ببساطة وعفوية يطرح القاص المغربي انطلاقات عالم الطفولة في مواجهة قيود عالم الشيخوخة، ويكشف عن آليات استمرار التدفق والتلقائية في الحياة.

ملائكة .. نحن الأطفال

عبدالهادي نعيم

... والمسيح قال:
خذ الحقائق من أفواه الأطفال
فهم سيدخلون ملكوت السماء..

            
باب المنزل مشرع عن آخره.
على العتبة جلست الجدة مسندة رأسها على كف يدها اليسرى، وباليمنى تنبش في التراب عن الأحجار الصغيرة، تكومها بدقة وعناية، تفعل ذلك بتلقائية الشيخوخة؛ حيث تتعرى هواجس اللعب الطفولي التي كبحتها مراحل النضج. هكذا تنتظر العجوز خروج حفيدها الذي دأبت على مرافقته إلى المدرسة.
«عش الملائكة» عنوة يساق الأطفال إليه، لترتاح الأمهات من شغب لازم، وعناء رغبات لا تنتهي.
وقف الطفل أمام المرآة لتسريح شعره. تراءت له صورة:
ـ  من أنت؟
 لم يسمع غير صوته. لم ير غير نمنمات الشفتين، ولاحظ أنها تنظر في الاتجاه المعاكس لاتجاه رؤيته، ففكر أنها ليست صورته تماما.
غادرت الصورة المرآة، ملقيا حقيبته إلى ظهره خرج الطفل، وأغلق الباب خلفه. انتفضت الجدة واقفة. بعصبية جذبته من يمناه. كالعادة طرقت باب المنزل المجاور لتصحب معها طفلة الجيران.
على حافة الدرب، تمشي الجدة، سلحفاة تزحف، تتوسط الطفلين، تمسك باليمنى الطفل والطفلة باليسرى، تعرج على متجر لاقتناء وجبة لاستراحتهما، بالتساوي توزع علب الحلوى على الحقيبتين، لا يعبآ لذلك، تتطلع الطفلة إليه وتبتسم، يبتسم لها، يحاولان الانفلات من يديها، فلا يفلحان.

في المدرسة
خلف الطاولة، يقبع الطفلان. يعبثان. يضحكان ويتواطآن. نهرت المعلمة الطفل، فبكت الطفلة. كشرت في وجهها، فأضرب عن وجبة الاستراحة. امتنع باقي الأطفال عن استراحتهم. انبسطت المعلمة، جمعت كيسا من الحلوى التهمته بنهم. استشعرت مغصا في بطنها، فصارت تقوم بحركات غريبة.
أثار ذلك سخرية الأطفال. وإحساسا بنشوة المحتج يكسب الرهان، تهامسوا، تعانقوا، تبادلوا التهاني على مرآى ومسمع من المعلمة التي انشغلت عنهم على مضض.

خارج المدرسة، عند الباب،
جثمت الجدة بكامل عنادها، وما كادت تقع عيناها على الطفلين، حتى ألقت قيودها فأحكمت باليمنى الطفل والطفلة باليسرى. انزعجا واغتاظا. ناورا للانفلات. صرخت في وجههما. وبتواطؤ تلقائي
عضتها الطفلة، ووخزها الطفل بأحد أقلامه. فكت القيود. أمسكا بيدي بعضهما. ضحكا، وأخذا يركضان كفراشتين تحررتا للتو من قبضة طفل شقي. هرولت الجدة خلفهما بتعثر. تصرخ تبكي. وتلعن زمنهما والمدرسة وكل الأطفال الشياطين. همست الطفلة في أذن الطفل تدعوه للعب.

في السطح،
يحتفلان بزفافهما الأول. يدخلان العرس بكامل طفوليتهما. ببراءة تامة يرتكبان فداحات لا يدركان حقيقتها. يرددان أهازيج لا يفهمان محتواها. يضحكان من كل شيء ومن لا شيء. يدركان الفارق العضوي بينهما. بدا عليهما التعب، فجلسا مستندين إلى جدار السطح.
قالت الطفلة:
ـ  جدي قال مرة إننا نحن الأطفال، إذا أدركنا الموت نصبح عند الله ملائكة.
ـ  هل سبق لك أن رأيت الملائكة؟
ـ لا، لست أذكر. وأنت؟
ـ  نعم، رأيتهم في صورة كبيرة علقها جدي في غرفته. إن لهم أجنحة يرفرفون بها في خفة كالفراشات
ـ  جدك طيب. لكن جدتي تقول إننا شياطين.
تعالى ضحكهما، تذكرا الجدة هذا المساء، وفكرا في الصباح، كيف التخلص من قيودها الجاثمة على اليدين.

باب المنزل مشرع عن آخره.
على العتبة وقفت الجدة تنفض عنها ثقل النوم. اليوم، على غير عادتها، لم تنهض للصلاة فجرا حسبت هذا الصباح شؤما، فاستدعت إجراءات التطير: لعنت الشيطان ورجمته، نفتت عند صدرها ثلاثا، ثم أخرجت لسانها مقلوبا. جاءها صوت الطفل قاطعا عليها شطحاتها:
ـ  صباح جميل جدتي..!
قطبت ما بين حاجبيها، ضغطت على ما تبقى من أسنانها، وشدته بغيض من يمناه، اتجهت نحو باب الجيران. وقبل أن تطرق، سمعت نداء الطفلة من الخلف. التفتت لم تكن الطفلة وحدها. يد أخرى تمسك برفق يمناها.
أخذت الجدة تنقل بصرها بين الطفلين. أماء لها هو بحركة من رأسه وإشارة من طرف عينه وابتسامة ماكرة. ابتسمت بخبث. أحس الطفل بارتخاء أصابعها عن معصمه. هب يجري نحو الطفلة، وتهامسا بتكالب..
سرت الجدة بالجد، ورأت الصباح جميلا، لكنها لم تكف عن سب زمن الأطفال.


قاص من المغرب