يقدم الناقد المغربي هنا قراءة في رواية المبدع عبدالعزيز الراشدي، ومن خلالها نتعرف على سمات الكتابة الروائية عند الجيل الجديد من الروائيين المغاربة.

رواية بطلها الهامش بكل تجلياته

(بدو على الحافة) للروائي المغربي عبد العزيز الراشدي

عبدالعاطي الزيان

تنظر الأجناس الأدبية نظرة غير متجانسة إلى المفاهيم، فالعالم الروائي بامتداداته السردية ومتوالياته الحكائية يصنع مسافة من العالم القصصي الذي يعجن فضاءاته بالإيجاز والتكثيف وتكون الومضة والإدهاش رسولا مضمرا للوصول إلى لحظة الذروة، مما يؤثر على رؤية الرواية للأشياء وتعريفها للمفاهيم، والعالمين معا يكونان في واد والخطاب الشعري في واد آخر، على الأقل في النظرة وصيغة الاشتغال، فالشعر عماده الجمال الفني وطاقاته، فيما يتبنى السرد بناء دوال الواقع أو المتخيل عبر التشكيلات السردية تكثيفا أو تراكما، ويبقى البعد السردي في الشعر خيارا ممكنا دون أن يكون ضروريا.

ويقع الهامش في ملتقى مباحث معرفية وتعبيرية مختلفة، إذ يتماس مفهومه بحدود الجغرافيا المكانية والثقافية والاجتماعية، وتتباين دواله من حقل لآخر، ومن سياق لغيره، ولذلك فللهامش تأثير في صنوف الفنون ذات البعد اللغوي التي تنأى قليلا عن الارتهان بالتجلي أعلاه المتمثل في الجغرافيا أو غيرها، رغم التأثيرات المتبادلة بشروط ما. ولئن أمكن ربط الهامش بالهامشي، فلأمر ما قد يكون مهمشا، فيصبح، بوجه لا واعي ما، المهمش اللامفكر فيه، ثم يتحول مع مرور الزمن إلى هامش ـ معرفي ـ يفزع إليه الباحث في شتى صور المعرفة. ثمة رأي يكاد يتواضع عليه الكثير ممن امتهن هذا الشكل من الكتابة يتمثل في تلازم الهامش بالحافة ومأزق الحدود؛ بمعنى أن الأطراف حتما وجه حقيقي من وجوهه، وإذا كان لطرافة الحافة وحدودها القصية مظهر دال يعكس بياض المركز وصفائه المفترضين، فإن للمكان عموما تجليه وتأثيره في الفن.

وفي الأدب، يتباين وقعه الجمالي وتختلف مظاهره، بالنظر لاختلاف السياق الداعي إلى اعتباره، فما قد يعتبر في بيئة جمالية هامشيا قد لا يكون كذلك في بيئة أخرى. بكلمة، إن كل كاتب يمتلك تصوره الخاص لمفهوم الهامش، يبنيه في تعالق رفيع بالسياق والموضوع وروح العصر وتجربة الكاتب وجمهور القراءة. كما أن أطره الفكرية وتموضعه في اتجاه الآخر والذات سلبا أو إيجابا ضالع في صيغة رؤيته للمفهوم ذاك. وهناك بعض النماذج الروائية التي آمنت فضاءاتها بجدوى الهامش، واهتبلت أقاصيه، ومنها رواية (بدو على الحافة) للكاتب المغربي عبد العزيز الراشدي، الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة 2005، بعد فوزها بجائزة الرواية للعام نفسه،والتي جاءت بعد مجموعتين قصصيتين هما (زقاق الموتى) و(طفولة ضفدع).

والرواية متن سردي أقام في الهامش، ولامس الهامشي وافترع مكنون المهمش الذي يرصد حركة أفعال واقع اجتماعي ذي تردد جهير ببداوته يتجه رويدا نحو الهباء... ذلك أن الفضاء والفاعلين والأفعال السردية واليومية وتقاطع مساراتها كما الزمان الممتد الذي أطر هذه الأحداث وبنياتها وتمرحلها من ورطة لأخرى في الواحة حيث البدو مخلوقات منذورة للصبر والندرة، تطيل الوقوف باستمرار في الهامش وتعتقده مركز المراكز.. هكذا،على مستوى متوالياتها السردية تم تشذير الرواية إلى لوحات حكائية تبدأ الأولى بحادثة سير مثيرة دون قتلى دون أعطاب دون أثار حقيقية، وتنتهي بلوحة ترصد حال أحد الشخوص الذي هو عسو وتداعيات موت شخصين آخرين هما عبد النور والمحجوب حاكي البلدة الغريب.

وقوف السيارة المريب خلق غموضا في أرجاء الرواية حتى النهاية، ذلك أن هروب راكبيها وترك متاعهم هو الحدث الذي ظل خيطا سرديا يربط أحداث الرواية. وقد لملمت الرواية متنها من الصحراء وواحاتها: هموم الناس، الخليط اليومي والموسمي وضياعهم في اللاشيء، صراعاتهم التي لا تنتهي وأعمالهم الرتيبة في الحقول، صِلاتهم بغيرهم من الوافدين، تجمعاتهم،أسفارهم المرة وغضب الطبيعة، حلول الخريف الصعب، حلول الجفاف المر وغير ذلك يقول السارد: "يعمدون إلى ربط الحمير إلى نخيلاتهم الصغيرة مقرفصين كيفما اتفق، أو مستلقين سخن بينهم الجدل..أحيانا، يتدلون بأقدامهم فوق الساقية الطينية، ويسترسلون متنقلين من موضوع لآخر من قلة الماء التي تعذبهم وتجعلهم يحدقون في كل الأنحاء بشرود إلى غواية السفر والنساء" ص7/8

الأحداث تتشذر، وتسعى إلى لمس الأرضية وتسمية تفاصيلها وهو ما جعلها تحتاج إلى حكايات صغيرة طريفة، مثيرة مزجية للحكايات الأم لكأن كل شخصية لها حكايتها المرة المغموسة في الدهشة والأقاصي. والهامش كما أسلفنا في الرواية امتزج باللامفكر فيه والثانوي والعابر والغابر، فالأطفال داخل الرواية حازوا وجودا كبيرا ولعلهم ملتقى جل المسارات، ذلك أن المنعرجات المرة على الرواية تجدهم هناك إزاء الواقعة يسخرون، يحْتمون، يختفون، ينتشون، يسترقون الأنباء، هم موجودون بالقوة وبالفعل وبقوة الفاعلية والحضور.. ألأن مساراتهم مليئة بالشقاوة ومزاحمة لعالم الكبار، والالتفات إلى حركتهم السردية وأفعالهم المشهدية فتح الرواية على صدى صفاء نادر، وهو الصفاء الذي بنت به اللغة إقامة البدو حقا على مشارف الحافة وأقاصيها؟ "يرقص الأطفال في الأزقة على وقع دفوفهم الحزينة التي تواكبها أدعية وأناشيد صوفية تدعو لبذل والزهد وترك متاع الدنيا والتفكر في الرحيل، وحين يصل صدى أغنياتهم إلى النساء والأطفال داخل المنازل، لا يشعرون بالحزن المفترض لخريف الأغنية، بل تنفذ البهجة التي يبثها تغير المناخ والأصوات ووشيش المطر الذي يهمي برقة ودون أذى، فتتعالى التنهدات المكتومة" الرواية ص21

هذا التوالي الحكائي لقول المكان وتماسه مع دور الأطفال ووجودهم المركزي في مسارب الأفعال مربوط بالتأويلات التي ما انفك المحجوب يخلقها بحكيه الذي لا ينتهي عن حادثة الليل البارد، وظل لوحده يوسع دائرة الممكن من المستحيل، فلقد أقبل الناس على حكايته وتخريجاته رغم أنهم لا يتفقون مع الكثير من تفاصيلها، غير أنهم شعروا بالرجفة وأطفالهم حين أنبأهم أن أصحاب السيارة هم جماعة من الباحثين عن الكنز، الذي لا يُستخرج إلا بذبح طفل صغير ذي أشكال مختلفة في راحة يديه، يقول: "للأطفال نصيب من كل حكاية، فأصحاب السيارة يهتمون لدم الأطفال أكثر، الدم وسيلتهم في اكتشاف المبتغى، لكن نصائح الآباء لاتهم، والأطفال يلعبون. متوجسين من كل غريب عليه آثار السفر متذكرين كلام الحلاق بعد الغروب ببعض الرعشة يحتاطون من زائر أو غريب من باعة الزعفران والمسك على الخصوص... والرجل يحكي في كل وقت يوميات الغرباء الذين جاؤوا بالسيارة، يحلق الرؤوس ويحكي يصلح النعال ويحكي دون كلل، ودون أن يسأله أحد أين يختبئون كي لا يفسد متعة الحكي" ص 13/14

ولذلك فنسيج الهامش متداخل بالذي يتصادى بالاستيهام وتمثل العجيب أحيانا، ينفتح الهامشي في الفضاء والأحداث المتتالية والأشخاص الممتدين بخفاء في المخيلة وعلى الأرض بين المداخل المختلفة للحقول اليابسة على تحولات بطيئة تزيد من طرافته وتصنع مسيرته اليومية، إذ الاحتفال بالمناسبات فرض عين لايكاد فرد يتجافاه، فكل في انتظاره على أحر من اللظى. ومجيء البدو الغجر من سوس له نكهة خاصة فهم زوار ينتقلون من دوار لآخر ومن قرية لأخرى يسوقون حميرهم حيث يمتعون أهل القرى بالحركات البهلوانية والفرجة الرياضية: "قبيل الغروب يخرجون إلى الساحة العامة حيث يكتظ الرجال فوق حائط قصير بينما تبتعد النساء أمتارا قليلة كي تنعمن ببعض الهدوء وتكثرن من الزغاريد.." ص22

هكذا تمتد الرواية وتنسل عميقا عميقا في ما بين الزمان الرتيب والمكان القصي راصدة التفاصيل الصغيرة من حياة الناس وصلتهم بأعمالهم اليومية أحيانا حسب الفصول التي ترتبط بالفلاحة كجني التمور أو المجيء من السفر أو امتهان حرف يدوية كصنع السلال وعرضها أمام الطريق الذي يمر به النصارى، إن هذا الهامش المكاني والزماني والوجداني والثقافي الذي يشعر أهله أنه مركز العالم يشع أكثر ويكبر حين يعلمون أن ثمة كثير من البدو المرابطين في الخلاء يتوافدون على القرية طلبا للإقامة حالمين بجنة الاستقرار. وإمعانا في تلمس حدود الهامش وموارده العتيقة يصوغ السارد حكايات الأسلاف المثخنة بالجراح والغصب ووقع الحياة المضطربة، الحياة المتحولة التي لاتنفك تتأبط الخرف القاسي وتتماهى بالفقدان.

ولذلك فتماسك الرواية في القبض على الزمنين معا زمن السيبة وجنوحه وزمن الاستقرار مع ظهور الاستعمار ومجيء الاستقلال ساق حكايات عبد النور الرجل العميل للنصارى فضلا عن حيله ووجوده الملغز المثير لأكثر من حكاية عن حقيقة موته من حياته في نهاية مشواره "كان شيخا في عهد الاستعمار، يشي بمن يريد فيحبس فيخيره بين أرضه أو البقاء في الحفرة الموجودة أسفل الدار الكبيرة على الدوام في الحبس الذي بناه خصيصا لأعدائه، وحين تتحرك الحمامات بغزارة من على السطح كانت يطو تعلم أن زائرا جديدا قد حل بالحفرة، أن حياة ستدفن هناك ما لم تفعل الصدفة شيئا ما أن أطفالا كثيرين سيظلون بلا أب وأن أسطورة ما ستتنا قلها الألسن في القصر والقصور المجاورة" ص36

هذا النفوذ الظالم لعبد النور يوازيه خنوع طاغ لسكان القرية وحدها يطو المرأة التي جلبها لأجل الزواج من يقابله بجفوة لعلمه بسيرته المريبة، احتاطت وتمنعت عليه وتدللت: "قال لها أنه سيد بن سيد، وحكى لها عن أبيه الذي قتله سهم غزوة لم تجمع أصحابها بهم معاهدة راحة، أدركت أن الكلام يريحه، لكنها تعلم كيف جاء إلى القصر فقيرا شريدا وتعرف حكايته التي تتناقلها الألسن ونام على سور القصر.. ولكزه حارس القصر وأمره بالذهاب فبكى حر الدموع وطلب ضيف الله أمام شيخ القبيلة وأعيانها السبعة، احتاروا في أمره لكن اطمأنوا لأنه جاء من لامكان" ص38

غير انه أهل القرية لم يستفيقوا إلا وقد أصبح عميلا متوجا بالوشاية والغصب والعدوان مع مجيء الاستعمار، معهم كان يعمل لأجلهم كابد كل تلك المعاناة، وبموازاة من حدث موته عاد الراوي أدراجه مع مسار الحكي لإبراز فتواته وتعديه وصراعه مع أعدائه الوطنيين أو الناس الصغار: "من الصغار من جاء ليعزي فيه من كل حدب وصوب، ومن جاء فقط ليعرف هل مات عبد النور حقا، فأسراره لا تنتهي: هذه ميتته الثانية هل ينسى أحد كيف مات قبل سنين؟ تنفس الناس الصعداء وهو يرون جثته غسلوه وكفنوه وحنطوه كالمعتاد ثم دفنوه وجلس القرآن، وكان المحجوب حاضرا، وقد قاوم رغبيته في الكلام وشاء أن ينطق أخيرا عندما ظهر أمام باب الغرفة عبد النور بكفنه الممزق" ص41.

موت عبد النور الثاني جاء على يد عسو والمحجوب الذي أحس انه خطف منه حبيبة قلبه يطو وطوال تلك المدة كان يخطط ولم ينس، غير أنه بعد موته وجد أن الأمر لا يستحق كل هذا الإصرار، فقد سوره الحزن والخزي والرهبة فضاعت غبطته بيطو حين رآها مجللة بالبياض ولم يجد لذة في قتل غريمه.. هذه الرواية إذن، رواية هامش بامتياز مادامت أطروحتها رصد سيرة التحول ولحظة الوقوع في البرزخ حافة البداوة والتحضر الهش، إنها لوحات مكثفة احتفت بالهامش، دون أن ننسى بلاغة الوصف والراشدي مهندس بارع بين مجايليه وتقنيات الكولاج بين الحكايات المؤثثة لحكاية الرواية، مع الإصرار الدائم على اللغة الباذخة ذات الظلال الشفافة.