيى وعلاقتها به، عندما دخلت بيت يحيى تعاملت بألفة مع كل شيء فيه ولكنها ظلت تسأل عن مرآة أكدت رنا وجودها. هل ناهد هي هذه المرآة التي يفتقدها عالم يحيى؟

الأسئلة والحديث عنها يشغل المساحة الأكبر من النص أسلوبيًا، فنجد مثلاً في الفقرة الثانية التي تمتد صفحتين ونصف تتكرر كلمات وصيغ السؤال عشرين مرة (ص7ـ9) ولا يتغير الأمر كثيرا في باقي الفقرات ليتحقق للسؤال مركزية كمية تضاهي مركزيته الكيفية في النص، السؤال مسافة يجب أن نقطعها بين اللامعرفة والمعرفة، ولكنه في لحظة يقظة كهذه ليس إلا فعل تحقق من الوجود.

حركة السرد في النص لا تبني الأحداث قدر ما تُحدث داخلها المسافات، لا يوجد حدث واحد في النص ينساب سرده من بدايته إلى نهايته دون أن تتخلله حكاية أو ذكرى أو حتى حدث آخر قبل أن يعود ويتم ما بدأه فمثلا في هذه الفقرة (ص13 ـ17): زيارة رنا في أول يوم أجازة.  (نجاحه في العمل بسبب ذاكرته ـ المكتب الذي يعمل فيه ـ عبد المجيد ـ مدرس الجغرافيا). زيارة رنا في أول يوم أجازة. تتكرر هذه البنية مع كل حدث حتى تصبح كل حكاية في النص تفصيل في الحكايات الأخرى.  وتبدو الرواية نفسها تمثيلا لهذه البنية فالنص يبدأ مع الاقتباس من ألف ليلة وليلة. تدور كل أحداث الرواية وتنساب حكاياتها قبل أن يعود الراوي في المشهد الأخير ليمزج كل الأصوات في صوت رنا في صوت راوي ألف ليلة وليلة "حكى ـ حكت ـ له عن الذي عاد إلى بلده بعد أن انفك السحر عن الطريق، وما كان يعيشه في لحظة صار يمتد يوما.ما كان يغفل عنه لأنه أقل من التوقف عنده صار يراه واضحا يشد الانتباه"، هكذا تكتمل حكاية الملك المسحور، حكاية يحيى الذي انتبه فجأة.

الرواية تقدم نفسها كمسافة صاخبة بين صمتين فالكلمة الأولى في النص هي "صمت" والكلمة الأخيرة هي "صمتهم"، العلاقة بين الصمت والحكي يصفها يحيى في الفقرة التالية: ـ "أي شخص لا يستطيع حكاية ما عاشه ويعيشه مع رغبته في هذا سيصل في النهاية مع تراكم الحكايات داخله إلى أن يحكيها دفعة واحدة دون فواصل ولا ترتيب، ستفور منه وحتى في هذه الحالة لن يجد من يسمعه لا لشيء سوى أن الحكايات ستنقض على بعضها بعضا في محاولة كل منها أن تكون البداية".

الحكايات تنقض على بعضها بعضا، توحي هذه الجملة بالفوضى، الفوضى لا مكان لها في عالم منتصر، فالانقضاض ليس عفويًًا لنأخذ مثلا "زيارة رنا في أول يوم أجازة" التي أشرنا إليها سابقًا، فرنا تزور يحيى بعد أن استقر في عمله الجديد أو ـ لأكون أكثر دقة بعد أن "فاجأته ذاكرته بقدرتها على حفظ كل ما يخص المندوبين"، يفاجأ يحيى بذاكرة ـ هوية ـ جديدة "يبني عليها وجوده" في عالمه الجديد الذي يمنحه اسما جديدا أيضا "الأستاذ زي ما انت عارف" .هذه الذاكرة المرتبطة بالمكان وبخرائط عبد المجيد تدخل في صراع مع ذاكرته هو كشخص حيث تطفو على السطح في لحظات سرحان طويلة، في مشهد آخر نرى يحيى جالسا خلف لوح زجاجي شفاف مسلحا بذاكرة العمل يراقب الموزعين ولكنه في الحقيقة يعيش تحت وطأة رقابة الموزعين والخوف من أن يكتشفوا أنه يعيش ذاكرته هو، يكتشفوا أنه سرحان خارج المكان الذي يجب أن يملأهـ كما يؤكد عليه عبد المجيد صاحب العمل، يبدو الحاجز الزجاجي الشفاف الآن حاجزًا بين ذاكرتين  أو وجودين، يردنا هذا المشهد البليغ إلى زيارة رنا، فهي ليست فقط مسافة/ حكاية إنها اختبار عميق لاختيار يحيى،و لما يريد أن يكونه. عبد المجيد لا ذاكرة له، لا يستطيع يحيى أن يجد له شبيه/ مكان في ذاكرته إنه لا يشبه مدرس الجغرافيا ولكنه مثله غارق في خريطة تتداخل خطوطها ليتوقف فجأة ليسأل نفسه "هي فين"،هكذا يتسرب العالم من بين الأصابع التي تدق على الخريطة أو التي تضغط بالطباشير على خطوطه لا لشيء إلا لأنها تفتقد للذاكرة، لزيارات العالم الآخر.

ـ ماتت
ـ كويس    

هذا الحوار القصير يكشف عن مسافة أخرى على مستوى اللغة هذه المرة، المسافة بين اللغة الاستثنائية للمجاز واللغة العادية، لا أحد ممن يحكي لهم يحيى عن موت رنا يتلقى الكلمة بمعناها المباشر، المجاز يسيطر على اللغة العادية تماما كما يسيطر الغرائبي على العادي، فقدان المسافة بينهما يبني وهما أو واقعا جديدا للحكاية، يقول له أحمد " المهم أن تموت أنت أيضا بالنسبة لها، يقصد أحمد أن تنتهي الحكاية بالنسبة لها كما انتهت بالنسبة ليحيى، يتساءل يحيى الذي خرج لتوه ـ أو بتعبير أدق دخل ـ في علاقة مع ميتة: كيف يتعامل كل من يحكي لهم مع الموت وكأنه شيء غير موجود، ترى من المسحور هو أم الآخرين؟ في النهاية يفضل يحيى الواقع الجديد لرنا، الواقع ـ الحكاية ـ الذي يولد من الالتباس بين العادي والمجازي، فتمتد حواراته مع أحمد صديقه عن رنا الميتة مجازا التي تطارده، ويتأمل من خلالها رنا الميتة حقيقة التي يطاردها. يترك يحيى صديقه مغمض العينين عن المسافة لأن يحيى من الآن سيبدأ في ردم المسافة، لنتأمل لغة هذه الفقرة

"زيارة مثل ظل سيلازمه، قد يلمحه وينشغل به أحيانا وقد ينساه تماما في أحيان أخرى. أشبه ببطانة الجاكت الذي يرتديه، لا تلفت انتباه أحد لكنها موجودة متوارية. نبهه مندوب مرة إلى أن البطانة تهدلت وظهرت من طرف الجاكت السفلي. ونصحه بشدها من أعلى بخياطة جديدة، والأفضل فصلها تماما وقص الزيادة منها لتكون بالضبط على مقاس الجاكت، تكفلت أمه بالأمر وشدت الجزء الذي تهدل وخاطته في البطانة ونصحته ألا يدخل ذراعه بقوة عند ارتدائه".  نرى هنا كيف تحول التشبيه "زيارة مثل ظل" بعد استقصاء امتدادته بالأفعال المضارعة ثم تشبيه المشبه به "الظل" بـ "بطانة الجاكت" وأحوالها في صحبته، كيف تحول هذا التشبيه إلى حدث تشارك فيه شخوص الرواية، كيف انزلقت بطانة الجاكت/ الظل/ زيارة رنا  من بنية التشبيه إلى يد أمه تقص وتخيط فيها؟

يبدأ يحيى في ردم المسافات حتى لا يضطر إلى عبورها، فتأتي إليه في غرفته المعدية التي غرقت برنا لأنه لا يريد الذهاب إليها، ويذهب هو لزيارة بيت رنا، ولزيارة عالم طفولته، العالم الذي تعود فيه أن يسقط في بئر النوم هذه المرة لا يغلق عينيه فيرى صورته وهو طفل يقف منتصبا على رأسه وقدميه يرتفعان لأعلى أمام هذا الوضع المقلوب لجسده/ بدايته ماذا يفعل؟ يختار ساعات مفككة كخلفية لصورته. المسافة الزمنية هي ما يجعل كل شيء مقلوبا في عالمه، اختزال الأيام إلى يوم الجمعة، تفكيك الزمن هو ما سيحرره من سجن المسافة التي تفصله عن الآخرين، أليس هو القائل إن من هذه الأمنية المستحيلة "تقدر أن تمد حوارا يشاركك فيه أي شخص" ، الرواية إذن لا تصنع المسافات إنها تضيق المسافات بين العادي والغرائبي، بين المباشر والمجازي، بين الحكاية والحياة.    

القاهرة