يواصل الباحث المغربي النبش في ذاكرة الثقافة المغربية الحديثة من خلال وثائق تؤسس لبدايات تشكل هذا الحضور. عبر العودة لأحد أهم النماذج والقامات: الأديب عبدالكريم بن ثابت (1917 ـ 1961).

الحرية والفن

محمد زهير

 

1 ـ تقديم: 
عبد الكريم بن ثابت (1917ـ1961) من أبرز الشعراء المغاربة المجددين في العصر الحديث. كتب مقالات نقدية وأحاديث تأملية، فضلا عن ممارسته الشعرية ذات النزعة الرومانسية المرهفة المجددة، التي انفتح الشعر المغربي معها، في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، على آفاق جديدة رؤى وتعابير إبداعية..

تشكل قيمة الحرية قيمة مركزية في إنتاج ابن ثابت. لقد كان من الشعراء الذين عملوا على تطوير النص الشعري وتحريره من قيود كثيرة، والارتقاء به إلى عوالم أرحب.. وكما ألح على قيمة الحرية في شعره بناء ومضمونا، ألح عليها أيضا في كتابته النثرية، خاصة في أحاديثه التعبيرية التأملية التي نشرها أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات في مجلة "رسالة المغرب" والتي اختار لها عنوان "حديث مصباح" لصدورها عن مصباح متخيل، أملاها على الكاتب في أسمار بينهما، ودوّنها الكاتب وأذاعها في الناس.

وهي أحاديث مركزة في شؤون الفن والنقد والحياة.. والأدبية منها تصدر عن مرجعية جمالية رومانسية، وتُشعر بحس مفعم بنداء الحياة طَموح إلى الفكاك مما يقيد تدفقها.

وهو ما نلاحظه في الحديث الذي اخترناه منها. مع الإشارة إلى أن عبد الكريم بن ثابت نشر أحاديث مصباحه والمغرب يرزح تحت وطأة الاحتلال، وقواه الحية تتحرك لفك الأغلال وترسيخ حركة النهضة. فتلك الأحاديث إذن صورة من صور التعبير عن مطامح القوى الوطنية الناهضة وعملها على تحرير القيمة الأدبية وتطويرها وتحرير الأرض والإنسان في تلازم..

ففي حديث "الحرية والفن" تعبير دال على هذا الانشغال والعمل. تعبير عن ضرورة الحرية للفن، ومن ثمة للحياة بصفة عامة.. فكل عبارة في الحديث دالة بقوة على ذلك. وفقراته لا تؤكد وحسب، على ضرورة الحرية، بل تحفز عليها تحفيزا. فالإجهاز على الحرية إجهاز على الفن وعلى الحياة. والفن صوتها الأعمق.

وقد استعار ابن ثابت لأحاديثه صوت المصباح، إشارة إلى أنها أحاديث استنارة واستبصار وأمل ورؤية طَموح إلى وضع إنساني مشروط بمقوماته، وفي مقدمتها قيمة الحرية.

نشرت هذه الأحاديث في مجلة "رسالة المغرب" قبل أن تجمع في كتيب نشر بتونس سنة 1957 بالعنوان نفسه "حديث مصباح". والحديث المختار هنا نشر في المجلة المذكورة (العدد 11، 2 ماي 1949، ص: 11). وفي الكتيب (من ص: 16 إلى ص: 18). وهو واحد من سلسلة أحاديث عن الفن أملاها المصباح على مسامره الشاعر..

2 ـ (حديث مصباح): الحرية والفن: 
"مثل الحرية للفن كمثل الروح للجسد والنور للحياة والشعر للبصيرة والمطر للأرض المجدبة والعبق والشذى الفواح للزهور والرياحين.

إن الحرية من المقدسات بالنسبة للإنسان العادي ولكنها بالنسبة للفنان أقدس هذه المقدسات وأولاها بالحب والإجلال وأجدرها بالتضحية، وتاريخكم الإنساني حافل بمواقف اختار فيها الفنانون الموت دفاعا عن الحرية العامة أي حرية الشعب فما بالك بحريتهم الخاصة التي هي روح يستمدون منها الحياة والوجود وتمكنهم من أداء واجبهم الإنساني في العمل والإنتاج.

فلا ازدهار للفن من دون حرية ينمو في ظلالها ليؤدي رسالته الخالدة التي هي جزء من رسالة الخالق الأعظم الذي أتقن كل شيء. ولا حياة للفنان من دون حريته الشخصية الكاملة التي لا تقيدها قيود، ولا تخضع لسلطان ولا تستغل من أي فرد كان.

فالفنان الحر رسول حمل رسالة سماوية بطريق الموهبة والإلهام لأدائها إلى بني قومه بل إلى الإنسانية جمعاء.

إنني أعتقد أن قلة الفنانين في أية أمة ناتج عن كثرة الذين يعتبرون أنفسهم رقباء ونصحاء، هؤلاء الذين يقولون للفنان: هذا حرام وهذا قبيح وهذا عيب وهذا مخالف للتقاليد وهذا يثير عليك المجتمع، وهذا يكثر الحديث عنك والأقاويل فيك. هؤلاء في نظري هم الذين يقتلون الفن والفنانين وهم البلاء الذي ينزل بالشعب لأنهم يطفئون نار الموهبة ونور الإلهام. فلا سبيل لازدهار الفن في أمة من الأمم إلا سبيل الحرية ولا حياة للفنان بدونها.

أتراكم لم تشاركوا في الحضارة الإنسانية بسهم وافر بسبب كثرة هؤلاء الرقباء الناصحين واختلاف أمزجتهم وألوانهم ومشاربهم، أم أن هناك أسبابا أخرى جعلت الفن عندكم نوعا من الشعوذة والفنانين قوما مجانين!؟

اذكروا دوما أن الحرية روح الفن والفنان وأن انعدامها موت للفن والفنانين!

وبدأ الضوء يبهت وبدأت أشعته الشاحبة تمعن في الذبول وانقطع الصوت المتصبب من المصباح وتلاشى، فرفعت رأسي لأرى ما حولي فلم أجد إلا ظلاما وتلمست مكان سريري واستلقيت عليه لأحلم بهذا الحديث".