كثيرا ما أغنى الأطباء عالم الاقصوصة بتجاربهم اليومية التي يتعاملون فيها مع الإنسان في أشد لحظاته ضعفا وهشاشة، هنا يكشف القاص السوداني برهافة وشعرية واقعيةعن أن الطبيب لايقل ضعفا عن مرضاه.

عنبر دُقدق

حامد فضل الله

شعر بحرارة شمس الصيف الباكرة فوق رأسه فأفاق مذعوراً، استوى على السرير، كان يشعر بصداع حاد، جفاف في الريق وحموضة في المعدة، نظر إلى الفناء الواسع، جميع الأسرة خالية من الزملاء، والهدوء يخيم على الدار.

نهض بصعوبة وسار في اتجاه الحمام مترنحاً. فتح الحنفية فتدفق الماء بارداً، وقف تحت رشاش الماء طويلاً حتى استعاد حيويته وشعر بارتياح.

استرجع في ذهنه أحداث ليلة البارحة، الاحتفال بتخرج زميله مالك في جامعة برلين وعودته إلى الوطن. اجتمع الأصدقاء في حديقة الموردة على شاطيء النيل، تذكروا أيام الدراسة، تحدثوا عن صدمة الحضارة وعن الأمسيات المرحة يوم كان صوت مالك الرخيم يصدح بأغنية "المابو دة سوداني" فترقص الفتيات. كانت ليلة مقمرة، أكلوا سمكاً "سبكياً" وشربوا نبيذاً قبرصياً وامتدت السهرة حتى الفجر.

جفف جسمه، ارتدى القميص والبنطال، وتناول السماعة الطبية ثم اتجه إلى الخارج.

يتوسط مستشفى أم درمان التعليمي طريقً يؤدي إلى ضريح ومسجد الإمام المهدي يميناً، ومنزل الزعيم الأزهري شمالاً، أما بيت أطباء الامتياز الذي يسكنه فيقوم مقابل المستشفى، يفصله عن المستشفى شارع عريض غير ممهد. قطع الشارع مسرعاً هرباً من الغبار ومن حركة السيارات العشوائية متجهاً إلى غرفة الكشف، شق طريقه عبر صالة استقبال المرضى بين أفواج من النساء والأطفال والرجال والشيوخ الذين ضاق بهم المكان، ودخل غرفة الكشف التي لا تختلف عن الصالة إلا في مساحتها، مقسمة إلى ثلاثة أقسام لثلاثة أطباء. حيا زميله المباشر، فنظرهذا في ساعة معصمه ورد التحية باقتضاب دون أن يلتفت.

جلس على مقعده وشرع يستقبل المرضى، يؤازره الممرض في عمله. أيقظته من رتابة العمل امرأة في مقتبل العمر، أنيقة الملبس ذات عينين واسعتين، قالت إنها تشكو ألماً حاداً في الحلق يمنعها من تناول الطعام منذ الأمس. تحسس العنق، ونظر في سقف وأسفل الحلق، وطلب منها أن تتوارى خلف الستارة. وقبل أن ينهض من مقعده كانت المريضة التالية تقف أمامه، امرأة شاحبة تشكو النزيف. طلب من الممرض أن يقودها إلى غرفة الكشف الخاصة واختفى خلف الستارة. طلب من المريضة الشابة أن تستلقي على منضدة الفحص، فتطلعت إليه بابتسامة خجلاً وقالت إنها تشكو فقط من ألم في الحلق.

أوضح لها أن التهاب اللوزتين الحاد قد يسبب مضاعفات للقلب والكلى.

فتحت أزرار قميصها فانحسر عن صدر متماسك، دفع نهدها الأيسر ووضع السماعة عند منطقة القلب، سمع ضربات القلب المتسارعة نظر إليها فوجدها هادئة تنظر إليه ببراءة، أصابته الدهشة، أبعد السماعة واكتشف أنه يسمع ضربات قلبه. تحسس أعلى البطن والخاصرتين وعندما شعرت بيديه تنحدران إلى أسفل البطن أبعدتهما برفق واعتدلت تصلح هندامها، مع شعور مبهم بين الدهشة والاستنكار.

عاد إلى مقعده وراء المنضدة، بينما وقفت هي تنتظر. قال:

ـ التهاب في اللوزتين، لا داعي للقلق.

تناول واحدة من قصاصات الورق الابيض ليكتب عليها وصفة من حبوب التتراسيكلين وأضاف:

ـ سيزول الألم سريعاً مع تناول هذا الدواء.

قالت: لا أدري إذا كنت أستطيع الحصول على الدواء في هذا الزحام القاتل أمام الصيدلية.

قال الممرض وهو ينقل نظره بينهما:

ـ لا يوجد في صيدلية المستشفى إلا حبوب السلفا ومزيج السعال.

طلب من الممرض أن يذهب "بالروشتة" ويسلمها لمحسن مدير الصيدلية من الباب الخلفي.

عاد الممرض بعد دقائق قليلة بعلبة الدواء ووضعها على المنضدة بانزعاج ظاهر.

ناولها الدواء وودعته بنظرة امتنان تاركة شيئاً من أريج عطرها في الغرفة. نبهه الممرض إلى المريضة التي تنتظر في الغرفة الخاصة، فتوجه إليها. فتح الباب فوجد الممرضة تتطلع من النافذة إلى الشارع مترنمة بأغنية "الحبيب وين؟ قالوا لي سافر".

حين انتبهت إلى وجوده شعرت بالارتباك وتقدمته متجهة إلى المريضة التي تنتظر في زاوية الغرفة. تطلع إلى المريضة وتحسس جبينها البارد. قاس درجة الحرارة وضغط الدم والنبض، ضغط على أسفل البطن بحذر، نظر بين الساقين، ولاحظ بقع الدم القاتمة على مفرش النقالة. عقد ساقيها فوق بعضهما وغرز إبرة في العضلة. ثم انصرف دقائق لملء استمارة الدخول وطمأنها. سلم الأوراق إلى الممرضة وأمرها أن تذهب مباشرة بالمريضة إلى عنبر دُقدق(1) لمراجعة الطبيب الاختصاصي. وغادر الغرفة. حين عاد إلى غرفة الفحص وجد مريضاً يسعل سعالاً حاداًً، ولا يستطيع الكلام إلا لاهثاً. رفع القميص المتسخ، وتطلع إلى أضلاعه البارزة، ثم كتب الوصفة وناوله إياها. نظر هذا إلى الورقة معترضاً:

ـ إنني أتردد على العيادة الخارجية منذ أربعة أسابيع، نفس الكشف ونفس الدواء. هذا لا يفيدني.

ـ لا يوجد في المستشفى غير هذا الدواء، قال الطبيب، ثم أضاف "أمامك العيادات الخاصة".

نظر المريض إليه يائساً وقبل أن يتفوه بكلمة أبعده الممرض بخشونة ليفسح الطريق لامرأة تحمل رضيعاً.

نظر الطبيب إلى الطفل ثم إلى الأم وسألها:

ـ كم لديك من الأطفال؟

ردت بجفاء:

ـ مالك ومال أطفالي! هذا هو المريض أمامك.

كظم غيظه وقال: لماذا لم تأتِ به قبل أن يصل هذه الحالة؟

ـ تركته لعناية الخالق.

قال بسخرية:

ـ عندما كان طفلك من نصيبنا تركتيه لعناية الخالق، وعندما صار من نصيب الخالق أتيت به إلينا.

شعر باضطراب وانتابه شعور بالذنب، فاستغفر الله في سره. مسح قطرات العرق عن جبينه. وشعر بالخجل حين رأى الدموع تسيل على خدي الأم.

نظر إلى الجسد الضامر والبشرة الشاحبة والعينين الغائرتين، تلمس الجلد الجاف وضغط على أسفل البطن. فزفر الطفل زفرته الأخيرة وأفرغ أمعاءه.

"سبحان الله" قال في سره، "نستقبل الحياة بالصريخ ونودعها بالتبرز".

ـ الكل باطل وقبض الريح.

نهض متجهاً إلى النافذة المطلة على فناء المستشفى، أشعل سيجارة وبدأ يدخن بشراهة. في الخارج كانت ثمة ضوضاء. وصوت الحارس الذي يقف أمام البوابة التي تفصل العيادة الخارجية عن عنابر المرضى يصرخ ويقسم بأغلظ الأيمان أنه لن يسمح بالدخول إلا في ساعات الزيارة المحددة. بين حين وآخر تمتد يد منقبضة إلى جيبه وتخرج منبسطة، فينفرج الباب. أمام صيدلية المستشفى صف من المرضى يزحف باتجاه شباك توزيع الأدوية. قذف بعقب السيجارة المشتعل أغلق النافذة متجهماً وعاد إلى مكانه. حين نظر من فتحة الباب الموارب لاحظ أن صالة الانتظار لا تزال تغص بالمرضى كما كانت في الصباح. كان عدد منهم قد دخل الغرفة وأحاط بمنضدته، ليس ثمة أمل في ابعادهم. حدج الممرض بنظرة ناقدة، فرد هذا:

"هؤلاء فقط، أما الباقون فسينتظرون نوبة المساء".

فحصهم بعجالة، لم يستغرق فحص أي منهم أكثر من دقيقة، ثم لف السماعة الطبية حول عنقه وأعاد قلمه "الباركر" إلى جيب قميصه وغادر الغرفة تلاحقه توسلات وصراخ وشتائم المرضى.

عند عتبة الباب الخارجي سمع صوتاً يناديه التفت فرأى المرأة التي فحصها من قبل تفترش الأرض. أوراق المستشفى مبعثرة حولها. رفعت يداً مرتعشة وسألته بصوت ضعيف:

"يا ولدي، بالله عليك، عنبر دُقدق ده وين؟". 

طبيب سوداني مقيم في برلين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ دقدق اسم لممرضة سودانية أطلقت إدارة المستشفى اسمها على أحد الأقسام تكريماً وتقديراً لتفانيها في أداء الواجب ورعاية المرضى.