تكشف هذه الدراسة عن آليات تخليق الكاتبة المصرية الراحلة لمقاومتها الخاصة ضد الألم، والوجع الجسدي والمعنوي على السواء، وتقدم لنا قراءتها الخاصة ليوميات الكاتبة الأخيرة في صراعها مع المرض العضال.

الإبداع بيان أخير ضد الألم

يوميات امرأة مشعَّة» لنعمات البحيري

خيري دومة

"الألم" كلمة فضفاضة، لأنها كما تعني الوجع الفيزيقي المصاحب للأمراض صغيرها وكبيرها، تعني أيضًا أوجاع النفس، وأوجاع الروح، وتعني كذلك الوجع الوجودي الذي لا برء منه، وجع الفقد والنقص والموت.

الألم كلمة فضفاضة، خاصة حين تقترن بالكتابة. وهل من كتابة حقيقية، إلا وهي كتابة ألم، بهذا المعنى أو ذاك؟! وهل الكتابة (والإبداع عمومًا) إلا "لعبة" لنسيان كل هذا الوجع، ومقاومته، وتجاوزه؟!

غير أن الآلام تتفاوت، وكذلك تتفاوت طرق كتابتها. بعض الآلام بعيد وصغير، لكن الكتابة تقرِّبه، وتبلوره، وتركِّزه، وتنقل عدواه بنجاح إلى الآخرين. وبعضها الآخر قريب وكبير، بحيث يبدو أكبر وأقرب من أن تراه الكتابة، وبحيث تعجز كل كتابة عن بلورته كما هو في الحقيقة، كما تعجز عن نقل عدواه إلى الآخرين، وإن توسل الكاتب (المتألم) إلى ذلك بكل ألعاب الذاكرة والنسيان والتكبير والتصغير والتشويه والسخرية. هذا النوع الأخير من الألم، يبرز حين يوضع الإنسان في مواجهة مصيره النهائي، حين تتعدد أشكال العدوان والفساد والحروب المتنقلة، وتشيع الأمراض القاتلة، وتضطرب الهوية... إلى آخر ما انتشر في أوطاننا في السنوات الأخيرة على نحو يشعر به كل أحد. ولا أظن الكتابة إلا عاجزة ولفترة طويلة قادمة، عن بلورة هذا النوع من الألم ونقله للآخرين، ولا أحسب أن بإمكانها أن تواجهه إلا بمزيد من الألعاب.

ولكن ماذا لو وجد الكاتب هذا النوع من الألم، تحت جلده وداخل جسده؟ ماذا لو هاجمه الوحش، ماذا لو سكنه أحد هذه الأمراض المقيمة القاتلة (وما أكثرها!)؟ هل بالإمكان أن يراه من هذه المسافة القريبة؟ وكيف سيكتبه؟ وإلى أي مدى يمكن أن ينجح؟ هذا ما حاوله كتاب كثيرون، ممن واجهوا هذا النوع من الألم في العقود الأخيرة، وهذا ما حاولته الراحلة نعمات البحيري في كتابها (يوميات امرأة مُشِعَّة)، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (مكتبة الأسرة 2006).

*  *   *   *   *

على غلاف الكتاب، وتحت العنوان واسم المؤلفة، وضعت كلمة "رواية". ومع أن نوع الرواية المرن كما أصبحنا نفهمه، يتسع لكل شيء ولكل كتابة، فإن الكتاب أقرب إلى ما يمكن أن نسميه "شهادة". الكتاب ليس رواية، ولا مجموعة قصص، ولا مجموعة مقالات، بقدر ما هو شهادة على "آلام" زماننا، من منظور امرأة حقيقية (وليس مخلوقة من خيال الكتابة الروائية) تمر بتجربة بالغة الخصوصية، تجربة الألم الكبير المشرف على الموت. وهي فضلاً عن ذلك، شهادة أرادت لها صاحبتها أن تكون حقيقية وجارحة، إذ تكاد تخلو عمدًا من حيل الكتابة الروائية، التي تضفي على السيرة الذاتية قدرًا من الخيال، فأسماء الأماكن والأشخاص (بدءًا من اسم صاحبة الشهادة نعمات البحيري) تكاد تكون بلا تغيير. هناك امتنان لأصدقاء باسمائهم ظهروا لحظة الأزمة، ولوم لآخرين اختفوا فجأة وتبخروا، وهناك خروج واضح وربما متعمد عن المنطق الروائي، واقتراب من منطق المقال السياسي وهجومه ولغته، وتحليلات لموضوعات متنوعة، تبدأ من منطقة الألم الشخصي الحميم، لكنها تمتد لتتشابك مع آلام أخرى ناتجة عن الفساد السياسي والقهر الاجتماعي، وكل المنغصات اليومية في حياة امرأة مصرية معاصرة (مع سائقي الميكروباص وحراس الأمن والجيران مثلاً) وكلها تحليلات ربما لا تحتملها بنية "رواية".

يتألف الكتاب من تسع عشرة "يومية"، أو قصة قصيرة، أو قل تسعة عشر فصلاً، أو نصًّا، تبدأ بـ "أمي" وتنتهي بـ "بيان أخير ضد الموت". وكانت غالبية هذه اليوميات/ النصوص قد نشرت منجمة على صفحات الدوريات المختلفة، وعلى مواقع الشبكة الدولية للمعلومات. ومع أن (يوميات امرأة مشعة) ليس عنوانًا لأيٍّ من هذه اليوميات/ النصوص، فإن الموضوع الأساس الذي يسري في كل النصوص كالروح الجامعة، هو يوميات "المرأة" و "الإشعاع" وما بينهما من علاقات مؤلمة، كما أن فكرة "اليومية" سارية في فصول الكتاب كله، تظهر أحيانًا في عناوين الفصول، مثل "يوم مغاير" و "يوم التخطيط"، وتظهر أحيانًا أخرى في السطر الافتتاحي أو الختامي من الفصل، مثل "سأثبت لها الليلة انني كنت أنام ملء جفوني"، "في اليوم المحدد لدخول المستشفى"، أو "اليوم أجازة من جلسات الإشعاعي"، أو "في ذلك النهار لم أجد أحدًا أبكي على صدره فبكيت على صدري"، أو "سأحاول اليوم أن أتعامل مع نفسي"، أو "في ليلة رأس السنة شعرت بقدر من التفاؤل" ومن الواضح أن الكاتبة انتهت مع نفسها إلى هذا العنوان، في مرحلة ما من تأليف هذه النصوص، بحيث ظل الكتاب مفتوحًا على نصوص ويوميات جديدة تستعيدها الكاتبة.

"اليوميات" شكل مفتوح ومرن، خصوصًا حين تفتح الكاتبة أحداث اليوم على مشاهد من الأمس والغد، بما يفضي إلى لون خاص من ألوان السيرة الذاتية، ينطلق من ألم اليوم ليبني حوله صورة من آلام "الحياة" ومباهجها. أضف إلى ذلك أن "اليوم" الواحد صار الحياةَ الممكنة في عيني الراوية:

«صرت أعد اليوم الواحد خلية حية، أو وحدة زمنية لحياة كاملة، ليس موصولاً بما قبله، ولا مقطوعًا عما بعده، أرى فيه كل الأزمنة، وكل الفصول، الشتاء والصيف والربيع والخريف، وأعيش كل الحالات... البهجة والحزن والفرح والبكاء من شدة الألم».

كل هذا يجعل من "اليوميات" شكلاً ملائمًا تمامًا لهذه التجربة الخاصة. والعنوان فوق كل هذا يلمس نغمة أصيلة في فصول الكتاب، وهي نغمة السخرية والضحك، فكأنك أمام قصة من قصص الأطفال، أو فيلم كارتوني يصور امرأة خارقة تصيب من حولها بالإشعاع، وليس رواية أو شهادة تسعى إلى وصف ألم يفوق الوصف. بعد الإهداءات والمقدمات والاقتباسات، وبعد المفتتح الذي يبدو مضافًا إلى جسد الكتاب، تبدأ يوميات هذه "المرأة المشعة" بنص تحت عنوان "أمي". هذا النص يتخذ هو الآخر طابع "المقدمة"، التي تضاف إلى مقدمات كثيرة، كان على القارئ أن يجتازها لكي يصل إلى العالم الفعلي للكتاب. ومع ذلك فإن هذا النص تحديدًا هو الذي يقترب بالكتاب من شكل رواية السيرة الذاتية، وخصوصًا سيرة الألم.

أن يبدأ الكتاب بـ "أمي"، فإن هذا يعني أن الراوية تعرض علينا رواية الذات من بدايتها، من لحظة الميلاد، وربما ما قبلها. حين يشتد الألم بشخص ما، حين يرى نفسه على مقربة من المصير، من النهاية، يعود إلى البداية، تصبح جياة المرء كلها حلمًا قصيرًا، دائرة مغلقة ومحدودة يسهل إدراك بدايتها ونهايتها. هنا يصبح من الطبيعي تمامًا أن تظهر الأم: مناط الرحمة ورمزها. كان لابد للأم أن تنبثق هكذا في بداية الكتاب، لا لأنها مناط الرحمة ورمزها فقط، وإنما أيضًا لأنها "امرأة" أخرى مشعة، يسكنها إشعاع القهر الأزلي حتى بعد أن جاوزت السبعين، فقد عاشت لعقود طويلة تحت رجل لا تحبه، وتحملته كما تتحمل الضغط والسكر.

غير أن هذا الفصل الافتتاحي "أُمي"، لا يشير إلى فكرة اللجوء إلى حضن الأم، حيث المهرب الأول من الألم، وإنما يتحدث على العكس عن صورة الأم الضد، فالفصل يبدأ باحتجاج من الراوية موجه إلى الأم:

«سأثبت لها الليلة أنني كنت أنام ملء جفوني طوال العشرين عامًا الماضية، على الرغم من أنها تعلم علم اليقين أن المرتبة الأولى قصيرة، والمرتبة الثانية أقصر، والفارق بينهما وبين الجدار ملأته بالخيال».

نفهم من هذا الفصل القصير، أن الأم الآن في حالة إقامة عارضة مع ابنتها الوحيدة، ترعاها في مرضها، بعد عشرين سنة من ترك الابنة لمنزل الأسرة، والعيش وحيدة بعيدًا عن قهر الأب لكل أبنائه. ولكن الابنة/ الراوية "قررت الانتقام منها ـ حبًّا ـ في كتابة رواية عن الربع الناقص بين المرتبتين والجدارالذي ملأته بحكايات في حضرة سيدنا الألم". تلك إذن هي رواية الرواية، إنها رواية عن الربع الناقص بين المرتبتين والجدار. الأم امرأة، وهذا أمر آخر دال حين يبدأ به الكتاب، فهذه رواية الأنوثة المنقوصة المستهدفة كما تقول الراوية:

«المشهد في تفاصيله يشي بأن أنوثة هذا الوطن مستهدفة كما الذكورة. صرنا نسير على الأرض قنابل موقوتة لا تدري أي نفس متى تنفجر، ومن ينجو ستكون الصدفة وحدها صاحبة الفضل الأعظم».

والحقيقة أن الأنوثة المنقوصة المقهورة هي موضوع هذه الرواية، منه تبدأ وإليه تنتهي، وبين بداية الرواية ونهايتها تجليات لهذا القهر لا تكاد تنتهي. وهذا أمر طبيعي تمامًا، فالراوية تحكي تجربة لصيقة بالأنوثة (إصابة المرض لجزء من جسد المرأة مقترن بالأنوثة، ثم استئصال هذا الجزء)، ومن تراهم الراوية في معظم فصول التجربة إناث شُوِّهت أنوثتهن تشويهًا فيزيقيًّا، بعد أن شُوِّهت نفوسهن وأرواحهن، إلى الحد الذي يجعل الراوية تشعر بأن "أنوثة الوطن" كله مستهدفة. في الرحلة الطويلة المريرة مع المستشفيات والأسرة البيضاء، مع الأطباء والممرضات، مع الكانيولا والإبر والأشعات والتحاليل والمحاليل، وسلخانة غرفة العمليات، مع الكيماوي والإشعاعي... في هذا كله، تلتقي الراوية بنماذج متنوعة من أنوثة الوطن الجريحة، كلهن شخوص عابرة في رحلة العلاج، جئن من مناطق مصر المختلفة، وكلهن وعلى نحو ما، ينطوين على قهر وألم لا يكاد يختلف عن قهر "الأم" التي بدأنا معها فصول الكتاب.

من البداية ستنتبه الراوية وهي تنتظر دورها في أشعة الرنين المغناطيسي، إلى هذه المرأة التي تذكرها بأمها:

«تنبهت إلى وجه جميل يشبه على نحو ما، وجه أمي التي أخفيت عنها المسألة برمتها... كانت المرأة ترافق ابنتها الجميلة بنت السابعة عشرة والتي دهمتها سيارة ونتج عنها كيس ماء فوق الظهر، أتت لعمل أشعة رنين مغناطيسي، الأم فلاحة مصرية تشم في ثيابها رائحة طين الأرض، وبقايا ماجور العجين، وعشة دجاج فوق سطح الدار المسقف بأقراص الجلة اليابسة».

في كل فصل، ستترك الراوية خيط الحدث الرئيسي (رحلة المرض والآلام والعلاج بأنواعه). وهي تترك هذا الخيط عند المنحنيات الخطرة خصوصًا، إما لكي تلعب "لعبة" النسيان باستدعاء لحظات البهجة القليلة كما سنرى، أو لترصد بعين يقظة، في داخلها ومن حولها، نماذج من الألم الأكبر الذي يصنع الكتاب: ألم الأنوثة المنقوصة، وألم الوطن، وربما ألم الإنسان.

نماذج الألم الأنثوي هنا أكثر من أن تحصى، بدءًا من المرأة/ الأم التي رأيناها منذ قليل، ومرورًا بعاملة البوفيه والممرضة والفتاتين اللتين جاءتا من سيناء للعلاج:

«جاءت فتاة صغيرة تحدوها بعض البدانة، وإلى جوارها أختها، فتنة بيضاء خفيفة الظل، راحت تبتسم لي في محاولة لحل شفرة فمي الذي صار مغلقًا على الكثير من الحزن والكآبة، وسؤال ضخم بحجم المأساة:

ـ لماذا أنا؟

ولم تكن إجابة السؤال إلا بسؤال: ولماذا كل هؤلاء النساء؟ شقيقتهل السمراء هي زميلتي في الجرح والألم، نجلاء ذات الثامنة عشرة(؟)عامًان استأصلت ثديها الأيسر، وقد مر شهران ونصف تقريبًا، وما زالت تبكي وتصرخ في الليل... حاولت ان أمد جسرًا بيني وبين الفتاتين. كانت ابتسامة الشقراء دافئة بشكل يشيع الأمل في أجواء الألم، وبدت نظرة السمراء حزينة ومتشائمة. نهضت واقتربت منها وحدثتها، ثم سألتني:

ـ انت يا صحفية يا محامية... صح؟

ـ أنا كاتبة... أديبة يعني... باكتب قصص وروايات... حاجات زي كدة.

ـ زي روايات عبير... خلاص اكتبي حكايتي... حاقعد تحت رجليكي واحكيلك... يا بوي... الدنيا وحشة بشكل.
ربت على كتفها وقبلتها

ـ ولا يهمك... بكرة حنفتكر الأيام دي ونضحك».

لا يكاد يمر فصل من فصول الكتاب دون أن نصادف نموذجًا من هذه النماذج، وفي فصول كثيرة سنصادف نماذج جماعية خرافية من الأنوثة الجريحة المستهدفة، كجماعة النسوة وجماعة القطط:

«في المسافة ما بين مركز الأورام ومركز الكبد، وعلى ناصية حديقة المشرحة، طفرت الأرض بمشهد غريب... عدد من النساء ذوات الثدي الواحد قادمات للمتابعة... واريت عيني عنهن إلى قطة ميتة وعدد من الهررة واقف وكأنه يقيم سرادقًا لتلقي العزاء».

ولا يكاد الكتاب ينتهي، حتى نلتقي في البيان الأخير، بثورة احتجاج أنثوي جماعي، له شكل خرافي ومخيف، تؤكد الراوية أنه حقيقة وليس حلمًا:

«ربما كانت فاجعتي في قطعة من جسدي هي التي هيأت لي شيئا من الخرافة... عدد كبير من النساء بثدي واحد يطمحون في المحافظة عليه. عفوا، نون النسوة لا مجال لها في واقع مأساوي نعيشه نحن نساء الثدي الواحد. لذا نأتي فرادى وجماعات للحصول على حصتنا من العلاج الإشعاعي لنخرج للشوارع نساء مشعات تعرضن من قبل للعلاج الكيماوي الذي هو أبشع من المرض نحن جميعا عرائس بثدي واحد. بعد الجلسة ستخرجه كل واحدة وتنفخ فيه من آلامها ثم تحوله لثعبان ونجرى فرادى وجماعات في مظاهرة من النساء المشعات في اتجاه بيت أو فيللا أو قصر السيد المسئول الذي ملأ جيوبه وخزائنه بترف عمولات أجنبية كثيرة ليملأ المدينة بنباتات خضروات وفاكهة مسرطنة وهواء مسموم وماء فاسد ورجال بائسين بأفكار فاسدة ساهموا في قهرنا. لم تغف عيني لكنها حقيقة واضحة، كنا نجرى نحن النساء المشعات إلى بيت أو فيللا أو قصر السيد المسئول وهناك وجدناه. دخلنا وتحايلنا على رجال أمنه وأمانه الواقفين يحمونه بكل ما خف وثقل من سلاح، ودخلنا إليه.

كل واحدة حولت ثديها "الباقي" إلى ثعبان ولفته على رقبته وراحت تعتصر روحه وممتلكاته ومقتنيات قصره واسمه ولقبه ويومه وغده.

في آخر اليوم حين رأينا روحه وقد أزهقت تماما وممتلكاته تبددت وقصره قد تداعى ومقتنياته تناثرت أشلاء رحنا نجرى نحن النساء المشعات في مظاهرة لنرى أنفسنا في مرايا كثيرة نساء غير بائسات».

كل هذا الألم الأنثوي الجريح، ستقاومه الراوية بما تسميه "لعبة" الخيال، وهي لعبة تتكرر في كل فصل، حين تعود إلى لحظات البهجة القليلة في الماضي وتتحسس ذكرياتها، فتكمل دائرة الحياة القصيرة بما يصنع السيرة الأوسع: سيرة الحياة الشخصية وسيرة الوطن. في هذه الاسترجاعات الواضحة التي تختلف عن استرجاعات تيار الوعي الغامضة، نتعرف على جوانب من طفولة الراوية/ البطلة وصباها، جوانب من حياة الأم والإخوة والأخوات والأب والأقارب، وجوانب من مجتمع المدن الجديدة التي سكنتها الراوية، خصوصًا مدينة 6 اكتوبر، ومن تكامل هذه الجوانب جميعًا، يقترب الكتاب من صورة الرواية.

أهم هذه الاسترجاعات وأكثرها تأثيرًا، مشهد يأتي في فصل تحت عنوان "الطابق الخامس". في هذا الفصل تدخل الراوية إلى غرفة العمليات لإجراء الجراحة الخطيرة التي تهدد الأنوثة وتهدد الحياة ذاتها. وحين تدخل إلى حيز التخدير تبدأ في ممارسة "اللعبة"، ويطفر مشهد مليء بالبهجة والنزق، لكنه موجع، لأنه يقف على الضد تمامًا من اللحظة الحالية، إنها ذكرى ولادة جزء حميم من الجسد، نحن الآن في الطريق إلى استئصاله:

«المشهد كاملا تحتفظ به ذاكرتى وأستدعيه دائما ثم أتراجع... آن الأوان لفك أسره. هناك ضرورة ملحة ليكون ماثلا أمامى مثل ذكرى فاضت رائحتها فى الخريف... ووجه "فيفى"... "بنت عبد العزيز بتاع اللبن" الذى يتحرك فى شوارع العباسية البحرية كل صباح وهو يلحن جملته المعهودة... "لبن..يا عزيز يا لبن" وتصلك الجملة مشكّلة ومنغمة وملحنة.. لحن طبيعى يوقظك على توقيت أشبه بالساعة البيولوجية... وأحيانا يدخل معك فى نسيج الأحلام فتحلم بأن كل الدنيا بيضاء والحياة بيضاء وكل شىء أبيض... أغلقت "فيفى" باب الفصل وأومأت لبنات فصل تالتة تانى... كل منهن تنزع ثياب المدرسة وتقشر جسدها فى نصفه الأعلى حتى اللحم، لأرى أمامى أثداء صغيرة ونحيلة مثل كرات... رأيتهن يتحركن فى اتجاهى فتهتز الكرات وهى تتقدم نحوى فى مسيرة عجيبة ومدهشة...

ـ اقلعي...
ـ أقلع إيه؟ في إيه؟
ـ اقلعي... ما حدش حيقلعك...
ـ انتو اتجننتوا... حافتح باب الفصل وأجري...
ـ اقلعي...
ـ حافتخ شباك الفصل وحاصرخ...
ـ اقلعي...

... كنت أضم فتحة قميصى الابيض على صدرى وأتعلل بالزراير الكثيرة... زى مقدس... قميص أبيض بارلون بفرانشة بيضاء محلاة بالدانتيل والجيب الكحلى الترجال وقروح ركبتى النحيلتين تطل هى الأخرى تلويحا لما يمكن أن يحدث...

ـ اقلعي

عرفت أن "السوتيان" الأسود الساتان هو الهدف... أسرت لزميلة لى أن أمى حكمت علىّ بارتدائه لأن صدرى رغم نحافة جسمى يهتز أمامى. أمرت عمتى بشرائه من العتبة وقد عرفت المقاس بنظرة عينها المدربة... كنت حقا أول فتاة فى الفصل ترتدى ـ قسرا ـ "سوتيان" ولم أكن أدرى ان هذا سبق أحسد عليه وأحاصر من أجله بعيون مضطربة وأجساد نحيلة... كان علىّ أن أوافق لتتبادله بنات الفصل فى فرح وحبور وبهجة تفتح بواكير أنوثة الجسد والروح. كانت أجسادنا جميعا سمراء عجفاء تطل من قمصاننا البيضاء مثل أعواد قطن جافة... وكأنه قدر بنات العباسية الاعدادية... ارتدته كل واحدة ورأت نفسها فى زجاج نافذة الفصل المغلقة والواقفة خلفه أحلام أخت فردوس بنت النحاسة... تسده بظهرها حماية وضمانا لنصاعة الرؤية... لترى كل واحدة نفسها وهى ترتدى حمالة صدر... ساتان أسود ودانتيللا، وأنا واقفة فى حراسة سهير بنت الصهبانة وسعاد بنت الفكهانى... نماذج فذة من عصابة بنات شارع المناخ فى العباسية، كما كنا نلقبهن.

أضم ذراعى على صدرى وأستعجلهن ليردونه(؟) خشية أن تدخل المشرفة أو حتى الفراشة فجأة... المدهش أن المشهد بدا احتفالية ببداية كيمياء تتشكل فى أجساد نحيلة بأنوثة كامنة لبنات الفصل وكنت أخشى أن أرتدى بقية ثيابى وأعود إلى بيتنا بلا حمالة صدر فتنصب جدتى محكمتها القاسية...

لم تكن فتحتا الحمالة تمتلىء بأثداء البنات تماما... كن نحيلات بشكل مبالغ فيه وكأنه قدر واضح أن تكون بناته نحيلات وبلا أثداء،حتى "إيفيت" بنت عم صبحى وأم جيهان جيراننا الأقباط والتى كان لها جسد ممتلىء نسبيا. كنت أشعر بعبء امتلاء الحمالة بثديىّ على نحول جسدى وبوادر شىء تحاصرنى من أجله عيون شباب الحى وأنا أخفيه باحتضان حقيبة المدرسة، وكأنه عيب خلقى...

طفر بداخلى سؤال عن أهمية تلك القطعتين من الجسد لتهيأ لهما "شيالات" خاصة... كنت أربط شعرى بشريطة بيضاء مثل نيللى وأقصر الجيب الترجال الكحلى وأشمر القميص مثل سعاد حسنى وأفتح زرارين لابتعاث قدر من الهواء ثم تزجرنى أمى فأغلقهما لأرتاح من "زنها"... دارت "حمالة صدرى" على بنات المدرسة وبنات العائلة وبنات العمارة والحى والحى المجاور... حمالة صدر سوداء من الساتان الأسود، موشاه بآجور ودانتيللا رفيعة. كانت حلما لبنات شارع المناخ فى ذلك السن».

لا تكاد صفحة من صفحات الكتاب تخلو من مفردة "الألم" وتوابعها، خصوصًا مفردة "جرح"، فالكلمتان تنتشران في الكتاب على نحو مقلق، يكاد يصل حد الهوس. ولولا قدر معقول من السخرية السوداء تتمتع به الكاتبة، لتحول الكتاب إلى شكوى بكائية تخرج عن إطار الفن، وتغرق في رثاء الذات.

الكاتبة تدرك أنها محاصرة بالألم على نحو خطر، ولهذا فهي تقاومه أحيانًا بلعبة "التسامي"، وأحيانًا بالمكابرة وتحويل الألم الوجودي المرعب إلى فكاهة، وأحيانًا بعودات إلى لحظات البهجة الشحيحة كما رأينا منذ قليل. تدرك الكاتبة أن حياتها في غمار هذه التجربة صارت خانقة ومغلقة، صارت الحياة كما تقول مجرد "كادر سينمائي ومشاهد وإشارات معزولة"، تستدعيها وتثبِّتها وتحركها، صارت:

«مشاهد خاصة جدًّا يتم إزاحتها من كوادر قنوات التليفزيون والفضائيات والذاكرة... مشهد عزاء، عملية دفن في المقابر، قطة ميتة، وجه يحتضر، غرفة العمليات، مشاهد الحب بين الغني والفقيرة في الأفلام العربية القديمة، كلب ميت، مشاهد القتل والعنف على وجوه جنود الاحتلال هنا وهناك.

صار المرض والألم خبرة لها أدبياتها الخاصة».

بل إن الكاتبة تدرك تمامًا أنها تقوم في كتابها هذا، بتحويل الألم والجرح إلى "جمال" خاص، إلى "إبداع" لا مثيل له، مستعينة في ذلك بما قاله جان جينيه ذات مرة: "لكل فرد جمال خاص به، وأصل هذا الجمال هو الجرح المتفرد، هذا الجرح مختبئ ومكنون داخل كل إنسان".

كاتب وباحث من مصر