يستحضر الباحث الجزائري لحظة الرافعي التاريخية ليقدم رؤيته وتفسيره لموقفه الشعري واللغوي المحافظ من التجديد. يعرض وجهة نظره استناداً لاقتباسات توجز بمجملها جدل أفكار الماضي، ليخلص منها إلى راهن ثقافي يحضر فيه تراث الرافعي بقوة في الحقل الثقافي.

قراءة ثانية في قضية «القديم والجديد»

مع مصطفى صادق الرافعي

بغداد عبدالرحمن

لعل من أهم القضايا التي أثارها مصطفى صادق الرافعي في زمانه، والتي كانت مثاراً للخلاف الشديد بين النقاد وعلماء الأدب، هي قضية القديم والجديد. وهي قضية قديمة لا مجال للشبهة فيها أو الشك في صحتها بحكم علاقتها بالعمل الأدبي وأدواته، والتي أصبحت فيما يذهب إليه محمد محمد حسين وغيره: "معركة بين الذين يريدون أن يحملوا المسلمين والشرقيين على حياة الغرب وعاداته من المستعمرين ومن الذين يعينونهم على ذلك من المأجورين أو المفتونين أو السذج والمغفلين، وبين المحافظين الذين يدافعون عن دينهم وتراثهم سواء منهم من يفعل ذلك عن تدبر ووعي، ومن يفعله عن تمسك بما ألف وعكف على ما ورث"(1). ومنشأ هذه المسألة، يعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين شهدت الأمة العربية إبان نهضتها حركة لإحياء التراث العربي بعد أن طمره الحكم العثماني بطبقة كثيفة من النسيان والإهمال والركود، فحاول الأدباء والعلماء العودة بالناس إلى أمهات الكتب التي ألفت في عهد الفتوة والازدهار، إلى أن دبَّتْ حركة جديدة في الذوق الأدبي، وحدث تطور ملموس في محيط النقد الأدبي. هذا ما نتج عنه خلاف بين أنصار القديم ودعاة التجديد، فالأولون استحسنوا بعث تراث الأقدمين الذي كان يتجاوب مع الناس ويساير أحداث ذلك الزمان، والآخرون أخضعوا ذلك التراث الفكري العربي إلى البحث العلمي الدقيق على سبيل الدراسات النقدية الحديثة، إشارة منهم في وضع بذور التجديد التي ما هي في الحقيقة إلا تطور طبيعي للقديم. وكان حتميّاً أن يستتبع ذلك الخلاف في مسائل الأدب، خلافاً في المناهج النقدية بين الاتجاهين.

فبينما جمع أقطاب النقد اللغوي القديم كحسين المرصفي، ومحمد المويلحي، وعلي المرصفي، بين مقاييس بناء القصيدة القديمة في فنونها وأوزانها، وبين الالتزام بالأساليب العربية القديمة في بلاغتها وفصاحتها، إذا بالنقاد المحدثين يعنون بالتجربة الشعرية والصياغة الفنية، وكانوا غالباً ما يوقفون نقدهم على الناحية الموضوعية والأخذ بالمقاييس الغربية(2). ومن أجل ذلك، انصرف كل أديب شاعراً كان أم ناثراً إلى أن يكون فطناً ملماً بكثير من فروع المعرفة، بارعاً قديراً على انتقاء الألفاظ وإدراك المعاني الجديدة والاهتداء إلى الأفكار المبتكرة. فتعين بعد ذلك، اتساع ميادين النقد واستعداد الأدباء ذهنياًّ للابتكار والإبداع. وأثناء هذا الصراع الحاد وعلى أساسه، وقف مصطفى صادق الرافعي يتحسس الآراء والرؤى، لتبدأ قصته مع ما سماه هو في كتابه "تحت راية القرآن" بـ "المعركة بين القديم والجديد". وإذا كان لبّ الكتاب تلك المقالات التي دمغ بها الرافعي رحمه الله أستاذَ الجامعة المفتون بحضارة الغرب (طه حسين)، فإنه في مجمله ميدان معركة صاخبة طاحنة بين القديم والجديد، وبين أنصار هذا وأنصار ذاك. والرافعي ـ عليه رحمة الله ـ لا يستنكف أن يُنبز بأنه من أنصار القديم، بل يثبت ذلك ويعتز به.

إن مسألة “القديم والجديد” هي ولادة الأدب العربي، إذ عرفها منذ عصوره القديمة، وغدت من المسلمات التي لا ينكرها أحدٌ، لكن المشكلة تحددت أكثر في العصر الحديث، حين احتضنت جريدة "المقتطف" – في أواخر عام 1881م – الدعوة إلى العامية والاستغناء عن اللغة الفصحى، ثم هاجت المسألة على يد خصوم اللغة العربية في سنتي 1902م و1926م، وفي كل مرة كانت حركة التدمير في محاولة لإحلال عامية الجماهير محلّ العربية الفصحى تشتد وتقوى أكثر، بحجة – كما يذهب شكيب أرسلان: "أنها أقرب إلى الإفهام، ولكن منهم من لا يحاول هدم الأمة في لغتها وآدابها لا حُبّاً باللغة والآداب، ولكن علماً باستحالة تنصل العرب من لغتهم وآدابهم"(3) ونحو هذا النزوع، جاءت رؤية جبران خليل جبران الجديدة في شعاره: "لكم لغتكم ولي لغتي"(4). فيحار في أمره مصطفى لطفي المنفلوطي ويرجع ذلك إلى أنَّ جبران: "أعجمي يظن أن اللغة العربية حروف وكلمات، وهو لا يعرف منها غيرها، فينطق بشيء هو أشبه الأشياء بما يترجمه المترجمون من اللغات الأعجمية ترجمة حرفية، فإِنْ نَعَيْتَ عليه غرابة أسلوبه واستعجامه والتواءه على الفهم، كان مبلغ ما ينضج به عن نفسه أنَّ المعاني العصرية والخيالات الحديثة لا يستطاع إلباسها الأكسية البدوية، والأردية العربية، كأنما هو يظنّ أنَّ المعاني والخواطر خطط وأقسام، وأنصبة وسهام، هذا للشرق، وهذا للغرب، وهذا للعرب وهذا للعجم"(5).

فلا ريب - بعدذلك- أن نجد وجوه الخلاف والتباين بين الفريقين عميقة، فريق أراد تسويد اللهجات العامية في البلاد العربية، على حساب الجملة العربية، وآخر يرفض كل الحملات والمحاولات التي تستهدف إخراج لغة القرآن من ذاتيتها وخصائصها. وفي ذلك يقول حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية:

أَرَى لِرِجَال الغَرْبِ عِزًّا ومَنَعَةً/ وكَمْ عَزَّ أَقْوَامٌ بِعِزِّ لُغَاتِ

أَتَوْا أَهْلَهُمْ بالمُعْجزَات تَفَنُّناً/ فَيَا لَيْتَكُمْ تَأْتُونَ بالكَلِماتِ

أَيُطْرِبُكُمْ مِنْ نَاحِيَةِ الغَرْبِ نَاعِبُ/ يُنَادِي بِوَأْدِي في رَبِيعِ حَيَاتِي

ولَوْ تُزْجِرُونَ الطَّيْرَ يَوْماً عَرَفْتُمْ/ بِمَا تَحْتَهُ مِنْ عَثْرَةِ وشَتَاتِ

أَرَى كُلَّ يَوْم بِالجَرَائِدِ مَزْلَقا/ مِنَ القَبْرِ يُدْنِينِي بِغَيْرِ أَنَاةِ

وأَسْمَعُ لِلكُتَّابِ في مِصْرَ ضَجَّةً/ فَأَعْلَمُ أَنَّ الصَّائِحِينَ نُعَلتِي(6)

وها هو أيضاً، خليل مطران يندفع مُدافعاً عن اللغة العربية في قوله:

لِنَعِشْ مَعَاشَ زَمَانِنَا ولْنَنْتَهزْ/ فُرَصَ النَّجَاحِ نَفُزْ بِهِ أَوْ نَسْلَمِ

لَنْ تَرْجَعَ العَرَبِيَّة الفُصْحَى إِلَى/ مَا كَانَ مِنْهَا فِي الزَّمَانِ الأَقْدَمِ

مَا لَمْ يَعُدْ ذَاكَ الزَّمَانُ وأَهْلُهُ/ والعَادُ والأَخْلاَقُ حَتَّى جَرَّهُمِ

إِنَّ التَّجَدُّدَ لِلِّسَانِ حَيَاتُهُ/ ومَنْ الَّذِي يُحْيِيهِ غَيْرَ المُقدَمِ

فِي عَصْرِنَا للضَّادِ فَتْحٌ بَاهِرٌ/ زِيدَتْ بِهِ فَخْراً، فَهَلْ مِنْ مَأْثَمِ(7)

ولقد حاول الأدباء والمهتمون إيجاد تبريرٍ حقيقي لتلك الانتفاضة التي عرفها الشرق في ذلك العهد، فجاءت الحلول المقترحة وردود الأفعال متباينة الاتجاهات، ووقف الرافعي بمعية المحافظين يواجه كل محاولة تجديد أو تعديل، لأنَّ في اعتقادهم: "دعاة التجديد يكاثرون المحافظين بما عرفوا من آداب العرب ومن فنونه الأدبية المستحدثة، ويسخرون من جهلهم، ويرمونهم بالجمود والكسل. وكان المحافظون في الوقت نفسه يتهمونهم بأنهم يغُضُّونَ من قدر التراث الذي خلفه أجدادهم لأنهم يجهلونه، ويشيدون بمذاهب الأدب الغربي وفنونه لأنهم لم يعرفوا سواه. وهم عندهم بين خبيث مأجور على قومه يريد أَنْ يهدم كيانهم ويمحو طابعهم وبين مغفل يحكي ما أملي عليه عن غير وعي، وكلاهما معين للغرب على قومه، يلين اللقمة الصلبة تحت أضراسهم"8. وبهذا الاعتبار كانت اللغة العربية – عند الرافعي – اللغة المقدسة، ولغة القرآن، وديوان التاريخ العربي. لذلك كان أدنى تصور نادى إليه هؤلاء الأدعياء هو طعن كلام الله، وكامل التراث اللغوي والأدبي. ولعل هذا المناخ الذي ألفه الرافعي، هو الذي حمله دائماً على الذَّوْد عليه، مُفْتَخِراً مُعْجباً، حيث يقول: "إِنَّ هذه العربية بُنيتْ على أصل سحري يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت، لأنها أَعدَّتْ من الأزل فَلَكاً دائراً للنَيِّرَيْن الأَرْضِيَيْن العَظِيمَيْن: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم كان فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أَخْذَة السِّحْر"9.

أمَّا المجددون، الذين دعوا إلى تعديلات من شأنها أنْ تجعل اللغة أكثرَ تلاؤماً مع مستلزمات الحياة المعاصرة، فإنَّ الرافعي لم يتعارض معهم بل حرص على ضرورة: "وجوب الإصلاح اللغوي، وجوب أَنْ يكون للغة في هذه النهضة مجمعٌ يحوطها ويضع لها ولو على الأقلّ – كمصلحة الكََنْسِ* والرَشِّ**(10)"(11). وقد واجه الرافعي ذلك الفريق بالسلب والنقص، حيث عليه قصورَ مُناصريه وضعفهم مُعْلِناً أنه: "لا ينقصنا من اللغة شيء، وهي على ما هي من أحكام الأوضاع والتراكيب والاتساع للمفردات، ولكن ينقص هذه اللغة رجال يعملون ويحسنون إذا عملوا ويعرفون كيف يتأتى عملهم إلى الإحسان"12.وذلك حين كان تحامل أنصار الجديد – كما يقول – على اللغة العربية ومحاولتهم طمس معالمها، في اعتقادهم ظاهرة من ظاهرة التجديد13. ومما زاد الرافعي إيماناً بصحة موقفه هو – كما يقول – أن: "كل المجددين رجعوا الآن عن رأيهم في المدنية الأوربية وأقروا أنها مدنية زائفة"14. عندئذ أحسَّ الرافعي وأنصار الصفاء اللغوي وحماة الفصحى بتقدير ذلك الدور والعمل به، إلى حدّ إعجاب الرافعي بنفسه حيث قال: "يخيل إليَّ دائماً أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبداً في موقف الجيش"15. على أن هذا الأمر كله لم يغب عن عميد الأدب العربي الأستاذ طه حسين حيث يشير إلى أنه: "كان الكتاب والشعراء – أول القرن الماضي وأثناءه- يرون أنهم قد أدوا ما عليهم من حق البيان إذا أرادوا هذه الجمل والألفاظ التي كانوا يديرونها على نحو من البديع مألوف، وكان الناس يطمئنون إلى هذا النحو من الأدب تقبل غليه الخاصة وتنصرف عنه العامة إلى أزجالها ومواويلها وإلى قصصها وأحاديثها"16.

وبعد ذلك بدأت حركة أدبية جديدة تدبُّ في الذوق الأدبي، وأن الناس أصبحت تتفهم جيداً مهمة الأدب حين ينزع إلى أنه ترجمة عن النفس وتفسير للحياة وليس صناعة لفظية جوفاء تؤثر فنون البيان والبديع على حاجة الناس إلى الجمال الفني والذوق الراقي. من أجل ذلك، اهتم الرافعي بمعرفة هذا الجديد الذي شغف الأدباء تغنياً به، فجاء تقديرهم من أن اللغة: "كمجموعة من الألفاظ أو الكلمات، مادة الخلق الأساسية، خاصة وأنَّ هذه الألفاظ متحدة بمدلولاتها في الذهن"17 وليس مادة محافظة على ذوق استعاري قديم، وعندها أدرك الرافعي أنَّ تسخير اللغة لأغراضهم هي الخاصية التي وقفوا عليها، بعد محاولة تطويع ألفاظها وأساليبها لحاجاتهم ونظرتهم التجديدية. ومن هذا المنطلق، جاء تصور الرافعي للمذهب القديم الذي لا يراه إلاَّ في: "أن تكون اللغة لا تزال لغة العرب في أصولها وفروعها"18 بحيث يمضي مدافعاً عنها، داعياً إليها، متعلقاً بأطرافها مؤمناً بأنها تبقى أبداً: "تحمل ما حملت عليها لأنها صافية كالحق منزهة عن الريب كالواقع"19. ثم ينتهي من ذلك إلى القول بالمذهب الجديد: "لو تأمل أصحابنا تاريخ هذه اللغة وآدابها لرأوا في كل عصر من عصورها شيئاً كان يمكن أن يسمى مذهباً جديداً، ولكن لم نجد أحداً سماه كذلك ولا بناه على أنه شيء بنفسه"20. ويتعمق الرافعي في هذا المجال أكثر فأكثر، ويفطن إلى العلة في نشوء المذهب القديم والمذهب الجديد الذي لا يراه إلا في: "الضعف في لغة والقوة في أخرى، وأن صاحب المذهب الجديد أخذ بالحزم في واحدة وبالتضييع في الثانية، وأكثر من الإقبال على شيء دون الآخر، فتعلق به وأمضى أمره عليه وحسنت نيته فيه واستمكنت فصارت إلى نوع من العصبية للأدب الأجنبي وأهله"21.

هذه هي مآخذ الرافعي في موقف أنصار المذهب الجديد من اللغة العربية، وهي مآخذ جعل سمتها البارزة في كونهم اتهموا اللغة العربية بالقصور في التعبير عن الحاضر والمستقبل. والحقيقة أن اللغة شيء طبيعي فينا، وأنها منا أكثر مما هي لنا إذ كانت في الجاهلية لغة راقية بأطلالها ورثائها وفخرها وحكمها، في حين ننظر إليها الآن على أنها لغة جمود وفقر، ويكفيها فخراً أنها لغة القرآن، التي كلما تقدمت وثبة إلى الأمام شهدت تراكيب ومفردات جديدة، وقصص وصور ورموز وفيرة، وبذلك: "وصفت على إثرها باللغة الشريفة، والكريمة، واللطيفة، وصار العلم بأسرارها جزء لا يتجزأ من السلوك وفقاً لأحكام الشريعة"22.

ولعل هذا الموقف المثالي من اللغة، جعلها تكسب صفة القداسة والفضل، وهو الموقف نفسه الذي يخلص إليه رولان بارت في اللغة ودورها، حين يقرر في قوله بأنها: "ليست زاداً من المواد بقدر ما هي أفق"23. ثم حصرت - بعد ذلك- في المقامات وشعر المناسبات، فوقفت عن السير وضاقت، فأغلقت أمامها السبل وأمست لغة الضعف. وعلى ذلك سارت إلى مرحلة النهضة، حين حلّ الوعي العربي، واحتك العرب بالغرب، فسايرت اللغة العربية نضج الوعي الإنساني العالمي ومشت إلى الأمام لا تعرف الوقوف. وعندها أضحت اللغة هي، بالحرف الواحد، مادة الأديب لينطلق بعدها في: "اختيار قاموسه وتطويع مادته بحيث يكون كل يوافق كلاًّ، بلا فضول، ولا ضيق، ولا تعسر ويرتفع الأديب في نظر الناقد ما كان قد عبر بقدر ما أحسَّ"24. وسواء قبلنا أو رفضنا هذه المعطيات، فإن الرافعي رأى ضرورة التمسك بالعربية وبتاريخها، لأنه ماض مسترسل في الحاضر، معبر في آنية عن تاريخ جارف من الأحداث والعواطف، لتغدو اللغة منعشة ومنشطة للفكر، ووسيلة للإبداع الفني الخصب، لا أداة للتصنع الأجوف الذي طربت له الآذان عهوداً من الزمن. ذلك ما يحدده الرافعي في قوله: "إنَّ الأمة لا تحيا إذا ماتت لغتها، ولن تموت لغة أمة حية، وما دامت العربية على أصلها فأدبها ما أخرجه لنا السلف، لا ينقص منه ولكن يزاد عليه بما تمثله الأيام وتبتدعه الأفهام وتستأنفه القرائح وتتدبره العقول ويمحصه التحقيق وتبدعه مذاهب النقد"25. ولسنا في حاجة إلى التعقيب على هذا الكلام بأكثر من حاجتنا إلى التساؤل عن صحة اتهام النقاد الرافعي بالتعصب إلى القديم، إلى درجة أنهم حجبوا عن نفسه حقيقة الجديد، وهو الداعي إلى تجديد وإثراء اللسان العربي ليتمتع إلى الأبد بقوى المناعة والحياة.

لقد تتبعه النقاد في هذه المسألة وتعقبوه فيما عرضه، وهو الذي كان: "تملكه لزمام اللغة لا يقلّ عن تملكه لزمام المعاني، وبصره بجمال أساليبها لا يقل عن بصره بالقوى الكامنة في حائق الأشياء"26، وبتتبع ما قاله النقاد، نرى أن كثيراً مما ساقوه يحتاج إلى مناقشة ومدارسة. فكم غفلوا عن فضائل ونسوا زيادات أتى بها الرافعي، بل كم اتخذوا من ألفاظه وعباراته مجالاً للتهمة والتشنع، متحيفين على الرجل متناسين ما بين أيديهم من مقاييس فنية، ولكن في مقابل ذلك لا ننكر صحة بعض ما عرضوه، على أنّ الرافعي سار – في مواقفه – على ضوء من أفكار غيره، وانتفع بآراء من سبقوه. وسنعرض لكل ذلك من خلال بعض النماذج الكاشفة. ما ادعى فيه النقاد بأن الرافعي كان يسير إلى الأمام ورأسه ملتفتة إلى الوراء، ومن ذلك جاء تعقب طه حسين للرافعي في مسألة الذوق الأدبي قائلاً: "ويدور المختصمون جميعاً حول الذوق، دون أن يحددوا هذا الذوق. أليس من حقنا أن نسأل عن هذا الذوق ما هو؟ وما حدّه؟ وما الذي يريدون منه؟ ولا تقُلْ أن الأستاذ الرافعي قد يقول في الذوق: وأنت تعلم أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وأنَّ الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأنَّ النقد إنما هو الذوق والفهم جميعاً. نعترف بأننا لا نفهم هذا الكلام، بل نعترف بأننا نعتقد أنّ هذا الكلام ليس من شأنه أن يفهم"27.

ولعل في هذه الغمرة من الجدل، نسي العميد أن يحكِّم علمه و"ذوقه"، وهو الكاتب الذي يجب أن يلمح أدنى فرق بين قول وقول. مع أنَّ المعنى دقيق وجليّ. فمصطفى صادق الرافعي غيور على الأدب العربي وعلى لغته، متبنٍّ لفكرة الإبداع والتجديد منذ زمن بعيد، ولما أعلن بأن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، إنما أراد بذلك – كما بينه العميد – أن يكون الذوق والفهم لفظان يدلان على معنى واحد، غير أن تحليل الرافعي للمسألة هو كالآتي: حتى يكتمل ذوق الإنسان للفنّ المطلوب، لابد أن يمر بمرحلة أولى تدعى مرحلة الذوق الاستطلاعي أو الاستكشافي، يحاول من خلاله التعرف وفهم – من بين الأعمال والآثار- العمل الذي يجذب إليه، ليتسنى له – فيما بعد – تذوقه متمثلاً في نفسه، دون أن يغفل عن ربطه بالواقع. وعندئذ يحلّ مقياس الحكم والنقد ليحدد من خلاله ما في ذلك النص الأدبي من قيم مقارنة مع النصوص الأدبية الأخرى.

وبذلك يكتمل في الإنسان الموهوب الطبع والذوق في إجادة تأليف الأعمال الفنية وأسباب استحسانها أو تأثيرها في المتلقي28، كما يقول بدوي طبانه. وعلى أساس هذه النظرة الموضوعية إلى الذوق الفني، فإننا نرى أن الرافعي رفع من شأن الذوق انطلاقاً من أنه أداة لجمال النص الأدبي والحكم عليه، ليتهيأ له فيما بعد تنمية ذوق الناقد الذي لا يستطيع الناقد ذاته الانفصام عنه. وبذلك، يبقى الذوق السليم: "عدة الناقد ووسيلته الأولى، فإليه يرجع إدراك جمال الأدب، والشعور بما فيه من نقص، وإليه نلجأ في تعليل ذلك وتفسيره، وبه نستعين في اقتراح أحسن الوسائل، لتحقيق الخواص الأدبية المؤثرة"29. ويبقى الذوق الأدبي – رغم تطوره من عصر لآخر، ومن أديب إلى غيره – بقاء الفنّ وخلوده على الزمان، تتداوله الأجيال عبر أزمنة متغايرة، وهنا – كما يقول أحمد كمال نشأت – عرف الرافعي من خلال مصنفاته: "كيف يثير في نفس المتذوق لذة فنية... وقوة يقرر بها الأدب من حيث هو فنّ"30.

وبعد ذلك، تناول الرافعي مسألة التجديد وعلاقتها بالأدب العربي دراسةً وتحليلاً. وقد كانت جهوده في جملتها وقفاً على عرض مفهوم المذهب الجديد عند العرب استناداً إلى الأدبين الأموي والعباسي إذ يقول: "وقد نقل عبد الحميد الكاتب أشياء من الأساليب الفارسية فأدخلها في كتابته وترجم العلماء عن اللغات المختلفة أكثر مما يترجم كتاب هذه الأيام، وظهرت الأفكار المتباينة، وتعددت الأساليب في الكتابة، وافتنَّ المتأخرون من القرن الرابع إلى التاسع في فنون من الجدل والهزل، وفي نكتٍ بديعية لم يعرفها العرب إلى أن اختلط لسانهم، وفي كل ذلك لم يقل أديب ولا عالم ولا كاتب أنَّ له مذهباً من مذهب قديم، لأنهم كانوا أبصر باللغة وأقدر على تصريفها وأعلم بحكمة الوضع فيها وأحرص على وجود الفائدة منها والانتفاع بها"31. ومعنى ذلك، أنَّ الرافعي لا يريد حصر فكرة المذهب الجديد في عصر من العصور الأدبية، بل يخلص إلى أنه كلما احتجنا إلى تراثنا القديم في كل عصر، كنا في حاجة أَلَحّ إلى بناء معان ومشاعر جديدة. ومن ثم العمل على صهرها في بوثقة واحدة لإنتاج أعمال أدبية راقية، وفي ذلك الشأن يقول ابن شرف القيرواني المتوفى سنة 460ﻫ:

قُلْ لِمَنْ لاَ يَرَى المُعَاصِرَ شَيْئاً/ ويَرَى لِلأَوَائِلِ التَّقْدِيمَا

إِنَّ ذَاكَ القَدِيمَ كَانَ جَدِيداً/ وسَيَغْدُو هَذَا الجَدِيدُ قَدِيمَا32.

ثم نجد الرافعي بعد ذلك، يدعو إلى الانفتاح على العالم المتطور الذي يراه سبيلاً آخر، يكفل لاتجاهاتنا الأدبية الخلود والبقاء، وفي ذلك يقول: "وإنْ أرادوا بالمذهب الجديد العلم والتحقيق وتمحيص الرأي والإبداع في المعنى، على أن تبقى اللغة قائمة على أصولها، فإننا لا ندفع شيئاً من هذا ولا ننازع فيه، بل هو رأينا، بل هو رأي الحياة، بل هو قانون الطبيعة"33. على أننا نخلص في الأخير، إلى أن الرافعي كلما خاض في الكلام عن الجديد، إلا وفرض مقياس إبقاء اللغة على أصولها وجذورها، لأن اللغة – في الحقيقة – ليست شيئاً خاصاً بفرد، بل ملكاً مشتركاً بين الجميع، وعليه من فقد لغته فقد ضاعت إنسانيته وشخصيته. وظلَّ الرافعي دائمًا لا يعمل إلا بهذه القاعدة، ولا تعمل فيه إلا هذه القاعدة لأنه في نظره يبقى: "للعربية سرها في تركيبها وبيانها وإذا أهملناه صارت العربية كلام جرائد يصلح لشيء ولا يصلح لشيء آخر، يصلح ليقرأ اليوم ويلقى ولا يمكن أن يصلح للغد والاحتفاظ به ليكون ثروة للغة والبيان"34.

ولعل ما أجاد فيه الرافعي وأصاب، هو تلك الموازنة التي انتهى من خلالها إلى حقيقة لا نستطيع المشاحة فيه، حيث وضعنا أمام خيار مسؤول اتجاه أدبنا وعلومنا وكتبنا، حين أعلن أنه علينا إمَّا: "أنْ نحرص على الأصل الصحيح القوي الذي في أيدينا ونحتمل فيه ضعف الضعفاء ونصبر على مدافعتهم عن إفساده حتى ينشأ جيل أقوى من جيل وتخرج أمة خير من أمة فتجد الأصل سليماً فتبني عليه ونزيد فيه. وإمَّا أن ندع الصلاح للفساد ونتراخى في القوة حتى تحول ضعفاً فإذا جاء من بعدنا، وجد الأصل فاسداً فزاده فساداً، وهلمَّ إلى أنْ تصير هذه العربية في بعض أزمانها لعنة على كل أزمانها فتنسخ جملة واحدة ويصبح الكلام المأنوس الذي نراه اليوم سهلاً ليناً"35، وهذا لعمري هو حال لغتنا الآن.

وننتهي من هذه الجولة، بعرض أقوال وشهادات نسوقها في هذا المقام للتدليل مرة أخرى على أن الرافعي أديب داعٍ إلى التجديد أكثر منه إلى القديم. وفي هذا المنحى يأتي قوله: وليس يكون الأدب أدباً إلا إذا ذهب يستحدث ويخترع على ما يصرفه النوابغ من أهله"36. وكذا قوله في ناحية أخرى: "وهو – يعني الأديب – كلما أبدع شيئاً طلب الذي هو أبدع منه"37. وقوله أيضاً: "والتجديد في الأدب إنما يكون من طريقتين: فأما واحدة فإبداع الأديب الحيّ في آثار تفكيره بما يخلق من الصور الجديدة في اللغة والبيان، وأما الأخرى فإبداع الحيّ في آثار الميت بما يتناولها به من مذاهب النقد المستحدثة وأساليب الفنّ الجديدة. وفي الإبداع الأول إيجاد ما لم يوجد، وفي الثاني إتمام ما لم يتمّ، فلا جرم كانت فيهما معاً حقيقة التجديد بكل معانيها، ولا تجديد إلا من ثمة، فلا تجديد إلا مع القديم"38.

وخلاصة هذا المبحث، أنَّ الرافعي يقرّ بالتجديد مذهباً، داعياً إليه في وقفات عديدة. لكنه يريد التجديد الهادف الذي يحسن الاستفادة منه على أساس مبدأ الانتقاء والاصطفاء الذي يلائم فكر الأمة وانتماءها إلى العروبة والإسلام، هذا ما جعل الرافعي – كما يقول أبو القاسم سعد الله: "كاتباً مفضلاًّ عند كثير من الجزائريين لأنه عُرِفَ بالمحافظة وهو محافظون، وعُرِفَ بالدفاع عن الإسلام وهم غيورون على دينهم"39. وإذا كانت قضية القديم والجديد لم يعتن بها الأدباء المتقدمون عناية واضحة، فقد كانت سعيدة الحظّ مع طبقة الأدباء المحدثين، تلك الفئة التي تمثلت فيها ثقافة مزدوجة غربية وأصلية، حيث أخذت عن الأولى مناهجها المنظمة وأهدافها من الدراسة وفهمت ذوق الثانية ومعاييرها الأدبية ومقاييسها الفنية.

وعلى ضوء ذلك كله، نعرض لآراء بعض النقاد والأدباء المهتمين بهذه القضية، مستهدين من وراء ذلك معرفة وجه الحقّ في كل ما ذكر وقٌرِّرَ. فالأستاذ شوقي ضيف بعد تحليل ودراسة وتناول للمسألة، يقف عند نتيجة حتمية يقرر فيها قوله: "وإذن فليجدد شعراؤنا في مضمون قصائدهم كما يريدون، ولكن ليصوغوا ذلك في صياغة تروقنا، أو بعبارة أدق ليكن من أهم أهدافهم أن لا يقعوا بعيداً عن صياغتنا الفنية، بل عن الصياغة التي عاش فيها شعرنا قديماً وحديثاً، وليعرفوا أن الصياغة عبءٌ وجهدٌ، وليست لقىً في الطريق، وأيضاً ليست عبادة للتقليد، إنما هي نمو وتحول مع فهم أسرارها وتجليها بروح جديدة ومعان جديدة، فالقديم يلتقي مع الجديد، والماضي يلتقي مع الحاضر التقاءً مثمراً، لا تخذل فيه الصياغة المعنى، بل تريده روعةً وبهاءً"40.

ولعل بعد قراءة تحليلية لهذا الموقف، يفصح لنا عن دعوة الناقد الأديب عموماً والشاعر خصوصاً، ألاَّ يعيش – من خلال أدبه وفنه – حياة منفصلة عن ماضيه، بل فليجعل القديم نقطة بدء لها، يرى من خلالها الحياة الإنسانية وكيف تتجدد، والأدباء وكيف أجهدوا أنفسهم في إبداع نماذج رفيعة، وعندئذٍ نكون قد وصلنا إلى العتبة التي يمكن أن تدلف بنا إلى عالم يلتقي فيه الحديث بالقديم. وكنا نرغب أن يناقش الأستاذ شوقي ضيف نوعية هذه الصياغة الجديدة التي ما فتئ الأدباء يغزون بها عقولنا وقلوبنا اليوم، فنحن لا نرى فيما يكتب في أيامنا هذه تحت اسم أدب وشعر وقصة، إلاَّ شيء مليء بالغثاثة والتفاهة، استغل كمعول لقتل الفصاحة وتجاهل البلاغة. وهذا الموقف الذي نشدوه، لا ينبع عن تعصب فكري، لا عن اعتراض لمنهجية الدكتور الصائبة في مناقشته للقضية المذكورة، وإنما هو القول بمغالطة واضحة تزيد يوماً بعد يومٍ في اتساع الفجوة بين الأمة العربية وبيان أسلوبها العربي وفصاحته.

وعلى النقيض من ذلك، نجد الأستاذ عز الدين إسماعيل بعد التساؤل الذي وضعه حول: أيهما تقديراً الأدب القديم أم الحديث؟ ينتهي إلى: "أنَّ النشاط المعاصر هو النشاط الوحيد المهم حقاًّ بالنسبة لنا. وأدب الزمن القديم لا قيمة له عندنا إلاَّ أنه يغير الحياة التي نحياها. فالأدب يُكْتَب أولاً لهؤلاء الأحياء القادرين وحدهم على أنْ يستخرجوا منه الحدّ الأقصى من كمية المعنى. والنشاط الأدبي جانب حيوي من جوانب الحياة، فلا يستطيع إنسان أنْ يحيا حياة ممتلئة دون أنْ يهتم بكل نوع من أنواع النشاط المعاصر"41. ويضيف – بعد ذلك – أنَّ دور الشاعر الجديد لابد أن يظلّ: "يرتبط بأحداث عصره وقضاياه لا ارتباط المتفرج الذي يصف ما يشهد وينفعل بما يصف إنما هو يعيش تلك الأحداث وهو صاحب تلك القضايا"42. ومن ذلك تأتي النتيجة التي يقف عندها في قوله: "فشعرنا القديم يتجه إلى تسجيل المشاهد والمشاعر وليس امتداداً وراءها. أما الشعر الجديد فمحاولة لاستكناه الحياة لا مجرد الانفعال بها"43.

ومعنى ذلك، أن الأستاذ يحاول فرض كل ما هو موروث على الواقع الجديد، ومن ثم فإنه لا يسجل أدنى اهتمام للماضي، بل يذهب أبعد من ذلك إلى أن يوصي بالتعامل مع الأدب الجديد باعتباره مصدر المعرفة الوحيد. وإذا كان لنا أن نخالف الأستاذ في شيء، فإنا نرى أن أدب الزمن القديم ظلََّ وسيظلّ تلك التجربة العملية الفكرية التي لم تخرج عن الإطار الذي حُدِّدَ لها في كونها عنصراً شاملاً يستحيل الاستغناء عنه لأيّ حركة حديثة وجديدة، وعليه فإننا لا نغالي إذا قلنا: بفَحْصِ ونَقْدِ تلك الآراء المعاصرة التي يحرص الأدباء على الاستفادة منها لنتحمل بصدق – فيما بعد - مسؤولية التصور الشامل لمواضع الخطأ والصواب في أدبنا العربي. ولعل هذا - في نظرنا - ما قصده بعض الأدباء والكتاب والنقاد من خلال إثارتهم لقضية الحداثة التي أصبحت مبرراً كافياً للخروج إلى عالم من التهريج والعبث. ومن هذا كله، نذهب مع الأستاذ محمد إقبال حين إشارته إلى الأبعاد الحقيقية لتلك القضية القائمة على: "أنها رؤية مغلوطة تجعل المقدمات نتائج والنتائج مقدمات، وتخلط بين مستويات متباينة ومن ثم فإنَّ كلّ حكم أو تقييم صادر عنها سيكون متأثراً بمعطيات موشوماً بخلطها وغلطها"44.

ومما عرضناه، يتبين لنا أنَّ التجديد مطلوب، وأنه إذا أردنا استبقاء أواصر الودّ بين القديم والجديد، علينا ألاّ ندعو للانعزال عن الثقافة والآداب العالمية،بل نتواصل معها لاحتضان تجارب جديدة وتصيد مقاييس أدبية ونقدية ذات بال وقيمة، وألاَّ يتخلف الأديب والمثقف العربيين عن عصرهما، بأن يخلقا بينهما وبين واقعهما حجاباً كثيفاً، فإن معنى ذلك جمودهما وانعدام قدرتهما على التأثير. ولعل هذا الموقف نفسه الذي يتبوَّأُهُ الأستاذ محمد العشماوي بقوله: "أن تراثنا العربي القديم سيظلّ يشغل الباحثين المحققين فترة طويلة، ذلك أن قدراً كبيراً من هذا التراث ما يزال بحاجة إلى أنْ تتضافر من أجله الجهود لتخليصه من التحريف والتصحيف، وتنظيمه تنظيماً يضمن سلامته من العبث والفوضى، ويوفر الثقة للباحث وينأى به عن الريبة والشك"45.

إذن، فالتزامنا جليّ في الوحدة الجامعة بين القديم والحديث الذي يعكف – كما يقول العشماوي - على غايتين: "إحداهما إحياء القديم وإثراؤه وثانيهما توضيح الحاضر وتوجيهه"46. وعلى هذا الأساس من الوسطية والاعتدال بين الموقفين، نسوق آراء ارتبطت بمحاولات رشيدة، أخرجت الأدب العربي القديم من سجن القوافي الملتزمة والجمل البيانية المسجوعة التي اتسم بها ردحاً من الزمن. وأولها موقف طه حسين الذي يحدد لنا خصائص تلك المسألة بقوله: "بأن القصد أساس الخير في كل شيء ولسنا أبناء القرن الخامس للهجرة، بيننا وبين الماضي أسباب متصلة وبيننا وبين المستقبل أسباب ستتصل، فما لنا لا نحتفظ بالمكانة التي وضعتنا فيها الطبيعة، فلا نسرف في التقدم، ولا نسرف في التأخر؟ لا أمقت القديم وآنف من الحديث، وإنما أرى أني وسط بين القديم والحديث، وأرى أنَّ لغتي يجب أن تكون مرآة لنفسي. ولن تكون لغتي مرآة صادقة لنفسي إذا كانت قديمة جداًّ أو حديثة جداًّ،وإنما هي مرآة صادقة لنفسي إذا كانت مثلي وسطاً بين القديم والحديث"47. ثم لا ينأى هذا الرأي عن نظرة عباس محمود العقاد للموروث، حين يرى أن التجديد ليس هو إنكار فضل العرب أو تعمد الخروج على الأساليب العربية، ولكنه هو إنكار أوهام الذين يحصرون الفضل كله في العرب، دون أمم المشرق والمغرب من سابقين ولاحقين،...  وليس التجديد أن نضرب عن العرب، لنقلد الإفرنج، وننظم كما ينظمون، وننقد كما ينقدون، لأنَّ الإفرنج يخطئون في فهم الأدب كما يخطئ الشرقيون، ويأبون على طائفة منهم أنْ تقلد الآخرين48. أما محمود تيمور، فلا يخرج على نطاق رؤى سابقيه، بل يخلص إلى أننا: "في حاجة إلى مجددين يشقون في الحياة آفاقاً مجهولة، ويبشرون في المجتمع بقيم لم يكن مألوفة، فتلك سنة التطور والتقدم، وليس من سنة الوجود مناص، ولكننا في حاجة كذلك إلى من يدعم حياتنا الحاضرة بتقاليدها الموروثة، ريثما تقوم بإزائها حياة جديدة مأمولة، فالهدم قبل البناء شطط، والبناء على الخواء لا يقوم"49.

وقد ساير الاتجاه ذاته، نقاد ودارسون آخرون اتجهوا في تعليل زوايا القضية، وتعليل ما رأوا فيها من منطق وموضوعية، بدءً بالأستاذ فؤاد مرعي الذي انتهى إلى: "أنَّ الكُتَّاب المجددين هم أولئك الذين يؤصلون أفضل تقاليد الماضي ويقدمون إلى جانب ذلك، كلمتهم الجديدة الخاصة بهم. إنَّ التجديد في الأدب يشبه ما يحدث في الفكر العلمي حيث يتمّ تملك خبرة الماضي تملكاً إنتقادياً ثم يجري تكميلها وإغناؤها وتغييرها والارتقاء بها إلى مستوى أعلى"50.

ثم أوسع الأستاذ فتحي أحمد عامر هذه النظرة التي عَدَّهَا أساس تغير عملية التذوق الأدبي، وعلى أنها لم تكن إلاَّ خيراً وبركةً على الأدب في توجيهه وجهة سديدة، إذْ أنها أفادت المحافظين والمجددين معاً، وانتهت إلى شيء من الاعتدال والتصالح والتوفيق، وفي ذلك يقول: "وليس من التطور المحمود أن يخرج بعض الدارسين على الموروث من التقاليد الأدبية والنقدية جملةً وتفصيلاً، فذلكم ضربٌ من الخطل في الرأي، والتهور الأحمق الذي لا يليق بجلال الماضي الأدبي والتاريخي، وليس من المعقول أو المقبول أن يظلّ بعض الباحثين سجناء الماضي، يرفضون ما عداه، ولكن المنطقي الذي يرتضيه العقل الباحث ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً هو أنْ نحترم التقاليد والموروثات الأدبية عند كل الشعوب والأمم، ثم يضاف إلى هذه الموروثات ما يجد للعقل الباحث المستنير، وما تتطلبه تجارب العصور المختلفة من ألوان التعبير، ومختلف فنون القول"51. في حين يذهب الأستاذ أحمد سليمان الأحمد إلى توجه يريد من خلاله التأكيد على حتمية وَصْل الماضي بالحاضر، أو توفير التعادلية الأدبية، فلا روح المحافظة يُسْتَغنى عنها، ولا شروط النهضة يُسْتَهان بها، بل نترك مَجْرَى أدب العروبة الموروث لا ينقطع مع الإبقاء على مقومات حياتنا المعاصرة، وثمة يستبين لنا ما سموه بتجديد "المحافظين": "نحن إذن أعداء الانفصال عن القديم بمعناه الخيّر. إننا بالأحرى مؤمنون بأنَّ هناك استمراراً في التطور – الكمي والكيفي – لا تنفصم عُرَاه، ولا يقف عند حدّ مرسوم له. إنه تطور يواكب الحياة، وما دام أحدهما موجوداً فالآخر موجود"52.

ويتجانس مع كل هذا التوجه، ما أجمله الرافعي في كتبه، إذْ ما كان يعنيه في وسط هذه المعركة الأدبية والفكرية سوى نصاب اللغة العربية فيها، بصفتها كائنٌ حيّ تامّ التطور، لا يصل الحدّ إلى هدمه. وما عدا ذلك، من وجوه التجديد فأهلاً به على أيّ نحو يكون. ويكفي لتقرير ذلك أن تقرأ قوله – رحمه الله: "وأنا وأمثالي إنما نحرص أشدّ الحرص على هذه اللغة لأنها أساس الأمة الإسلامية فلا نرضى إِلاَّ أنْ يكون هذا الأساس ثابتاً متيناً لا يزعزعه شيء ولا يثلمه شيء ولا يضعفه شيء"53. ولعل حول هذا المعنى يتمحور قول محمد محمد حسين محذّراً من كمائن دعوة التطور اللغوي، والتي حصرها في: "تنشئة جيل جديد من بناء العرب لا يستطيع أن يتذوق أساليب البيان العربي وموضوعاته. وإذا نَفَرَ الشباب من شعر المتنبي وأبي تمام، بل من أسلوب القرآن، وانصرف عنه ثم عجز عن تذوقه وفهمه، فقد حكمنا على تراث الأدب العربي بالكساد ثم بالموت، وقد انقطعت صلة الأجيال المقبلة من أبناء العرب بقديمهم. وإذا انقطعت صلتنا بقديمنا أمكن أنْ نُقَادَ إلى حيث يراد بنا وإلى حيث لا تجمعنا بعد ذلك جامعة تجعل مناَّ قوة تُخِيفُ الكائدين وتَأْبَى على الطامعين"54.

ويعمق الأستاذ محمد زرمان الرؤية نفسها، بعد أنْ تبينت له حقيقة أنَّ الكاتب في العربية يكتب دون مراعاة لمقتضيات الفصاحة، ومتطلبات البلاغة، مما يشكل خطراً كبيراً على مستقبل الأجيال في ارتباطها بالتراث العربي، ديناً وأدباً ولغةً. وخلص إلى أنَّ هذا السبيل ينتهي إلى حفر هوّة عميقة بين الأدب والأسلوب القرآني باعتباره من أرقى أساليب العربية55.

وبعد هذا كله، فالصراع حول لغة الأدب بين أشياع القديم وفي طليعتهم مصطفى صادق الرافعي ومصطفى لطفي المنفلوطي وشكيب أرسلان، وبين أتباع التجديد من أمثال طه حسين وسلامه موسى والعقاد، إنما نخلص إلى نقطة تلاقي واحدة بين رواد المذهبين ألا وهي:

محاولة تطويع اللغة العربية لمجاراة الحياة ومقتضيات العصر، وإنْ كان الأول – على قول ضيف الله: "يجهد نفسه ويتعهد ألفاظه بالصقل والتهذيب، فإنَّ الثاني يهتم بالمعاني أكثر من اهتمامه باللفظ"56. وتبقى مسحة النموّ والخلود سياجاً يحدّ اللغة العربية قيماً ومُثًلاً، تنبئ بالمنهج الموسوم والتوجه الثقافي المطلوب الاحتذاء به، وهو ما يعبر عنه خليل مطران بقوله:

لِلضَّادِ عَصْرٌ بِالنُّشُورِ مُبَشِّرٌ / إِنْ تَتَّحِدْ شَتَّى القُوَى وتُنَظَّمِ57

وبعد هذا، فإننا مهما عرضنا من جهود الدارسين والكتاب حول هذه المسألة، إلاَّ أنَّ الباب لن يوصد في أوجه الباحثين والمتتبعين لها، لأنَّ معارف الناس ومداركهم في تطور مستمر، وما نرجوه هو أنْ يكون مبحثنا هذا قد أسهم موفقاً في الكشف عن بعض خفايا هذا الموضوع، التي تبقى انطلاقتها من بعثٍ واعٍ لتراث الأقدمين قبل وضع بذور التجديد، وذلك حتى تبقى الوسطية بين التوجهين هي المنزلة الفضلى في الاحتذاء المطلوب. وهذا ما يجمله فتحي أحمد عامر في قوله: "تلكم هي الطريقة التي نؤمن بها، ونرتضيها في دراستنا الأدبية والنقدية، لابد من النظر الطويل المتأني الرزين إلى ماضينا، نَعُبُّ من زِلاَلِه الصافي، ونروي ظمأنا، لأنه نبض حيوي في جسم الإنسانية، شارك في بنائها وتحضرها فترة طويلة من الزمان، فكيف لا نُيَمِّمُ وجوهنا شطره، نتروَّد منه، وننْعَم بخير ما فيه. ومن جهة ثانية نتطلع إلى مستقبلنا، فنطلع على خير الثمار النقدية والأدبية في عيون الآداب الأجنبية، فنغذي حاضرنا، ونعدّه إعداداً علمياً وأدبياً بطريقة منهجية لاكتشاف مستقبلنا، والتأثير في غدنا"58.

هذه نظرات سريعة في موقف الرافعي من مسألة القديم والجديد التي تحتاج إلى وقفات متأنية، حتى يتضح من خلالها مدى ما يرمي إليه الرافعي، ومدى ما وَفَّق فيه، أو أخفق. لكن الرافعي بمواقفه وأفكاره باقٍ على الأيام ما بقي للأدب ذكر ومقام، وما بقي في الأدباء من يرفعون رايته وينهلون من وحيه. وهو باقِ أيضا لأنه كان كاتبا غيورا على لغته، غيورا على دينه، غيوراً على عروبته، ومن يُؤْتَى هذه المزايا جدير بأن يُعَدَّ من الصفوة الذين يُحْتَفَى بهم، ويعطون حقهم من التكريم والإكبار.

جامعة تلمسان / الجزائر

abderrahmane-beghdad@hotmail.com

الإحالات

(1) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي، ج2، دار النهضة العربية، بيروت، ط3، 1392ﻫ/1972م، ص289.

(2) ينظر: عز الدين الأمين، نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1390ﻫ/ 1970م، ص122.

(3) الرافعي، تحت راية القرآن، مطبعة الاستقامة، القاهرة، ط4، 1376ﻫ/1956م، مقال "ما وراء الأكمة"، ص33 و34.

(4) ينظر: محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج2 ، ص275.

(5) مصطفى لطفي المنفلوطي، النظرات، ج1، دار الثقافة بيروت، ب.ت، ص14.

(6) حافظ إبراهيم، الديوان، ج1، دار العودة، بيروت، 1937م، ص254 و255.

(7) خليل مطران، الديوان، ج3، دار مارون عبود، بيروت، 1977م، ص218.

(8) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج2، ص273.

(9) الرافعي، تحت راية القرآن، ص29.

(10) *الكنس: كَسْحُ القمام عن وجه الأرض. **الرَّش: رَشُّكَ البيت بالماء،. ينظر: ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1374/1412ﻫ – 1955م/1992م، مادة: كَنَسَ، مج6، ص197/ مادة: رَشَشَ، ص303.

(11) الرافعي، تحت راية القرآن، ص55.

(12) المصدر نفسه، ص56.

(13) ينظر: الرافعي، وحي القلم، ج3، دار الكتاب العربي، بيروت، ب.ت، ص257.

(14) محمود أبو رية، من رسائل الرافعي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1969م، ص302.

(15) مصطفى الشكعه، مصطفى صادق الرافعي كاتباً عربياً ومفكراً إسلامياً، عالم الكتب، بيروت، ط3، 1983، ص5.

(16) طه حسين، حافظ وشوقي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1974م، ص366 و367.

(17) جودت فخر الدين، شكل القصيدة العربية، دار الآداب، بيروت، ط1، 1989م، ص173.

(18) الرافعي، تحت راية القرآن، ص9.

(19) الرافعي، السحاب الأحمر، دار الكتاب العربي، بيروت، ط8، 1402ﻫ/ 1982م، ص16.

(20) الرافعي، المصدر السابق، ص10.

(21) المصدر نفسه، ص11.

(22) جودت فخر الدين، شكل القصيدة العربية، ص78.

(23) رولان بارت، درجة الصفر للكتابة، ترجمة محمد برادة، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الدار البيضاء، ط3، 1985، ص33.

(24) أحمد كمال زكي، دراسات في النقد الأدبي، دار الأندلس، بيروت، ط2، 1980، ص19.

(25) الرافعي، تحت راية القرآن، ص75.

(26) شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر، ص247.

(27) طه حسين، حديث الأربعاء، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1974م، ص574.

(28) ينظر: بدوي طبانه، من قضايا النقد الأدبي، دار المريخ للنشر، الرياض، 1404ﻫ/1984م، ص105.

(29) فتحي أحمد عامر، من قضايا التراث العربي، النقد والناقد، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1405ﻫ/1985م، ص323.

(30) أحمد كمال نشأت، النقد الأدبي الحديث في مصر، 1983، ص77.

(31) الرافعي، تحت راية القرآن، ص12.

(32) ينظر: المصدر نفسه، ص205 (الحاشية).

(33) المصدر نفسه، ص13 و14.

(34) الرافعي، على السفود، دار العصور، القاهرة، 1348ﻫ/1930م، ص14 و15.

(35) المصدر السابق، ص15 و16.

(36) الرافعي، وحي القلم، ج3، ص206.

(37) المصدر نفسه، ص225.

(38) المصدر نفسه، ص355.

(39) أبو القاسم سعد الله، محمد العيد آل خليفة، الدار العربية للكتاب، ليبيا، ط3، 1984م، ص8.

(40) شوقي ضيف، في النقد الأدبي، دار المعارف، القاهرة، ط6،1981م، ص118.

(41) عز الدين إسماعيل، الأدب وفنونه، دار الفكر العربي، القاهرة، ط7، 1978م، ص86.

(42) المرجع نفسه، ص13.

(43) المرجع نفسه، ص13.

(44) محمد إقبال، جمالية الأدب الإسلامي، المكتبة السلفية، الدار البيضاء، ط1، 1978م، ص80.

(45) محمد زكي العشماوي، الرؤية المعاصرة في الأدب والنقد، دار النهضة العربية، بيروت، 1983م، ص49.

(46) المرجع نفسه، ص140.

(47) طه حسين، حديث الأربعاء، ص592.

(48) ينظر: عباس محمود العقاد، ساعات بين الكتب، منشورات المكتبة العصرية، بيروت،  ب.ت، ص94.

(49) محمود تيمور، اتجاهات الأدب العربي، المطبعة النموذجية، القاهرة، 1970م، ص143.

(50) فؤاد مرعي، مقدمة في علم الأدب، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1981م، ص56 و57.

(51) فنحي أحمد عامر، من قضايا التراث العربي: الشعر والشاعر، ص221.

(52) أحمد سليمان أحمد، الشعر الحديث بين التقليد والتجديد، الدار العربية للكتاب، ليبيا، 1983، ص84.

(53) الرافعي، وحي القلم، ج3، ص310.

(54) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج2، ص273.

(55) ينظر: محمد زرمان، المقال في أدب الرافعي، المعهد الوطني للتعليم العالي، باتنة، 1407ﻫ/1987، ص203 و204.

(56) ضيف الله، نثر مصطفى صادق الرافعي، دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر، الجزائر، ط، 1388ﻫ/1968م، ص293.

(57) خليل مطران، الديوان، ج3، ص152.

(58) فتحي أحمد عامر، من قضايا التراث العربي: النقد والناقد، ص324.