ليست هذه مجرد مراجعة لرواية ليبية جديدة، ولكنها محاولة للتعرف على إبداع واقع طبقي ومعيشي مغاير، وإدارة حوار بينه وبين الواقع المناقض الذي يصدر عنه عالم الأصفر الروائي.

شايفكم شايفكم

قراءة في رواية (في بلاد الرجال) للروائي هشام مطر

محمد الأصفر

(في بلاد الرجال) رواية ليبية كتبت باللغة الإنجليزية، وقرأتها مترجمة إلى العربية، وهذه الرواية تحصلت عليها بعدما نالت شهرة عالمية كبيرة، حيث ترجمت إلى أكثر لغات العالم المقروءة، وكادت تظفر بجائزة البوكر الإنجليزية الرفيعة بعد أن تجاوزت التصفيات الأولية، ووصلت بجدارة إلى القائمة النهائية لإختيار رواية الجائزة من ست روايات فقط. وهذا الإنجاز هو نجاح باهر في حد ذاته بغض النظر إن فازت الرواية بالترتيب الأول أم لا. وصلتني الرواية وقد سبقتها هالة إعلامية شبيهة بالتي تسبق الأعمال الجيدة والمحظوظة والناهلة من الشهرة والمتمتعة بالمبيعات الضخمة والتناول النقدي والتلفزي والسينمائي.. كرواية شفرة ديفنشي أو عمارة يعقوبيان.. وغيرهما. وهذه الأمور المتعلقة بالشهرة وبالهالة الإعلامية المصاحبة للعمل الأدبي لا تعني أن هذا العمل غير جيد.. بل بالعكس هو عمل جيد وإبداعي، ولو كان غير ذلك ما لفت نظر الوسط الثقافي والعالمي، وما التفت إليه القراء والنقاد، وأجمعوا على جودته ورشحوه لنيل الجوائز الرفيعة.. وأيضا ما تقبّله واستساغه هذا الكم الهائل من القراء بمختلف اللغات.

قرأتها في يومين أو ثلاثة.. كنت أقرأها في أوقات الفراغ.. الأوقات التي لا أتسكع أو أتأمل أو أكحّل أو أكتب فيها.. وحقا وجدتها رواية جميلة.. تحكي عن طفل ليبي يعيش في دارة أنيقة بمنطقة راقية ماليا ومعماريا، وهي منطقة قرقارش.. يعيش في أسرة نستطيع أن نطلق عليها أسرة غنية.. الأم تمتلك سيارة.. والأب سيارات وشاحنات.. وبالمفهوم الإيدلوجي نطلق عليها أسرة برجوازية، في طريقها بعد عدة صفقات ناجحة إلى التحول إلى الأرستقراطية الممتلكة للمناصب والضياع والحظوة.

في الدارة خزنة ضخمة تخرج منها الأم حزم المال وتقفلها بواسطة الأرقام السريّة.. الأم متحررة بمفهوم هذا العصر.. ومن أسرة ليبية ميسورة الحال ومتعلمة، تسافر إلى الخارج وتسكن المدينة.. لكنها في مسائل الشرف ككل أسرة ليبية محافظة لا تحتمل أن يخدش بالقول أو الفعل. فعندما علمت هذه الأسرة أن ابنتها «أم الطفل فيما بعد» تجالس شابا في المقهى البحري الإيطالي وتتلامس معه بأطراف الأصابع من تحت الطاولة حتى تمّ سجنها في غرفتها إلى أن دبّروا لها في زوج من طبقتهم، ويرتبطون معه بعدة مصالح تجارية واجتماعية. 

الأم تدخن وفي ليبيا النساء لا تدخن، ويعتبر تدخينهن علامة انحلال وعهر.. وتشرب الخمر وشرب الخمر في ليبيا من قبل النساء عار كبير.. وتشتري هذه الأم الخمر بنفسها من مروّج يعمل في فرن متسترا ببيعه للخبز المقدس.. ومع الخبز يبيع خمر القرابا.. وقيام الأم بشراء الخمر بنفسها يعتبر خطوة جريئة من المرأة الليبية. الأب معظم وقته يقضيه مسافرا من أجل التجارة والإستيراد والتصدير والمقاولات.. الطفل يلبس جيدا، ويأكل جيدا، ويدرس في مدرسة خاصة، ولديه غرفة خاصة به، ومحترف مجهز بالأدوات الفنية والحرفية فوق سطح الفيلا.. وبالبيت حديقة تحيطه إضافة إلى كونه مطلا على البحر الذي كثيرا ما يذهب إليه للسباحة والصيد لوحده، أو مع أقرانه حاملا معه عدّة البحر من حذاء مزعنف وبذلة غطس وسنارة وفيزقا أطفال صغيرة وغيرها.

كان لأسرته جيران آخرون.. منهم استاذ جامعي له طفل في عمر أسلومة (طفلنا بطل الرواية) وبيت آخر للأستاذ جعفر، وهو رجل أمن سرّي، لديه زوجة سمينة وطفلين سمينين يتغذيان جيدا.. وتجاورهم ثلاث بيوت أخرى لديهم أيضا أطفال متفاوتي الأعمار.. منهم طفل مصاب بمرض يجعله إن جرح ينزف، ولا يتوقف نزفه!.. كل البيوت المحيطة والقريبة من بيت اسلومه واسعة وجميلة وسكانها ميسوري الحال.. مسرح الرواية مدينة طرابلس وقليل من زمنها في مصر.. وتتناول الرواية حياة هذا الطفل وهو يعيش الأحداث ويتأثر بها نفسيا سلبا وايجابا فيبث تداعياته للأشخاص المحيطين به، وللقارىء، ويستفزهم للإنخراط معه في لعبه وألمه ومعاناته وسعادته القليلة التي تمتع بها.

أستطيع القول أن هذا الطفل يكتب من وعي حاد.. وذاكرته الطفولوية القديمة طرحها على منضدة الآن، وصار يعصر منها ما يريد أو ما يفيد روايته.. حاول عدّة مرات التخلص من هذا الوعي، ليمنح الرواية نفحة عميقة من الصدق.. إلا أنه لم يفلح دائما.. فسريعا ما يعود إليه هذا الوعي، ويتلبسه ويغمره بعطر،ه فيفوح الوعي في عدة جمل وأحيانا سطور طويلة بأكملها.. الرواية الآن ليست أمامي لأفتح الصفحات وأحدد المواضع. لكن هناك عدة ملاحظات من وجهة نظري لم تكن جيدة في الرواية وربما هذه الملاحظات هي التي حرمت الرواية من نيل الجائزة البوكرية الشهيرة. مع تحفظي على رواية الكاتبة الهندية التي فازت بالجائزة إلى حين قراءتها.

الكاتب يمتلك وبإقتدار الأدوات المطلوبة للكتابة الروائية.. من خيال خصب وغوص في التفاصيل وقيادة سياق السرد بخطوات ثابتة متوازنة.. ولغة متنفسة حيّة خافقة غالبا ما ينهي بها أجزاء الرواية بنهاية شعرية.. ذات صورة بديعة ومؤثرة.. وإضافة إلى كل ذلك فهو يمتلك موهبة السرد والتي هي أساس كل عمل روائي ناجح.. هناك عدّة ملاحظات حول رواية (في بلاد الرجال) والتي من وجهة نظري أضعفت الرواية في عدة مواضع من هذه الملاحظات..

انقياده إلى التراجيديا الإغريقية وذلك بتبديل الفطرة الإنسانية وتوجيهها فلسفيا بعيدا عن سياقها الطبيعي، كعدم توديع أسلومة لصديقه الطفل كريم الذي سيغادر مع أسرته إلى بنغازي، إثر شنق أبيه وبث عملية الشنق تلفزيا على الهواء مباشرة.. وهذا المشهد بتداعياته يستدعيه الكاتب أيضا في نهاية الرواية، وهو في سن الشباب ويعيش في مصر ويعجز عن العودة إلى الوطن بسبب اعتباره متهربا من الخدمة العسكرية، وأيضا بسبب اعتباره من الكلاب الضالة، وهو وصف ألحق بكل من يعيش خارج الوطن، وله مشاكل مع النظام بصورة أو بأخرى. يستدعي هذا المشهد عبر مكالمة هاتفية يعرف منها أن صديقه القديم كريم قد خطب الفتاة بنت صديق الأسرة والتي مسّح أسلومة وربّت ذات يوم على شعرها وكتفها في المطبخ، فهربت منه وجلست على ركبتي أبيها.. في هذه المكالمة ـ والتي هي أساسا لأمه ـ تعطي أمه السماعة لهذه الفتاة، لتجدد دمعة الذكريات. ويتذكرها وتقول له لقد خطبت.. هل تعرف من خطيبي؟! إنه كريم.

وتمد لكريم السماعة فيتكلمان ويستعيدان الذكريات، ويتذكر أسلومة كيف أنه لم يودعه وكيف أن هذه الفتاة هربت منه، وكيف هما الآن في بيت أمه مدعوان لحفلة، وسيتزوجان قريبا.. الهروب وعدم الوداع.. إنها الحياة.. محيرة وجميلة في الوقت نفسه.. الرواية مركبة وكل حدث له علاقة بالذي يسبقه أو يأتي بعده، وكل مشهد فيها يقودك إلى دلالات عميقة مؤلمة.. كل الرواية مبنية على المنفى.. على المحطة.. القوارب.. السيارات.. الأيام الهاربة سريعا.. المساحة الزمنية الكبيرة التي تفاعلت معها الرواية.. الرواية مبنية على السفر، وما يحمل من معان .. على الدرب الزمني أو المكاني.. حتى نهايتها تنتهي بلقاء الأم رمز الخصوبة.. بطفلها الذي صار شابا في محطة الاسكندرية العريقة.. مبنية على الهروب من الواقع.. بسفر الأب.. بمحاولة تسفير الطفل.. بشرب الخمر من أجل النسيان.. نسيان العمر الذي ضاع، والذي لم يسمح لها بملامسة خفيفة خفيّة من تحت الطاولة.. رغم كل صفقات العهر والكذب والخداع المتحققة في الخفاءات الأخرى.

الأم ليست عاهرة.. وتعيش حريتها بشرف.. أي أنها اختارت طريقها المغاير للذي تم إختياره لها من قبل أسرة لا تعنيها سوى ألسنة الناس.. مازالت عالقة في ذاكرتي عدة مشاهد من هذه الرواية المكتظة بكل شيء.. مشهد الطفل وهو يتابع مباراة شطرنج في بطولة دولية بالاتحاد السوفييتي بين لاعب كوري ولاعب ليبي.. يتابع المباراة بأعصاب مشدودة لمدة خمس ساعات وفي كل نقلة في المباراة يشجع الليبي.. إن كانت منه يريدها صائبة، وإن كانت من الكوري آكل الكلاب فيريدها أن تضل الطريق.. كلما يقتل اللاعب الكوري قطعة من قطع الليبي يتألم هذا الطفل، وعندما كشَّ الكوري الملك الليبي، وأنهى الدور لصالحه شعر هذا الطفل بالحزن.. شعر أن ليبيا خسرت.. وهذا المشهد يولد لدينا شعور الانتماء والحب لهذا البلد الذي نعشق والذي ليس لنا غيره.

هناك عدة اسئلة تطرحها هذه الرواية من خلال مشاهدها.. لماذا اختار الروائي لعبة الشطرنج وليس كرة القدم مثلا.. ولماذا هذا الزمن الطويل من الشد العصبي.. كل هذه الاسئلة لها إجابات مختلفة في ذهن القارىء.. وفي العمل الأدبي طرح الأسئلة أهم من إنتاج الأجوبة.. فللسؤال ثورة حياة.. والإجابة نهاية قفل رحيل وصول.. مشهد مباراة الشطرنج يحمل شحنات كبيرة من الصدق، فكل ابناء هذه البلاد لا يحبون بلادهم أن تخسر، حتى في السيزة.. وعندما يغادر هذا الطفل البلاد، ويرتوي من ماء النيل ويشبع من الفول والطعمية والبسطرما وأحجار المعسل.. يذهب عنه هذا الشعور بالإنتماء، فيستعرض المشهد في الربع الأخير من الرواية، ويقول بما معناه ماعادت تهمني ليبيا تخسر أو تربح.. فالمنفى دائما يساهم في انسلاخ الإنسان عن جلده وارتداء جلد جديد قد لا يناسبه، لأن ذلك الجلد لا يراه الآخر، إلا جلد ليبي مهما تلمع بالثلج أوبالبريق.

كل مشهد يبدأه الكاتب في الرواية يستدعيه في نهاية الرواية أو في ربعها الأخير ويستذكره ويذكر شعوره نحوه والمتغير نحو النقيض.. أي أنه كأنه يفتح دوائر البدايات ثم يقفلها، ويرقص في وسطها ويغنى لها أغانيه القديمة التي أحبها وغنتها له أمه، وهو يشاركها فراشها الوثير قافلها بقفل إتمام الحكايات .. مشهد آخر به إبداع لا يمكن تجاهله أو المرور عليه من دون أن ينصبغ في الذاكرة، ويؤثر في الإحساس، هو مشهد الطفل وهو ذاهب إلى البحر وقت الظهيرة حافيا.. تلسع قدميه الرمضاء الفاصلة بينه وبين ماء البحر.. فيقفز هذه المراحل النارية باحثا عن فضلات الظلال بمحاذاة جدران البيوت، وأعمدة النور، ويدوس على الحشائش العشوائية التي تصادفه ليطفيء بخضرتها بعض فوران قدميه.. يقفز صوب البحر كأنه يلعب النقيزة (الحجلة) وعندما يصل إلى شاطئ البحر يطفىء اشتعال قدميه بملح بارد، ويجد على الشاطىء بهلول يراقبه ويشوفه ويبتسم لذهاب نار الأقدام بملح الماء.. وبهلول هو الشخصية الشاهدة في الرواية.. الشخصية الرائية كل شيء.. الكشاف الإنساني.. ترى وتصمت.. ترى وتسجل رؤياها وتعبئها في صناديق، ثم تشحنها في قاربها، وتعبر بها إلى الضفة الأخرى من التاريخ.

الركض على الرمال الساخنة بسرعة كاللعب بقطع الشطرنج.. هذه القطع تضعك بين مأزقين.. اللعب بسرعة والخسارة أو التفكير ومعاناة الألم. مشاهد كثيرة جميلة في هذه الرواية ومعبرة وفاصحة عن نور إبداعي.. يضيء القلب ويسكن فيه، ويدق معه متوافقا مع سرعته وبطئه واعتداله.. شخصية بهلول شخصية نمطية.. نجدها في كثير من الروايات.. كل روائي يوظفها بطريقته الإبداعية.. ووضع شخصية بهلول في رواية (في بلاد الرجال) شيء ضروري.. فمشهديات الرواية وأحداثها تحتم ذلك.. تحتم وجود شخصية ممتصة لجرعات الألم ومدونة لها.. ولتكن هذه الشخصية شخصية عبثية غير سوية في نظر المجتمع، وغير مسئولة أمام القانون مثل شخصية بهلول. وشخصية بهلول شخصية لصيقة بالحياة وموجودة بكثرة حتى يكاد كل حي أوشارع وله بهلوله.. بل أحب أن أقول أن كل إنسان له بهلوله.. فمن خلال تعاطينا مع الحياة وزخمها، نضطر أحيانا أن نرمي بالوعي والعقل بعيدا، ونترك لبهلولنا الداخلي حرية التصرف، ونحس أن تصرفه حكيم جدا، وأنه أنقذنا من لحظة اليأس تلك أو الألم أو الفرح القادم في غير وقته ولا نرغبه.. والروائي مطر أفلح جدا في توظيف بهلول في روايته، خاصة في النداء الذي جعله يصيح به: شايفكم.. شايفكم..

ومن دون غلو أعتبر أنه يمكن تقطير الرواية كلها في هاتين الكلمتين (شايفكم.. شايفكم..) فحتى لو كتب على الغلاف: في بلاد الرجال ـ رواية ـ هشام مطر.. ثم كتب في الصفحة الأولى: شايفكم.. شايفكم.. فسأعتبرها رواية كبيرة.. ولا احتاج ابدا إلى قراءة تفاصيل وأحداث الرواية.. فشايفكم.. شايفكم.. قطرة عسل ضخمة تشبع وتروي وتعالج القروح وتفجر البوح وتضيء الروح.. كلمة شايفكم.. شايفكم تقول كل شيء.. لا تقول لفرد واحد أو لمجموعة.. تقول للكل.. للبشر.. للحكام.. للآلهة.. للعالم.. تقول للجميع كما الشمس الشارقة على الجميع.. شايفكم.. شايفكم هو عنوان رواية (في بلاد الرجال) وصلب ولب موضوعها.

شخصية بهلول في هذه الرواية جاءت في وعاء متسول.. يتسول الناس من أجل شراء قارب.. والقارب وسيلة انتقال من حال إلى حال.. من عصر إلى عصر.. القارب ثورة متفككة تبحث عن ألواح ومسامير ومجاديف وبحر نقي يستوعبها. وتفكير بهلول في التسول من أجل شراء قارب موضوع فلسفي وبه حكمة.. العين الرائية تسعى للحصول على قارب.. هل هي خائفة من الطوفان.. أم أنها تشعر بأن هذا الوطن ليس وطنها، وتريد أن تسافر إلى وطنها.. لا أدري كيف وضع الروائي شخصية بهلول في الرواية.. هل من أثر وجود مستشفى الأمراض النفسية في منطقة سكناه بقرقارش.. عموما إجابة السؤال لن تساعدني في شيء.. فهو أتى بها هكذا إبداعيا.. وليس إقحاما.

شخصية بهلول أثرت الرواية ومنحتها عمقا ما كانت ستكتسبه لو لم تؤثتها هذه الشخصية.. لكن عندما حركها الكاتب ليحدد نهايتها عبر مشهد الطفل الحاجل على الرمضاء إلى الشاطئ ليجد بهلولا هناك.. فيتناوش معه بالكلام ثم يتشاجر معه.. الطفل يرفس بهلول بعنف، محاولا إغراقه في البحر والتخلص منه ومن شهادته، ومن صيحته الفاضحة.. فهذا الفعل وهو محاولة القضاء على بهلول المسالم قد أضر بالرواية، مبعدا الطفل عن تلقائيته وعن تصرفه الطبيعي مع الممسوسين. وهذا التصرف غير منطقي من الطفل، والكاتب قاد السرد عبر هذه المشهدية متأثرا بكتابات شكسبير والتراجيديا الإغريقية، والأفضل هو ترك شخصية بهلول تسير في مجراها الطبيعي.. بهلول يتسول ويصيح شايفكم.. شايفكم.. والطفل يعطيه خبزا او حليبا، او يمازحه فقط، ويتركه يذهب في حاله.. بهلول هو الذاكرة العبثية للتاريخ. والطفل ايضا ذاكرة عبثية، فمحاولته إغراق بهلول وإغراق التاريخ الذي يرفض أن يعيشه.. حتى وإن أرادها فعليه أن يرفع من زمنية الطفل إلى فترة المراهقة على الأقل ليتم تقبل مثل هذا الفعل.

من الأشياء التي لم تعجبني في الرواية أيضا هو تصوير رجال المخابرات بالأكليشيه الجاهز القشري.. وجه مجدور.. به نقرات إزميل.. شنب كثيف.. عيون ضيقة.. رقبة تتصبب عرقا.. إلخ.. هذا الوصف به نوع من الانحياز للوعي السائد الذي يكره هؤلاء الرجال، وهذا اعتبره ضد جماليات الرواية، والأفضل من وجهة نظري لو صوّر هؤلاء الرجال بغير طريقة وصف الهيئة الخارجية من جسد وملابس وسلاح، وصوّرهم عن طريق علامات أو صفات.. حزم.. مكر.. خداع.. أو وصف الضحكات الصفراء وغمزات الشك والإزدراء.. أو العواطف المتجمدة وغيرها من مظاهر البوليس خاصة البوليس السياسي.. ولو وصف رجال الأمن كرجال عاديين كالذين نراهم في الشوارع من دون نزعة تحسس القارىء بسلبيتهم لكان أبلغ وأفضل.

من الملاحظات التي لفتت نظري ولم استحسنها ايضا هي وضع شعر الشاعر صلاح عبدالصبور في الرواية وأعتقد أن طفلا في تلك السن لا يمكن له أن يحفظ شعر عبدالصبور، ويتمثله ويوظفه رافدا وجدانيا لمشاعره.. إضافة إلى أنه في فترة السبعينات لم يكن صلاح عبدالصبور مقروءا في ليبيا من قبل الأطفال واليافعين، وحتى الكبار.. والكتب المنتشرة آنذاك في ليبيا معظمها لطه حسين.. والعقاد والمازني والمنفلوطي وصادق النيهوم والدكتور مصطفى محمود وغيرهم..

الجميل في الرواية هو اللغة.. هو وصف المكان سواء كان المدينة أم الفيلا التي يسكنها والشارع الواقعة فيه.. أو الملابس التي ترتديها أمه أو أبوه أو هو أو أطفال الجيران.. أجاد الكاتب هشام مطر عملية التكثيف اللغوي والبصري، مما جعل بعض الأوراق من الرواية تظهر لي وكأنها نصوص إبداعية منفصلة، يمكننا فصلها عن السياق وقراءتها لوحدها. عبر اللغة طرح الكاتب وجهة نظره ككاتب يعيش خارج الوطن.. طرح وجهة نظره في الصراع الدائر بين السلطة والمناوئين لها. وكيف تمّ التعامل مع هذا الصراع من كلا الطرفين.. الكاتب في الرواية طرح وجهة نظر واحدة فقط، وانحاز لها مدينا السلطة عبر تصويره لعمليات الشنق في الميادين، وعبر تصويره لقسوة رجال المخابرات، واللجان الثورية الذين نفذوا هذه المهام دفاعا عن ثورة مؤمنين بها ومرتبطين بإستمراريتها مصيريا.

وهذه الرؤية المنفردة لجانب واحد من أجزاء الصراع أيضا تضعف الرواية ففي زمن الرواية المصري كبر الطفل وصار رجلا، فكان بإمكانه التطرق إلى هذا الموضوع وطرح وجهة نظر السلطة في لأحداث الدائرة عبر شخصية جعفر مثلا، الذي ساهم في إطلاق سراح ابيه مرعاة لحق الجار على الجار. في نفس الوقت أغفل الكاتب الرؤية المستقبلية للأحداث.. فمثلا لم يطرح سؤالا يقول: لو أن هؤلاء المناوئين تمكنوا من الإستلاء على السلطة.. هل سيحافظون عليها بنفس العنف أم بالسلام.. ومعروف جدا في كل حقب التاريخ أن السلام في مثل تلك الأشياء ليس مكانه الأرض.. بل دائما القادمون الجدد بالقوة سيكونون دمويون ولنأخذ العراق مثلا.

شخصية الطفل في الرواية شخصية مرفهة منعمة.. وحيد والديه.. أمه من أسرة برجوازية.. ليست لدى الطفل معاناة أو فقر أو شقاء من أجل لقمة العيش.. يلعب ألعابا خاصة غير متاحة للأطفال العاديين الذين يغنون في الشارع وين حوش بوسعدية.. مازال القدام اشوية.. او شارعنا القديم.. شارعنا زمان.. ياما العبنا فيه.. مع اولاد الجيران. جيران الطفل أيضا أغنياء..أناس نافذين في الدولة.. وأناس تجار ولهم أملاك.. أمه تحبّه وتعمل جاهدة كي تسفره إلى الخارج بأي طريقة، كي تجنبه التجنيد في العسكرية. خائفة عليه أن يرسل إلى الحرب الدائرة في تشاد.

فليذهب أسلومة الى مصر او بريطانيا او امريكا.. وليذهب اولاد الليبيين المساكين الذين يسكنون حي المحيشي وحي بوسليم والهضبة وطبرق واجدابيا والعجيلات وغيرها من مدن ليبيا وقراها إلى هناك.. نحن لدينا نقود تشتري تذاكر السفر، وتيسر المعيشة في الخارج، وتشتري بطاقات غير لائق للخدمة العسكرية إن تعذر السفر.. في الفترة التى تحركت فيها الرواية كان الصراع على أشده.. الدولة بدأت خططها ومشاريعها، وتريد المحافظة على انجازاتها وسلطتها وأمنها والدفاع عنها بحزم وقوة.. والأحزاب السياسية والحركات الطلابية والدينية وغيرها غير الخاضعة للنظام تعمل في الخفاء والعلن وفق برنامجها للمشاركة في السلطة، أو تقويضها ومن ثم الاستلاء عليها.. السلطة القائمة اعتبرت هذه الأعمال محاولة عدائية ضدها تهدف لإجهاض الدولة وتدميرها.. وكلما دقت هذه الأحزاب والحركات مسمارا في كيان الدولة، جلب هذا الدق ردّة فعل أعنف وأشد من الألم أو الإزعاج الذي سببته.

أنا لا أفهم في السياسة ولست موهوبا فيها.. ولم أدرسها أو أتعاطاها أو أقرأ حتى مقالاتها وكتبها.. لكن ببديهتي أعرف أن كل من يعمل في السياسة هدفه الأساسي هو الوصول إلى السلطة.. يبدأ بالمشاركة والحصول على الأرباح بعد مدّة يقول رأس المال لي.. ومن يصل إلى السلطة في هذا العالم أول شيء كي يحافظ عليها هو تصفية خصومه بالطرق المادية والمعنوية، وإن كان متسامحا فيرسلهم إلى المنافي البعيدة.. أنا أقصد دول العالم الثالث.. أما العالم الغربي والشرقي فتغير الحكام كل اربع سنوات او ستة لا يعني ذلك ديمقراطية.. فهم يتغذون على خيرات العالم الثالث وحضارته ويسرقونه يوميا أمام الشمس.. ولصوص العالم وقتلته لا أقول بديمقراطيتهم ولن اقتنع بها في يوم من الأيام.. كل ما أراه أمامي تجارة ليس إلا.. وحتى منظمات حقوق الإنسان ومنظمات الإغاثة هي منظمات غربية لها حساباتها وتكيل بمكيالين ولا يتبنون إلا القضايا التي تهمهم، وتهم المجتمع الغربي بالدرجة الأولى.

صورت لي الرواية بعض المشاهد المؤلمة التي عشتها ورأيتها مباشرة في فترات سابقة من حياتي، وهي مشاهد الإعدامات.. ورغم ما سببته لى من صدمة وألم، إلا أنني أفضلها على الإعدامات السرية والاختفاءات المفاجئة كما حدث في حقبة من الزمن في الارجنتين وتشيلي وغيرها من البلاد. صورت لي ايضا لمسة انسانية رائعة يقوم بها الانسان المغلوب على أمره بالإلتجاء إلى الرمز أو الشخصية المؤثرة في الدولة، ويتجلى ذلك في مشهد الشخص المصري صديق الأسرة الذي ما إن عرف أن رجال المخابرات واللجان الثورية يبحثون عن والد أسلومة، رب عمله وصديقه، حتى ذهب الى السوق واقتنى اكبر صورة للقائد ونزع من الجدار لوحة تخص العائلة وبحث عن مسمار ومطرقة.. دق المسار في الحائط وتعاون الجميع على رفع الصورة وتعليقها فيه لتطل من صدر الصالون متالقة بارزة لكل الداخلين بمختلف مشاربهم.

المصري يعرف جيدا أن من يقوم بعمليات الدهم رجال مخابرات ثوريين مؤمنون بفكر القائد، ويحبونه بصدق، ورؤية صورته بارزة في بيت تجعلهم يهدأون ويتغاضون عن كثير من الإجراءات العنيفة، أو التفوّه بكلام بذيء في حضرة الطفل وأمه.. وهذا ما حدث بالفعل.. فدخلوا بهدوء وجلسوا لشرب الشاي، ولم يحطموا شيئا من أثاث البيت، وحتى زجاجة القرابا التي وجدوها لم يتخذوا فيها أي إجراء قانوني.. حتى زوجة جعفر البدينة أعجبها الأمر، وتدخلت لصالح الأسرة وسعت في إطلاق سراح الزوج. وحكت لأم سلومة أن القائد يحب زوجها ويحب كل المخلصين لثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة.. وأن القائد شخصية مؤثرة في الناس، حتى في أعدائه الذين يعملون على تصفيته، ما إن يلتقونه حتى يرمون سلاحهم في الأرض، ويبكون ويتحولون إلى مريدين له وللثورة.

المشهد الجميل الحلو الذي لحظته في الرواية هو إعداد زوجة السجين كعكة لذيذة، وقدمتها لزوجة جعفر عند زيارتها لغرض طلب التوسط في اطلاق سراح زوجها.. تفاصيل مشهد الزيارة رائعة، من اعداد الكعكة الى ارتداء ملابس الزيارة، الى مسحة الحزن على الوجه، الى طرق الباب والجلوس ثم تقديم الكعكة والغرق في البكاء.. وجميل جدا ان الزوج جعفر لم يناقش المرأة المكلومة.. سلم وجلس معها قليلا، ومن خلال الدموع وصله كل شيء، فغادر وقام بمساعيه.. كعكة التسامح هذه أكل منها أهل البيت، وأرسلت زوجة جعفر بقطعة كبيرة منها إلى الرجل ذي الوجه المجدور الذي يراقب بيت أسلومة .. وأسلومة نفسه هو من قدم له الكعكة بكرم وحب.. رجل المخابرات تأثر انسانيا.. فقبوله قطعة كعكة من بيت يراقبه به عدو مفترض للثورة، هو إقرار منه بأنه هناك متسع كبير للحب والتسامح، وأن هذه الظروف الأمنية حتمتها المرحلة، وغرضها ترسيخ الثورة ولن تستمر هذه الملاحقات طويلا.

نلاحظ في الرواية إدانة لقسوة رجال الأمن في التعامل مع المعتقلين، سواء في طريقة الإعتقال العنيفة التي لا تحترم آدمية الإنسان أو الزج بهم في السجن وغرف التعذيب لمجرد الأشتباه.. كأن يسمع أحد العناصر تذمرا من مواطن أو آهة استياء.. أو يوجد عنوان أو رقم هاتف في مفكرة أحد المتهمين أو غيره.. وهذه القسوة وعدم الدقة في التحرّي لها أكبر الأثر في جلب الكراهية والمشاكل للدولة.. والأمن الإنساني لا يقوم على العنف لكن يقوم على تحسين أوضاع الناس المعيشية، وتركهم يعبرون عن أرائهم ويمارسون حريتهم التي لا تضر بالغير.. وقبول الآراء الأخرى بصدر رحب، ومناقشتها حتى وإن كانت مختلفة مع خطاب الدولة السائد.. فالإنسان عندما يجد القبول والأحترام والترحاب، حتما سيشعر بالسعادة والرضى والسلام، ويخجل جدا أن يمارس أي عمل عدائي ضد الناس الذين يعيش بينهم.. وسياسة العنف كما شاهدنا في كل حقب الزمن القديم والحديث، تولد عنفا أكثر ونتائجها الإيجابية مؤقتة، لكن سلبياتها تتجذر في جدارية التاريخ.

(في بلاد الرجال) رواية بها نفحة كبيرة من الصدق لكن بها زفرات عديدة من الإفتعال.. وأعتقد أن الكاتب قد وضع في رأسه عندما أمسك القلم أنه سيكتب رواية.. ولو أنه أمسك القلم وكتب وحسب، لأبدع أكثر ولأحكم نصه ولقضى على ما سيفرزه النقاد الإنجليز من لولات مثلجة. بوجه عام الرواية أعجبتني واستمتعت بها وبما حوته من إبداع أصيل ناجم عن موهبة طازجة تضطرم داخل أتون هذا الطفل.

وليس صحيحا أن نجاح الرواية جلبه الشق السياسي بما حواه من مشاهد العنف الثوري.. وبإمكاننا حذف هذه المشاهد أو اختزالها من دون أن تتأثر جماليات الرواية.. الشق السياسي لم يجلب النجاح للرواية.. لكن جلبه الأدب.. ذاك السحر المجهول في اللغة والتخيّل.. تلك الأحاسيس الغضة المتدفقة.. عقلية الطفل التي كتبت الرواية بنسبة 60% وروتها بمداد الشقاوة.. أحيانا تنفلت هذه العقلية الطفولوية وتجمح فتكتب بعقلية شاب أو رجل ناضج وتطرح مفاهيم ومُثل فلسفية، وهذا أمر غير جيد ومكسرة كبيرة لبوح القلب وخفقات الخاطر فالطفل اللطيف لا يخوض في حلبات الرجال إلا إن اراد كتابة جزء ثان للرواية.

سوحة زبدة أود أن أسقي بها هذا الورق وهي أن الطفل أسلومة لا يمثل سواد أطفال المجتمع الليبي.. وهو طفل محظوظ رغم ما حدثت له من هموم ومآس.. حدثت للعديد من أطفال الليبيين والعالم.. وهذا هو قدره الذي لم يختره والذي لن يستطيع أحد أن يغيره قبل تحققه.. الطفل أسلومة محظوظ لأنه ليس فقيرا.. لأنه يأتي إلى ميدان الشهداء وباب الحرية لشراء أعواد الجلجلان وليس للعمل بائع على قطعة مكاوة لمساعدة أسرته. يأتي راكبا في سيارة فاخرة تقف به في الظل تنزل أمه وتشتري له ما يملأ بشكانه بالحلوى والألعاب.. محظوظ لأنه ليس فقيرا.. حالته المادية جيدة.. سافر في وقت جيد إلى الخارج.. ووجد من يعلمه ويتكفل به.

وهنا أتذكر الناس البسطاء الذين عشت بينهم في حي المحيشي والظهرة وراس عبيدة والسلماني، والذين لا تجيد امهاتهم إعداد التورتات والذين يقتاتون على الشرمولة والشكشوكة والزميتة.. والذين يعيشون على هامش الرزق بتعبير الشاعر العوكلي في إحدى قصائده.. الناس الذين ليس لديهم أحد إلا الله.. المركولون دائما ببوز الحظ، والمدقوقون بمطرقة الحاجة إلى خشب تعيس. الذين لا يستطيعون السفر إلى الخارج للعمل أو الدراسة او الفرار حتى إلى جهنم بتعبير الكاتب القذافي.. الناس الذين ليس لديهم أقارب نافذين يساعدونهم في تصريف أمورهم أو يجنبونهم المشاكل في لحظة الصفر.. أقصد الناس العاديين غير النخبويين.. الذين عندما تحدث لهم مشكلة لا يخرجهم منها إلا السميع العليم.. والذين نسميهم رقاد لرياح او قلال الوالي.. والذين لديهم حتى هم روايات مؤثرة مثل روايات هشام مطر.. سيكتبونها ذات يوم بمداد عرقهم ودمهم وأمالهم المهدورة.. وبالطبع لأن حظهم راقد في الكبوط، وغير مكتوب بلغة الغرب، فلن تشتهر في الإعلام لكن التاريخ ستنتقش على ضيائه.

في الأونة الأخيرة لاحظت أن عدة مناوئين من عائلات بنغازية ومصراتية وغيرها زارت بلادنا وصالت وجالت وشبعت من الكسكسي والبازين وهمبورجة المثرودة، ثم سافرت إلى الخارج من جديد معززة مكرمة وقد تم استقبالها بصورة حضارية ومحترمة.. وأنهيت إجراءات دخولها حسب ما قرأت في النت في زمن سريع قياسي .. وكانت الدولة متسامحة معهم رغم ما صدر منهم سابقا من أقوال وأفعال تعتبرها الدولة من المحرمات.. وهذا التصرف حيالهم من الدولة سلوك حضاري يدل على قيم التسامح والسلام المتجذرة في عروق هذا الشعب العظيم.

واتمنى أن يستمر مثل هذا الفعل الانساني النبيل ليشمل كل الليبيين ولا يقتصر على هذه النخبة المعروفة والحاملة لجوازات السفر الغربية.. اتمنى أن يشمل هذا الإجراء كل الليبيين العاديين في الخارج الذين لهم مشاكل سابقة مع الدولة.. وأقصد هنا بالليبيين العاديين الليبيون رقاد لرياح قلال الوالي المعبر عنهم كتاب (تحيا دولة الحقراء).. ابناء الناس الشعبيين سكان الاحياء الشعبية والذين لا يملكون أوراق لعب هذه النخبة المحظوظة التي تعيش في الخارج جيدا، وفي الداخل جيدا، والتي تحطّب لها الريح من جميع النواحي.

في روايتي نواح الريق كتبت أوراقا عن البوابات.. قالت فيه الشخصية الروائية أن أهم عمل قام به الثائر هو تركه للبوابات والمنافذ الحدودية مفتوحة بدون جمرك أو شرطة أو مخابرات مدّة من الزمن.. يدخل من يدخل ويخرج من يخرج.. الهارب يستطيع العودة والمغادرة، والذي يريد أن يهرب فالطريق سالكة أمامه.. هذا الفعل الثوري المغموس في الشساعة والزاخر بالاتساع والرحابة والمحطم لكل الأقفال المادية والمعنوية والميتافيزيقية هو ومن دون مزايدات أعتبره أهم فعل حدث في مجال حقوق الإنسان عالميا، وهو خطوة متقدمة جدا لم يقم بها من قبل أي ملك او رئيس او سلطان أو زعيم أو حكيم أو جن أو حتى ولي صالح.. ربما هذا التصرف قد مر هكذا من دون أن يُفهم درسه وتستوعب فلسفته.. فبأمكاننا التخيّل كم سعادة تحققت بعودة غائب إلى أسرته، أو مغادرة خائف إلى مكان آمن.. ترك الحدود مفتوحة على مصراعيها وتحطيم البوابات خطوة غير مسبوقة، ولن يفعلها أحد مستقبلا، خاصة في هذا الوقت الراهن المتخم بالتخريب والإرهاب وتجارة الدم.. هذا الفعل الإنساني علامة مهمة من علامات الاعتداد والثقة بالنفس والإيمان بجدوى الثورة و استمراريتها.

ما أجمل أن نمنح الحرية كاملة نقية للغير..
ومن يمنح الحرية يمنح الحياة..
ومن يمنح الحياة يمنح السعادة..
وليس هناك حتى في جنان الخيال سعادة ميتة.
في النهاية اقول للقراء هذه ليبيا العجيبة.. بلاد الإبداع.. بلاد الجنون.. بلاد الحرية.. بلاد كل شيء يخطر أو لا يخطر على البال.. بلاد المفاجآت والتجدد.. بلاد شايفكم.. شايفكم. 

كاتب وروائي من ليبيا