لو شربوا البحر

عكا ما تخاف من هدير البحر

فيحاء عبدالهادي

"لو شِربوا البَحر أو هدّوا السور
لو سَرقوا الهوا
أو خَنقوا النور
ما ببيعها لعكا
بالدنيا كُلها
ما ببدِّل حارتي
ولا بقصور
لو شِربوا البَحر"
                   عامر جمل        

أطلَّت عليَّ امرأة من عكا، من خلال شريط الفيديو "لو شربوا البحر.." (من تصوير مونتاج وإخراج شركة الأرز/ عكا)، وصرخت باكية، وهي تشرح معاناتها، وأسرتها، حين منعت من دخول بيتها، بعد حرق معظمه، وتكسيره، ونهبه:

"هجموا علينا، ما خلوناش نوصل بيوتنا، البوليس هرب، خاف، سرقوا بيوتنا، وحرقوا لنا اياها. وإحنا نايمين حرقوا لنا البيت".

وارتفعت أصوات نساء أخريات، لتعبِّر عن وعي بطبيعة المخطط السياسي، الذي يرمي إلى تهجيرهن وأسرهن، خارج فلسطين. صاحت صبية غاضبة:

"بدهن يهجّرونا مثل ال الثمانية وأربعين، مثل اللاجئين المشتتين، ومحلنا يجيبوا مستوطنين".

وتحدَّثت أخرى بشكل منطقي هادىء:

"يحق لكل مواطن في عكا يعيش وين ما بده. ويعيش في أمان. القضية سياسية، إكراه ديني، تهويد عكا.. تراكمات سنين.. العائلات مش أول مرة يتشردوا ويطلعوا من بيوتهن. لازم البلدية والشرطة تتعامل معهم. ليش بيرموا رصاص مطاطي على العرب، واليهود بيفرقوهن بميّ؟!"

*    *    *

أعادتني شهادات النساء، الصوت والصورة، في شريط الفيديو: "لو شربوا البحر.."، إلى الماضي، دون أن أدري، ووجدتني أقارن بين شهادات النساء، عن أحداث 8 أكتوبر 2008، وشهادات نساء عكا عن النكبة الأولى، وعن معاناتهن الممتدة، خلال الستين عاماً، ونضالهن العنيد الممتد.

*    *    *

تنبَّهت نساء عكا، منذ النكبة الأولى، لمخطط التهجير، وقاومن المخطط بصلابة نادرة. نامت النساء تحت عجلات الشاحنات، لمنع ترحيل أزواجهن، وتسلَّلن عائدات إلى وطنهن، بعد تهجيرهن، دون أن يخفن الاعتقال أو المحاكمة، التي تنتظرهن، لقاء تسللهن، للإقامة في بيوتهن. تروي "ابتهاج خوري"، من عكا، ضمن شهادتها، حول ذكرياتها (منذ الثلاثينيات، حتى أواسط الستينيات، ضمن مشروع التأريخ الشفوي، الذي بادرت إلى تنفيذه إدارة المرأة/ وزارة التخطيط، عام 1999م)، عن محاولة ترحيلها بالقوة، وتصدي نساء عكا، لمؤامرة ترحيلها، ومنع تنفيذها، عام 1952:

"لما اترحَّل شعبنا معروف إنّه نساءنا وشبابنا في الناصرة، في عكا، في كفر ياسيف، نامت أمام عجلات ترحيل السكان؛ أمام الترحيل، وأنا صارت معي، لما اجيت متسللة من البعنة. منعوا ترحيلي. على جسمي إحنا ماشيين، إذا أنت بدكم تاخذوا ابتهاج الليلة. وما تمكَّنوا ياخذوني".

"الأحد، 12 تشرين الأول 2008

في أربعة أيام المواجهات، ألقي القبض على 54 شخصاً، وعندما أحضر المعتقلون إلى المحكمة، غالبية المعتقلين اليهود أطلق سراحهم، في حين تمَّ تمديد اعتقال العرب. وفي مقابلة أجراها مع Ynet يقول قائد المنطقة الشمالية في الشرطة، اللواء شمعون كورن: إن العنصر المسيطر الذي يقوم بأعمال الشغب الآن في عكا هم اليهود. "نحن نعرف بالضبط من هم هؤلاء، وإننا سنقبض عليهم. في حيازتنا أدّلة وسنقوم بتقديم لوائح اتهام".

تقرير مرحلي/ تسلسل الأحداث/ 14 تشرين الأول 2008. إعداد علاء حليحل/ ائتلاف أهالي عكا ـ مجموعة من ممّثلي جمعيات ومؤ سسات ونشيطين وشخصيات جماهيرية.

*    *    *

تعيدني مظاهرات اليوم في عكا، إلى مظاهرات الأمس، حين ناضلت النساء طويلاً لإلغاء الحكم العسكري، الذي امتدَّ حتى عام 1964، وحين امتزج العمل السياسي بالعمل الاجتماعي، حيث رفعت النساء شعاراتها السياسية والمطلبية، وواجهت الضرب والقمع، دون خوف من اعتقال أو محاكمة.

ارتسمت أمامي، من خلال شهادة "ابتهاج خوري"، وشهادة "سلوى شبلي حق"، صورة لصبايا عكا، ينظَّمن ويقدن أول مظاهرتين نسائيتين، في العالم العربي؛ مظاهرة العفش، ومظاهرة الطحين:

"إنّه تسجَّل في البروتوكول الفلسطيني، أن أول مظاهرتين نسويات قامتا في العالم العربي كانتا في عكا. صبايا صغار، يعني كانوا يقودوا البلد، الناس كانت تتجاوب معانا؛ الناس كانت مضبوط تهاب، أما لما يعتقلوا واحد مننا بتلاقي كل الناس بتحمينا، بتحمينا".

*    *    *

هل تغيَّر واقع العرب في أراضي ال 48؟ هناك بعض التغيرات؛ ولكنا نتساءل عن جوهرها. تدلّ شهادات النساء، منذ نهايات الأربعينيات، حتى 2008؛ بأنَّ التغييرات الطفيفة، التي حدثت، لم تمس الجوهر. لنتأملّ شهادة ابتهاج خوري، عن نهايات الأربعينيات، والتي قدَّمتها عام 1999:

"كنا إذا كهربا مقطوعة، إذا مجرى فايض، وهاي القضايا لازالت لليوم، يعني ما تغيَّر فيها إشي جديد. بس الفارق صار إنّه صرت تقدري تعيني موعد إنت، إن كان مع رئيس البلدية، أو مع هيئة، أو مع رئيس قسم، في بلدية عكا، بتعيني بالتلفون، وبتطلعي تقعدي. أيامها لأ، كانوا يجيبوا لنا البوليس، نعمل معركة، مظاهرات كنا نسوّي، حتى يفوتونا على داخل البلدية".

ولنتأمَّل التقرير، الذي يوثِّق لاعتداءات اليهود المتطرِّفين، على العرب في مدينة عكا، والتي لم تبدأ ليلة يوم الغفران 2008:

"فمنذ عام 2002، وعشية إقامة المدرسة الدينية للجنود المتدينين، وانتقال المستوطنين إلى المدينة، بدأت موجة الاعتداءات، الإرهاب والتخويف: أحرقت سيارة المحامية مديحة الرمَّال عام 2002، وأحرقت ثلاثة بيوت لعائلات عربية في شارع الكلعي، عام 2005، واعتدي على صبحي مرسي، وأحرقت سيارته أواخر عام 2007، وأحرق بيت عائلة رمَّال، ثانية، وقذفت زجاجات حارقة إلى داخل البيت، عند الساعات المتأخرة من الليل، في 8 نيسان 2008. وانتهكت حرمة مسجد المنشية، من قبل أربعة شَّبان يهود متطرِّفين، يسكنون في الحيّ، في 23 نيسان 2008.

وبدءاً من عام 2002، وحتى اليوم، تشاهد دعوات "الموت للعرب"، مرشوشة على الحيطان، وفي داخل المصاعد الكهربائية، بشكل دائم".

*    *    *

ماذا يمكن أن نقدِّم لأهلنا في عكا، وفي جميع مناطق ال 48، في الوقت الذي تستمر فيه مؤامرات التهجير، والتهويد، والتمييز العنصري، والاستيطان؟ هل يكفي التأثر بالحدث الآني، وبيانات الشجب والتنديد، كلما سمعنا عن اعتداء وضحايا؟ أم إن الأحداث تدعو إلى حملة تضامن عربية وعالمية مستمرة، تستخدم التوثيق المسموع والمرئي، لدعم صمود أهلنا، وفضح مؤامرات التهجير والاستيطان والتمييز العنصري، بمختلف الوسائل والإمكانات، ومهما كلَّف ذلك من تضحيات، من أجل إحباط المؤامرات كافة، وردع الاعتداءات، وصيانة حقوق أهلنا في وطنهم؟! 

faihaab@gmail.com