يتناول الكاتب العراقي هنا الإسهام الثري لمسيحي العراق في خلق الذاكرة الثقافية والهوية العراقية، وينعي مأساة ترحيلهم في عملية التطهير العرقي القذرة التي تدور تحت سمع المحتل الأمريكي البغيض، وربما بتشجيع منه على المحاصصات الطائفية.

الأبرشية التي غزاها اليتم

هل نقول وداعاً لمسيحيي العراق أم نقول وداعاً للعراق؟

فاروق يوسف

لم يكن مفاجئاً أن تقرر الاف العائلات المسيحية في الموصل (شمال العراق) أن ترك بيوتها وتلجأ إلى الأديرة والكنائس، في انتظار النهاية (الهجرة إلى المجهول). كان قرار الإبادة قد صدر ونُفّذت منه فصول في مختلف أنحاء العراق الجديد وخصوصاً في البصرة وبغداد وانتهاء بالموصل، حيث التجمعات التاريخية للمسيحيين. من أصدر ذلك القرار البشع؟ من يدعم تلك الجريمة؟ العراقيون أبرياء، تقول بداهة العيش المشترك الطويل والكثيف والمعقد. هناك ميليشيات هي أقوى اليوم من القانون تمثل أحزابا هي جزء من الحكومة التي تدعمها سلطة الاحتلال. حلقة من التضليل والخداع والكذب وقف أمامها المسيحيون طويلا وهم يرددون "موطني... موطني". النداء لم يصل ولن يصل. اصرار المسيحيين على البقاء في العراق يزعج جهات كثيرة بل ويرعبها. ذلك لان الصوت المسيحي كان دائما حرا ومستقلا وسيد نفسه وعراقيا إلى درجة الانتحار.

(1)

ما من عراقي إلا وفي قلبه كنيسة صغيرة بحجم الكون. كان مسيحيو العراق يحارون في وصف مشاعرهم إزاء زائرات أديرتهم وكنائسهم الطارئات، حاملات القرابين والأطفال الملفوفين بالأدعية والأبخرة المباركة. مزيج من الغبطة والدهشة والغيرة والتساؤل. كان القرويون القادمون من أماكن نائية يلجون المكان المقدس بقلوب خاشعة وأعين دامعة ليروا من بين الظلال صورة الأم الصابرة بكراماتها. المرأة التي أعزّها الله بكلمات وليدها في المهد. المعجزة هي ما تلهم وليس الانتساب الديني. وفي مكان آخر كان الصوت الملتاع يردد "سمراء من قوم عيسى". كان المغنّي يطلق جملته المتمردة والمتوترة كما لو أنه يرمي إلى الافق بأيقونة هي أشبه بالجمرة التي تنبعث من لحظة الخلق لذاته: حيث المعجزات لا تذكر إلا بذاتها. بلوعة ذلك العاشق كان النعمان بن المنذر يردد "لهفي على الزمن القصير/ بين الخورنق والسدير" وهو يقتنص من حيرته حمائم ليس لها من وظيفة سوى التهام خطواته المرتبكة. كل زمن عاشه المسيحيون في العراق هو ذلك الزمن القصير الذي يقيم في المسافة التي تفصل بين معجزة وأختها. زمن النعمان الذي لم تثنه الوقائع العظيمة عن تمني التقاط إيقاع النملة من أجل الشعور بنشوة حياة أطول. كان الزمن المسيحي في العراق هو ذلك الزمن العراقي الخالص، المنقّى من كل شائبة وهو عنوان براءة متخيلة وطهر اسطوري وصفاء هو موقع حسد تاريخي. أبحر مسيحيو العراق بسلام وسط تجليات ذلك الزمن اللين الذي كان ينبعث في كل لحظة رخاء عاشها العراق الممتحن بجلجامشه الباحث عن عشبة الخلود. لقد عاش المسيحيون في العراق بطقوسهم وتقاليدهم، وأماكن عبادتهم الشاهقة، ونواقيس كنائسهم ومقابرهم ومدارسهم ومستشفياتهم، وحياء راهباتهم، وزهد رهبانهم، وسماحة قسسهم، ومعارج كتابهم المقدس في صفتهم الرقية التي تحمي العراق التاريخي من كل خدش أو أذى. البقية الباقية (التي تبقى دائما، هكذا كنا نظن) من نبوءة الأزل العراقي: "هو الذي رأى/ فغنّ باسمه يا بلادي".

(2)

صورة العراق المسيحي لم تكن خافية على أحد. بل أن العراق كان دائما مسيحيا قبل قدوم المسلمين إليه فاتحين في القرن الميلادي السابع، الأمر الذي يجعل المؤرخين يؤكدون أن المسيحيين في العراق هم من أقدم الجماعات المسيحية في العالم. وعلى رغم هذا القدم كله، وعلى رغم الاقامة في بلد صعب وملتبس وجاذب للغزاة من كل حدب وصوب كالعراق، فقد ظلت تلك الجماعة تغري الآخرين بنضارتها وتفتحها وجمالها وازدهار سبل عيشها. وظلت تنعش الثقافة الوطنية بأفكارها ورؤاها وأصواتها المتمردة والحالمة. كانت دائما مشروعا لجمال ذاهب إلى ربيعه. شيء جوهري ولامع من اللغة العربية امتزج بذلك المشروع من خلال الأب مار انستاس الكرملي، حارس اللغة المكلف رعاية أناقتها والمولّه بغنجها الأخاذ.

في النهاية لم يكن سركون بولص، الشاعر الذي فقدناه قبل سنة، ابناً عاقاً لثقافة تستمد قوتها من الأرض الصلبة. لم يكن ذلك الطائر الفريد من نوعه إلا إبنا لسلالة أجهدت نفسها من أجل تنظيف لغتها من البداوة واليباس والمجازات البائدة. ألم يستعن يوسف الصايغ بنشيد الانشاد ليرهب الموت القادم من حاضنة السياسة؟ حين التقيت الشاعر العراقي الأب يوسف سعيد قبل شهر في إحدى المدن الأسوجية الصغيرة سبقه نوره إليَّ، وتذكرت حينها أني في صباي كنت امتحن ذائقتي اللغوية من خلال شعره الذي سبق نثره كل شعر عربي. ومثلما أقام المسيحيون في اللغة العربية (ليس كل مسيحيي العراق سريانا، هناك الكثير منهم عرب، وهم أحفاد من قاتلوا الفرس في واقعة ذي قار الشهيرة) فإنهم أقاموا في الوجدان العراقي باعتبارهم حراسا لجمال لا ينفد، ولا تغيب شموسه. كانت ذائقتهم الرفيعة تسبقهم إلى الثياب والطعام وسواهما من أساليب العيش عند الحافات المترفة. فقراء غير أنهم كانوا كراما، جميلات غير أنهن كن عصيات على الإغواء الشهواني المبرمج. سيكون الوجدان العراقي دائما مديناً لصورة الأنثى مثلما جسّدتها عفيفة إسكندر، المثالية في اريستوقراطيتها الجذابة. المرأة التي لم تكن تشعر بالخوف وسط حشد من الرجال المكبوتين جنسيا والسكارى، هي ابنة مجتمع مسيحي مطمئن إلى مصيره المعقود بجذور النخيل. ذلك ما جعل كل مسيحي عراقي لا يشعر البتة أنه ينتمي إلى أقلية، فالعراق هو بيته الأخير.

(3)

كانت لهم دائما حصتهم من العذاب العراقي، غير أنهم لم يظهروا يوما ما رغبة في أداء دور الضحية. فاديهم ومخلصهم، وضعهم في جوهر العذاب الإنساني. كان السؤال المسيحي يعذّب حامله أكثر مما يلقي اللوم على الآخرين. عرفت جاري الجميل جان فيليب لسنوات طويلة. عاش حياته كلها في البصرة، وحين هجرها أثناء الحرب العراقية ـ الايرانية فإنه ترك هناك بيتاً غاصّاًَ بالأرواح السعيدة. جاري الذي مات منذ سنتين هو نوع من النعمان بن المنذر. حين استدعته ابنته ليقيم في بيتها في ديترويت في أميركا عاد بعد ستة أشهر غاضبا وهو يقول: "كان الزمن هناك أقصر". لم يكن الرجل بغداديا، غير أن بغداد كانت كريمة كعادتها لتهبه بغداده، إذا لم نقل إنها سمحت له بأن يصنع بغداده التي تشبهه من جهة كرمها. منحته دربا للحلم هي المسافة التي تمتد بين زيونة حيث كان يسكن وبين حي الأمين، حيث كان سوق الخضر الذي عثر فيه على أصدقاء يحيطون مقدمه بالمحبة والتهليل. دورة يحيطها المسيحي العراقي بترف أنيق كما لو أنها آخر دورات الكون قبل القيامة. كان بابا الفاتيكان السابق يرغب في بدء حجته عام 1999 بمدينة أور، مسقط رأس أبي الأنبياء ابرهيم الخليل، غير أن الحصار الدولي المفروض على العراق حرم البشرية من لحظة يكون بعدها الحوار (الصراع) بين الأديان مجرد لغو فارغ. هنالك إرث إنساني يبدأ من تلك النقطة في الكون: أور. ماتت تلك الفكرة العظيمة بسبب سوء الحظ أو سوء الفهم أو بسبب ما اعتاده العراقيون من امتزاج بين سوء الطالع والخيبة بالآخر. لقد هرب البابا إلى دمشق وترك مسيحيي العراق حائرين. بل ترك العراقيين كلهم يواجهون الوحش بشعور عظيم بالعزلة.

(4)

كان فهد (يوسف سلمان يوسف) وطارق عزيز (الاول هو مؤسس الحزب الشيوعي العراقي والثاني هو وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء في مرحلة ما قبل الاحتلال الاميركي) استثنائيين في خروجهما على عرف اخلاقي مسيحي ينص على عدم العمل في السياسة. لم يكن المزاج المسيحي في العراق حزبيا أو حتى سياسيا. كما لو أن مسيحيي العراق حرّموا على أنفسهم العمل في ما يقود إلى الفرقة والخلاف والتناحر. حرصوا على عدم تبديد موقفهم الوطني العميق في فاعليات جانبية. ذلك الموقف تجلى قويا في مرحلة الغزو الأميركي وما بعدها. لقد بحث المحتلون عن شخص يكون بمثابة ممثل صوري للمسيحيين في المجالس التابعة لسلطتهم فلم يجدوا ذلك الشخص. وحين أعلن المسيحيون في ذلك الوقت وجودهم السياسي، كان حزبهم معارضا وبشدة للاحتلال. كلمات زعيم ذلك الحزب المنددة بالمتعاونين مع المحتل والتي قالها في خطاب علني ألقاه في أول مؤتمر للمصالحة الوطنية ترعاه الجامعة العربية في القاهرة، بيّنت أن حمامة السلام المسيحية لا تطير إلا بجناحين وطنيين.

النأي المسيحي عن العمل الحزبي والسياسي لم يكن يعني قطعا، جهلا بشعائر العمل الوطني. ما من جماعة عراقية مهاجرة حملت معها العراق كاملا بكل ما فيه مثلما فعلت الجماعات المسيحية في مهاجرها في أميركا وكندا واوستراليا ونيوزيلندا. فهم الذين صنعوا في تلك المهاجر خرافة "الحي العراقي" إلى جانب أحياء الشعوب المهاجرة الأخرى. ولأن المسيحي العراقي معروف بدقته، فقد وضعت تلك الأقوام كل تفصيل صغير من تفاصيل العيش العراقي في مكانه الصحيح. نواديهم هي سفارات لبلد يعيش في أعماقهم أكثر مما يقيم على الخرائط الورقية. لا تزال عيونهم ترعى من وراء المحيطات كل تلك الاديرة التي تحيط بفضاء الحيرة، قريبا من النجف، والتي ذكرها ياقوت الحموي باعتبارها نماذج للذوق الجميل في العمارة. أناقة لا تخطئ طريقها إلى القلب، وفتنة ترقى بالايمان لتكشف عن شفافية معدنه النبيل. المسيحيون العراقيون اينما كانوا، في الوطن أم في المهجر، هم خزانة العراق.

(5)

يوسف عبد المسيح ثروت. اسم لم تتداوله الثقافة العربية إلا في ما ندر غير أنه كان بالنسبة الى العراقيين بمثابة خزانة معرفية متنقلة. يذكّرك تواضعه وغزارة علومه وسعة الخريطة المعرفية التي يتنقل بين جهاتها بالنسّاك الكبار الذين يضعون كشوفاتهم الروحية في خدمة الناس العاديين. رجل زاهد في الدنيا عاش حياته كلها بين الكتب ناقلا بعربية متفجرة نظريات المسرح الحديث في العالم، وأهم نماذج مسرح العبث واللامعقول. هل كان المسيحيون يعتبرون ثروت هذا ومن قبله الزعيم الشيوعي فهد، والمخترع اللغوي الكرملي، والمؤرخ يوسف حبي، ومن بعده المسرحي عوني كرومي، والرسام خضر جرجيس وسواهم من اللقى الجمالية النادرة هباتهم للعراق؟ لو كانوا لا يعرفون موقعهم ومكانتهم في جوهر البذرة العراقية لفعلوا ذلك. لكن المشكلة تكمن في أنهم يعرفون جيدا أن النور الذي يهب اسم العراق معنى في التاريخ إنما يمر بأجسادهم قبل أن يصل إلى مستقره. لا تكفّ عيونهم عن رؤية آثار اقدام الرجال العظام الذين منحوا المرآة العراقية قدرا من زئبقها: مار ايليا، القديس حنا يشوع، وهو من عرب الحيرة ومن عشيرة الملك النعمان، القديس مار يوحنا، هوشاع الذي حضر مجمع اسحاق الجاثليق عام 410م، وشمعون الذي امضى اعمال مجمع يهبالا الذي انعقد سنة 486م وامضى في سنة 497م مجمع اباي وشمعون بن جابر الذي نصر الملك نعمان الرابع سنة 594م. الآن وقد انكسرت تلك المرآة وانسكب زئبقها، يمكننا توقع الكارثة.

(6)

عراق آخر لا يعرفه أحد من بين المدعوين شهودا إلى حفلة الابادة: كنيسة مستكنة خالية من المصلين. الرعية هربت بأعز ما تملك: قرابين الريفيين المرضى من المسلمين. عقد النصارى يحنّ إلى قدمي تلك الصبية الناعمتين وهما تجوسان دروبه، فيما يلاحقها صوت المغنّي: سمراء من قوم عيسى. كنيسة أم الأحزان هجرتها شفيعتها. لم يعد أبو يونان يبيع أطيب همبرغر في العالم تبعه نبيل الذي هاجر بكبّته التي أمدّت المطبخ العراقي ببراءة اختراع جديدة. كمب الأرمن، كمب ساره، المسبح، سوق الأثوريين في الدورة، الغدير، هل استسلمت كل تلك الأماكن الأنيقة للرثاء؟ هي بغداد أخرى إذاً. بغداد التي تتنكر لتأريخها. بغداد التي كشفت عن وجه العدو. صار الزمن أقصر. شعرت أن جاري جان فيليب كان محقا حين امتنع عن تناول الدواء لكي ييسر لملاك الموت مهمته. بغداد الأخرى وهي صورة عن عراق آخر لا تهب أحدا فرصة للعيش المنغم. حين يتأمل المرء ملوية سامراء وهي المئذنة العظيمة التي بناها مسيحي، يدرك كم يخون العراق ذاته. هل نقول لمسيحيي العراق وداعاً أم نقول وداعاً للعراق؟

كاتب من العراق يقيم في السويد