أحتفالا بأعياد الميلاد تنشر (الكلمة) هنا دراسة الفنان المصري المرموق عن التعبير الفني عن ميلاد المسيح، مشاركة لمسيحيي العالم العربي الاحتفال بعيدهم، وتأسيسا لتقاليد جديدة في الاحتفال بمنطق تحليلي يساهم في إرهاف الذائقة الفنية والوعي العقلي والروحي معا.

نوافذ على الملكوت

دراسة في التعبير الفني عن ميلاد المسيح

عادل السيوي

عادل السيوي
 

 

والكلمة صار جسدا، وحل بيننا ورأينا مجده،
مجدا كما لوحيد من آب، مملؤا نعمة وحقا.
                                انجيل يوحنا، الإصحاح الأول




وقال لهم: "من قبل هذا الولد باسمي يقبلنى، ومن قبلنى يقبل من ارسلنى، لأن الأصغر فيكم جميعا،
هو يكون عظيما"
                                 انجيل لوقا، الإصحاح التاسع


مدخل
تدفعنا هذه الأيام لايقاظ الذاكرة البعيدة، ولتأمل المنطلقات السامية والعميقة التى جاءت بها الأديان. والتى تحمل فى سبيلها الأنبياء العظام كل هذا العنت والقهر والالام. فبعد عيد الاضحى بمجازه المضىء عن تلك المحنة التى وضع فيها الله سيدنا ابراهيم، يأتى عيد الميلاد المجيد ليذكرنا بمجىء المخلص يسوع المسيح. فكيف صاغ الفنانون الكبار ميلاد المسيح؟ من أى منظور وبأى خيال؟ اسمحوا لى أن أصحبكم فى هذا النص للبحث عن بعض الاجابات، وسيتم ذلك عبر مداخل ومسارات متداخلة وقفزات مفاجئة، فلم أكتب وفقا لتصور مكتمل وانما هى محاولة للتعرف والتفكير والتعلم فى آن.

"... إنّ النور قد جاء إلى العالم، ولكنّ الناس أحبوا الظلمة أكثر من النور، لأنّ أعمالهم كانت شريرة" 
                                              (انجيل يوحنا 19:3).



 

"لم يكن هو النور بل ليشهد للنور. كان النور الحقيقي الذي ينير كل انسان آتيا الى العالم"



(1) قلب المؤمن
لاشك ان أعيننا تتعامل بأمانة مع الوجود الخارجي، وترى كل مايقع أمامها دون حذف او تبديل وترسل الى عقولنا صورا امينة فى حدود طاقتها لما يحدث امامها من ظواهر، ولكن ما أن تصل هذه الصور الى عقلنا تبدا عملية معقدة من التحليل وكشف المعنى والقبول والرفض واتخاذ الموقف. ولعل ابرز هذه الحالات يحدث عندما ننظر الى اجساد ممزقة او اشلاء او جثث نازفة، فإن الجسد المستقبل للرسالة يمنع العين من المواصلة احيانا بأن يشيح الانسان بوجهه او يغمص عينيه او يغطيها ن واحيانا تصل الاشارة الصادرة من المخ الى قطع حالة الوعى وحدوث الاغماء المؤقت حتى ينقطع المشهد عن العين والعقل معا. انها وعى عميق وغريزى للجسد بوحدته التى يراها أماه ممزقة ومهددة، فى يتحمل كجسد متابعة مشهد تحلله او تفككه انها درجة عميقة من الوعى الغريزى. ربما نتحمل مشاهد الجثث المكتملة او المومياء/ ولكن التميع وخروج السوائل والدم خارج الجسد هى اكبر من قدرتنا كبشر على التحمل ن هناك بالتأكيد من تكون وظيفتهم هى التعامل مع هذا الجانب الصعب، انا هنا اتحدث عن العين المحايدة الى هذا الحد اذا تتعرض الرؤيا الى مجموعة من الشروط اولها حدود العين نفسها، فنحن لا نرى فى الظلام، ولا فى الضوء المبهر، بينما تنجذب الرفاشة للضوء وتفتربمنه، وترى النحلة الاف الالوان التى لا نستطيع نحن تمييزها. بعد تلك الحدود التشريحية وافلفسياوجية للعين، تأتى قائمة كبيرة هناك ايضا قائمة طوياة من التوجهات النفسية والترسبات الاخلاقية والدينية والثقافية التى تتعامل مع البصر ومع ما يمكن ان نراه وما ينبغى حجبه او غض البصر عنه.

تراودنى هذه الفكرة كثيرا وانا أنظر الى الايقونات والى اعمال الفن المقدسة التى لا ترتبط بخلفيتى الإسلامية، واتساءل عن جم العاطفة الممكنة لو كنت مسيحيا اشاهد المسيح مصلوبا ومدى توجسي امام مشهد العشاء الأخير، ومدى احساسي بتمثال موسى لمايكل انجلو مثلا، او حالة البهجة والاحساس بالرسوخ امام تمثال بوذا. لاشك ان هناك بعدا انسانيا واسعا يتجاوز المشاهد المنتمى لديانة او عقيدة بعينها , وهذا يجعل أعمال الفن التى تناولت مواضيع مقدسة والعمارة المقدسة نفسها من الاهرام حتى ىخر كنيسة هى موصع تفاعل كبير مع الجميع، حتى وان غابت عنها المشاعر الايمانية المتشكلة داخل اطار محدد.

ويبدو ان هذه المشاعر تصيب حتى من لا يؤمن بأى دين ويرى العالم هكذا كما هو دون غطاء روحى خارجه، لان هذا الغموض الكونى والسعى للتخلص من النسبية والمحدودية، هو طموح ونزوع داخلى لنا كبشر جميعا. وقد وقفت مرات عديدة فى شارع عدلى أتأمل المعبد اليهودى "شعار هشميم"، وكنت دائم التساؤل عن سبب عدم اعجابى بهذا المبنى الصارم الى حد الجهامة، رغم تقديرى البالغ لمصممه المعمارى الكبير ادوار ماتاسك، وهو واحد من بناة القاهرة الخديوية، كنت اعتقد ان السبب ربما يرجع الى ذلك التجاور المرتبك بين عناصر معمارية متباينة مأخوذة من حضارات قديمة، النخلة البابلية مع الحواف الرومانية التى تحيط بأركان المعبد العلوية، التكتيل الفرعونى للواجهة مع الموتيفات الخجولة المرصوصة عليها والتى لاتتناسب مع مساحتها، تصميم مهجن لايمزج او يصهر التفاصيل فى كل، وربما يكون العذر المقنع للمصمم ان التاريخ لم يمنح اليهود فرصة لبناء اسلوب معمارى يخصهم، فصاغ الرجل توليفات من الحضارات التى عاشوا بينها، وكان ابناؤها من عظماء البنائين كالمصريين والبابليين والاشوريين والفرس. ديانة بلا تراث معمارى منظور، فكيف يكون شكل معبدها، واين تكمن شخصيته المتفردة؟


المعبد اليهودي بالقاهرة

ولد هذا الارتباك لدى سؤالا أكثر جدية حول جماليات العمارة الدينية، والى ما يمكن أن يسمى مجازا الفنون المقدسة: فهل ينظر يهودى مؤمن الى تفاصيل المعبد تلك، أم انه يكتفى بالتعرف عليه ككل، لأنه سيبدأ من خلاله علاقة أعمق وأهم من المبنى ذاته؟ فالمعبد جسر يمتد الى الالهى لا يمكن تقيمه انطلاقا من التفاصيل، وهو نفس الدافع الذى يجعل المسلم ينظر الى الكعبة كرمز وقبلة روحية تتجاوز بساطتها المعمارية. القدسية ربما ترجع بدرجة كبيرة الى نزوع روحي وايمان غير مشروط. نقطة انطلاق نظرة المؤمن عاطفية فى الأساس، انها العاطفة الدينية، التى تسيطر على الرؤية، ولا تخص علاقات البناء البصري وحدها، انها عين لا تأسرها التفاصيل.

وإذا نظرت كمسلم الى بقرة مثلا ونظر اليها هندى يؤمن بقداستها فهل ستكون هى نفس البقرة؟

وأى مشاعر كانت ستهزنى لو كنت من بين اتباع ديانة بلا الهة كالبوذية، وانا أقف أمام تمثال ضخم لبوذا؟ العين مشروطة بلا جدال بالعديد من المحددات، وخاصة عندما ندخل فى مجال الايمان. واذا اكتسب حجر أو شجرة ما بعدا مقدسا فإنه يكف عن أن يصبح شجرة او حجرا، يهجر حدوده المادية ويتحول الى بوابة كبيرة للروح، ونقطة ارتكاز للآيمان، ومجال للتقرب الى المطلق وتصبح صورته محاطة عند استقبالها بهالة قدسيته.

فى مصر نردد قولا شائعا وهو «قلب المؤمن دليله» وفى هذا القول وضع لليد على أهمية العاطفة الدينية والصوت الداخلى، العاطفة الدينية هى جزء هام فى رؤية الرمز والمجاز والمشهد الديني. هل يصلح هذا المدخل لنتحدث عن الأيقونات وعن لوحات الميلاد بالتحديد، ساحاول القيام بذلك داخل حدود قدرتى. ولكن هذا ربما يقودنا احيانا الى تأمل التفاصيل، والتفاصيل دائما مؤرقة، ولكن إذا كان الشيطان يقيم فى التفاصيل، فأين تقيم الملائكة؟ أفى العموميات؟ وهل يمكن الدخول الى التفاصيل دون أن تتفجر خلافات شيطانية؟ اعتقد أن التفاصيل هى أيضا الاختبار الحقيقي لرجاحة ما هوعام، وتجسيد نوعى له، وربما نكتشف فى التفاصيل أيضا مكانا يصلح لإقامة الملائكة.

أين تكمن القدسية اذن؟
كانت الكعبة الشريفة ولا زالت تحتوى بداخلها على الحجر الأسود، وهو من بقايا عبادة بالغة القدم وهى عبادة الأحجار او النيازك، ثم أصبحت ملاذا روحيا للوثنيين قبل الإسلام وكانت تضم بين جدرانها العالية عددا من الاوثان والاصنام، ولكنها اضحت منذ انتصار الاسلام مركزا مقدسا، بل وأهم مرجعية لديانة توحيدية كبيرة، انها قبلة العالم الاسلامي الكبير. فى تركيا تحولت الكنائس الى مساجد، وفى اسبانيا والكثير من الدول الاوربية التى عاش فيها العرب والمسلمون حدث العكس، تحولت المساجد الى كنائس بعد سقوط غرناطة. وفى مصر تحولت كنيسة قبطية الى معبد يهودى وهومعبد بن عزرا في مصر القديمة، أحد أهم الاثار اليهودية بمصر، كان اذا في الأصل مبنى كنيسة قبطية. وفى الأقصر شاهدت مسجد وضريح الصوفى ابو الحجاج وهو قائم بين أعمدة معبد فرعوني لديانة شمسية على قاعدة كنيسة رومانية، بين جنبات نفس المعبد أقيمت الكنيسة ثم المسجد والضريح، فكيف تجرى شعائر وعبادات ديانة ما داخل مبنى كان مخصصا لديانة اخرى؟ وفى الغرب تحولت العديد من الكنائس والمواقع الدينية الى مراكز للعروض الموسيقية والمسرحية وعروض الفن، فكيف تم قبول تحويل البناية الدينية الى موقع لنشاط دنيوى احتفالى؟ وكيف تآلف المبنى بأصالته مع الوظيفة الجديدة له؟ منذ أكثر من عامين شاهدت فى المغرب معرضا تشكيليا مقاما داخل كنيسة قديمة ولكننى لمحت نجمة سداسية تتكرر بين زخارفها وتسيطر على كافة الموتيفات الأخرى، والغريب ان نفس الوحدة الزخرفية يعتبرها المزخرف المسلم ابنة تراثه. فما الأمر؟

العمارة المقدسة نفسها تتعرض للتبديل والتوسيع والاضافة، يعدل بنيتها معماريون حداثيون معاصرون مهتمون بالتقنيات وربما ينتمون الى اجناس وديانات مختلفة، ولكن كل ما يضاف الى المبنى الأصلى لا يحتاج الى تاريخ خاص كى يتمتع بنصيبه من مهابة وقداسة الموقع ككل. اخذت العمارة كمثال واضح للجدل حول الأشكال وجوهرها، ولكن الأمر يمتد الى كافة التجسدات الفنية الأخرى، فالايقونات صنعها بالمثل فنانون ربما لا ينتمون الى نفس الدين، او بلا عواطف دينية كافية، كما هى حالة شاجال وهو يهودى مع لوحات الصليب على سبيل المثال. وهناك خطاطون يكتبون نصوصا مقدسة وآيات كريمة وفقا لايقاعات بصرية عبقرية، وهم لا يدركون المعانى العظيمة التى تحملها. ومزخرفون لا يدركون المنطق التجريدى والمفاهيم الكبرى التى تحكم زخارفهم، ولكنهم يجيدونها بشكل مذهل. هل هناك رغم ذلك كله امكانية للحديث عن جوهر لعمارة توحيدية وآخر لعمارة وثنية؟ عن لوحة مؤمنة ولوحة أقل ايمانا؟ وهل هناك شكل فنى محدد لكل دين؟ ربما.

(2) ميلاد المسيح

 

"الله لم يره أحد قط
الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب
هو خبر"
 انجيل يوحنا، الاصحاح الأول

"وسلام على يوم ولدت، ويوم أموت، ويوم أبعث حيا"
                   قرأن كريم
ولد الهدى، يوم مولد عيسى
أحمد شوقى


فى انجيل متى
الإصحاح الأول:
1: 1 كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم
1: 2 ابراهيم ولد اسحق واسحق ولد يعقوب ويعقوب ولد يهوذا واخوته
1: 3 ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار وفارص ولد حصرون وحصرون ولد ارام
1: 4 وارام ولد عميناداب وعميناداب ولد نحشون ونحشون ولد سلمون
1: 5 وسلمون ولد بوعز من راحاب وبوعز ولد عوبيد من راعوث وعوبيد ولد يسى
1: 6 ويسى ولد داود الملك وداود الملك ولد سليمان من التي لاوريا
1: 7 وسليمان ولد رحبعام ورحبعام ولد ابيا وابيا ولد اسا
1: 8 واسا ولد يهوشافاط ويهوشافاط ولد يورام ويورام ولد عزيا
1: 9 وعزيا ولد يوثام ويوثام ولد احاز واحاز ولد حزقيا
1: 10 وحزقيا ولد منسى ومنسى ولد امون وامون ولد يوشيا
1: 11 ويوشيا ولد يكنيا واخوته عند سبي بابل
1: 12 وبعد سبي بابل يكنيا ولد شالتيئيل وشالتيئيل ولد زربابل
1: 13 وزربابل ولد ابيهود وابيهود ولد الياقيم والياقيم ولد عازور
1: 14 وعازور ولد صادوق وصادوق ولد اخيم واخيم ولد اليود
1: 15 واليود ولد اليعازر واليعازر ولد متان ومتان ولد يعقوب
1: 16 ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح
1: 17 فجميع الاجيال من ابراهيم الى داود اربعة عشر جيلا ومن داود الى سبي بابل اربعة عشر جيلا ومن سبي بابل الى المسيح اربعة عشر جيلا
1: 18 اما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا لما كانت مريم امه مخطوبة ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس
1: 19 فيوسف رجلها اذ كان بارا ولم يشا ان يشهرها اراد تخليتها سرا
1: 20 ولكن فيما هو متفكر في هذه الامور اذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف ان تاخذ مريم امراتك لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس
1: 21 فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لانه يخلص شعبه من خطاياهم
1: 22 وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل
1: 23 هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا
1: 24 فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما امره ملاك الرب واخذ امراته
1: 25 ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر ودعا اسمه يسوع

الإصحاح الثاني
2: 1 ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام هيرودس الملك اذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم
2: 2 قائلين اين هو المولود ملك اليهود فاننا راينا نجمه في المشرق واتينا لنسجد له
2: 3 فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع اورشليم معه
2: 4 فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسالهم اين يولد المسيح
2: 5 فقالوا له في بيت لحم اليهودية لانه هكذا مكتوب بالنبي
2: 6 وانت يا بيت لحم ارض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لان منك يخرج مدبر يرعى شعبي اسرائيل
2: 7 حينئذ دعا هيرودس المجوس سرا وتحقق منهم زمان النجم الذي ظهر
2: 8 ثم ارسلهم الى بيت لحم وقال اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي ومتى وجدتموه فاخبروني لكي اتي انا ايضا واسجد له
2: 9 فلما سمعوا من الملك ذهبوا واذا النجم الذي راوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي
2: 10 فلما راوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا
2: 11 واتوا الى البيت وراوا الصبي مع مريم امه فخروا وسجدوا له ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهبا ولبانا ومرا
2: 12 ثم اذ اوحي اليهم في حلم ان لا يرجعوا الى هيرودس انصرفوا في طريق اخرى الى كورتهم
2: 13 وبعدما انصرفوا اذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وامه واهرب الى مصر وكن هناك حتى اقول لك لان هيرودس مزمع ان يطلب الصبي ليهلكه
2: 14 فقام واخذ الصبي وامه ليلا وانصرف الى مصر
2: 15 وكان هناك الى وفاة هيرودس لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني
2: 16 حينئذ لما راى هيرودس ان المجوس سخروا به غضب جدا فارسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس
2: 17 حينئذ تم ما قيل بارميا النبي القائل
2: 18 صوت سمع في الرامة نوح وبكاء وعويل كثير راحيل تبكي على اولادها ولا تريد ان تتعزى لانهم ليسوا بموجودين
2: 19 فلما مات هيرودس اذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر
2: 20 قائلا قم وخذ الصبي وامه واذهب الى ارض اسرائيل لانه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي
2: 21 فقام واخذ الصبي وامه وجاء الى ارض اسرائيل
2: 22 ولكن لما سمع ان ارخيلاوس يملك على اليهودية عوضا عن هيرودس ابيه خاف ان يذهب الى هناك واذ اوحي اليه في حلم انصرف الى نواحي الجليل
2: 23 واتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة لكي يتم ما قيل بالانبياء انه سيدعى ناصريا

الإصحاح الثالث
3: 1 وفي تلك الايام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية
3: 2 قائلا توبوا لانه قد اقترب ملكوت السماوات
3: 3 فان هذا هو الذي قيل عنه باشعياء النبي القائل صوت صارخ في البرية اعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة
3: 4 ويوحنا هذا كان لباسه من وبر الابل وعلى حقويه منطقة من جلد وكان طعامه جرادا وعسلا بريا
3: 5 حينئذ خرج اليه اورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالاردن
3: 6 واعتمدوا منه في الاردن معترفين بخطاياهم
3: 7 فلما راى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين ياتون الى معموديته قال لهم يا اولاد الافاعي من اراكم ان تهربوا من الغضب الاتي
3: 8 فاصنعوا اثمارا تليق بالتوبة
3: 9 ولا تفتكروا ان تقولوا في انفسكم لنا ابراهيم ابا لاني اقول لكم ان الله قادر ان يقيم من هذه الحجارة اولادا لابراهيم
3: 10 والان قد وضعت الفاس على اصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار
3: 11 انا اعمدكم بماء للتوبة ولكن الذي ياتي بعدي هو اقوى مني الذي لست اهلا ان احمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح القدس ونار
3: 12 الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع قمحه الى المخزن واما التبن فيحرقه بنار لا تطفا
3: 13 حينئذ جاء يسوع من الجليل الى الاردن الى يوحنا ليعتمد منه
3: 14 ولكن يوحنا منعه قائلا انا محتاج ان اعتمد منك وانت تاتي الي
3: 15 فاجاب يسوع وقال له اسمح الان لانه هكذا يليق بنا ان نكمل كل بر حينئذ سمح له
3: 16 فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء واذا السماوات قد انفتحت له فراى روح الله نازلا مثل حمامة واتيا عليه
3: 17 وصوت من السماوات قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.

من هذه الإصحاحات الثلاثة نكتشف أن أنجيل متى هو أكثر الأناجيل استفاضة في حكاية قصة الميلاد، لأننا نلتقي المسيح في أنجيل مرقص مكتملا، وسيتم تعميده فى نهر الاردن، ولا حديث عن الميلاد هناك. وفى انجيل لوقا تجاهل تام لرحلة المسيح الى مصر، وحديث عن ختانه وعن تسجيله وفقا للناموس اليهودى السائ،د والتضحية بزوج من الحمام او اليمام فداء كما هو مقنن على كل ذكر يولد. بينما يربط انجيل يوحنا ـ وهو يوحنا بن زبدى وليس بوحنا الرائي، وليس بالطبع يوحنا المعمدان الذى ولد قبل ميلاد المسيح بقليل ـ يربط ميلاد المسيح بميلاد الكون من نقطة البداية وهى الكلمة/ كخطوة تعاقبيه بعد ميلاد يوحنا، لذلك علينا ترتيب الوقائع من الشذرات المتناثرة عنها في الأناجيل ومن الحكايات الدينية التي تعتمدها الكنائس على اختلافها وهى حكايات متنوعة، وهناك أيضا الحكايات الشعبية والاناجيل المحرفة والتى تسهب فى تفاصيل كثيرة لم يحدث اتفاق عليها. وسنحاول هنا التعامل مع العناصر التى لا يختلف الكثيرون حولها، ولا تشكل انحرافا كبيرا عن المعنى العام للميلاد. فحتى الانجيلين اللذين تعاملا مع قصة الميلاد فقد اوردا روايتين كل يركز على جانب بعينه، وأهم ذكر للميلاد موجود بأنجيل متى وانجيل لوقا، أما مرقص ويوحنا فلم يتوقفا عند الميلاد، ولوقا فى انجيله لا يشير الى سفر مريم الى مصر، وانما نرى المسيح مسجلا ومختونا ودفعت عنه الفدية زوج من الحمام او اليمام. المهم زوج من الطيور كأى ذكر يهودى يولد/ وكل التقاليد المراعاة وفقا للتقالليد اليهودية التي تم احترامها من مريم ويوسف النجار وتم تسجيل المسيح كاحد الرعايا اليهود ببيت لحم. فمصادر الحكاية تنقسم إلى مصادر مقدسة ومصادر بشرية، ومن المصادر التاريخية: هيرودوس ةملابس الحراس ةشكل ملوك الشرق ةالرعاة. وهناك مصادر مختلف عليها من الاناجيل الشعبية والتفسيرات والتأويلات والاضافات. مثل المرأة التى تظهر فى بعض لوحات الميلاد: انجيل جيمس وفيه ان امرأة كانت تشك فى عذرية العذراء فمدت يدها لجسد العذراء للتأكد فشلت يدها، ولكن عادت اليها الحياة عندما رفعت المسيح/ لمست جسد الطفل. الشك دائما فهناك لوحات عن قسوة القديس توما، وفيها يغرس توما بقسوة اصبعه فى جرح المسيح، ليتأكد من انه جرح حقيقي. مثلما طلب موسي رؤية الله الذى يكلمه "كي يطمئن قلبي"

ترتيب الوقائع
لدينا إذن مروية دينية تعتمدها الكنائس على قاعدة النصوص المقدسة، ومروية تاريخية، وهناك أناجيل أخرى شعبية لا إجماع عليها، وهناك حكايات دينية متداولة، كما تتراكم النصوص والشروح والعديد من الاضافات، بسعة الخيال الانسانى، سنتعامل هنا مع النصوص المعترف بها، ومع العناصر التى لا تشكل انحرافا عن المضمون الروحي الكبير للحدث.

أمام الفنان فى قصة الميلاد خطوط كثيرة يمكن ان يبدأ منها لوحته، ولديه عناصر بصرية تتحرك فى اتجاه موقع واحد، هو مكان الميلاد، الرعاة والمجوس والملائكة وفى الخلفية مشاعر التوجس والخوف من غدر هيرودوس، فى مذود للحيوانات يلتم الشمل، وربما كانت خيول الحكماء مرابطة بالقرب، وربما جلب الرعاة حملانهم معهم، اضافة الى حيوانات الحظيرة وبالتحديد البقرة والحمار، نحن فى فصل الشتاء ولكن هناك علامات تضىء السماء لتبشر الرعاة، ونجم مذنب يقود الحكماء عبر الشرق حتى موقع الميلاد، هذه هى العناصر الأساسية التى تحظى بقبول عام، وهناك اضافات فنية وفقا لخيال الفنان. ربما يهتم فنان بالرجل الافريقى الذى جاء من الحبشة، أو بالمرأة التى جاءت لتساعد مريم وتختبر حملها، انها تخريجات تهدف الى تأكيد واقعية الحدث، فمن الصعب تصور امرأة تلد دون وجود امرأة اخرى بجانبها، او ان يتواجد الاسيوين ويغيب الافارقة، انها محاولات من الفنانين لتوسيع المشهد انطلاقا من خيالهم الخاص، أرتب هنا العناصر السردية التى تعامل معها الفنانون لبناء لوحات الميلاد وأقصد العناصر المباشرة لا المعانى والمفاهيم او المجازات الكبرى.

ضريبة رومانية:
زفت السماء البشارة الى مريم العذراء بحملها الالهى، وكان خطيبها يوسف النجار على علم بذلك. ولم يتخل عنها لمعرفته بطهارتها الكاملة، رغم انه كان قد قرر عدم التشهير بها وانما تخليتها سرا، ولكن حلما سماويا اتى اليه لتبرئة مريم، وتبشيره بأنها تحمل حملا سماويا عن طريق الروح القدس، وانها طاهرة بتول، تقدم الحمل بشكل طبيعى ولكن حدث ما يتوجب انتقال يوسف الى بيت لحم، فقد اصدرالحاكم الرومانى كرينيوس، وبناء على اوامرالامبراطور اوجستين امرا باجراء احصاء للنفوس فى الولاية الرومانية، تمهيدا لفرض ضرائب على الرعية الذين يخضعون لها، وقد فرضت عقوبات باهظة على من يتخلف عن تسجيل نفسه، وكان التعداد يتطلب ان يرجع كل انسان الى مسقط رأسه. وبما ان يوسف كان من نسل داوود اى من بيت لحم مدينة داوود، التى هى فى الواقع انذاك ولا زالت أشبه بقرية او مدينة صغيرة، ولكن من بين جدرانها سيولد من يغير تاريخ العالم بأسره، اخذ يوسف اذا خطيبته، وهى فى الاسبوع الخير من حملها، رغم طول السفر ورجع الى مسقط رأسه بيت لحم، ولكنه نظرا لتوافد العديد من اهل البلدة خوفا من الغرامة الى بلدتهم الاصلية، لم تجد العائلة المقدسة مكانا لتبيت فيه، وهناك ظهر من تعاطف معهما، واهداهما الى مزود او حظيرة للحيوانات او مغارة على تخوم المدينة ربما تسعفه ليقضى ليلته، فى هذه الحظيرة ولد السيد المسيح. من كان هناك وقتها؟

الرعاة
يذكر انجيلا متى ولوقا بعض التفاصيل عن الرعاة، اما انجيل يوحنا وبالمثل انجيل مرقص فلم يتوقفا لسرد قصة الميلاد، متى ولوقا يحددان لنا اذا الاشخاص الذين تواجدوا فى لحظة الميلاد، او ربما بعدها بقليل، وهم فى الأساس مجموعة من الرعاة اليهود، كانوا يسهرون بجوار قطعانهم في التلال المحيطة ببيت لحم، وقد رأو علامات مروعة فى السماء واصابهم الخوف، ولكن ملك الملائكة اخبرهم بأن تلك اشارة السماء لهم بأن المعلم المسيح سوف يولد فى تلك اللحظة، واخبرهم بالبحث عنه، واعطاهم الإشارة: سيولد المخلص فى مذود وسيجدونه ملفوفا بقماطه وهذه هى العلامة.

المجوس
الى جانب الرعاة هناك ثلاثة من ملوك الشرق او الحكماء او المنجمون لا نعلم بدقة ولكن يتم وصفهم بالمجوس وفى نصوص تالية، غير مقدسة، نعلم ان لهم اسماء محددة وهم بالتزار وملكيور وكازبر، ومن تراكم المرويات سنجد من يحدد أن اكبر الحكماء عمرا وهو بالتزار يمثل القارة الاوربية، وان ملكيور اسيوى، وان كازبر أكثرهم شبابا لم يكن اسيويا وانما من المغرب، وانه زنجي أسود البشرة، المهم ان الحكماء بغض النظر عن طبيعتهم وطبيعة دينهم، كانو يحملون معهم عطايا للمولود الذى اخبرتهم الافلاك بأنه سيكون ملكا على العالم، ونملك تحديدا لنوع العطايا وهى الذهب واللبان والمر. واللبان المذكور هو مادة صمغية عطرية تحرق كالبخور، هم حملة الهدايا، ومن هنا كان تداول الهدايا مرادفا للاحتفال بعيد الميلاد.


الملائكة والحيوانات

يشارك فى مشاهدة الواقعة أيضا شهود من طبيعة أخرى وهم الملائكة، الملائكة الذين بشروا الرعاة والملائكة الذين احاطو بموقع الميلاد. وحيوانات المذود ولم يتم تحديدها بدقة ولكن هناك مرويات تضيف لها مهام محددة، فقد انهمك وفقا لتلك المصادر كل من الحمار والبقرة فى بث انفاسهم لتدفئة المزود البارد، كى ينعم المولود الجديد بالدفء، يضاف الى الحمار والبقرة بعض الاغنام التى اتت بالطبع خلف الرعاة، وهناك من اتسع خياله مثل ليوناردو ليرسم جملا بما ان الشرق حاضر فى الحكاية، وبما ان الحكماء قد قطعوا رحلة طويلة رسم آخرون جيادا تحيط بموقع الميلاد، هذه هى الحيوانات الاساسية، وفى لوحات أخرى سنجد ذئابا ووحوشا تهاجم البشر فى ليلة الميلاد ولكن هذه خيالات خاصة لا يمكن ضمها للمروية المعتمدة.

وزير كنداكة
كنت الاحظ وجود رجل أسود البشرة، تبدو ملامحه الزنجية واضحة بقوة، فى العديد من لوحات الميلاد، فمن هو هذا الرجل؟ هل هو واحد من الحكماء او الملوك المجوس؟ لايبدو ذلك، فهناك لوحات رسم فيها الحكماء الثلاثة بالاضافة الى هذا الإفريقي الغامض، الأقرب أن يكون اشارة لواقعة ذكرت ضمن أعمال الرسل، وهو وفقا للنص، عبد خصي ارسلته كنداكة ملكة الحبشة انذاك الى اورشليم ليسجد بها، وانه كان قائما على خزائنها، ويوصف في الانجيل بالتواضع رغم مركزه الهام، وقد التقى وفقا لمشيئة سماوية بالقديس فيليبس فى طريق عودته من القدس الى غزة، وكان الرجل يقرأ نبؤات اشعياء، ولكي لا اطيل، رغم غواية التفاصيل، تم تبشير هذا الزنجى بالميلاد، وتم تعميده أيضا على يد فيلبس، ولكن بعض الرسامين اصروا على ان يضموا هذا الرجل الى شهود الميلاد أيضا. هذه المروية تختلف اذا عن مروية الحكيم أو الملك الأسود، وهو كازبر، بوصفه مغربيا، هذا الافريقى يظهر احيانا في الحدث بشكل ملكي، واحيانا كرحالة متعب، وفى لوحات اخرى يبدو كعابر سبيل تصادف وجوده فى موقع الحدث.

مكان الميلاد:
لوقا هو الرسول الوحيد الذى حدد موقع الولادة بدقة وقرر أنها تمت فى مزود، وارجع ذلك فى انجيله الى أن العائلة لم تجد مكانا فى الفندق، ولم يذكر المغارة، ولكن بعد ذلك تم تعرف على موقع مغارة تتوافق مع المروية. ويقال إنها المكان الذى شهد ميلاد المسيح، وفى هذا الموقع بنيت كنيسة المهد ببيت لحم. فالمكان اذا هو مذود او حظيرة لبيات الحيوانات، او مغارة وربما كانت العادة ان يضع الرعاة الحيوانات داخل المغارات لتقيهم البرد، وبعض الفنانين وصفوا المكان كموقع متوسط بين المغارة والحظيرة، فهناك تجويف طبيعى فى الجبل، وهناك ايضا بناء أو أخشاب تكمل المأوى، لسنا داخل المدينة فى جميع الحالات، ولكن على مشارفها ونحن بالقرب من تلال او حقول تفصلنا عن المدينة.
للسماء حضور واهمية كبيرة فى قصة الميلاد، فقد دل النجم المذنب حكماء المجوس فى السماء على موقع الميلاد، كما ظهرت العلامات التى أرهبت الرعاة، كما ظهرت الملائكة لتخبر الرعاة بالحدث، انها سماء شتوية الطابع فى كافة الاحوال سماء شرقية فى ليلة باردة.

تاريخ الميلاد
متى ولد المسيح؟ ولا يهمنا هنا تدقيق التاريخ الفعلى، وانما تاريخ الميلاد مهم بالنسبة للفنان مثل مكان الميلاد، فمن خلاله سيحدد طبيعة الضوء وكثافة ملابس الناس، واذا كان الحدث يتم فى عصر بعينه فلابد من تقصى شكل أشياء ذلك العصر واسلوبه فى العمارة والأزياء وأسلحةالحراس، ويلعب موقع الحدث من اليوم أهمية اخرى، فمشاهد الليل تختلف كلية فنيا عن مشاهد النهار، وسطوع الضوء وكثافة الهواء كل تلك العوامل كان الفنان انذاك يهتم كثيرا بتقصيها قبل صياغته للوحته.

يذكر انجيل متى ان مولد المسيح كان في ايام حكم الملك هيرودوس "الذي مات في العام الرابع قبل الميلاد". اما انجيل لوقا فيقول: «في الشهر السادس ارسل جبريل الملاك من الله الى مدينة من الجليل اسمها الناصرة الى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم."ويقصد الشهر السادس من حمل الياصابات بيوحنا المعمدان. وعن تاريخ الميلاد يقول لوقا أيضا في الاصحاح الثاني انه «في تلك الايام صدر امر من اغسطس قيصر بان يكتتب كل المسكونة. وهذا الاكتتاب الاول جرى اذ كان كيرينوس والي سورية". ولكن تاريخ اول اكتتاب ضرائبي فرضه الرومان على أهل فلسطين يوافق العام الميلادى السادس. ومع اختلاف عام الميلاد بين الروايتين ليس هناك ذكر في ايهما عن اليوم او الشهر الذي حدثت فيه الولادة. وقد تم الاتفاق على الاحتفال بعيد الميلاد في 25 ديسمبر بالنسبة للكنيسة الغربية بعد مناقشات طويلة جرت فى القرن الرابع الميلادى. ووفقا لحسابات وقياسات مغايرة اختارالارثوذوكس أن يكون الاحتفال يوم 7 يناير. ويقع الاحتفال الغربى فى نفس اليوم الذى كان الرومان يحتفلون فيه بالميلاد «ناتيفيتاس» NATIVITAS والكلمة تعنى احتفالية الميلاد بالمثل في اللاتينية. وكان العيد يوافق اقصر نهارات الشتاء، انها احتفالية وثنية كبيرة بالشمس التى تولد رغم طول الظلام، وربما تكون السلطة الرومانية قد اختارت ان تبقى على الاحتفال الاصلى لأهميته الشعبية، وتضم اليه الاحتفال المسيحي.

حول طبيعة المولود:
نظرا لتفرد كنيستنا القبطية بالدفاع عن موقف محدد حول طبيعة المسيح، ابان الانشقاق الأول فى تاريخ الكنيسة، والذى توالت بعده انشقاقات أخرى فلابد من الرجوع ـ ولو على نحو مختصر للغاية ـ الى بعض المرتكزات، لفهم زوايا النظر الى ميلاد المسيح، لأن الرسام سيبنى صياغته لشكل المولود وموقعه فى اللوحة بناء على فهم وايمان ما بطبيعته. فاندريه روبليف مثلا مسيحى شرقي، ولكن كنيسته الشرقية كنيسة خلقدونية: تؤمن بطبيعتين للمسيح، اما ايقونتنا القبطية فهى ايقونة صاغها فنان يؤمن بالطبيعة الواحدة، الرسامون الكبار من ليوناردو وروفائيل وما يكل انجلو كاثوليك، واذا انتقلنا الى الهولنديين مثل رمبراندت فهم بروتستانت. ولأن الايقونة او اللوحة ذات الموضوع الدينى مرتبطة بتوجه ومشاعر دينية بعينها، فسيكون ضروريا ان نلمح ولو بشكل مختصر لهذه الاختلافات، رغم اننى لم اتمكن من تمييزها فى صياغة الأشخاص، ولكن كان التميز دائما فى بناء ولغة اللوحة والايقونة ككل.

الاختلاف حول طبيعة المسيح يتعلق بمدى اندماج جانبه الالهى بجانبه الانسانى، او بعبارة اخرى اللاهوت بالناسوت، ولكنيستنا القبطية فى مصر موقف واضح ترفض فيه الاعتقاد بطبيعتين للمسيح، وسوف أعرض لكم هنا فقرات من نص بديع للأنبا شنودة يوضح فيه موقف الكنيسة من المصرية من طبيعة المسيح. ولا اخفى اعجابى برجاحة العبارة، وبتناسقها وقدرتها على الاقناع من جهة، الى جانب رقي مستوى الطرح فيها من جهة ثانية، وهذا ليس تحيزا لان هذا هو رأى الكنيسة المصرية، وانما ادراكا بأن هذا الطرح متجانس مع طبيعة الايمان ومنطقه:

«السيد المسيح هو الاله الكلمة المتجسد له لاهوت كامل وناسوت كامل، ولاهوته متحد بناسوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، اتحادا كاملا اقنوميا جوهريا لاينفصل مطلقا، حتى قيل عنه أنه سر عظيم. الطبيعة اللاهوتية (الله الكلمة) اتحدت بالطبيعة الناسوتية التي أخذها الكلمة من العذراء مريم بعمل الروح القدس. وباتحاد الطبيعتين الالهيه والبشرية داخل رحم العذراء مريم تكوّنت منهما طبيعة واحدة هي طبيعة الله الكلمة المتجسد. وبذلك فعقيدة كنيستنا أن السيد المسيح له طبيعة واحدة، وعبارة طبيعة واحدة المقصود بها ليس الطبيعة اللاهوتية وحدها ولا الطبيعة البشرية وحدها، إنما اتحاد هاتين الطبيعتين في طبيعة واحدة هي طبيعة الكلمة المتجسدة. للاتحاد طبيعة هو أنه اتحاد بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا استحالة، فالمقصود أن وحدة الطبيعة هي وحدة حقيقية ليست اختلاطاً كما لم يحدث تغيير بينما لم يحدث تغيير في اللاهوت ولا في الناسوت باتحادهما، فهو اتحاد أدى إلى وحدة في الطبيعة.

العذراء لم تلد إنساناً وإلهاً وإلا كان لها ابنان الواحد منهما إله، والآخر منهما إنسان. لم يبق إلا أنها ولدت الإله المتجسد. إن المسيح هو الابن الوحيد المولود من جوهر الآب قبل كل الدهور وهو نفسه ابن الإنسان. إذن الذي وُلِدَ من العذراء هو ابن الله، وفى نفس الوقت هو ابن الإنسان كما قال عن نفسه.إنها طبيعة واحدة لكن لها كل خواص الطبيعتين، كل خواص اللاهوت وكل خواص الناسوت بغير امتزاج، ولم يحدث انفصال بين اللاهوت والناسوت في موت المسيح.وأمكن للإله المتجسد القائم من الأموات أن يخرج من القبر وهو مُغلق عليه بحجر عظيم وأمكن أن يدخل على التلاميذ والأبواب مغلقة، فهل دخل من الأبواب المغلقة بلاهوته أم بناسوته؟! أليس هذا دليلاََ على وحدة الطبيعة».

ماذا حدث بعد الميلاد مباشرة
اذا رجعنا للاناجيل سنجد ان متى الرسول يذكر فى انجيله ان القديس يوسف النجار جاءه حلم بأن يهرب بالعذراء والمسيح الى مصر لينجو من مكيدة هيرودوس، الذى قرر المذبحة لكل طفل يقل عمره عن عامين، وانه سافر ليلا مع العذراء قاصدا مصر. المسيح لم يشاهد النور وفقا لانجيل لوقا اذا فى بيت لحم، رغم صعوبة تصور هروب العذراء مباشرة بعد ولادة المسيح، فإن الخطرالعظيم يمكن ان يكون دافعا كافيا للهرب، فى كافة الأحوال. اما انجيل متى فيذكرأن المسيح قد بقى فى بيت لحم وتم ختانه وفقا للناموس اليهودى فى اليوم الثامن، وانه قبل كل ما يمليه الناموس اليهودى السائد، وانه بقى هناك واقام كافة الشعائر اليهودية التى تترتب على ولادة طفل ذكر، بما فيها ذبح زوج من الحمام، حتى بلغ اربعين يوما ثم عاد مع العائلة المقدسة الى الناصرة. اما مرقص ويوحنا فيبدان الحديث عن المسيح وقد تجاوز الطفولة فعليا، حين عمده يوحنا المعمدان فى نهر الاردن.

(3) صليب يونج

العاطفة الدينية لاتكفي وحدها لتحليل الرمز المقدس وتامله، وهنا قد يسعفنا قول راما كرشنا، فى محاولته للتعامل مع المشترك الدينى «ان احترامنا للشعور يجب الا يقلل من احترامنا للرمز».

د كريشنا يريد بهذه الاشارة المكثفة، أن يؤكد على أهمية تأمل الرموز والاستعانة بها للتعرف على الالهى، ففى الرمز تلتقى العاطفة الدينية بالعقل وبالأفكار. يصعب أن يستقيم الايمان وينمو فوق أفكار مجردة، فالأفكار والمفاهيم تولد المعرفة، ولكنها لا تصنع ايمانا، ويصعب على المسيحي ان يتخيل الله بوصفه فكرة مجردة يمكن فصلها عن المسيح، فالأفكار المجردة لا تقودنا الى التصور. لابد اذا من جسد وسيط، وهنا تأتى أهمية الرمز، ويأتى دور الصورة، ولكن لا يمكن بالمثل أن يكتسب الرمز قوة الالهى وقدراته، فالصليب يظل رمزا. وامثولة مصاص الدماء الذى يتداعى وينقشع اذا ما شاهد صليبا، والتلويح بالايقونات فى المعركة، هى تعبير عن ميل المؤمن دائما، لمنح الرمز قوة الفعل أيضا، قرأت مرة نصا ليونج يحاول فيه أن يفسر سبب التحول من شكل الصليب الرومانى الأول وهو صليب تتساوى كل اطواله ويتقاطع فى المركز، الى ذلك الصليب الذى ساد العصور الوسطى وهو صليب طويل ونحيل، يتقاطع فى ثلثه العلوى. يرى يونج ان سقوط الامبراطورية هو السبب وراء هذا التحول، الصليب ذو الاضلاع الأربعة المتساوية كان اشارة امبراطورية لإمكانية التوسع فى كافة اتجاهات الأرض، فروما هى العالم، ولكن عندما سقط النظام الرومانى، جاء البرابرة، واشتعلت الحرائق وخربت المدن، وانتشر الطاعون، أصبحت السماء هى الخلاص الوحيد، فارتفع عامود الصليب، وأصبح سهما يتجه الى أعلى، صار تعبيرا عن الآلم وعن اليأس من امكانية العدل والرحمة على الأرض.

(4) بيزنطة والأيقونة
لعبت الايقونة دورا كبيرا فى تحول الامبراطورية الرومانية الى المسيحية وفقا لتفسير عدد من المؤرخين، رجوعا الى ما حدث فى موقعة شهيرة، وهى معركة جسر ملفيان التى وقعت عام 312م، والتى اختار فيها الامبراطور قنسطنطين وهو يسعى للسيطرة على القسم الغربى من الامبراطورية ان يضع على دروع جنوده اشارة تحوى الحرفين الاوليين من أسم المسيح باللغة اليونانية وهما حرفى: chi - rho وقد حسمت الموقعة بشكل اعجازى، فقد تحطم الجسر الذى كان يربط قطع اسطول اعدائه وغرق معظمهم فى النهر، آمن القائد الكبير بأن رب المسيحين قد ساعده فى احراز ذلك النصر، وأظهر بعدها درجة كبيرة من التسامح مع الأقلية المسيحية. كانت تلك الخطوة الاولى نحو تحول روما الى المسيحية، انها فاعلية علامة بصرية، أو لنقل ان التحول نحو المسيحية يكشف منذ البداية عن فاعلية الرموز البصرية.
في مايو330 م وفى مدينة ميلانو بالتحديد اعلن قسطنطين بعد انتصاره اعلانه الشهير: "الديانة المسيحية ديانة مسموح بها"، وكان هذا يعنى ان العاصمة الجديدة التى بناها للامبراطورية الموحدة والتى تحمل اسمه قسطنطينوبولى (القسطنطينة، أو اسطنبول حاليا)، بناها على انقاض مستعمرة بوزنطيا اليونانية ومن هنا جاء الأسم، ستكون عاصمة للديانة الجديدة وعاصمة للامبراطورية الموحدة. ولكنها اصبحت بعد ذلك عاصمة للجزء الشرقى من الامبراطورية والذى كان يضم مصر وآسيا الصغرى وتخوم أخرى، نحن فى القرن الرابع الميلادى وقبائل الجيرمان والبرابرة تنهش فى الأطراف الغربية للامبراطورية التى تتمزق من داخلها أيضا، فى 410 تسقط روما ويحل الظلام على اوربا لقرون طويلة، بينما على الضفة الأخرى تصمد الامبراطورية الشرقية، وتتأكد شخصية الدولة البيزنطية على يد جوستينيان الذى يعتبر بجدارة اهم بناة الشخصية البيزنطية، والذى اعتمد فى صياغتها على ثلاثة عناصر أساسية: الارث الرومانى فى الإدارة، الثقافة اليونانية، الديانة المسيحية. انها بيزنطة اذا دولة المسيحية، وموقع ميلاد الايقونة المسيحية الرسمية، التى تبنت العديد من التقاليد الشرقية، والتي حددت الشكل التاريخي والذائع لما يعرف بالايقونة. فما هى الايقونة؟

الأيقونة كلمة مأخوذة من الأصل اليونانى iykon والكلمة تعنى باليونانية التشابه او الشىء المشابه، بمعنى المثل. وقد ارتبطت الكلمة بالديانة المسيحية وصارت لقرون عدة التعبير الفنى المسيحي الأكثر انتشارا وفاعلية. هى ببساطة، فى أكثر تجلياتها انتشارا لوحة دينية ذات وظيفة شعائرية وابتهالية، اى انها لوحة تقوم بوظيفة دينية، ولها مواصفات خاصة وأهمها تراجع شخصية الفنان خلف قوانين صياغة محددة سلفا واحتراما لجلال الموضوع وحفاظا على تقاليد فنية متوارثه وذات بعد مقدس، تقاليد يتم ارجاعها الى زمن المسيح نفسه، وفى مقدمة هذه التقاليد غياب العمق وتسطيح الأشكال والتخفيف من ثقلها وتخفيف الظلال وتجنب تصوير الانفعالات الحدية والحفاظ على مهابة التكوين وانضباطه، وتجنب الايحاء بواقعية المشهد، فليس الهدف هو تأمل ما نراه، وانما تجاوزه لتأمل المعانى السامية التى يشير اليها.

تحريم الايقونات وعبادتها
احب البزينطيون الايقونات وتعمقوا فى المحبة حتى سادت بينهم عبادة الايقونات عدة قرون، وهى العبادة التى تم بعد ذلك الانقلاب عليها فى القرن الثامن، القرن الذى شاهد محارق الايقونات وتحطيمها بكراهية شديدة واحراق صانعيها أيضا، الايقونة كانت اذا مادة للمحبة وللكراهية معا. فى سنة 732 دارت رحى معركة فاصلة بين العرب والبزنطيين، وهى معركة اكرونون، وكانت موقعه بالغة الأهمية فى تاربخ الفن، فقد انتصر فيها البيزنطيون وأوقفوا تقدم العرب. فى هذه المعركة لم يرفع المسيحيون رموزهم الدينية ولا الايقونات، لقد انتصروا بقدراتهم العسكرية وحدها، وكانوا قد خسروا أمام العرب قبل ذلك بتسع سنوات معركة رفعوا فيها الايقونات، وأكدت هزيمتهم فادحة ريبتهم الاولى من الايقونات، وبدا كما لو أن الرب لا يوافق على الاستعانة بها، أو انها لا تعكس ارادته. هكذا كانت العداوة للصورة داخل المسيحية بدوافع عملية أيضا، ومن ذلك الوقت بدأت الحرب على الايقونات، وهى الحرب التى تقل حدتها وتخفت، ولكنها لم تنته الى يومنا هذا وإن غيرت أشكالها. مع ان الايقونة قد ترسخت، وتخيل الجميع ان انتصارها حاسما وبلا رجعة. فإن التاريخ قد علمنا أن هذا العداء لن ينتهى ابدا، سيعود سافونارولا ويرفضها، ويبعدها مارتن لوثر عن كنيسته المتقشفة، وسيفجر طالبان تمثال بوذا، ولم تنته القائمة بعد.

لاشك ان اليهودية كانت تشكل قاعدة دينية للمسيحية، واليهودية كانت تفتقد كديانة الى دعامة مادية لبناء المشهد، فهى ديانة شعوب متنقلة متوترة تفتقد الى البناء كتشكيل ثابت ووظيفى، وكيان حاضن لابداعات البصر، بينما كانت الحضارات السائدة على ضفتى النيل، وما بين النهرين، غنية بالمشاهد والتجسدات، ولذا سعت اليهودية للتخلص من المشهدية، لخلق مسافة وهوية منفصلة، واذا رجعنا الى قصة العجل واعادة صبه بعد ان غاب موسى قليلا عن قومه، سنجد اشارة الى سيادة تلك النزعة التشخيصية حتى فى بداية التجربة اليهودية، فقد رجع قوم موسي بسرعة مدهشة الى ما تم التعود عليه من ثقافة تشكيلية تجسيدية للألوهية، هناك اذا تيار يميل الى الرموز البصرية من التراث اليهودى وتيار رافض لها وهو الأعم، المسيحية أيضا ستراوح كثيرا بين القبول المشروط والرفض الكامل قبل ان يتسع صدرها لابداعات كبرى جريئة ومغامرة. فتجسد الالهى داخل الانسانى كمفهوم ساد الديانة المسيحية وميز تجربتها، كان فى ذاته دافعا قويا لوضع هذا الجسد الانساني فى بؤرة الاهتمام الفنى والفكرى، فقبول الالهى بالتساكن مع الطبيعة البشرية، يجعل هذا السكن نفسه معبرا لتجليات إلاهية، وتصبح نسبه وعلاقاته نموذجا مثاليا للقياس الفنى. ولاجدال ان العبارة المسيح الشهيرة: "اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" تهون من شأن اى تعارض بين السلطة الزمنية مهما كانت طبيعتها والكنيسة، أو على الأقل تسمح لأى سلطة أن تقوم فى واقع مسيحي، هناك دائما امكانية تاريخية لحياة الأيقونة.

من يصنع الايقونة؟
سأتوقف هنا لأحكى لكم قليلا عن ثلاثة قديسين مارسوا التصوير، هم علامات فى تاريخ الايقونة
ومحطات تحولاتها الكبرى.

لوقا:
كان لوقا الانجيلى طبيبا ورساما، وكلمة "لوقا" هى اختصار من "لوقانوس Lucanus اللاتينية" وتعنى المستنير او حامل النور. هو ثالث الإنجيليين، وكاتب سفر أعمال الرسل، لم يذكر الكثير من الوقائع او الاخبار عن نفسه وعن أعماله، ولكن انطلاقا من تصور مسيحى بأن القديس لوقا، هو اول من رسم صورة المسيح والعذراء، وبما انه كان معاصرا لهما، فقد ساد اعتقاد كنسي بأن ما رسمه لوقا يجسد الملامح الحقيقية لوجه المسيح ووجه العذراء، ولا دليل لدينا على أن لوقا عاصر المسيح، نعرف أنه صاحب بولس الرسول فى ترحاله، وكتب انجيله وأعمال الرسل من معرفته بمن عاصروا المسيح مباشرة، ومن بذلوا حياتهم بعد صعوده لنشر كلمة المسيحية. وفى نهاية الأمر سواء عاصر، ورسم من الواقع، أو رسم وفقا لأوصاف سمعها من معاصري المسيح، فإن التاريخ لم يحتفظ لنا بأيقونة أصلية نستطيع الرجوع اليها من تلك الفترة، إن وجدت أصلا، ليس لدينا أية لوحة من صنع القديس لوقا الرسول، وبالتالى لا تملك البشرية صورة شخصية معتمدة تاريخيا للمسيح، ولكن هناك تقاليد يقال انها ملزمة لآنها مأخوذة عن ايقونات لوقا الأصلية، والمدهش أن بعض صانعى الايقونات فى مصر، لرغبتهم فى التعبير عن احترامهم لتقاليد الايقونة كما رسمها لوقا، كانوا يوقعون ايقوناتهم بإسمه.

تأسست الايقونة اذا بتصور رسولى، وترسخت وفقا لذلك المصدر مجموعة من المحددات حول كيفية صياغتها، مثل تجنب الانفعالات، وضرورة اظهارالورع والجلال والتبجيل، والتأكيد على المهابة والطهرانية. ولكننا لا نعرف بالتحديد الطريقة الفنية التى اتبعها لوقا، وهل كانت شرقية خالصة؟ ام كانت وفقا للتقاليد اليونانية الكلاسكية؟ ام خليطا ما بين الرومانى والشرقي؟ أغلب الايقونات الاولى كانت بيزنطية الطابع بأصداء شرقية ورومانية واحيانا شعبية: لا تجسد ولا تميل لتأكيد الظل، بل وتمنع التظليل من الأساس فحيث وجه الله لا مجال للظلمة.

ظلت صناعة الايقونات فى تقاليد المسيحية البعيدة مقصورة تقريبا على رجال الدين وحدهم، فلابد أن يكون صانع الأيقونة مؤمنا وطاهرا وعارفا بالدين وتفاصيله، وملما بقصص القديسين واخبارهم، وهناك دعاء يجب ان يتلوه الفنان قبل البدء فى رسم الأيقونة الرسام، يطلب عبره من الله العون، كى ينجح فى صياغة القيمة الالهية والقدسية للشخوص، ولتساهم الايقونة التى يرسمها فى خدمة المسيحية والكنيسة. ولكن الحراك الكبير داخل الكنيسة المسيحية، ورغبتها في الاحتفاظ دائما بقدر من الاستجابة للتحولات، سمح بعد ذلك لفنانين من غير رجال الدين برسم ايقونات، بدا الفنان يصنع اللوحة الدينية، ثم تحررت اللوحات الدينية من الاسلوب البيزنطي، وتبنت تدريجيا منطقا نهضويا، يقودها الى محاكاة أدق. واعتمدت اللوحة منطقا بصريا واقعيا، بما يعنى ذلك من مكان واحد، وزمان واحد، وحدث واحد. انه منطق ارسطى يوازي تماما ما كان مطبقا فى المسرح، وحدة الزمان والمكان والحدث، وربما كان منطق الايقونة البيزنطية الروحى، الذى يعارض منطق الطبيعة، أرحب ساحة لحركة الرموز الدينية، ففراغ الايقونة وزمانها المتخيل يسمح بتجاور كائنات رغم ابتعادها مكانيا، ويسمح بتواجدها فى نفس اللحظة رغم انها منفصلة زمنيا، كأن نرى القديسين من المسيحيين يشاهدون ميلاد المسيح نفسه، او نشاهد قصة الميلاد والرعاة والمجوس والهروب الى مصر، معا فى وقت واحد ومكان واحد، او تجتمع وقائع الميلاد والتعميد وربما الصلب أيضا فى مشهد ذاته، كما لو كنا نقرأ نصا أدبيا يروى وقائع متلاحقة. ولكن على الجانب الآخر، كانت واقعية اللوحة الدينية الجديدة، اكثر جذبا لعين المترددين على الكنيسة واقدر تأثيرا ونفاذا بقدرتها على الاقناع عبر تدقيق المحاكاة، وقد افادت الكنائس من تلك الروائع، فقد تم استدعاء الجمال والمحاكاة الماهرة وربما الحسية نفسها كعناصر لجذب المؤمن الى الواقعة الانجيلية ولتدبر العظة. واعتبرت الكنيسة القديس لوقا الاب الروحى للفنانين ولصانعى الايقونات حتى عام 1984. فقد تم فى ذلك العام منح رسام آخر، وهو الايطالى بياتو انجليكا صفة القداسة، وأصبح هو الراعى المعتمد كنسيا للفنانين.

بياتو انجيليكو
بياتو انجيليكو هو فى الأصل راهب دومنيكانى، يسمى لذلك أيضا فرا انجليكو، ومقطع "فرا" هو اشارة تختصرالوظيفة الدينية ومعناها الراهب، فهو الراهب الملائكى او الملائكي الهانىء، واسمه الحقيقي هو جويدو دى بيترو، ولد فى فلورنسا عام 1395، ومات بروما 1455، وصفة الملائكى هذه اطلقت عليه فى حياته، ويبدو انه كان تكوينا نفسيا فريدا، يجمع بين البساطة والتواضع والحكمة الكبرى، وهو الملائكى بجدارة، لأن احدا لم يره غاضبا أبدا، وكان يفضل صحبة الفقراء والبسطاء رغم اصوله الثرية.

الافريسكو الذى كان يصتعه هذا الفنان الورع للغاية، كان متفردا وبلا نظير فعلا: بساطة خالصة واختصار وسلام، وكأنه يفيض بورعه الخاص على الفراغ والكائنات القائمة فيه، علاقة فى غاية الرهافة بين نقلات الضوء ونقلات اللون، كما لوكان صاحب موهبة فطرية، رغم ادراكه العميق لقواعد المنظور والتجسيم والمحاكاة. يرسم بلمسات لاتردد فيها، ولم يكن يعيد صياغة العمل او يتردد ازاء اية تفصيلة فيه ويغيرها، ففعل الرسم كان من منظوره فعلا ابتهاليا، لأنه كان يعتقد انه يرسم بمشيئة الهية، بمعنى ان ما تنجزه يداه هو نعمة الهية لا يجب تعديلها.

هذا الرجل الهانىء الوديع كان همزة الوصل بين عالمين: عالم وسيط ايقونى الطابع، وعالم نهضوى ينقل مركز الثقل من اللاهوت الى الناسوت، "هيومانيزم" انحياز انساني للإنسان، يستدعى الكلاسيكيات والفلسفات البونانية ليواجه سطوة النصوص اللاهوتية، فهم مغاير للصورة يمجد الانسان ويبنى العمل وفقا لحضوره الجسدى، بياتو انجليكو كان جسرا للعبور، جسرا للمصالحة بين رؤيتين: عالم يتبدى من مفهوم عقلانى منطقى وفقا لقواعد المنظور التى تتعامل مع المكان كجسد، وتحاول الامساك به عبر الهندسة والارقام، وعالم مثالى له مكانه ومنطقه الروحي، لا يجذبه الجسد ولا يتغنى بتفاصيله، ولا يولى كل هذه الثقة للارقام والقياسات الرياضية.

استمد فرا انجليكو روحانية أعماله من قدرة خاصة على التبسيط، ومن موهبة نادرة في الأمساك بحالة الورع والتقوى، بدرجات مرهفة من المشاعر، دون مبالغات فى اللفتات او الانفعالات. وكأنه برسم الرحمة نفسها، لم يكن الملائكي يعول كثيرا على الظل او على العلاقات الخطية او التباين الضوئي، فلديه ضوءه الخاص، ضوء لا ينبع من مصدر مادى واحد، ضوء يغسل الكائنات برقة كأنه ومضات هادئة من سلام داخلى. وفى 1984 اعترف البابا يوحنا بولس الثاني "البابا الراحل فويتيلا"، بقدسية الرسام الراهب بياتو انجليكو، واصبح بذلك قديس الفنانين وراعيهم الروحي.

أندريا روبليف
هو أيضا رجل غامض، نعرف القليل عن حياته، ولد فى روسيا 1360 ومات فيها فى 1430 ولم يغادرها ابدا، وكان فى البداية مساعدا للفنان اليونانى تيوتانيس، وقد عمل الى جانبه فى موسكو منذ سنة 1405، ثم اكتشف اسلوبه الخاص، وأسس به المدرسة الروسية فى الايقونة الارثوذوكسية، واهم ايقونة شرقية تملكها الانسانية هى الى الآن "ايقونة الثالوث الملائكي"، وقد رسم روبليف لحظة الميلاد ايضا فى ايقونة رائعة مقرها الآن قصر الكرملين، رجل دين وراهب عاش فى عزلة كبيرة، تعلم داخل الكنائس، وصنع المخرج العبقرى اندريا تاركوفسكى فيلمه الشهير اندريا روبليف عن محنة مر بها، اهتز خلالها ايمانة وتوقف عن صناعة الايقونات الى أن التقى بصبى كان يعمل فى خدمة صانع الاجراس الوحيد الذى يعرف سر سبيكة الجرس، ومات المعلم دون ان ينقل للصبى سر المهنة، يقنع الصبى أهل الاقليم الذى يتكاتف من أجل بناء كنيسة مهيبة، بأنه قادر وحده على صناعة الجرس، وانه يعرف سر سبيكته المعقدة، وينجح الصبى رغم صعوبة المهمة وحداثة الخبرة ونسمع رنين الجرس فى آخر الفيلم، لتبدا علاقة من الصداقة المتينة بين روبليف والصبى ويمضيان معا كقدرة انسانية على تجسيد المقدس بالصوت والصورة.

فى 1988 اعترفت الكنيسة الارثوذوكسية الروسية بقداسة الفنان الراهب الكبير اندريا روبليف. وكان قد نال القداسة شعبيا بالاجماع، من الناس قبل الكنيسة، بياتو انجليكو كان معاصرا لروبليف ولم يلتقيا ابدا.

هذه ايقونة غريبة، انها ايقونة ما بعد حداثية، ايقونة موضوعها صانع ايقونات، وبداخلها ايقونته الشهيرة، اندريه روبليف اول ايقونة فى عصر ما بعد الحداثة لقداسة بأثر رجعي، رسمت هذه الايقونة الراهبة الفنانة الروسية جوليانا سوكولوفا فى 1988 وفيها نرى الرسام وهو يمسك بأهم ايقونة له، وهى ايقونة "الثالوث الملائكي". وبينما تحول الغرب من الايقونة الوسطية الى اللوحة الدينية، تمسك الشرق بتراثها، ويكفى النظر الى الطريقة التى رسمت بها جوليانا وهى فنانة معاصرة وراهبة أيضا ايقونتها الخاصة بالفنان الكبير اندريا روبليف.

(5) ماذا فعل الفنانون؟
هذه هى اذا رحلتى مع الوقائع والاماكن والاشخاص التى تحظى بشبه اتفاق عام، ومن مشاهدتى لأعمال الفنانين والايقونات المتعلقة بميلاد المسيح، يمكن ان اقول ان هناك أربع محطات هامة جذبت انتباه الفنانين: الأولى وهى لحظة الميلاد نفسها، ولم يهتم أحد بحمل العذراء وسفرها الى بيت لحم، واللحظة الثانية التى حظت بأكثر الاهتمام، هى لحظة مجىء الشهود من الرعاة وملوك الشرق، ثم المحطة الثالثة وهى لحظة تآلف العائلة المقدسة نفسها من مريم ويوسف والمسيح الطفل، العائلة المقدسة، اما الايقونة التى سادت وأصبحت رمزا معمما فهى صورة العذراء تحمل طفلها وحدهما، وهذه هى الايقونة الاكثر انتشارا، ثم بعد ذلك تأتى المحطة الرابعة، وهى رحلة الهروب الى مصر بالطفل على ظهر حمار عبر صحراء سيناء.

وسوف اتوقف هنا بدرجة أكبر عند اللوحات التى تعاملت مع لحظة الميلاد بشهودها اى لحظة قدوم الرعاة والمجوس لان هذه هى اللوحات التى تضم أهم عناصر المروية الى حد بعيد. وانا مهتم فى الأساس بالتحول من الايقونة الى اللوحة ذات الموضوع الدينى، اى توديع العصور الوسطى والانتقال الى عصر النهضة الذى لاجدال انه كان الارهاصة الاولى والبعيدة للحداثة، التى نتجرع الان حلوها ومرها.

هيرنوموس بوش
رسم بوش هذه الثلاثية في أربع سنوات من 1495 الي 1499، وهو كعادته يصنع مسرحا واسعا لحكاياته، مسرحا يسمح له بمارسة جموحه وتداعياته كما يشاء، احكام البنية من الخارج وتحديد الاطار الحكام لها هو الاهتمام الأول عنده قبل الاستسلام لخياله الجامح، العمارة البصرية الصارمة تسمح له اذا بالتجاوز في التفاصيل. السماء الزرقاء تحكم المشهد من أعلي، وبقع الملابس الحمراء الكبيرة بتناظرها تضمن رصانة القاعدة.

اختار بوش هنا ايضا توسيع العدسة وفتح المجال، فالحظيرة في مقدمة المشهد ولكن هذا العالم الفسيح الممتد ليس مجرد خلفية، ويبدو انه يقدم لنا ترجمته الخاصة لنصوص انجيلية، فالنور قد اتي الي العالم، ولد المخلص، ولكن يبدو ان العالم اختار المضي في غيه.

الحدث رغم أهميته، يتم والعالم منهمك في أحداث أخري خبر الميلاد المقدس لم ينتشر بعد ولكن بذرة حج جماعي في طريقها للتكوين. هناك من اختار مراقبة المشهد من سقيفة الحظيرة المتداعية ووضع نفسه في مكان عجيب عرضه للسقوط، في البعد تبدو بيت لحم شامخة المباني، وليست كقرية او مدينة صغيرة، وربما نشاهد طاحونة هواء هولندية وسط المباني العجيبة، المشهد الطبيعي ممتد وغير متواصل في نفس الوقت فالجانب الايمن يبدو وكأنه متصل ثم نكتشف انه منفصل والجدار علي اليسار يجعل تواصل المكان أمرا مستحيلا. لا يتوقف خيال بوش علي الكائنات وافعالها وتداخلاتها وانما أيضا علي المكان، فلديه تشريح يخصه لبنية المكان. لوحة المنتصف هي قلب العمل، ولذا فهي موقع اللقاء بين العذراء والملوك الحكماء، المبني هو مركز اللوحة الذي يؤكد للعين ان الأمور الهامة تقع هنا، وكعادة هذا العبقري الاستثنائي، فإن كل شيء يحتوي علي شيء آخر بداخله، وكل انسان هو نفسه حامل للحكايات وناقل لها، وليست هناك حكاية نقية، ولا حكاية تتسق عناصرها للنهاية. وهناك دائما كائنات منهمكة في عوالمها رغم تجاورها في الحدث. بروجل كان اقل جنونا. الرجل الجالس وحده يدفيء ملابسه علي يسار اللوحة، من هو؟ من هذا الرجل؟ هل هو يوسف النجار، واذا لم يكن هو فأين يوسف النجار، وهل يجفف الرجل ملابس ذلك الملك؟ الملك الذي يقف علي باب الحظيرة وكأنه فقد بعض ملابسه. لنبدأ في تأمل اللوحة من مركزها، المركز البصري في هذا العمل هو جسم العذراء، والذي يبدو المسيح صغيرا نسبيا وهو في حجرها، ولكنهما يشكلان معا كتلة مهيبة كتمثال يتم تأمل كتلته المهيبة بخشوع، والتنقل بين رداء العذراء ورداء الملك الراكع في مقدمة اللوحة هو محور ارتكاز بصري هام في هذا العمل،.الملك هو بالتأكيد بالتازار ممثل القارة الاوربية العجوز، الملك يضع تحت قدم العذراء هدية اضافية، علاوة علي ما ذكرته الاناجيل، انه يقدم لها عملا نحتيا يمثل سيدنا ابراهيم وهو يهم بذبح ابنه اسحاق (اسماعيل في الأسلام)، كما لو كان اشارة الي مفهوم الفداء الذي سيكون الطفل المولود منذورا له، الملك الثاني ملكيور يقف خلفه، وهو ممثل الشرق يقف وقد خلع خوذته كفارس نبيل ويبدو ان الملك الذي يراقب الحدث من باب الكوخ قد أنتزعها منه عنوة، ولا نعرف لماذا، الصديري الذي يرتديه هذا الملك عليه نحت بارز أيضا يصور زيارة بلقيس ملكة سبأ لقصر سليمان الملك، اما كازبر المغربي أسود البشرة، فيقدم كأسا عليها نحت بارز لرعايا يقدمون الهدايا لملك ما ربما هو داود. ويبقي هذا الملك المخبول أكثر الأشياء غرابة في هذه اللوحة، هل كان يبدل ملابسه بالمبتلة داخل الحظيرة، وخرج مسرعا ليتأمل ركوع الملوك الثلاثة أمام العذراء والمسيح الطفل، أم ان الفنان يسخر هنا من هيرودوس الملك وجواسيسه. الرعاة أكثر تماسكا من الفلاحين، فهم الذين شاهدوا العلامات السماوية وحدثهم ملاك الرب، عن المخلص القادم، الفلاحون لا يملكون سوي الفضول الدائم، يتسلقون السقيفة ينظرون من الفتحات في فضول عامي فظ. ويؤكد تلك الجلافة السلوك المهيب للحكماء وخلفهم اتباعهم، سلوك جسدي متناسق ورصين. وحتي الرعاة يبدون اكثر تماسكا وثنيون منهمكون في طقوسهم، جيش يعبر النهر ليواجه جيشا قادما من الجهة المقابلة، راع يحاول جمع حملانه، وحش يفترس امرأة، بوش مهووس بتداخل الحكايات، ولا يريد لمشاهد اللوحة ان يتركها ويذهب لحاله ابدا.

جيوتو:
الكلاسيكية هى معجزة اتزان، وها نحن أمام احد ارهاصاتها الاولى، القياس والقياس وحده هو وسيلة هذا الفنان لضبط لوحته، ولاختصار العناصر وتجنب اللجوء الى الغرائبى، جيوتو يختار علاقة توازن دقيق بين مناطق حضور الكتل والكائنات ومناطق الفراغ، ولكنه لازال متمسكا ببعض تقاليد التصوير الوسطى، سنرى ذلك فى صغر الجبال وضغط اجسام الأغنام وبساطة المبنى، جيوتو يمهد الطريق لفن جديد، بتلك المشاعر الحميمة للعذراء وهى تحدو على طفلها، وبتأكيده على امتلاء جسدها وتثاقله وارهاقه المقنع، انه جذب للدينى نحو الحياتى، الرمزى نحو الملموس. فى القرن الثالث عشر، قرن جيوتو، كان الأداء الوسطى يودع تاريخ الفن.


ميلاد المسيح من أعمال جيوتو Giotto

الملائكة هنا بلا أقدام، تكفيهم الاجنحة للطيران ولذا أخفى جيوتو الجزء الأسفل من اجساد الملائكة، الملائكة كائنات وسطية، بين الغياب المكتمل لصورة الالوهية والحضور المكتمل للانسان، انهم فى المنتصف يظهرون ويختفون، وهم بشر جسديا ولكن بأجنحة طيور، الملائكة فى لوحات النهضة تتجاور دائما مع السحب، السحب نفسها عالم وسيط بين الأرض والسماء،علاقة الملاك بالسحابة هى علاقة زمالة الى حد ما.

الجبل صغير والحظيرة مختصرة للغاية، سقيفة من الخشب، بسيطة وغير مناسبة لشتاء فلسطينى بارد، الخراف فى المقدمة يعطون استطالة زمنية للمشهد، فهم راقدون هناك منذ زمن، وخاصة الكبش الذى ينظر كمتأمل حكيم فى الخلفية الى يمين اللوحة، الرعاة يتابعون المشهد دون انفعالات كبرى. الارهاق والنعاس مع مسحة من شرود تخيم على وجه يوسف النجار. العذراء ترقد برقة وحنان بالغ وسط الصخور، وهناك امرأة تساعدها فى رعاية الطفل. الملفوف في قماطه بعناية فائقة.

العصور الوسطى
التخفف من ثقل الأحجار ومن فخ التفاصيل بالزخارف،الزخرف هو الاطار الجامع للنص البصري، الواجهات والفراغات المعمارية هى مجال مفتوح ومغلق معا امام صناع الحكايات، فى العمارة يقرر المعمارى اطرا جاهزة للحكاية وحدودا مسبقة، وكما من الزخارف التى يجب على الفنان ان يتعايش معها، النحات متورط دائما، وعليه أن يقبل بالدخول فى لعبة الظهور والاختفاء، يجب ان يلوى ذراع القصة كى تقبلها الجدران. المسيح هنا معزول عن كل اطار أرضي، هو رهينة السماء، الملائكة تحيط به ولا يملك الملك المجوسي ومريم الا مشاهدته من بعد، وهناك امرأة تحمل اناء وبيدها شىء ما تريد تقديمه، قديسة تتجاوز زمنها وتطل على لحظة الميلاد، ربما. الزخرف والحلية كانتا ضمن الحيل المعتمدة فى العصر الوسيط لايقاع التفاصيل داخل شرك التناظر المنصوب دائما.

ساندرو بوتيتشيللى
حفلة الوان، فرحة تتقافز وتطير، لوحة عجيبة للميلاد، بوتيتشللى هو ايضا ابن لحظة انتقال من الايقونة الى اللوحة، هو أقرب الى منطق اللوحة، جيوتو كان يفتح الطريق أمام فن النهضة، ولكن بوتيتشللى ظل متعاطفا مع افكار سافونا رولا، الذى كان يرتاب كثيرا من واقعية الايقونة ويرفضها، تحول سافونا رولا من مصلح دينى ومن بطل خلص الاقليم من الفساد وطرد الفرنسيين الى طاغية دينى، لا يقبل المراجعة، والحوار مع السلطة الدينية صعب دائما، ولذا تمتد المواجهات الى صدام حتمى، بدأ الراهب المنفعل دائما فى تضييق الحياة وتوسيع دائرة التحريم، حتى تلخصت الحياة اليومية فى العبادات، وسيطر الخوف من العقاب على الجميع، فقد التدين روحانيته، تخلى عن قلبه المتسامح، ودارت عجلة الكراهية، وفى النهاية قرر الجميع التخلص منه حرقا.

الرهبان الثلاثة فى المقدمة والذين يعانقون الملائكة هم ثلاثة من اتباع سافونا رولا، تم اخراجهم من السجون وقتها، ويبدو أن الفنان اراد ان يحتفل بهم فى لوحته. الفرحة الظاهرة لاتخفى قلقا عميقا، ايقاع اللوحة غنائي ولكنه متسارع وعصبي. انها ايقاعات لحظة تاريخية خاصة جدا، يبدو ان الفنان يستغل لحظة ميلاد المسيح ليتحدث عن قلاقل عصره هو. فقد ارهب سافونا رولا التيارات الفكرية المتفتحة التي عرفتها إمارة فلورنسا، وأعد لخصومه المحارق اليومية، لم ينقطع دخان حرائق البشر والكتب واللوحات. هاجم الرجل كل شىء حتى أسماء الشوارع. فقد الفنان توازنه، وهو صاحب الروائع الكبرى، تكفيه فقط لوحة الربيع، او ميلاد فينوس، توزعت روحه وظهر ذلك بوضوح على أعماله.
ميلاد المسيح يبدو هنا كلحظة انفعال مرتبك رغم فرحتها الظاهرة. كل الخطوط تتقاطع كما لو فى معركة. وأعلى اللوحة ترك الفنان شهادة مكتوبة باليونانية "فى عام الف وخمسمائة رسمت انا ساندرو بوتيتشللى هذه اللوحة، وكانت ايطاليا تئن من متاعبها واوجاعها"، اعتقد ان الفنان قد اختار أن يتماهى فى هذه اللوحة مع يوسف النجار، بكل التعب الذى يحمله فوق اكتافه.

رمبراندت
عندما كنت أزور متحفا لرمبراندت فى امستردام، وهو مقام فى واحد من البيوت التى سكنها فعلا،
انتبهت الى ذلك الحضور المكثف لصورة الفنان نفسه داخل أعماله، وذلك العدد الكبير من الصور التى رسمها لنفسه فى كافة مراحل حياته. ولن أنسى ابدا وجهه وهو فى أخر الرحلة، ينظر لنفسه بعين واهنة، عين ترى بصعوبة وجها تزوى ملامحه، وكأنه يودع نفسه بابتسامة أخيرة، رسم رمبراندت نفسه قرصانا وشحاذا، رسم نفسه وهو يأكل وهويسبح وهو يتبول وهو يرسم. وفى لوحة الميلاد التى انجزها سنة 1654 يسير رمبراندت على نفس المنوال، فيرسم نفسه داخل اللوحة بصفته واحدا من ملوك الشرق، المجوس، بل ويصمم اللوحة بحيث تكون البطولة له تقريبا رغم ازدحام المشهد.

نعم، البطولة هنا لرمبراندت نفسه، ولرأسه المحاطة بدائرة كبيرة تؤكد سطوته على المشهد كله، أعلى درجات ضوء مركزة بشكل مسرحي على نقطة بلا دلالة كبيرة، ولا أعرف لماذا،وهنا ربما يكون القانون البصري لبناء اللوحة عنده أهم من الدلالات والرموز وقيمة الابطال، ولكن حجم الفنان وموقعه فى اللوحة هو الأهم، رغم قلة الضوء المسلط عليه، رمبراندت يقوم بحركة مسرحية، حركة مباركة من سلطة كائن كبير، ويبدو كأنه هو الذى يبارك الحدث كله، وليؤكد حضوره وضع على اليسار شخصا آخر ينظر اليه بترقب، وكأن اشارة الرسام هى الحدث الأهم، انه رمبراندت يبارك الميلاد ويعلن عن ايمانه المسيحي العميق. حبات اللؤلؤ متناثرة، تلمع فى ظلمة المشهد، انه مسرح مكتمل.

بيرو ديللا فرانشسكا

لحظة حضور الرعاة، لم يصل المجوس بعد، العذراء تركع وحدها أمام مولودها المقدس، وهذه العلاقة بين الطفل والام هى التى ترفع مستوى العمل ككل، الطفل يرقد فوق عباءتها الزرقاء، خمسة ملائكة يغنون، اثنان منهم يعزفان على العود، يبدو الحمار وكأنه يبتهل، بينما يحملق الثور فى سذاجة، يوسف كالمعتاد مأخوذ بتأملاته واصراره على العزلة وسط الحضور، ملمح ساد كافة اللوحات كاتفاق غير معلن، تماما مثلما ساد اختيار واحد لعمره، ولضرورة اظهار الفارق فى العمر بينه وبين العذراء بدرجة كبيرة من المبالغة، ربما لتأكيد المسافة ومنع اى تصورات حسية.

خلفية المشهد ايطالية تماما، يبدو أن الفنان رسم المشهد الذى يراه من نافذة بيته، لتلال توسكانا بما فى ذلك الكنيسة!. الحظيرة مختصرة بدرجة مخلة، ووجوه الرعاة ممسوحة جراء عمليات تنظيف مبالغ فى اخلاصها. رسم بييرو اللوحة مابين 1470 و 1475، الغريب ان الفنان هو مهندس المنظور النهضوى كله، وهومؤلف الكتاب الرئيسى الذى صار دليل الفنان الى فهم الفراغ، ورغم ذلك فقد اختار الا يستعرض هنا مهاراته كمهندس عبقرى. اختار المشهد المفتوح، منظور الهواء والالوان لا الخطوط. الغناء الملائكي فى هذه اللوحة يبدو غناء مدنيا، رغم ملائكية الملائكة المغنين. مكان هذه اللوحة مكشوف اكثر من اللازم، انه مناخ رياضى ويوم للنزهة، عاطفة مسيطر عليها بلا توجس، بييرو ديلا فرانشسكا اختار البراءة البسيطة، برفع درجة السطوع فى العمل كله وتقريب الأضواء.

يبدو وكأنه يحتفل بالميلاد من منظور التحررمن ثقل الخطيئة، لقد طرد آدم من الجنة تم فصله عن عالم الالوهية، ولكنه وهو ابن الخطيئة كان يسعى لنيل رضا الرب ثانية، المسيح هو الميلاد الثاني للإنسانية، استعادة البراءة الاولى التى افتقدت بعد أن أكل آدم التفاحة المحرمة، ولكى يولد الانسان مرة ثانية، اختار الأب ان يقطع الرحلة بنفسه نحو الابن، الروح القدس هى فيض الهى اراد الله له ان يسكن داخل جسد الانسان، روح قدسية نزلت الى الأرض لتنقذ الانسان وتستعيده.

فى الوصايا التوراتية يقال للمؤمن "عليك ان تحب ربك بكامل روحك وكامل عقلك وكامل قوتك". لابد اذا من اكتمال العاطفة الدينية، فهى التى تنقل الانسان من االرهبة الى الالفة، الامان مع الله والايمان بالله يصبحان شيئا واحدا، الانتقال من الخوف وهو غريزة، الى الحب وهو مشاعر. ولكنه حب مستحيل لأنه مشروط بالمسافة الكبيرة بين الطرفين، يفتقد التناظر، محبة المؤمن هى فيض عاطفى يتجاوز موضوعه، تحركه رغبة فى الدخول الى عمق الروح، الى درجة لا يمكن للشعائر والعبادات ان ترقى اليها، فالطقوس الدينية لا تمنح الروح وحدها سعادة كبرى، العاطفة الدينية هى عاطفة انجذاب وعشق ووجد ورغبة فى الفناء فى المحبوب، وهى بالمثل طاعة وحنين ولهفة ولوعة وتذلل واشواق وعبودية للمحبوب. المحب لا يريد العالم، يريد المحبوب، لأنه مفتاحه الحقيقي لهذا العالم ولنفسه، انه نقطة ارتكازه الروحية.

المتصوفة والفنانون أيضا يمزجون احيانا العاطفة الدينية بالعاطفة الفنية، ونصبح امام حالة شعرية متعددة المستويات. في صوت أم كلثوم خبرة انسانية نادرة، انها قدرة التعبير عن الطبقات الغائرة من المشاعر، وعن تلك الأبعاد السحيقة التى لم تصل اليها الاصوات الأخرى، وربما يكون انجازها الكبير هو تحويل تلك العاطفة الدينية القروية بالتحديد الى عاطفة مدنية. محتفظة بشجن البعاد واستحالة التوحد بالحبيب صعب المنال، يكتسب الحبيب بعضا من صفات المفارق، فهو هناك دائما ولا يمكن الوصول اليه. هذه العاطفة الشجية العميقة تغمرنا حين نسمع المقرئين العظام، او الانشاد الأصيل، انها عاطفة صادرة عبر رنين الكلمات وحركتها من انسان محدود بطبيعته نحو كيان مطلق غير مرئي، أو كما يقول مولانا جلال الدين، هى رغبة الجزء فى الرجوع الى الكل الذى انقطع عنه. كما انقطع ادم عن عالمه الأول، هذا العطش الروحى لن يرتوى ابدا.

الايقونة القبطية
فيها قوة البساطة وخشونتها، وكأنها بداية بلا ماضى، وتحيلنا رغم ذلك الى ثقافات وخبرات عديدة، المرئي يبدو فيها عارضا وخفيفا، وكأننا يجب أن نرى ما خلفه، انها ابقونات لا تقيم لقوانين البصر الواقعية وزنا كبيرا، لا تحتفل بالكتل ولا الابعاد ولا الظلال فتشبه بذلك كافة الايقونات، ولكنها تتفرد بعزوفها أيضا عن اقتفاء الجميل وتجاهلها لقواعد الاتزان البصري. انه نظام الرؤية الدينية لا الدنيوية. فن شعبى ولكنه عليم، ميلادها غامض ولا نعرف تطوراتها الاولى بدقة كافية، ولكنها اصبحت ظاهرة متماسكة في القرن الرابع الميلادى كما حدث في الجانب الشرقى من الامبراطورية بأكملة.


أيقونة قبطية للعائلة المقدسة في نهر النيل

في الايقونة القبطية بهجة الالوان المختارة بحس طفولى، وجرأة شعبية، يحدد الفنان أشكاله بقوة ويحاصرها من الخارج بخطوط واضحة، لا وجود ولا اشارة للبعد الثالث، وفى الكثير منها تتكاثف الزخارف وتصبح أكثر أهمية من الشخوص والاحداث، وربما تجاور الرسومات كتابة بالعربية والقبطية واليونانية.

في الايقونات الأكثر تعقيدا وتركيبا، يبدو أن هناك أكثر من يد تعمل فى الايقونة ذاتها، هو تقليد حرفى او ربما موروث فرعونى، حيث كانت الصياغة الكلية للعمل فى يد كبير الفنانين وهو كاهن غاليا، بينما توزع التفاصيل على فنانين وفقا لاجادتهم لرسم هذا الجزء او ذاك، وهناك على الأقل مستويان يمكن للعين المدربة أن تميزهما داخل العمل الواحد، فالخلفية والملابس يرسمها الأقل موهبة، بينما تترك الايدى والوجوه ليرسمها فنان موهوب. فى القرن الثامن حتى منتصف القرن التاسع حرمت الايقونات في مصر بقرار امبراطورى،وذلك اثناء الحرب المعلنة على عبادة الايقونات، ومنذ تلك الفترة وحتى بدايات القرن الثامن عشر لا نملك ايقونات ذات قيمة فنية، ولا يعنى ذلك توقف التعبير عن الايمان المسيحي فى الفن، فهو خيط متواصل منذ الفى عام. فى نهاية القرن الثامن عشر يبدا فن الايقونة القبطية فى الانتعاش نسبيا، ونحصل على أسماء لفنانين وتوقيعاتهم على الايقونات: ابراهيم الناسخ، يوحنا القدسي، انستازيار الرومي، ولكن يبدو وكأن الايقونات تراكمت ولم تصنع خطا تصاعديا، ووقد يكون من المفيد ان نتساءل حول الايقونة القبطية المعاصرة، ومستواها الفنى، فما شاهدته من ايقونات راهنة يبدو للأسف كما لو أن طاقة البساطة والطزاجة الشعبية، التى كانت وراء تفردها قد أفلتت بغير رجعة.


أيقونة قبطية لميلاد المسيح

مثل اى فلاحة مصرية تحمل طفلها يميل جسد العذراء وهى تحمل السيد المسيح. لا أعرف لماذا أتذكر دائما لوحات الفنان محمدعلى وانا أنظر الى الايقونات القبطية، محمد على هو الفنان الذى رافق الشيخ أمام ونجم في رحلة صعودهما الصاخبة، وهو رسام له شخصية لا يمكن اغفالها تجمعه صلة قرابة كبيرة مع الايقونة القبطية. فهل خلف التلقائية والبساطة والفطرة، تختبىء شفرة صارمة، تفرض شروطها على المبدع حين يختار عناصره وحين ينسج العلاقات ما بينها؟

ليوناردو: العشاء الأخير
اعتمد ليوناردو فى هذه اللوحة على الوقائع التى ذكرها يوحنا فى انجيله، حول ما حدث فى الليلة السابقة على تسليم المسيح، وقال "الحق الحق أقول لكم: إن واحدا منكم سيسلمنى". فكان التلاميذ ينظرون بعضهم الى بعض وهم محتارون من قال عنه، وكان متكئا فى حضن يسوع واحد من تلاميذه، كان يسوع يحبه. فأومأ اليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذى قال عنه. فأتكا ذاك على صدر يسوع وقال له: "ياسيد من هو؟" أجاب يسوع "هو ذاك الذى أغمس أنا اللقمة وأعطيه" فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الاسخربوطي. ـ انجيل يوحنا الاصحاح 13.

الذى يحكى وقائع العشاء الأخير هنا هوالقديس يوحنا وهو أصغر الحواريين سنا، واقربهم الى قلب المسيح، ولكنه لا يسمي نفسه، ولا أحد يعرف، سوى من شاركوا فى الحدث، الطريقة التى جلس بها الحواريون حول العشاء الأخير، وقد اختار ليوناردو وضعا غريبا لاماكنهم حول المائدة، اذ جعل المسيح وتلاميذه الاثنى عشر يجلسون على جانب واحد من المائدة، وكأنه يجلسهم هكذا لينجز لوحته، ولكنه وضع سمح لليوناردو بتقسيم الرسل الاثنى عشر الى أربع مجموعات كل مجموعة مكونة من ثلاث رسل، وهكذا حافظ على قدسية الرقم ثلاثة، تماما مثلما جعل النوافذ التى فى الخلفية ثلاث نوافذ. اختار ليوناردو هذا الوضع ليكشف لنا أيضا عن ردود فعل كل مشارك فى الحدث من المواجهة تقريبا، لقد سمع الجميع كلمات المعلم، وتحيروا فى تحديد الخائن، الذى سيسلم ابن الله الى اعدائه من اليهود المتربصين به.انها لحظة الريبة والاضطراب، مال يوحنا بجذعه نحو يسوع ليعرف اسم الخائن بعد ان طلب منه بطرس ذلك ثم عاد ليميل ناحية بطرس ليخبره بما قاله المعلم، وهذا يفسر المسافة الكبيرة بينهما والتى فتحت مساحة تبدو غريبة لمن لا يبدأ من قراءة النص المقدس، ولايدرك طبيعة اللحظة، التى تبدو كلقطة فوتوغرافية بالفعل، فهى لحظة رجوع يوحنا ناحية بطرس. فسر دان براون Dan Brown صاحب شفرة دافنشي هذه المساحة تفسيرا سطحيا ومضحكا، بل ومعيبا بلا جدال، قرر دان براون أن يوحنا فى الصورة ليس يوحنا وانما امرأة، وقرر أيضا انها مريم المجدلية بالتحديد، فاذا كانت هى مريم المجدلية فاين اذا الحوارى الثانى عشر؟ ألم يكن من الواجب على هذا المتذاكى ان يبرر غياب واحد من الحواريين، وهو غياب هام لأننا نعلم انهم كانوا مجتمعين بكاملهم ليلة التسليم، لأن المسيح كان يصر على وجود حواريه الاثنى عشر بما فيهم يهوذا الخائن نفسه. عدد الرسل (الحواريون الاثنى عشر) هو نفس عدد الاسباط اليهودية انها علاقة برقم رمزى لا يمكن التضحية بها فى تلك اللحظة الحاسمة، ولكن لنبتعد عن هذه الحيل التى لا سبب خلفها الا صياغة رواية بوليسية تحقق مبيعات واسعة ثم يتم نسيانها تماما، يعلم اى باحث جاد حول ليوناردو أنه سجل العديد من التفاصيل المسهبة حول اللوحة ورسمها بعده الكثيرون نقلا عنه، وكان اسم كل رسول من الرسل ورد فعله وموقعه محددا بدقة ليوناردو الزائعة. اما عن يوحنا، ولم يبدو كما لوكان امرأة، فهذا أيضا سؤال غريب، ففي نفس اللوحة ثلاثة رسل يمكن ان يصبحوا نساء، لو اراد دان براون لهم ذلك، كان يوحنا صغيرا وله وجه ملائكي، وكان يطيل شعره وهذه كانت صورته كما تخيلها ليوناردو، واعتمد لذلك على صبى فى مثل عمر يوحنا.

هناك تشابه الى حد ما بين وجه يهوذا ووجه المسيح، ولكن هناك من المؤرخين من يرجع ذلك الى فكرة عند ليوناردو تجعل قطبى الواقعة متشابهين، فالخير والشر هما شىء واحد فى نهاية الأمر،. وآخرون يرون وفقا لوقائع موثقة أن الرجل الذى اخذ عنه ليوناردو وجه المسيح كان قد تغيب لفترة طويلة وتبدلت ملامحه قليلا، ولان عمل اللوحة طال سنوات فقد اعاد ليوناردو رسم نفس الرجل فى وضع يهوذا، ولكن من زاوية مختلفة حتى لايبدو مشابها للمسيح، لقد خفض ليوناردو وجه يهوذا وجعله فى احط موقع على المائدة، وأظلم وجهه قليلا، وعزله كمتآمر عن الحوار لأنه يدرك جيدا من يقصده المسيح بكلماته.

رسم ليوناردو هذه اللوحة فى دير للرهبان الدومنيكان بميلانو واتمها سنة 1498، كنت أسكن فى ميلانو بالقرب من هذا الدير، وكانت لحظة استثنائية ان اقف فى حضرة هذا الفراغ الوحشى، وقد شعرت بلا مبالغة منذ اللحظة الاولى التى شاهدت فيها هذا العمل، ان هذا هو اعلى ما يمكن للتصوير أن يأتى به، كنت ادرك جيدا اننى أمام عمل فنى نادر فى تاريخ الانسانية كلها، عمل يخاطبنا جميعا بغض النظر عن ديننا، فهو يخاطب مشترك انسانى في الأساس. نقل عبقرى النهضة الحدث من حدوده الدينية ليصبح سؤالا كبيرا، حول مصير كل مجدد وكل صاحب رسالة، لماذا ينتصر الظلام دائما؟ ولعل الجانب الآكثر أهمية هو الحل الفنى الذى ابتكره ليوناردو لتوصيل تلك المشاعر الى المشاهد، فجو الخيانة المقبض يهيمن على فراغ العمل والفراغ متسع وكبير ومنذر بشر سيأتى. وعبرالتعارض بين الوضع الاستعراضى والهش للمائدة فى المقدمة والفراغ العميق الذى يبدو كفراغ بلا هواء ولا انسانية، فراغ صارم قاس، فراغ جدير بتنفيذ حكم بالاعدام على برىء، الفراغ يلعب فى ذلك العمل الدور الأكبر، يفوق تأثيره حيرة الرسل وارتباكهم. الغريب ان اقدام المسيح قد اختفت من اللوحة، والسبب فى غاية العجب، فقد فتح الرهبان بابا فى منتصف اللوحة تماما، لكى تصل غرفة الطعام بالمطبخ مباشرة تم سد الباب بعد ذلك لسبب عملى آخر، وهكذا تتوارى المعانى وتسقط هالة الفن بسهولة أمام الالحاح اليومي.

انجيل يهوذا
ولكن ماذا لو اعتمد المصور الكبير رواية أخرى، ولتكن رواية يهوذا نفسه، النص الذى يدافع من خلاله يهوذا عن نفسه، والحجة التى سيبرر فيها بنفسه تسليمه للمسيح مقابل ثلاثين فضة، وكيف قبل المسيح وهو يدرك ان هذه القبلة طعنة قاتلة. انها ابعاد تثير فضول أى فنان بغض النظر عن حقيقة المخطوطة، ومدى اعتراف الكنيسة بها. ليس الحديث عن انجيل يهوذا نوعا من الهوس. ولنقرأ معا ما نشرته جريدة الأهرام بتاريخ الخميس 13 من أبريل 2006 ـ 36‏ عاما قضتها في الترحال ما بين أوروبا وأمريكا بعد أن خرجت من الوطن بطرق غير مشروعة‏ ‏13‏ مخطوطا مكتوبة باللغة القبطية ترجع للقرنين الثالث والرابع الميلاديين من ضمن الآثار التي خرجت مسروقة عادت إلي حضن الأم بعد تلك السنوات‏.‏ فاروق حسني وزير الثقافة قال ان المخطوطات التي تمت استعادتها تمثل ‏13‏ ورقة بردي مغلفة بغلاف سميك من الجلد وبعد ترجمتها اتضح انها لسفر يهوذا‏.‏ عن قصة اكتشافها وسرقتها من الأم. قال الدكتور زاهي حواس أمين عام المجلس الأعلي للآثار ان المخطوطات القبطية اكتشفها مزارع في نهاية السبعينيات داخل احد الكهوف بالصحراء المحيطة بمدينة بني مزار بمحافظة المنيا وقام ببيعها الي احد تجار الآثار المصريين الذي هربها للخارج تمهيدا لبيعها‏.‏ وبعد محاولات فاشلة لبيعها في أوروبا قام بتخزينها داخل احدي خزائن البنوك بالولايات المتحدة‏، حيث ظلت هناك نحو عام مما اثر علي حالتها‏.‏ وفي عام‏2000‏ اشترت احدي السيدات التي تتاجر بالآثار والمخطوطات لتبيعها الي مؤسسة ميسنيس للفن القديم بسويسرا‏.‏ ويضيف الدكتور حواس انه بعد اكتشاف مكان المخطوطات قام بالاتصال بمؤسسة الناشيونال جيوجرافيك التي وافقت علي سداد‏2‏ مليون دولار مناصفة مع معهد ويت للاكتشافات الاثرية بأمريكا لترميم المخطوطات وترجمتها قبل إعادتها إلي موطنها الأم مصر حيث تقرر عرضها داخل المتحف القبطي الذي سيتم افتتاحه قريبا‏.‏ المخطوطات الاثرية تبين انها لسفر يهوذا والذي يوضح ابعادا مختلفة لعلاقة السيد المسيح واحد حواريه يهوذا تختلف عن الموجودة بالاناجيل الأربعة متي ومرقس ولوقا ويوحنا حيث يصور المخطوط يهوذا وانه لم يخدع السيد المسيح ولم يسلمه للرومان نظير‏30‏ قطعة من الفضة بل كان الحواري الطائع الأمين الذي قام بهذا العمل طائعا لاوامر السيد المسيح‏.‏

نصف موهبة... العذاب بعينه
نعم انها العذاب بعينه، غيرة متوسطى الموهبة او وفقا التسمية الشائعة لهم "المديوكر"، والكلمة تهمنا كمصورين، فهى صورة لشخص يقف بعد ان يكون قد قطع نصف المسافة، لم يوقفه أحد، توقف لأنه أفرغ كل ما قى جعبته، مثل خط لم يكمل رحلته، لون لم يكتمل، وكم هو معذب بلا جدال ان تقف عاجزا عن التحرك خطوة واحدة عند انتصاف الطريق، الواقفون عند المنتصف، بمشاعرهم المتناقضة تجاه الموهوب، بغيرة التابع من الاستاذ والرغبة فى التماهى به او ازاحته بالكامل، كراهية الناقل للمبتكر، التلميذ للمعلم. هم مفسدة التاريخ، الا يحدث هذا للآن؟ كم مرة سلم فيها انصاف الموهوبين أصحاب القامات الحقيقية للسلطات المعادية لهم، لتقوم بالقضاء عليهم نيابة عنهم، بعد أن أعيتهم الحيل فلم يتمكنوا وحدهم من حجب ضوء ارواحهم الكبيرة. لنرجع الى انجيل مرقس بصدد الخيانة ونستمع الى كلمات المسيح الحاسمة فى هذا الصدد:

"ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الانسان، كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد"، المسيح المخلص، نور العالم الذى يدعوا للمحبة، والمحبة دائما، والذى يرى ان الله محبة، ويرى انه حتى الأعداء يجب ان نشملهم بحبنا، لا يغفر الخيانة، فالخيانة لا العداوة هى المؤامرة الحقيقية على امكانيةالمحبة، فهى كراهية عميقة ومركبة اسفل قناع ودود، فى الخيانة خسة ووضاعة لا مجال للحديث معها عن التسامح.

فى الدروس الامريكية يكتب كالفينو عن الخفة، ويكاد يقنعنا بأن مهمة الفن الجديرة بالتقدير هى انتزاع الثقل من جسد العالم، تخفيف وطأة الأشياء والوقائع، وفقا لهذا المنطق تصبح اللوحة هى العالم وقد تخلص من عبء كتلته، اخترت أن انهى هذه الرحلة معكم بأيقونة خاصة لمشهد الصلب، احببتها كثيرا، فرغم قسوة اللحظة، يبدو المسيح خفيفا، والدماء النازفة من القدمين واليدين تظهر بخجل، بل ويبدو المسيح وكأنه واقف وسط بستان من الالوان، والشجرتان تنقلان معا الصليب من جبل الالام الى بستان اليف، الصليب يبدو خفيفا بجانبهما، يتباعد الخوف، وتموت الرهبة، المسيح يفتح ذراعيه مندهشا من تصاغر الانسان ومن ضعفه، في هذه الايماءة بداية احتضان، وهى ايضا رحلة نحو الاخر، وربما رغبة فى الخروج من حدود الجسد نفسه. الجسد الذى لايتألم لذاته وانما من اجل الانسانية كلها، هل تكفينا هذه الرقة الملونة كى نغادر مشاعر الذنب، وكى لا تأسرنا الخيانة بخستها، ونعود ثانية لبهحتنا بذكرى الميلاد، وبتلك الاضاءة العظيمة لقوة الطفولة، ولقدرة من يأتى على ان يتكلم الى حكماء العصر بل وان يعلمهم أيضا، وان نتذكر باجلال أولئك الحكماء الكبار، والرعاة البسطاء الباحثين عن الخلاص، الذين سافروا بطول البلاد بحثا عن طفل سيحدثهم بلسان جديد، عن عهد جديد، الانسانية تنتظر دائما من يجدد معناها، ولعلنا ندرك مدى احتياجنا الآن الى عهد... جديد.