في تلك القراءة المركزة لرواية الكاتب اليمني الأولى يكشف الناقد اللبناني عن مواطن تميزها وتفردها، وعن قدرتها على استكناه الكثير من قضايا الواقع اليمني.

تحويل الواقع إلي مسألة شخصية

في رواية( قهوة أمريكية) لأحمد زين

ناظم السيد

يكشف الروائي اليمني أحمد زين في روايته (قهوة أمريكية) الصادرة أخيراً في المركز الثقافي العربي عن مقدرة روائية تبدو شبه غائبة لدي الكثيرين من روائيي وروائيات الجيل الجديد، ولا سيما في منطقة الخليج العربي. هذه المقدرة تكمن تحديداً في اللغة الروائية المنفصلة عن المناخات الشعرية والإنشاء الحديث، وتمثل مواضيع الجنس والأصولية الحاضرة في العديد من الأعمال التي نُشرت في الفترة الأخيرة، أي إن زين يكتب رواية متخففة من المواد الاستهلاكية، إذ ترزح الرواية اليوم تحت ثقل المجتمع بالمعني المباشر للكلمة. وعليه، تبدو لغة زين متقشفة، سردية، رشيقة، معتمة، خافتة ومدروسة من غير أن تفقد حرارتها. وأكثر: إنها لغة قادرة علي إشاعة مناخات تنقل القارئ من موضع إلي موضع ومن حالة إلي حالة، وإن افتقدت هذه اللغة إلي الفانتازية والضحك، أقصد الضحك الذي يعتبره كونديرا جزءاً من بنية الرواية نفسها. أحسب أن هذه المقدرة اللغوية هي التي تصنع رواية (قهوة أمريكية) وليس الحدث بحدِّ ذاته. الحدث نفسه يظهر علي أنه ذريعة للغة. كأن اللغة وُجدت قبل موضوع الكتابة، وليس علي الأحداث سوي أن تبرر الكلام الذي ينتظم في مواقف وشخصيات وأمكنة من أول العمل إلي آخره. كلام كهذا يُفهم علي أنه نقض للحدث. ربما. لكن أليست هذه حال الكتابة؟ أعتقد ذلك. الكتابة موجودة وليس علينا إلا أن نجد وسائط لإظهارها كما يفعل أحمد زين في روايته هذه.

هامشية الحدث ـ علي كبره واتساعه كما سنلاحظ ـ لا تعني غيابه. الرواية تتحدث عن شاب يُدعي عارف يشعر طوال الوقت بضجر من حياته، يحدس بأن رصاصة طائشة ستصيبه فجأة في الشارع، يعيش هاجس الموت بقنبلة ستنفجر مصادفة أمامه، والأهم أنه يحلم بصناعة تاريخ شخصي له من خلال النضال السياسي. الحقيقة أن عارف لم يكن يريد أن يصبح مناضلاً كبيراً أو شهيداً. كل ما في الأمر أنه كان يريد أن يصير شيئاً ملموساً. أن يشغل ثقلاً ما. لهذا يشارك في تظاهرة ضد الحكومة. يُعتقل. يتم تعذيبه في قسم الشرطة. يُصاب بعجز جنسي بسبب ركلة من جزمة شرطي علي مؤخرته. في هذه الأثناء يحب بطريقة صامتة زميلته في المركز البريطاني وتُدعي عالية. وبين هذه التظاهرة اليتيمة وآلام الركلة وبضع شخصيات هي يحيي وحميد وسانيا وماريا وآن وعبد القوي الذي يعمل وكيلاً للمرشحين وشخصيات حكومية وكاثرين التي تختفي فجأة ربما بسبب خطفها من جانب أفراد قبليين، بين هذه الشخصيات تجري أحداث الرواية. لكن وسط هذه الشخصيات المحدودة والأحداث الجانبية، يطرح الروائي أزمة اليمني المعاصر.

الرواية تجري بعد توحيد اليمنين بهزيمة جمهورية اليمن الاشتراكية الديمقراطية. ثمة ـ إذاً ـ وحدة لم تسفر إلا عن مزيد من القمع، بطالة، فقر، سيّاح، زحمة سير، مجانين يعبرون الشارع يومياً، خطف أجانب فقدَ مفاجأته لتعوّد الناس عليه، تعلم اللغة الإنكليزية (ثمة حوارات في الرواية مكتوبة بهذه اللغة)، باصات مملوءة بالناس والأحاديث السياسية، قات، قبائل، منقبات ويساريين متقاعدين. كل هذا يقع في هامش الرواية وليس في متنها الذي يتركز علي قصة عارف وطموحه في التحوّل إلي بطل وحبيبته غير المعلنة عالية وكاثرين المختفية.

لكن من هذا الهامش تتنفس الرواية. أي بهذه القماشة الخلفية للأحداث تأخذ الرواية بعدها التاريخي ومرآتها الواقعية من غير أن تغدو وثيقة. أحسب أن تفتيت الأحداث الكبري وتهميشها وذرّها في الرواية جنّبت هذا العمل أن يكون وثيقة تاريخية. بمعني آخر، عرف أحمد زين كيف يستفيد من الواقع من غير أن يكونه، من غير أن يغدو ناطقاً باسمه، ومن غير أن يقع في التوثيق الصحافي الذي بات جزءاً من أعمال روائية عديدة تصدر اليوم في العالم العربي. هكذا بدت قهوة أمريكية رواية منفصلة عن الواقع ومتصلة به معاً. رواية تنتمي إلي زمنها من دون أن تكون رهينة هذا الزمن. مرة أخري: الكتابة تضمر دائماً مثل هذين الانفصال والاتصال، هذين الحدين الأقصيين القدريين بالنسبة إلي الكاتب واللذين يسمّيهما أوكتافيو باث: العزلة والتواصل. لنقل بطريقة أخري إن الروائي عرف كيف يحوّل الواقع اليمني العام إلي مسألة شخصية.

لا تقتصر مزية قهوة أمريكية علي لغتها واستلهامها الواقع ومجانبتها إياه فقط، بل إن اللغة المدروسة تنسحب علي بنية الرواية ككل.

نحن أمام عمل لا يقع في الهذر ولا في الإطالات الممجوجة أو الصياغات القصوي للعبارة. الرواية من أولها إلي آخرها تكاد تكون منضبطة سواء باللغة المتواصلة التي تنبني جملة من جملة سابقة أم عبر المقاطع التي ظلت متماسكة حتي الصفحة الأخيرة. هذان اللغة والتماسك قد يشيان بمعمار أدبي يحيل علي العمارة. ذلك أن صلة قرابة تجمع بين الفن الروائي والفن المعماري. بهذا المعني أحسب أن الرواية ابنة المدينة مثلما الأسلوب الروائي ابن العمارة. وهذا الشرطان ـ إذا قيّض لنا اعتبارهما شرطين ـ يمّيزان الرواية الثانية لأحمد زين بعد مجموعتين قصصيتين.