يقدم الكاتب التونسي قراءته لرواية تونسية هي (المشرط) لكمال الرياحي والتي حققت حضورا لافتا من خلال رهانها على كتابة مختلفة ومغايرة، ويتعرف على عوالمها المتفردة.

(المشرط) لكمال الرياحي:الرواية الرجة

نبيل دارغوثي

 

كمال الرياحي كاتب تونسي جمع بين الشعر والقصة القصيرة والرواية والرسم والنقد الأدبي مبدع متعدّد، مفرد في صيغة الجمع. خاض تجربة الكتابة المتعددة بكثير من الذكاء والحرص على التجدّد الدائم فبعد تجربة القصة القصيرة يقتحم الكاتب قلعة الرواية، هذا الجنس الأدبي الذي أصبح جنس القرن الواحد والعشرين بلا منازع، لينشر أوّل أعماله الروائية: المشرط. هذه الرواية التي ما زالت تفاجئنا بنجاحاتها منذ صدورها سنة 2006 عن دار الجنوب في سلسلة عيون المعاصرة، وحصولها على أهم جائزة للرواية في تونس.

رحّب بهذه الرواية النقّاد مغربا ومشرقا إلى جانب نجاحها الجماهيري حيث كانت أكثر الروايات مبيعا في المكتبات التونسية مما دفع بالناشر إلى إعادة طباعتها طبعة ثانية في أقل من سنة. ويعتبر هذا حدثا استثنائيا عاشته رواية تونسية على امتداد تاريخها. وقد وصلت أصداء هذه الرواية إلى أوروبا حيث بدأت مساعي لترجمتها إلى لغات حيّة وتلقى صاحبها دعوات عديدة لمناقشتها في أوروبا والمشرق والخليج والمغرب العربي ووصل صداها إلى الشرق الأدنى لتدخل المكتبات الجامعية الهندية.

وقد التفت إليها بعض الباحثين الجامعيين فتناولوها بالبحث في رسائل جامعية رغم حداثة صدورها. وصفها بعض الناقد بالرواية العالمية. إنّ رواية "المشرط" كانت اسما على مسمى. فهي كالمشرط الذي فتق عقدة خصاء الرواية التونسية. حيث خرجت هذه الرواية الحدث عن سرب السرد التونسي في عزف منفرد. وقد ذكر لنا الناقد توفيق بكّار أن المشرط ستكون علامة في السرد العربي. وتحدّث أيضا عن "المخّاخ" هذه الشخصية العجائبية، وهي نتاج جماع بين رجل وبغلة أنتج مسخا في صورة طائر بشع برأس بغل يعشق امتصاص العقول البشرية وخاصة منها عقول الأطفال.

يقول توفيق بكّار: "إن المخّاخ شخصية مبتكرة، تونسية صرفة لا تذكّرك بأيّة شخصية في الرواية العربية، لأن السرد العربي المعاصر أصبحت فيه الشخصيات الروائية متشابهة على شاكلة: "مصطفى سعيد" في (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح و"أبو هريرة" في (حدّث أبو هريرة قال) لمحمود المسعدي و "سعيد مهران" في (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ و "زكريا المرسنلي" في (الياطر) لحنّا مينه و "سعيد أبي النّحس" في (المتشائل) لأميل حبيبي. كل هذه الشخصيات يعاد استنساخها بطرق مختلفة."

لئن كانت شخصية المخّاخ مسخا فإنها تبدو لنا واقعية جدّا وترقد داخل كل إنسان منّا. ولفرط انتشارها أصبحت لا تدرك بالبصر بل بالبصيرة وإن كانت رؤيانا عمياء! كلّنا يعلم أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان حسب عبارة هوبز، لكنّ الرياحي وسّع من دائرة هذه العبارة وحرّفها فعدت "الإنسان مخّاخ لأخيه الإنسان"، فكلّ منّا ينام بداخله مخّاخ نحاول كبح جماحه، لكنّه كلمّا استيقظ في غفلة منّا يأخذ في امتصاص عقول الآخرين. إن شخصية المخّاخ التي أشاد بها الأستاذ الكبير توفيق بكّار واعتبرها شخصية سردية نموذجية بأبعادها الرمزية والأسطورية وقع تأويلها تأويلات شتىّ. فذهب بعضهم إلى أنها صورة للدكتاتور وبعضهم أرجعها إلى الفكر الأصولي الديني المتطرّف أو غول العولمة...

يمكننا أن نقول، دون أن نجانب الصّواب، أنّ رواية "المشرط" تعتبر أجرأ رواية تونسية عبر تاريخها الطويل، عالجت هموم وشواغل الواقع التونسي هذا الواقع الفظيع الذي يعجز العقل عن فهمه أحيانا فيصبح الواقع متمظهرا في العجائبي والأسطوري. الرواية تعالج ألوانا من المسكوت عنه بحدّة نادرة وطرح صادم، "واقعية تصدم الذائقة، وتناول فجّ لأحداث الحياة اليومية يرنو إلى إحداث صدمة قاسية، وتخييب الانتظار [...] ينبع ذلك من شخوص الرواية... فمنها التاريخي ومنها النصي الذي يعيدنا إلى عالم الرسم، ومنها الأدبي، ومنها الواقعي الذي لا شاهد على وجوده إلا الكاتب... فضلا عن قرائن بعينها من واقع عاصمتنا ومقاهيها وحاناتها وبعض الأماكن المخصوصة فيها. من الشخصيات... المخّاخ، والغرّافة، والرجل المحموم والضرس والزوجة والنيقرو وبولحية والسلطان شوّرب وهندة وسليم النادل وسيدة الروتند والروتاند وشارع بورقيبة وابن الحجّاج والشهلاء الحمراء" هكذا بدت المشرط للروائي والجامعي الدكتور صلاح الدين بوجاه إن الواقع يبدو في الفن حسب الناقد عبد المنعم تليمة "أكثر غنى من حقيقته الواقعة لأن الفن لا يقف عند الواقع في معطياته الخارجية المباشرة، إنما يتخطّى هذه المعطيات إلى إدراك جديد لها، فيبدو الواقع في صورة جديدة له صورته الفنية". حيث يلتبس الأمر فلا يكون بالإمكان تمييز الواقع من الخيال عندما يندغم الواقعي بالخيالي. ويقول في (ذات المعنى) الناقد المغربي الدكتور عبد المالك أشهبون متحدّثا عن رواية الرياحي "تظل المشرط متفردة بامتياز فهي رواية المفارقات والغرابة والعجب. فكل الشخصيات الواقعية (ابن خلدون) أو الخرافية (المخاخ النسناس...) أو المتخيلة (شورّب وبولحية والنيقرو وسيدة الروتند وغيرهم) تنصهر في بوتقة النص لتسم الرواية في الأخير بميسم مغاير وغير مألوف في السرد العربي الحديث".

يبدو أن رواية الرياحي ستمثّل نقلة نوعية في السرد التونسي لتميّزها أسلوبا وموضوعا ورؤية، لا سيّما أن الرواية التونسية عانت منذ سنوات من التحليق البارد في اللغة بعيدا عن الواقع المنسي وعن المهمّشين. فالأدب سيظلّ لصيق الحياة، وهو تعبير عن الحياة الإنسانية في تمظهراتها المختلفة إذ "الحياة والأدب توأمان لا ينفصلان". (المشرط) رواية محتفلة بالهامش والمختلف، رواية القاع والوجع وكاتبها مسكون بالاختراق، ملتبس بعنف اللحظة وشراستها يذكّرنا بعبارة بروست "من عمق أي آلام أخذ قوة الإله هذه والقدرة اللامتناهية على الخلق".

بجرأة تونسية نادرة أبدع كمال الرياحي في تشكيل نصّ روائي مستحدث بجماليات كتابة جديدة تعكس ثقافة وتجربة كاتبها. كتابة "مشرطيّة" "أخذت تنقّب عن المواقع الأكثر سريّة وتقلّب وجهات النظر..." على حدّ عبارة الناقد الجزائري جمال الدّين بن الشّيخ. فكان خلق شخوص روايته على غير صورة ولا مثال.

وصفوة القول، إنّ رواية كمال الرياحي رواية خطيرة بكل مقاييس الخطورة لم يتعوّد عليها القارئ التونسي. وكان لها كبير الأثر في المتلقي العربي ناقدا أو قارئا وهذا ما أهّلها لتكون ضمن أهم سلسلة روايات عربية تنشرها دار الجنوب التي سبق أن نشرت ضمن نفس السلسلة لحنّا مينه ومحمود المسعدي وأميل حبيبي والبشير خريف ومحمود درويش وصلاح الدين بوجاه وعروسيه نالوتي وفرج لحوار وصبري موسى وجمال الغيطاني والطيب صالح وإبراهيم الكوني.

كاتب وصحفي ثقافي من تونس
nabildarghouth@yahoo.fr