يكتب القاص المغربي في هذه الرواية جانبا من عوالم طنجة الهامشية التي يطجنها الفقر وتناقضات الواقع، ويكشف فيها عن كثير من العنف المسكوت عنه في هذه العوالم التي تستقطر من شظف العيش حياة مترعة بالتوهج والحيوية تضج بالسخرية الشفيفة والشاعرية.

باطيو بينطو (رواية)

عبد اللطيف الإدريسي

أرى كلَّنا يبغي الحياةَ لنفسه   حريصا عليها مُستهاما بها صبّا
فحُبُّ الجبانِ النفسَ أوردَه التُّقى   وحُبُّ الشجاعِ النفسَ أوردهُ الحرْبا
ويختلفُ الرزقانِ والفعلُ واحِدٌ
إلى أن يُرى إحسانُ هذا لِذا ذَنْبا


المتنبي


أنا السيمو ولد السالك المفقوص. أبي السالك، عاش أول حياته يجمع بين الضحك والبكاء والجد والهزل، كانت فيه نبتة الشعراء من غير أوزان ولا قواف، ونقلة الفلاسفة من دون حكمة، ومرح الصبيان وهو في عزّ رجولته. قاض يحكم عادلا بين الناس ضامنا حق الضعيف المهزوم في محكمة الحياة، يدافع عن المقهورين مثله بدون مقابل، لا يطلب لا جاه ولا عزة. لكن كل مساعداته هذه كانت صورية. لم تكن أناه منتفخة مثل أناي وأنا أمّي، وبالخصوص أنا أبيها جدّي الحاج الكبير التهامي بن رحّال وحرمه.

كان أبي من النوع الذي لا يشتكي لأحد ولا يطلب يد المساعدة من أحد ولا يعوّل على أحد. أعترف أمامكم معرّيا عن أناي أن أبي كان غريبا بين أهل الحومة، يقول كلاما ويقوم بأفعال يستهجنها جلّ سكانها. ولكن رغم ذلك كان أطفال الحومة جميعا يحبّونه، كما كانت تحبّه القطط والكلاب، دائما مرحبة بقدومه، مواء من هنا أو تحريك زنطيط (ذيل) من هناك، كما كانت تحبه كلّ النساء، إذا ما استثنينا أمّي وأمّها وأخت أمّها.

ومع مرور الزمان اللعين ترسبت في أبي كل الأضداد، اختلطت فيه المحاسن بالمساوئ والفضائل بالرذائل باختلاف الناس وأهوائهم... نخرته حرقة الحياة وبغضها، كم كان ينخز أمعاءه إلى حد المغص ظلمها لأهل حومته، وظلم أهل حومته لأنفسهم. مات أبي مغتاظا، مات حانقا على هذه الحياة التي بالإضافة إلى أنها لم تعط أهل حومته، بنات وأولادا ورجالا ونساء غلبهم القهر، أي شيء، لم تعرهم أي اعتبار، حتى وأنها لكي تذلل آخر نقطة دم في وجههم الشاحب وتحكّ أنفهم حتى النخاع، أخذت منهم أعز شيء: الكرامة. لم تترك لهم سوى الخسيس البشع الذميم المدحور. مات أبي غضبان من عشيرته الأقربين: زوجته وأبوها جدّي الحاج الكبير التهامي بن رحّال، وزوجته لالا الحاجة الكبيرة بنت السي المعطي وأختها، وكذلك من كلّ الأعيان والشرفاء والأولياء والحكام... على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.

أنا السيمو ابنه، أشهد أن أبي السالك ولد المفقوص كان يحبني مثلما يحبّ مُومّو عينيه (البؤبؤ للأجانب)، وأنا كذلك كنت أحبّه، لكني كنت ابن أمّي إلى حين، وكانت أمي بنت جدّي، وكان جدّي زوج جدّتي. بدأنا حياة سقيمة مملوءة بكل أنواع القروح والسقام، وسوف تعاينون ذلك بأنفسكم.

شاعرية أبي وفلسفته التي حدثكم عنها منذ قليل كانتا فطريتين، لم يسعده الحظ أن يرسخها فيّ ويثبتها في ذهني، كما أنني لم أستطع، وحالتي تلك، أن آخذهما منه لا وراثيا ولا بالمأثور، لأن جينات فطرته تختلف تماما عن جينات فطرتي، أعترف لكم، وسوف تعاينون بأنفسكم أنني سأعترف لكم كثيرا في سيرتي أثناء سردها، أنني لم أستوعب حالته هذه إلا بعدما دخلني الهيام والتوله، عندما صفعتني الفطنة قبيل رحيلي بمدة قصيرة. فكيف العودة إلى الوراء؟

إن إقراري أمامكم منذ البداية بعدم إدراكي مشروع أبي الشاعري والفلسفي إلا مؤخرا واعترافي كذلك أن هذا لم يعد مفيدا، كان لكي لا تظنوا أنني أنا السيمو ولد السالك المفقوص سأبيع لكم السمك في البحر، يجب أن تعلموا أنني أحدثكم الآن من منبر لا ترونه وبصوت لا يسمع، لأن سيرتي قد انتهت منذ مدّة، وأن هناك أحدا يريد أن يعيدها إلى حيّز الوجود، ويجعلها تحيى من جديد، رغما عني وبدون مشاورتي، بل والأكثر من ذلك إن هذا المتطفل على بدء شأني ونهاية سيرتي جعل مشاركتي ووجودي بينكم إجباريين. فأنا إن صح التعبير شخصية مرغمة وملزمة بالمشاركة. مرغمة لأنني ما كنت أرضى ذلك لو كنت استُشرت، وملزمة حتى أعرف ما سيقال عنّي. أليس من حقي أن أدافع عن نفسي؟ هذا لا يعني أنه بحكم أنني لم أعد حاضرا بينكم ليس لي الحق في الدفاع عن نفسي. إنني باعترافاتي هذه أكون صافي الضمير، إن كان لي ضمير، كما أحذركم أنني لست مسؤولا عن ما ستقرؤونه من حوادث قد حصلت فعلا، أو ستحصل، أو قد تحصل أو قد لا تحصل... إن التناقضات التي ستتجلى لكم أثناء السرد هي تناقضات طبيعية، غير مخططة مسبقا ولا مبرمجة منذ زمان، منها تناقضات فطرية غريزية وأخرى اندفاعية لا إرادية. ومن بين هذه التناقضات أنني سأقول كلاما كثيرا لا يناسبني ولا يناسب شخصيتي، ويستحيل أن أكون أنا قائله.. والسبب أنه في الفترة التي وقعت فيها هذه الأحداث كان من المحال بمكان أن أفهم الذي يصير ويجري.

أراكم وقد اختلط عليكم الحابل بالنابل، وكأنكم لا تفهمون ما أريد قصده. حدّث ولا حرج، هذا أمر عادي، لأنكم الآن في هذه المرحلة من قراءتكم، تقفون بالضبط على أطلال سيرتي في بداية شأنها، عندما بدأت قصّتي.. لكني أوأكد لكم أنكم ستأكلون لاحقا حَبّ الفهامة مثلي، ففيما يخصني فقد أكلته متأخرا، وعندما غمرني الفهم كان قد فات الأوان، أما أنتم فسوف تأكلونه وستتجلى لكم الأشياء بمعانيها. وكل ما يمكن أن أتمناه لكم هو ألا يفوتكم الأوان مثلي. وحتى أكون نزيها معكم إلى أقصى درجة في النزاهة، ولا أترك لكم المجال لتقرقيب الناب (حسب تعبير صديقي الكازاوي) وتقطير الشمع من وراء ظهري، أضيف أنه ليس من عادتي أن أختم، ولكن هذه المرة تختلف الأمور، سأختم قبل أن تنتهي الحكاية، لأنني توصلت إلى خاتمة أبدية هي الأخرى ستدركونها عندما تخلص سيرتي بصفة نهائية، وتصبح تحت مسؤوليتكم، فبقدر ما كنت مسؤولا عن سيرتي قبل أن تخلص في زماني الذي عشته فيها أو عشتها فيه، بقدر ما أصبحتم أنتم مسؤولون عنها، في زمانكم هذا، وذلك منذ أن نبستم بالكلمة الأولى من السطر الأول من الصفحة الأولى التي بدأتم قراءتها منذ لحظة.

هل تتذكّرون هذه الكلمة؟ ربمّا نعم، ربّما لا. لكني بالتجربة وشيء من الحدس والتدخل فيما لا يعنيني، إضافة إلى أنني أراكم.. لماذا تسخرون؟ لا تصدقون بأني أراكم، إنني لست أعمى.. أرى.. نعم.. أرى.. أراكم من ثقب الكتاب، لا، لا تبحث عن ثقب الكتاب يا عزيزي القارئ، لأنك لن تجده.. ألم أقل لكم إنني أرى، صدّقتم الآن؟ مثلا من بين الأشياء التي أراها فيكم أنكم سريعو النسيان. لقد نسيتم أو نسي جلكم أني سألتكم عن أول كلمة نبستم بها. غريب كيف تستطيعون هكذا وبسرعة البرق نسيان كلمة بني عليها هيكلكم الخارجي وسراديبه الداخلية، كلمة تخص كل واحد منكم على انفراد، بل أكثر من ذلك، إنها جزء من جلدتكم، بها ولها تحيون، لا تستطيعون العيش من دونها، وإلا أصبحتم مثلي، نوعا من لا شيء، لا أنا.

(هيّا، ماذا تنتظرون، أعرف أنكم تموتون في التلصص، هيّا تلصّصوا، انظروا من ثقب الباب، اقلبوا الصفحات وتأكّدوا منها، وعودوا سريعا حتى لا تضيعوا رأس الخيط وتفوتكم الأشياء).

نعم، لقد أصبحتم مسؤولين عن حكايتي، لأنها بالنسبة لزمانكم لا زالت في بدايتها. بكر. ولكي لا تحصل لكم سرعة القذف وأعكر عليكم جو القراءة، ستكون خاتمتي نسبية كالتالي: إن الهدف الأول والأخير قبل النزول وأثناء الحضور وحين العودة يتلخص في كلمة واحدة كاملة شاملة يجتمع فيها الأزل والأبد: جنس.

هذا ما ستنتهون إليه بعد ذكر كل ما سيجري من الوقائع التي تتبع.
أما الحكم فهو أبدا بيد الحاكم. كما أن الأمر أبدا بيد الآمر.

لكن إياكم أن تستبقوا الأحداث أو تستعجلوا بأحكامكم. خذوا الأشياء بتريث، لأن العجلة من جدي كما كان يقول الشيطان. من الذي تعجل بالأكل من تلك الشجرة؟ سأل أبي. الشيطان؟ سأل مجيبا.

*     *     *

جئت ماشيا على قدماي حتى وصلت حومة الشوك. كان ينتظرني هناك أمام باب مسجد ابن القيم، مرتديا لحية كثيفة. سألني عن حالي. قلت له بأن يترك حالي في حاله. غمز الفراغ ولمزني بنظرة معاتبة خائبة وتمتم بين شفتيه مُهمرجا:

ـ نعل(*) عليك الشيطان.
همزت:
ـ الله ينعلو(*) ويخزيه ويعذّبه ويشقيه وينعل(*) (ديسليكا وديسلوجيا رهيبتين) حتى الذي فكّرنا فيه. أظن أنني هكذا رددت عليه.
ـ لا تشتمني يا ابني.. أنا أعرف أن حالتك صعبة وأنك ساخط على الدنيا وما فيها، ولكن لا تقنط من رحمة الله الواسعة. إن الله لا يضيع أجر الصابرين.
ـ لا واسعة ولا هم يحزنون ولا أي شيء آخر، يا السي الفقيه.. نحن لم نقنط بل الدنيا هي التي قنطت منّا.. عيينا من الصبر، لماذا هي دائما واسعة على القليل القليل، وضيّقة على الكثير الكثير؟.. لا تستطيع الجواب يا السي الفقيه.. لأنك لا ترى ولا بصلة.. أما فيما يخصّ الشتم، أنا لا أشتمك، بل أشتم الزمان المنحوس الذي عرفني بك. (لم أكن أعرف أنه سيبيع لي سلعة خامجة).

كنّا كثيرين ممن كانوا يشتمون الزمان ويلعنون أباه ووجوده: الله ينعل(*) أبو الزمان الغداّر.. لأنه كان السبب في تدحرجنا من هوة إلى هوة أسفل منها. كلّ مرة تقدم فيها الزمان يدرسنا، كما تدرس البغال الشعير، ويطحننا، مثل الدقيق، ويعجننا ويقرّصنا ويطرحنا في الفران، ويلتهمنا خبزة كاملة مكمولة، كنت وأمثالي نُحسّ أن لا درك أسفل من دركنا. لمسنا أسفل سافلين. قاع الخابية.. هكذا كان يتهيّأ لي في البداية. كم مرّة تمنّيت أن يقطع الله ذنب هذا الزمان المتطاول ويشرّده ويذلّله. أن يقطعه إلى الأبد. كنت أنعته بابن القحبة.. وأركب خيلي. لكن كلّ مرّة كان خيلي يركض محنطزا كالحمار فيوقعني ويتركني على الدائمة، على الجصّ حسب تعبير أهل حومتي، وكان هذا يجعلني أشعر بإحباط شديد، لأن الزمان اللعين كان دائما يطوقني، ورائي يتولى متراجعا وأمامي لا أدركه. أنا وراءك والزمان طويل. بتره الله كما بتر الأزمنة الغابرة. كان أبي يضحك كلما سمع أحد أبناء حومتنا يسب أبا الزمان وأمه العاهرة وهو يقول إن الزمان لا أب ولا أم له، إنه مثلنا مقطوع من شجرة. فهمت فيما بعد، عندما لم يعد الفهم ينفع، أننا بسبنا الزمان لم نكن نسبّ سوى أنفسنا!

*     *     *

حضرت الفرصة لأعيد الاعتبار لتاريخي الصدئ وتكمل البشرى وأزفّ في النهاية آلاف المرات إلى ما نهاية.. زواج سرمدي.. (كلمة دخيلة.. لم أسمعها قط ولا أعرف معناها، مثل كلمات كثيرة سبقت في السرد. ربما إنه ذلك الشخص المتطفل الذي حذّرتكم منه يشاركني الحديث، وينتهز الفرصة ليتكلم باسمي، لقد سبق وأن نبّهتكم بذلك وها أنا أنبهكم من جديد وأعلمكم، أني لست مسؤولا عن كلامه). ليست إلا هنيهة وتنسى حياتك اللئيمة، حياة عديمة الوجود بين باقي الموجودات، وسترقى في نفس الهنيهة إلى الثابت الدائم، السرمدي.. ها أنا أراني أجامعهن واحدة واحدة وجماعات جماعات ويعدن كما أتين بكرا بكرا بغير دم ولا نقصان وأنا الشهي أشهد أن عضوي قائم أبدا لا ينثني.
قال الفقيه:

ـ هل تعرف حومة الشوك؟ خرجت كلماته متواترة من فم لا شفتين له، طغى عليهما زغب لحيته وشواربه المتناثر.
ـ بطبيعة الحال أعرفها! ومن يعرف غيرها؟ كأنك تسألني عن جبل الطارّ أو منهاتان أو بلاصا كطالونيا أو حومة خاي أحمد بو قُجّة (فيما يقال كان بو قجّة هذا ثاني مؤسس لحركة الهيبّي بعد سيدي هدّي).
ـ أين تسكن؟
ـ أسكن في طريق الجبل الكبير؟
ـ أين؟ في حومة الشياطين؟
ـ حومة الشياطين! (تعجبت) لماذا حومة الشياطين؟ (تساءلت) ماذا تعني؟ (استفسرته) هل تعني أن أختي قحبة؟ أو ربّما يهرب لك الريح بالقفة وتظن أنني زامل أو من المخنثين. (دخلت فيه) أقولها لك من الآن يا مولاي الفقيه، أنا لا علاقة لي بالتزوميل لا حقيقة ولا مجازا.. والفاهم يفهم...

أذكر ولد السيكي حين قال لي مرة، ونحن صغار نسرق خردة كانت مستودعة في دهليز من دهاليز مدرسة اليهود التي كانت ملاصقة بمدرسة ومستشفى الطليان، إن بعض فقهاء النصارى... أنت لا تعرف خوسي ولد السيكي، إنه نصراني، كان يسكن في باطيو بينطو، كان النصراني الوحيد الذي يحب أولاد حومتنا ويحبه أولاد حومتنا، يمكن أن نصل إلى حدّ القول، وإن كان في ذلك شيء من المبالغة، إنه كان يعتبر كولد من أولاد الحومة، بالمعنى العشائري للعبارة، كان لا يعاشر أحدا غيرنا، رغم أن أمه كانت تنهاه عن معاشرتنا. كان يأكل الكاليينطي مثلنا، دقيق حمصّ مخلوط بالماء وبيضة وقليل من الملح يُطرح في فرّان الحومة، ويجب أكله ساخنا، ويقال إن كلّ من أكل كاليينطي كأنّه زار لالاّ مكّة، وبالخصوص كاليينطي الشريف الزُّغبي صاحب الأطباق السبعة، لأنه كان الوحيد في كل المدينة الذي يصل إلى بيع سبعة أطباق من الكاليينطي في اليوم. الكاليينطي كان في البداية أكلة الحازقين من نوعنا، مثله مثل البيصرة الطبق المفضل لدى أهل حومتي، البيصرة، كم اشتقت إليك يا بيصرة، عبارة عن فول يابس يوضع في طنجرة كبيرة مملوءة بالماء والملح ويحمل الكل للغليان حتى يصبح سائلا كالحساء، يوضع السائل في زلايف (قصعة صغيرة)، ويضاف إليه قليل من الزيت البلدية (الزيتون) والكمون، كان أبي يقول عن البيصرة: إن لها نفس خصائص الخمر، كلّ مرّة، وأنت تتذوق الملعقة الأولى من البيصرة، تجد لها مذاقا ونكهة وطعما يختلف عن المرات الأخرى، حتى أن بعض الاختصاصيين في علم البيصرة بوسعهم، عن طريق الذوق فقط، أن يعطوكم السنة التي زرع فيها الفول، وأي نوع من الفول، وفي أي منطقة زرع هذا الفول، وهل هي منطقة باردة أو حارة. كل هذا يؤثر في كيمياء الفول أثناء تكوينه، ولهذا مثل الخمر، وأنت تتمتع بزلافة بيصرتك كل مرة لك طعم يختلف، فمرة تأتيك نكهة الفواكه كالدلاح والبطيخ والفريسة وباخنّو وكرموس النصارى، أو اللحوم كلحم الجدي مبخر، أو القديد، أو الدجاج البلدي محمر بالزيتون، وفي حالة أخرى نكهة السمك كتغرة الشطون (طجين بَلَم) أو السردين المشوي، وقد يحصل، ولكن ناذرا، إذا كانت سنة نضج الفول سنة استثنائية، أن تحس بنكهة سمك السلمون أو الكافيار...
كانت البيصرة، على ما أظن، في حومتنا، الطبق الوحيد الذي كنا نتغنى به:

عاشت البيصر د حمّادي
فيها الكمّون والسوداني
كلها جميعا
وتخلصوا منها سريعا
البيصر لنا
ولا لغيرنا

إلا أن حتى هذه الأكلات حسدونا عليها.
كان أبو خوسي، بيدرو السيكي، يملك حانوتا في البوليفار يبيع فيها الخمر بالتقسيط، وقطع الثلج بالجملة وبالتقسيط كذلك. ليكن في علمكم، ربّما لأنكم لم تعرفوا حومتي في الفترة التي أحدثكم فيها عنها، إن الثلاجات أو الكليماتيزورات التي تسعدون ببرودتها وكذلك السخّان (آلات الدفء) بكل أنواعه كانت كلها في حيز العدم، لم يكن يسعد بالهواء المكيف والماء البارد والفواكه الباردة كالبطيخ والدلاح والبرتقال والشُّومْبو (صديقي الكازاوي كان يسميه كرموس النصارى، وبعض النصارى من الفرنسيس يسمونه كرموس البربر، لكل كرموسه)... إلا من رحم ربّي من النبلاء والشرفاء والألبة والأعيان من قياد وباشاوات وأصحاب الكنوز القديمة الموروثة والمسروقة، والعسكر، بالفعل لا أتحدث عن شبكوني أو نجوم الليل أو المرود، نوع من الميليشيات، استقاهم المخزن من الفئات الفقيرة وأعطاهم الزراويط وطلقهم كالجراد يطحنون ويملخون ويكسرون إخوانهم الفقراء مثلهم، وقد جاء في الحديث، حسب جدّي، ليس أكره لفقير من فقير، لأنه يحرم عليه العيش، وفي حديث آخر، حسب أبي، ليس أبغض لحيوان من حيوان مثله، وما أعني بالعسكر الكبار منهم أصحاب الخُبْزات (النجمات)، وكذلك المتاجرين في السياسة والنعناع، لا، ليس النعناع الذي تبيعه أمّ الدابة، يذكرها الله بخير، بل النعناع الحقيقي، الكتامي (نسبة إلى منطقة كتامة)، وكذلك بعض النصارى، ليس كلهم، الحق يقال، السيكي وعائلته كانوا في البداية تقريبا مثلنا مقطوعين من شجرة، لا نعرف متى قدموا إلى حومتنا، استيقظت حومتنا في يوم من أيّام الله فوجدتهم يقيمون جنبها، إلا أن أحوالهم، كما سترونها بأعينكم، ستتحسن فيما بعد، ليس كأحوالنا التي صارت من سوء إلى أسوأ، ستعاينونه كذلك.

اشترى بيدرو السيكي حانوت البوليفار، من يهودي من أصل إسباني ممن هاجروا إلى إسرائيل، بثمن بخس. كان يعمل ليل نهار، حتى أن أهل الحومة كانوا يعطفون على حاله ويقولون: لماذا يشتغل بيدرو السبانيولي هكذا كالمجنون، ستتركه صحّته يوما ما أو ستأتيه سكتة قلبية أو نزيف الدماغ ويصبح معوقا، يركب كرّوسة المعوقين ككثير من المعوقين النصارى الذين نراهم يتجولون ممتطين كراريسهم، كل يوم أحد، بعد صلاة النصارى، لأن النصارى لا يصلون يوم الجمعة كالمسلمين ولا كاليهود الذين يصلون يوم السبت، تدفعهم الموخات (الراهبات حتى يفهم صديقي الكازاوي)، قال جدّي السبب في كثرة المعوقين عند النصارى آت من أكلهم لحم الخنزير، لأن لحم الخنزير يحتوي على دودات صغيرة تتخلل شرايين الإنسان وتتزحلق إلى أن تصل إلى القلب وتعشش داخله، (علق أبي على كلام جدي العلمي هذا قائلا: ماذا يعرف الحمار في السكينجبير (الزنجبيل)، ولهذا السبب نجد عند النصارى نعلهم(*) الله نسب لا تحصى من المعوقين، ويضيف أن نسب المعوقين عندنا قليلة جدّا لأننا لا نأكل لحم الخنزير، (ردّ أبي أن الخنزير لا يستطيع أن يأكل خنزيرا مثله)، ويقول كذلك إن سبب العروق التي تستحوذ على أرجل نساء النصارى وتصبح هكذا فضيعة، سببها كذلك لحم الخنزير. لم نر معوقينا، على جانب الطرقات وعلى الأرصفة وفي الأسواق الداخلية والخارجية وعند أبواب المساجد والسينمات والمسارح والمحلات التجارية والمباني الرسمية وغير الرسمية، بدون كراريس ومن غير أكل لحم الخنزير! صادفت مرّة جدّتي وقد شمّرت أكمام سروالها القندريسي متهيئة للوضوء، لاحظت أن لون رجلها اليمنى كان أخضر بسبب العروق التي استولت عليها، سألتها إن كانت تأكل لحم الخنزير، أجابتني:

ـ هل هناك خنزيرا أكثر من أبيك يا ابن الخنزير.
العيب فينا بالأطنان وحنا مواليه، لا لغة موحدة ولا ماية.

وانتهى أخيرا أهل حومتي إلى هذه النتيجة الحتمية أنه على العموم إن بيدرو السيكي لن يأخذ معه كل هذا إلى جهنم. لم يترك بيدرو صحته ولم يمت لا بسكتة قلبية ولا بسكتة عصبية، بل العكس من ذلك تحسنت صحته وأحواله المالية وانتقل من باطيو بينطو إلى فيلا كبيرة في الجبل الكبير في حومة جامع المقراع، اشتراها هي الأخرى من يهودي آخر، من أصل مغربي هذه المرّة، رحل إلى كندا، أما الذين ماتوا فعلا هم أهل حومتنا، ماتوا بالفقصة والغدايد (الغيظ)، أكلوا جلودهم، ولم يبق لهم إلا تقطير الشمع، أو تقرقيب الناب مثلما كان يقول صديقي الكازوي، لأن هذا النوع من الكلام لم يكن معروفا في حومتنا.

صديقي الكازوي كان الشخص العروبي الوحيد الذي قبله أهل حومتنا وتبنّوه، لأنهم لم يكونوا يحبون العروبية، أصحاب الداخلية، جوج وما جوج، أولاد بوهبّوج، كل من حرفته السعاية والتسول وأينما كان منتشرا إلا وحلّ عندنا، وكأننا من الغنى بحاجة إلى يد عاملة لبناء سور حومتنا العظيم، يأتونك بغزارة وكأنه الحشر والنشر.. كان نوعا من عنصرية محلّية مبنية على الفراغ. من بين أسباب كرههم العروبية مثلا: أنهم عمّروا علينا الحومة واستولوا على المدينة، وغلّوا ثمن الأشياء الضرورية كالطحين والسكر والزيت والشمع والفليطوكس وغبرة الفئران التي يسمّيها أهل حومتي الرهاج، كانت أمي عندما أنتهي من أكل البيصرة وألحس الزلافة وأتركها نظيفة من دون أن يمرّ عليها الماء: الله يعطيك الراهاج الذي يرهّجك ويقطع مصارينك، وكذلك بسبب أن معظم رؤساء كثير من المصالح العمومية والخصوصية من مندوبيات الصناعة التقليدية والتعاون الوطني والتعليم والبريد ومديري الأبناك والأوطيلات الفخمة وغرف التجارة والصناعة والفلاحة... كلّهم كانوا عروبية. كان كره أهل حومتنا والحوم المجاورة كرها عبيطا، بهيميا، ساذجا، لأن حتى الذين كنا نسميهم العروبية كانوا يعرفون أن أهل حومتنا أناس ساذجون، وكذلك طيّبون.. وكنا أيضا نكره اليهود، لأسباب دينية أكثر منها سياسية، لأن السياسة لم يكن لنا فيها دخل، لا تعنينا ولا نعنيها في شيء، كانت محرمة علينا مثل لحم الخنزير، كان جدّي يقول دائما: كل شيء إلا السياسة، وكان أبي يردّ عليه: ماذا يخصّك أيها العريان، خواتم يا سيدي، لم يكن أحد يعرف أن يهود حومتنا، كانت لهم نفس جنسيتنا، ويتكلمون نفس لغتنا، ويطبخون نفس أكلاتنا، ويغنون نفس أغانينا، إلا أن كل ما كان يصلنا عنهم هو أنهم كفار، منافقون، أغنياء يجمعون الفلوس (لو كنتم رأيتم بعض يهودنا الأغنياء لأدركتم أنكم أغنى منهم، وأن الصدقة جائزة فيهم) سحرة، يسرقون الأطفال الصغار الذين لهم خط مستمر في وسط كفهم يفصلها طرفين، للبحث عن الكنوز، مثلهم مثل سواسة الذين كنا نكرههم كذلك مثل الباقين، سكان بربر قدموا من منطقة سوس وأقاموا بالمدينة واهتموا هم الآخرون بالتجارة مثل بيدرو السيكي، وتعلموا لغة أهل حومتنا كما تعلموا الإسبانية والفرنسية والطليانية وحتى البرتغالية، ونشطوا الحركة الاقتصادية، وأنشؤوا أول بنك متعاهد عليه لقروض الاستهلاك ومن دون فائدة، إلا الزيادة في الثمن في بعض الأحيان، كان عبارة عن كنّاش صغير بحوزة المستهلك يسجل فيه السوسي صاحب الحانوت الضروريات التي يشتريها الزبون والتي كانت لا تتعدى في غالب الأحيان، الحليب والسكر والشاي (النعناع كنا نشتريه من عند أم الدابة لأنه كان أرخص وفي بعض الأحيان بدون مقابل وذلك عندما يكثر عليها النفاد) والقهوة والزبدة الرومية، ريتا، زبدة التاج، مرغرينة، هكذا كان ينوع أهل حومتي أسماء نفس الزبدة، حتى يكون لهم حق الاختيار بالمعنى الصوري، (الزبدة البلدية كان لا يأكلها إلا من كان من فصيلة الأعيان) والميلميلادة (كان يسميها صديقي الكازاوي الكونفيتور) وعود الثقاب والشمع والبترول والدقيق والخميرة الكيميائية والملح.

كان السوسي، من أظرف سكان البلد، يقوم بكل الأدوار، فكان في نفس الوقت المساعدة الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية والبنك العالمي للتغذية والمنظمة العالمية للتجارة وبنك النقد الدولي.. يبيع ويشتري ويطارد الزبون المفلس ويتناسى بعض الكنانيش إلى حين ويقاطع زبائن أخرين. لو كنت وزيرا للشغل لكنت وهبت وسام الشغل لكل هؤلاء السواسة الذين سوّسوا قلوبهم في خدمة الناس، كان الكثير منهم ينام داخل حانوته، يعمل السوسي طول النهار وأثناء الليل، يحمل ويرفع وينزل ويصلح ويساعد، طلّع بوطاغاز عامر، نزّل بوطاغاز خاو، طلّع خنشة الدقيق الأسود، سوده الله، كانت لرائحة الغمل (العفونة) اتفاقية مع هذا النوع من الدقيق، غيّر هذه الخنشة بخنشة طحين الفرص (طحين يهبه الشعب الأمريكي الصديق لصديقه شعبنا الفقير، طحين يو إس فورص) لأن خنشة الدقيق من كثرة الغمال عشّش فيها فأر وعائلته للانتجاع. يشتمه الزبائن، يقلّلون من قيمته، يتهكمون، يضحكون من لكنته ولحنه... ورغم ذلك كان السوسي يكوي قلبه ويقرص جلدته ليصل، ووصل. ولما تحسّنت حاله ماذا قال أهل حومتي: هجموا علينا كالنمل والبقّ، عندما هجّرهم الجوع، أبو قفّاز، مثلهم مثل الريفيين، سكان بربر من منطقة الريف، في شمال البلاد.

يقال فيما يقال إن ريفيا قدم هاربا من الجوع، أقام في البداية في مدينة مجاورة، في حي يشبه حيّنا بالكل والتمام قبل أن ينتقل إلى مدينتنا، وإنه لم يذهب إلى المدرسة، مثل جل أطفال حومتنا، ورغم ذلك أصبح كاتبا عالميا، يظن أهل حومتي أن هذا تخربيق، يعني خرافات اخترعها الريفيون ليبيّنوا لنا أنهم أذكياء، (بالفعل هذا الكاتب عاش في مدينتكم ومدفون فيها، مرة أخرى هذا الفضولي يتدخل فيما لا يعنيه، قل ما شئت، نحن لا نعرف أحدا مثل كاتبك هذا. ربّما لأنه عاشر أناسا آخرين غيركم، قال الفضولي)، كل ما هو مضبوط عندنا في حومتنا هو أن هذه المنطقة التي، حسب اختراعات المتطفل، أتى منها هذا الكاتب الأمي وباقي الريفيين الذين كنا ننعتهم بالمغندفين (متوحشين)، كنا نكرههم كذلك. أصبحت فيما بعد مشهورة بالنعناع الحر، ولم تكن مشهورة بمكتباتها أو جامعاتها، كانوا عريانين وحفيانين، وأصبحوا اليوم يبنون العمارات ويسكنون الأحياء الراقية و... نفس الكره الذي كنا نكنّه للعروبية وكذلك اليهود.. كنا نكره الناس جميعا وكنا نكره حتى أنفسنا.. كم مرّة صادفت صورتي تنتظرني في المرآة الصدئة المعلقة في دهليز البيت، وأنا راجع من ليلة طويلة من الكيف والتأملات الفارغة بين أولاد الحومة في قهوة الحومة، كنت أكره أن ألتقيني عبر المرآة، كنت ثقيلا علي، أسخر منّي، كم كنت أكره هذا الوجه الذي أحمله، رغم أنني كنت وسيما، وتشهد بذلك كل النساء عندما كنت أرافق أمي إلى الحمام، لأن وجهي تعبر عنه وضعيتي، ووضعيتي تعبر عن وسامتي ودمامتي:

أرى لي وجها قبّح الله خلقة   فقبح من وجه وقبح حامله

ورغم كرهنا هذا العابر للقارات كنت أدافع عنّا، وأقر أنه كان كرها ساذجا، بهيميا، وحشيا، بدائيا، لكن من دون تخطيط أو أهداف معينة..

وعندما رحلت عائلة السيكي إلى غرناطة، كان ذلك في أواسط السبعينات، رحلت فيه عائلات إسبانية كثيرة، قرّر خوسي بن السيكي أن يستقر في مدينتنا، وهو الآن يعمل مدير شريكة طرانسميديطيرانيا للنقل البحري...

اختلطت علي العراريم.. لماذا حدّثك عن خوسي ولد السيكي؟

ـ اللهم ذكّرنا بالشهادة، قال الفقيه، يوم يحضر قاطف أرواح الشهداء وخاطف أرواح الجائفين النتنة.. قلت يا ابني إنه ذكر لك بعض الفقهاء النصارى خزاهم الله وأذلّهم وجعلهم في الدرك الأسفل من جهنم.
ـ جدّي عندما كان يخبرنا بموت نصراني من باطيو بينطو كان يقول لقد جافت مرسيدس.
ـ مرسيدس! تعني السيارة؟
ـ هل هذا مخّك أم إسفنج، ليست السيارة. بالله عليك، هل رأيت سيارة تجيف، أظن أنك أيها الفقيه تتحشّش.
ـ حاشا لله يا ابني حاشا لله، هل رأيت فقيها يتحشش؟
ـ هل هذا رأيك فعلا؟ مرسيدس اسم يطلق على نساء النصارى.
ـ إذن هي كنية. وليست اسما.
ـ لا، ليست كنية بل اسم حقيقي، قبل أن تصبح مرسيديس سيارة كانت امرأة تزوجت من ثري ألماني، وبعد ذلك أصبحت سيارة مثل مفتاح.
ـ مفتاح؟
ـ نعم مفتاح، ليس مفتاح الباب أو القفل، بل مفتاح اسم شخص مثل اسم مرسيدس.
ـ والله يا ابني دوختني.. أنا لا أعرف إلا مفتاحا هو الذي نفتح ونغلق به الأبواب.
ـ لا أعني بالمفتاح "الساروت"، هل فهمت؟ مفتاح اسم إنسان مثلي ومثلك. هل تعرف عمّي مفتاح الذي يبيع القفف والأواني الخشبية؟
ـ الله يفتح علينا أبواب السماء.. نعم.. الآن فهمت. يعني اسم النصرانية مرسيدس مثل السيارة. مثل اسم السي مفتاح بائع القفف في المارشي.
ـ الله يأتي بالذي يفهمنا ولا يعطينا أي شيء. أنسيتني في الذي كنت أتكلم فيه، ضاع مني رأس الخيط.
ـ اللهم ذكّرنا بالشه ـ...
ـ تكلّم من دون مقدّمات.
ـ قلت أن جدّك أخبركم بأن مرسيدس جافت.
ـ نعم. وكان يقول نفس الشيء عند موت اليهود. المسلمون يموتون واليهود والنصارى يجيفون، هكذا كان يعلّمنا. ولما يجيف الحيوان نقول إنه جيفة. عندما كانت أمي تخاصم أبي، كانت تشتمه قائلة: سير يا ولد الجيفة، ظننت أن أبي كان نصرانيا أو يهوديا لمدّة طويلة. لكني اكتشفت السرّ عندما سألت أمي مرة لماذا تنعته بولد الجيفة، ردّت على التوّ: لأنه سكير بن سكير، سيجيف مثل النصارى، وسيدخل جهنّم (أضاف جدّي).
ـ لم تقل لي ما قاله لك فقيه النصارى المنعول(*).
ـ نعم، تذكّرت، قال لي إنهم اكتشفوا أن بعض فقهاء النصارى مثلك، يسمونهم البادريس، كانوا يهتكون عرض الأطفال في جوامعهم منذ سنين.
ـ أستغفر الله العظيم.. حاشا لله يا ولدي، لماذا هذا الكلام؟
ـ لأن حومة الشياطين عامرة بالقحاب والزوامل. دخلني الشكّ، عندما نطقت باسم حومة الشياطين. قل لي ـ قلت له ـ أنت لا تعرف في المدينة كلّها، وقد أغرقها الله بالحوم، إلا حومة الشياطين!
ـ أستغفر الله العظيم.. ما هذه التلميحات، شيئا من الحشمة يا ابني.. نحن أمام بيت من بيوت الله.. اترك عنك هذا الكلام الساقط. من علمك مثل هذا الكلام؟ هل كنت تعاشر هؤلاء الفجرة من باغيات فاجرات عاهرات زانيات فاحشات مومسات وشواذ لوطيين؟

(لاحظت أن الفقيه لم يستعمل ولا مرّة كلمة القحاب أو الزوامل، ولا الجهات الرسمية، ولا المدرسين ولا المؤدبين، لأنها مستقاة من قاموس حومتنا الشعبي، وكل ما يأتي من الشعب نجس وساقط، وكأنه بنعته القحاب بالباغيات والزانيات والعاهرات يقلل نوعا ما من حدة ووطء الكلمة ويعطي القحاب مكانة أنسب وأشرف، كأنهن لا علاقة ولا صلة لهن بالقحبنة، أو ربمّا لأن مخارج حروف هذا النوع من الكلمات صارٌّ تقشعر منه النفوس: القحاب، القبح، القحط، القحل، القرح، القدح، القراديح.. إن أجلّ وأجمل وأروع المجازات والاستعارات التي وصل إليها التقحبين هو: بائعة الهوى! بائعة الذلّ والهوان، كل يصب فيها سائله، الذي يشتمها والذي ينبح في وجهها والذي يرسل طلقات من البصق الممزوجة بالقذف... بائعة الهوى! إنه التقحبين، يا مولاي، لا أقل ولا أكثر. نسيت، يجب أن نعطي لقيصر ما لقيصر، البوليس ورجال السلطة وحدهم، وأنا شاهد على ذلك، أضع يدي في النار، البوليس وحدهم يستعملون هذه الكلمة بصراحة وفصاحة لا مثيل لهما، يستعملونها بكثرة إلى درجة أنهم يبالغون في استعمالها).

ـ مرة أخرى نسيت سؤالك. ومن دون اللهم ذكّرنا بخاطف الأرواح... التي تفرع الرؤوس وشيئا آخر.
ـ سألتك إن كنت تعاشر هؤلاء الباغيات الفاجرات...
ـ لقد بدأت تخسّر الكلام أيها الفقيه.. كيف أعاشرهن!؟ أنت لا تعرف القحاب.. الذي ليس معه فلوس كلامه مسّوس.. تظن أنني جئت من مكة أو تشرنوبيل أو كولومبيا.. أتظن أن القحاب والزوامل سيعاشرون واحدا مثلي جاء من باطيو بينطو؟ إنك تخرّف أيها الفقيه، إنهم لا يعاشرون إلا أصحاب الفلوس، (اللعاقة مثلما يقول صديقي الكازاوي). هل تعرف أنني لم أبس ولم أقبّل بنتا طوال حياتي اللعينة هذه، وكل ما مارسته من القبل كان على وجنتي أختي الصغيرة، ورأس أمّي، ويدي جدّي وجدّتي... وباستثناء تجربتي اللعينة في شارع موسى بن نصير.. وكذلك مرّة عندما بست يد رجل سلطة، كان قد نعتني بولد القحبة، أو بولد الزامل، لم أعد أتذكر، من كثرة ما سمعته من سبّ وقذف وشتم في حياتي، لأنه لولا ذلك لكان إستي قضى ليلته يسخّن برد الرخام في أحد دهاليز الكوميساريا.. أذكر في بداية شأني، أن أمي كانت كلّما رأتني أبكي، كانت تشتمني قائلة: اسكت، الله يُسكّت حسّك.. إن الشتم المبكر هذا يعودك على تقبّل الشتائم، تصبح نوعا ما مهندا أمام جميع أشكال وأصناف الشتم والقذف والسب... هل تعرف هذا؟ يا بني آدم.

(أما الكلام الساقط فهو الكلام المتداول والقاسم المشترك بين أبناء الحومة، نتعلّمه تدريجيا بالموروث في ساحة الحومة روض الأطفال عندنا، وفي ورشات الشباب في ساحة المدرسة الخارجية وسراديب حومتنا وأماكنها المظلمة وما أكثرها، وبعدها يتخصص كل حسب شعبته في نوع من أنواع الكلام الساقط الذي يناسب اختصاصه. كما كنا نقوم بدروس تطبيقية، وما أكثرها، كالإقرار مثلا بأن يصبح أحد أطفال الحومة، بين عشية وضحاها، زاملا، أو ماريكيطو حسب خوسي ولد السيكي، رغما عنه، وخصوصا إذا كان هذا الطفل وسيما، ونفس الشيء بالنسبة للبنات، أو كسر مصابيح النور في حي الطليان واليهود والسبانيول، ربّما كان انتقاما منهم ومن شركة الكهرباء التي حرمت حومتنا من المصابيح العمومية والضوء الصالح للإضاءة، وهو غير الفتيل والقنديل والشمع واللامبا. أما آباء وأمهات الحومة الذين أكلهم سرطان الحياة، فلم يكونوا على علم بما يحصل في هذه الأماكن التي يتم فيها تطبيق الدروس، جوانب الحومة الخفية، الخافتة. كل ما كان يخيفهم هو تأثير ابن الجيران ذي الأخلاق الذميمة على أبنائهم الطيبين الحنونين، ما شاء الله عليهم، لأن جميع أبناء الجيران الآخرين من فصيلة الحيوانات المفترسة، أخلاقهم مدحورة ومشتبه فيها، إلا أبناءهم، ولكن لا أحد سأل ممن ورثوا هذه الأخلاق الذميمة؟ أما قمة عناية الآباء والأمهات بأبنائهم في حومتنا والحوم المجاورة، لأننا كانت بيننا اتفاقية توأمة فيما يخص التربية، كانت تكمن غالبا في: أين كنت يا ولد الحرام؟ أو يا بنت الزنا؟ هذه الساعة التي يرجع فيها الناس؟ (حتى أنك وإن كنت قضيت النهار كله في البيت نائما أو مريضا وخرجت دقيقتين لتبول أو تنفس بطنك مثلا ورجعت فلا بد من أين كنت يا ولد الحرام هذه) وغالبا ما يكون الجواب: كنت في الزنقة. وكأنه رجع من روض الأطفال. أين تريدونه أن يكون؟ ليس له إلا مرجعية واحدة وسبيل واحد، مسرح الحياة، روض الحومة المفتوح على مصراعيه، لا حارس يحرسه ولا مؤدب يؤدبه ولا منشط ينشطه... الأب يكسّر والأمّ تساعده والجار متواطئ في التكسير والمعلم والمقدم والباشا والحاكم ورجال الدين بكل تشكيلاتهم كلّهم يكسرون).

ـ هذا من فضل ربي. أجابني.. إنك محصن يا ابني.. ولا يمكنك أن تتصوّر مكافأة المحصنين. الحور العين بحسنهن وجمالهن ولذة وصالهن، لهن نهود و...
ـ كفى من الوصف.. ادخل مباشرة في الموضوع. قال بلهجة سلطوية.
ـ الوصف.. كلّه في الوصف.. قرأ علي شيئا ظننته في البداية قرآنا، لأنه عندما انتهى من القراءة قلت بصوت عال، مثلما كان يفعل جدّي كلّما انتهى التليفزيون من قراءة القرآن قبل نهاية الإرسال: صدق الله العظيم. إن الكثير في حومتنا من الذين اشتروا تلفيزيونا، أسود وأبيض، فيما بعد، عندما وصلت الكهرباء إلى الحومة والذي كان يقطع باستمرار وبالخصوص أثناء مشهد من مسلسل كان بمثابة الحل للغز دام عشرين حلقة، أو لقطة ضربة جزاء أثناء مقابلة بين فريقي برشلونة وريال مدريد، أنا كنت من أنصار فريق برشلونة، لأنني كان لي عمّ، حسب أبي، يعيش في برشلونة، بالضبط في بلاصة كطالونيا، لم يزرنا عمّي هذا أبدا، يقال إنه لم يرد الاعتراف بوجودنا حتى لا نحشّمه مع الكاطالونيين، كانوا يقضون نهارهم مسترخيين أمام صندوق العجب إلى ما بعد منتصف الليل، لا يتحركون، كأنهم موميات إلا إذا حضر البول، ولو كان باستطاعتهم أن يضعوا أنبوبا مباشرا يلحقهم بالكنيف لما تحركوا من أماكنهم (طيطم بائعة النعناع كانت تسمي الكنيف ببيت الماء، لكنه كان من دون ماء، كانت الفئران والجرذان تعشش بجواره منتظرة نصيبها من الطعام اليومي الذي تفرغه بانتظام بطون آل البيت)، يظلون هكذا وكأن البحر قذف بهم إلى الشاطئ، وعندما ينتهي الإرسال يولون ظهورهم مكررين نفس العبارة: عييت غادي نمشي ننعاس (نتّكّى في بلاد العروبية حسب صديقي الكازاوي، كم مرة عيّبنا عليه طريقته في النطق والكلمات الغريبة التي يستعملها لتسمية الأشياء، وكان ذلك طبيعيا، لأننا كنّا وثيقين كل الثقة أن لغة أهل حومتنا أمتن لغة وأجملها، أقرب إلى اللغة المعيار من أية لغة أخرى على وجه الأرض... العيب فينا بالأطنان... لا لغة موحدة لا ماية). احمرت وجنتاه وخرجت عيناه وأفهمني بصوت جاسوسي أنه ليس بقرآن بل هو شعر لشخص له نفس اسم المسجد.. ابن القيّم.. ظننت ابن القيم هذا في البداية من الأغنياء الجدد الذين يبنون مساجد لوجه الله بأموالهم الجديدة.. أموال الزيت والنعناع.. أتذكر أنني عندما شرح لي شعره وفهمت معناه ضحكت وقلت في نفسي......
ـ ماذا قلت؟ قل. قال بنفس النبرة السلطوية.
ـ أقول؟
ـ قل! قلت لك. قال.
ـ متأكد؟ قلت.
ـ تريد أن تقلّل الحياء. قلت لك قل. أتشك في قولي أيها الوغد عندما أقول لك أن تقول؟ قال.
ـ وأنا مالي، قلت، أقول. قلت: ابن القيم هذا كان، والله أعلم على ما يتبيّن لي، كان قطعانا (أي ظل بدون علاقة جنسية مدّة طويلة) الشيء الذي جعله يقول الشعر متخيلا المنظر، فقام إثره قضيبه، يحصل لي نفس الشيء عندما أشاهد أفلام الجنس في مقهى الحومة بعد منتصف الليل.
ـ احترم أيها الحمار. قال الصوت السلطوي.
ـ أنت الذي قلت لي أن أقول فقلت، أنت لا تعرف ما تقول.
ـ قلت لك احترم أيها الخنزير.. وتابع.
ـ نسيت.. قلت ثائرا.
ـ طيّب.. تابع.. ماذا قرأ عليك؟ قال الصوت هذه المرة وقد تخلى مؤقتا عن سلطويته.
ـ قلت: قال الفقيه: قال ابن القيم رحمه الله:

فاسمع صفات عرائس الجنات ثم اختر لنفسك يا أخا العرفان
حور حسان قد كملن خلائقا ومحاسنا من أجمل النسوان
حتى يحار الطرف في الحسن الذي قد ألبست فالطرف كالحيران
ويقول لما أن يشاهد حسنها سبحان معطي الحسن والإحسان
والطرف يشرب من كؤوس جمالها فتراه مثل الشارب النشوان
كملت خلائقها وأكمل حسنها كالبدر ليل الست بعد ثمان
والشمس تجري في محاسن وجهها والليل تحت ذوائب الأغصان

سألته: وما معنى كل هذا؟ وصف لي القصيدة بحورياتها، حرفا حرفا بحماس وإخلاص ليس لهما مثيل، وكأنه قد وصل للتو من الجنة.
قلت: أريد أن أذهب إلى الجنة فورا. 

ـ مهلا يا... (لم يكن يعرف الفقيه اسمي الذي، من غير حياء ولا حشمة، سيغيره فيما بعد دون أن يشاورني) ما اسمك؟ لم تقل لي ما اسمك.
ـ وأنت طلبته منّي؟
ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ما اسمك يا ابني؟
ـ السيمو.
ـ السيمو؟
ـ ما له، لم يعجبك؟
ـ لا، حاشا لله.. ولكنه اسم غريب.
ـ لا غريب ولا شيء.. أنا اسمي محمّد مثل مرسيدس أو موشي أو مفتاح، وأنت تعلم أن كل من اسمه محمد يجب عند ندائه وضع السي قبل محمّد لأن ذلك في الدين، وأنت رجل ضالع عفوا ضليع في الدين تعرف ما يقوله الحديث: سيّدو ولاّ حيّدو (طأطأ رأسه موافقا أو مؤكدا صحّة الحديث)، هكذا علّمني جدّي، وليس أبي، لأن أبي كان يشرب الخمر ويدخن الكيف.

غفا أبي مرة من كثرة تدخينه الكيف، فأخذ جدي الماعون، هكذا كان يسمي أبي مواعينه، وهي عبارة عن سبسي، غليون محلّي طويل وهزيل، مكون من ذكر وأنثى، وشقاف من الطين الأحمر إلا أنه يصير أسود مع مرور الزمان ومن كثرة الاستعمال، ومطوي من الجلد الرخيص يقوم بدور الغمد يضع فيه السبسي بعد أن ينزع الذكر عن الأنثى وينظفهما بإخراج القار الأسود الساكن بداخلهما، مثل الذي يسكن في أعماق جدّي، وينظف الشقاف كذلك، وكيس من البلاسطيك يضع فيه رزمة الكيف المقصوص والمدرّح بورق الطابا. رمى جدّي الماعون في مكان، على حدّ قوله، ما بين وادي اليهود ورمل قالة، في طريق الجبل الكبير. عندما رجع أبي من غفوته التي دامت شريطا ولم يجد الماعون، حلف أنه إن حاول أبو زوجته تجديد العملية مرة أخرى لن يُمنّعه هذه المرّة. كان أبي رجلا مسالما، يحلف كثيرا ويتكلّم قليلا ماعدا عندما يكون سكران، لأنه عندما يكون سكران، هات ما عندك للفرجة وللفرح والمرح، يطلق للسانه العنان، يكشف عن عيوبنا، يعني عيوب زوجته وأبيها وأمّها (لا يذكر أبدا عيوب أبنائه، يعني أنا وأختي الصغيرة، كان يعشقنا حدّ الجنون) وعيوب جيراننا وأبناء جيراننا ومقدّم حومتنا، وكذلك الخليفة والقياد والباشاوات وأصحاب السياسة يمينا ويسارا، والفقهاء والأئمة وكل رجال الدين الحقيقيين منهم والمنحرفين.

كان سكان الحومة يتهيؤون لاستقبال أبي يوم سكره. تلبس النساء والبنات أزهى الثياب ويضعن الحنّة على أيديهن ويكحلن ويسوكن، ولا يعكرن (أحمر الشفاه للأجانب)، كلّه إلاّ العكار، لأن العكار، وبالخصوص الأحمر البرّاق، علامة من علامات التقحبين، كلّ النساء السبانيوليات في باطيو بينطو كنّ يعكرن كذلك، فكن بالنسبة لعقلي الصغير، لا أظن أنه كان لي عقل، وبدون استثناء قحبات، حتى أنني كنت متيقنا أن إسبانيا كلها قحاب، رجع أحد أبناء الحومة وقد مكث مدّة لا بأس فيها في إسبانيا، لم يكن يسكن في بلاصا كاطالونيا، لأنني سألته مرّة إن كان يعرف عمّي، قال لي إنه لا يعرفه لأنه لا يسكن في برشلونة بل في حومة بعيدة تشبه حومة باطيو بينطو اسمها الباريو، كما أكد لي أن عمّي هذا كذّاب، لأن بلاصا طاطلونيا، ليست كباطيو بينطو، إنها ساحة راقية جدّا ولا يسكنها إلا القياد والباشاوات والأعيان من الإسبان، لا يمكن أن يسكنها عمي إلا في حالتين، الأولى أن يريح في الكينيينة (يانصيب كرة القدم الإسباني) والثانية، وهي الأرجح على حدّ قوله: أن يكون من متسكعي بلاصا كاطلونيا، لأنهم يسكنون في المترو، وحين سألناه إن كانت إسبانيا مكتظة بالقحاب، أجاب: القحبنة قد عششت في أمخاخكم من زمان وما سايقين لها خبار. كثيرا ما كنت أسمع أمي وهي تخاصم أختي وتعدها بكل أنواع العذاب خاتمة وعيدها: إذا خلّيتها فيك أجي عكّر لي... ويذهب الرجال عند الحلاق وبعدها إلى الحمام، ويجري الأطفال يطوفون في كل أرجاء الحومة مبشرين معلنين قدومه:

أبو السيمو سكران
احضي رأسك يا فلان
أبو السيمو سكران
لا يفوتوا بك القومان...

كان ذلك اليوم يوم عيد، يوم فرجة. السرك الذي حرم منه كل أطفال حومتنا، باستثناء خوسي ولد السيكي الذي كان يرافق أبواه إلى سرك عمّار الذي كان يقام مرّتين في السنة في ملعب الرومان المواجه لمدرسة ريمون إيكاخال الإسبانية، كان يوم عيد الأعياد، لأن الجميع مشتاق للاستماع لعيوبه وبالخصوص عيوب الآخرين. ما أجمل ونحن نفرح بعيوب الآخرين ناسين عيوبنا، ويأتي أبي بخطاباته البارعة وهو سكران لينصحنا ويذكرنا بعيوبنا التي تلصق جلدنا، يتوسط فناء حومتنا، يشرب جغمة من ماء الحياة، ويشعل سيجارة، ينتر نترة أو نترتين، يرفع رأسه ببط جهة السماء وكأنه يعاكسها (على طريقة سيرج غانزبورج، لا أعرف هذا الشخص)، يتنفس بعمق ورأسه دائما تنظر إلى الفضاء، ويخيم على فناء الحومة صمت الجبانات الفرعونية، وينطلق صوته خارقا هذا الصمت المطبق علينا والمنضّد منذ قرون بحرف "لو" الذي يفيد الشرط مع استحالة تحقيقه: لو كانت السلطة بيدي لأمرت أن يسكر الجميع حتى تستقيم أحوالكم ويذهب الغش والنفاق والكذب والتخرويط والشقاق والتبليغ والتواشي وازرع لي أزرع لك، حتى يعرف الناس مدى إنسانيتهم من بهيميتهم، لأنكم جميعا صغيركم وكبيركم من صنف البهائم (يعني من المقدم إلى ما تحت)، يضع عليكم الآخرون (يعني من المقدم إلى ما فوق) أثقالهم وأعباءهم وتقبلون هذا الوزر كالحمير وكالبغال، مزغردين ومصفقين ومهللين في خشوع وخضوع ومذلة (أبي لا يتحدث هكذا إلا عندما يكون سكران، يكون أميرا بين الشعراء وحكيما بين الفلاسفة).
رجالكم:

العاشقين ف النبي نصلوا عليه
آ جاه النبي،
جاه النبي العظيم
الجنة للصابرين
النار للقوم الكافرين
الله ينصر علم النبي

نساؤكم:

الصلاة والسلام عليك أرسول الله
إلى جاه إلى جاه سيدنا محمد
الله مع الجاه العالي

يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو يويويو

ما بكم؟ أرى أنكم لم تستطيعوا قراءة هذه اليوهوهات كاملة! هكذا تقنطون من بضعة يويوهات تملأ بالكاد ثلث صفحة، وماذا نقول نحن الذين قضينا طول الأوقات من حياتنا المريرة نستمع إلى إليها بالرغم منّا ليل نهار، صباح مساء، قبل منتصف الليل وبعده، قبل الفجر وبعده، في الصباح الباكر وفي وقت الظهر وعند الزوال وبعده، في المناسبات ومن غير المناسبات.

ويغيط الغياط ويطبل الطبال وينفر النفار ويقرقب الكناوي ويطلق البواردي البارود وتُزَوِّط السيارات، وتأكلون الكسكس بالأطنان، والبسطيلات من شتى الألوان بالحمام وبأغلى الأسماك، وعلى الطريقة الصينية واليونانية وحتى الهندية، والدجاج المحشو بالعشرات بكل أنواع الحشو، ولحم البقر الذي شحمه أكثر من لحمه، والحلويات الدسمة المفرطة في الحلو، وتكسرون قوالب السكر بالأطنان، وتشربون الشاي، بعدما أن كنتم قد ملأتم بطونكم بخليط (كوكتيل) من كل أنواع المشروبات الغازية من إخوان المرابط وجيدور وكروش وأطلس والسبعة (سفن آب) وبيبسي وكوكا وفانتا البيضاء والصفراء والحمراء وهوغار (هوغار هذه لا يعرفها إلا أهل حومتي، ليمونادة محليّة من السكر الخالص كان يصنعها الشيكي بنفسه، مثلها مثل ليمونادة إخوان المرابط التي كان يصنعها المرابط وأخوه وتباع بثمن بخس. تجدها بالخصوص في صالات السينما كسينما الريف وكازار وكبيطول وميريكان وفوكس، لكنك لن تجدها في سينما اللوكس أو غويا أو الروكسي أو موريتانيا أو باريس، لأنها كانت سينمات راقية يتردد عليها أناس راقون). وتتنوع أماكن الزردة ومواقيتها بتنوع الطالب والمطلوب والظالم والمظلوم. تزردون من جوعكم، وتدوم الحفلة أياما وليال وأنتم من الجوع تموتون ومن الجهل تموتون وبالجهل تموتون وفي الجهل للجهل تموتون، لا تستطيعون الجهر بالأشياء، تتكلمون مختبئين داخل سرائركم ومن وراء ستائركم حتى لا يسمعكم الغاشي وهو ماشي..

يتوقف أبي عن الكلام لحظة، يخرج قرعة (قارورة للأجانب) فيها ماء الحياة، يتجرع جرعة طويلة، يمسح شفتيه بكمّ قميصه ذي الألوان الزاهية، يضع القرعة في جيب سرواله، ينظر مرة أخرى إلى السماء (على الطريقة الغانزبورية) وكأنه يعاكسها، ثم يقول:

ـ افعلوا مثلي، اشربوا ماء الحياة لتحيوا من جديد، اشربوا البينو، الطينطو (الخمر) البلانكو، الروخو، لا يهم، اشربوا لتصحوا. عليكم بالسكر، سيساعدكم على الكلام، إنه يطلق اللسان، ويسلطه، فتفضحون بعضكم بعضا وتجهرون بأسراركم، وتصبحون فصحاء، وتهجركم العجمة واللكنة واللحن، ويرحل عنكم الجبن والغباء، وتصبحون أخيرا بني آدم... لدى كان جدي يمنعه من الحديث في الدين، كما كان يمنعه المقدم عن الحديث في السياسة وفي شؤون الرعية، لأنه مثلما كان يقول جدّي، السلك المفقوص نجس خنز لا فرق بينه وبين الخنزير، وهل يستطيع الخنزير ـ لعنه الله ـ الحديث في الدين، كان يسألنا، وكنّا نجيب بعدما تكتمل الجوقة: لا، لا يستطيع الخنزير ـ لعنه الله ومسخه ـ الحديث في الدين. الجوقة، يعني أنا (لأني ساعتها كنت ما زلت ابن أمّي) وأختي وأبناء الجيران وكثير من أبناء حومتنا وبعض الحوم الحدودية.

ـ أنت لا تعرف حومتنا القديمة، قلت للفقيه. أجاب الفقيه مترددا بالنفي وكأنّه أحسّ أنّني بسؤالي هذا أحاول الكشف عن أسراره الدفينة.

ـ ما لك تُقفقف كأن البرد ضربك. حومتنا القديمة يا السي الفقيه.. آه على أيام زمان في حومتنا القديمة.. لا تظن أن حومتي القديمة هي حومة صدام.. لا، ليست حومة صدّام، لأن حومة صدام حومة جديدة، مثلها مثل حومة الشوك، ليست قديمة، لأننا قبل حومة صدّام كنا نسكن في حومة باطيو بينطو، أو بالضبط قرب باطيو بينطو، قبالة جامع النصارى التي لم تكن تبعد بكثير عن مدرسة اليهود، كنا نسكن في شابولة، أعني برّاكة، كانت حومتنا عبارة عن مجموعة براريك مبنية بالقصدير والياجور والقصب والخشب (عندما يريدون الحديث عن مثل هذه الحوم ينعتونها بمدن الصفيح، يظنون أن اللغة العربية الفصحى ستصفح عنها وتستر عوراتها). أما باطيو بنطو فكان يسكنه النصارى، وبراريكنا كانت تلاصقه. الباطيو حومة إسبانية من البراريك الراقية من الطراز الرفيع، كنا نفخر عندما يسألنا أحد أين نسكن، تكون الإجابة متحمسة وسريعة جدا، حتى لا نترك أثرا للشكّ: في باطيو بينطو، وكأننا نسكن في سنطرال بارك أو نويي أو الزمالك (هذا ليس بكلامي، أنا بريء منه)، سأل مرّة أحد أبناء أعيان المدينة متهكما، مظهرا ذراعيه ورجولته وشواربه بين أصدقائه وصديقاته الذين كانوا من نفس فصيلته ومعدنه بعدما أن اشترى قبطة من النعناع من الدّابة بائع النعناع المتجول:

ـ أين تسكن يا دابّة؟
أجاب الدابة تلقائيا بصوته الغليظ:

ـ في باطيون بينطون، هكذا كان ينطقها.
قهقه الذي قهقه وضحكت التي ضحكت.

ـ في باطيون بينطون. جميل. يعني أنك نصراني.
ابتسم الدابة من أنفه، من دون أن يجيب. ضرب حمارته ضربة لطيفة على مؤخرتها بعصاه وتابع جولته في حي الأعيان والألبة والشرفاء أصحاب الأبهة والرُّواء. يحسدوننا حتى في بؤسنا! لم يقلها الدابة بل نبعت منبجسة من سراديب صمته. تعرفون أن الدواب لا تتكلم، ولكن هل لاحظتم أنها تركز نظراتها عليكم في بعض الأحيان إلى درجة أنك تستحون من أنفسكم. أنا الدواب ليست كأنا بني آدم كان يقول أبي وهو يلاطف قطة أو يداعب كلبا من حيوانات حومتنا.

النصارى الذين كانوا يسكنون الباطيو، كانوا كلهم يتكلمون بالإسبانية، فبالرغم من أنهم كانوا يعرفون لغتنا عن ظهر قلب، كانوا يتفادونها ولا يتكلّمون بها، ربّما كان هذا يجعلهم يتأكدون من إيبيريتهم ونصرانيتهم، ويتبرّؤون من العرب والبربر والمسلمين والأفارقة، وغيرهم من الجنس الرذيل، هم الآخرون كانت عنصريتهم في البداية عنصرية بهيمية، ولكنها أصبحت فيما بعد مخطّطة، ذات أهداف معينة، سكنت دمهم وأمخاخهم وهذيانهم وهترهم.. كانوا لا يستعملون لغتنا إلا في أوقات مخصوصة لأغراض هي الأخرى مخصوصة، يوم الخميس مثلا وهو يوم السوق الأسبوعي للمدينة أو يوم الأحد في سوق أحد الغربية الجبلي الذي يقصده سكان البوادي المجاورة لتسريب منتوجاتهم المحلية (بيو)، وكل ذلك قصد المساومة والمفاوضة، أما استعمالاتهم الأخرى فكانت في الكثير من الأحيان للشتم والسبّ: اغرب عن وجهي يا ولد الكحبة، يا هاد المورو، أنا أكول لك لا تكف هنا وأنت كالحكة التي تلصك بالجلد وتتنكل من بكعة إلى بكعة أخرى بسرعة البرك (معذرة عن اللكنة، هكذا كان ينطق النصارى في باطيو بينطو، كانت لكنتهم هذه تختلف عن لكنة سواسة، الغريب هو أن أعظم سكان حومتنا لم يكونوا يعرفون أي لغة أخرى، يرفضون كل اللغات)، وفي بعض الأحيان يدرّحها بكلمات إسبانية: ييخو دي بوطا، طو بادري إيس أون ماركون إي طو مادري أونا بوطا كحيحبة، (حتى أن هذه الشتائم الأجنبية تناقلناها بالمأثور وأصبحت متداولة بيننا، ومن أرقى الشتائم، لقد ساهمت هذه المرجعية في ترسيخ الكلام الساقط الراقي في حومتنا) يا من لا أب له، لو كان لأبيك أصل لما كنت تخيط الدروب حتى هذا الوكت المتأخر من الليل، مثلكم مثل الكطط، الجنس ليلا والولادة صباحا، حتى الكوليرا لم تعد نافعة... (معذرة مرة أخرى عن هذه اللكنة). أما جدّي، دفاعا عن حرمة الحومة من هؤلاء المهجّرين الذين طردهم فرانكو والجوع، كان يسميهم أولاد بو رقعة، الخيطانوس، الهجيج، أولاد بو حلّوف... ويسمي لغتهم لغة أهل النار.

لقد كنا في حومتي نفضل الاختصار في كلّ شيء وبالخصوص في الأسماء وكنا نحبّذ كثيرا وزن "فعيلو"، هكذا صار عبد الحميد حميدو وعبد المجيد مجيدو وعبد الكريم كريمو، ورحمة رحيمو، ولكي يستقيم الوزن أدخلنا السي في محمد بعدما قزّبنا نصف محمّد فأصبح اسمي السيمو.. فهمت؟ أو أعيد الشرح.

ـ تابع.. تابع.. قال الصوت السلطوي.
من أحلى وأنشى الأشياء التي لاحظتها في الفقيه وغيره ممن ينصتون لكلامي بما فيهم الصوت السلطوي الذي كان يرسل إيس إميسات من تحت الطاولة، ربّما لبائعة هوى في حومة الشياطين يطلب منها أن تنتظره في مطعم السمك الشهير، هو أنك على يقين أنهم لم يفقهوا شيئا مما تقول وأن خيط حديثك ومغزله قد ضاع منهم، ورغم ذلك يستمرون في الاستماع إليك وكأن شيئا لم يكن، يحركون رؤوسهم مثل مجموعة الكلاب البلاستيكية التي وضعها خوسي بن السيكي في مؤخرة سيارته والتي عندما تتحرك السيارة تبدأ هي الأخرى تحرّك رؤوسها، قال فرس عنترة مرّة وكان قد اشتكى لراكبه منحنحا ولكن راكبه لم يفهمه:

لو كان يعلم ما لمحاورة اشتكى   ولو كان يعلم الكلام كان مكلمي

ـ إذن اسمك السيد محمد.. قال الفقيه.
ـ لا، أنا اسمي السيمو أيها الفقيه، لمن تحكي زابورك يا داود.. هل فهمت؟ السي... مو! أما السي محمد أتركها للفقهاء مثلك. ساد صمت خفيف بيننا، ربما لأنني كنت أبحث فيه عن رأس خيط الكلام.
ـ أنت متأكّد أن هناك نساء جميلات في الجنّة؟ قلت للفقيه.
ـ أجمل مما تتصور يا ابني وبكثير.
ـ أنا أعرف في حومتي كثيرا من الغزالات الجميلات جدا، الكل في الحومة يعشقهن، حتى أن رجالهن أجبروهن على وضع الحجاب. الكل يغطي سلعته ويعشق سلعة الآخرين.. كلهم هكذا.. أعرف الكثير منهم.. كانوا يسكرون معي في بيران المدينة، وما أكثرها، منها الشعبية كالثقب في الحائط والهاشمي، والكراج والحمراء، ومنها الراقية أو شبه الراقية كنغريسكو وكاسا إسبانيا والبيطانكا (إن الكاتب الأمّي كان يتردد على كل هذه الأماكن. يقول الفضولي). إضافة على أنهم كلهم يتحشّشون ويشمون الغبرة.. وأكثرهم يعشقون الولدان.. (أول بار للمثليين عرفه العالم، دشّن في مدينتنا، كان لأحد رعايا ملكة بريطانيا، أضاف الفضولي) أعرفهم مثلما أعرفك. يعني لا أعرفهم مثلما كنت لا أعرفك من قبل.. لأنني فعلا لا أعرفك.. ولكن أعرفهم مثلما أعرفك الآن، لأنني أصبحت الآن أعرفك.. غريب، لقد لاحظت أنك بمجرد أن تتلاعب بالكلام في حضرة الفقيان تأخذهم الدوخة. هل فهمت؟ جحظت عينا الفقيه واندهش، ربما علامات مرض جديد اسمه الفلسفة، لم أتركه يسأل. بداية الدكتاتورية.. تابعت.. مرّة نظرت إليّ خناتة بنت حدّهوم نظرة غريبة، كان ذلك بعد موت زوجها إمام مسجد الحومة بشهرين، كان المسجد هو الآخر عبارة عن برّاكة، وأتذكّر أن جدّي جمع سكان الحومة، وأخبرهم أنه رأى في المنام خيرا وسلاما، شخصا بلباس كله أبيض، حتى رزّته وبلغته كانتا بيضاويتين.. سأله أبي إن كان ممرّضا يعمل في سبيطار (مستشفى) القرطبي الذي كنت تدخله حيّا شبه معافى وتخرج منه مجبّذا كحبة عنب في محمل. سبّ جدي أبي كالعادة وتابع محاضرته آمرا سكان الحومة، كما أمره صاحب اللباس الأبيض الذي حضره في المنام، ببناء صومعة من القصدير، وذلك حسب دفتر الحمولات، وضع عليها علما من الكتان الأبيض الذي أصبح مع مرور الأيام يميل لونه إلى السواد أكثر منه إلى البياض. طلبت مني خناتة بنت حدّهوم في البداية أن آتي لها بالماء مرة في اليوم من سبيلة الحومة وأنها ستدفع، لأن حومتنا في تلك الفترة لم يكن قد وصلها لا الماء الصالح للشرب، ولا الكهرباء الصالح للإضاءة. كانت هناك سبيلتان: الأولى قرب جامع النصارى، في اتجاه مدرسة الطليان، قريبة من مدرسة اليهود، (ضحكت لمّا سمعت لأول مرّة بطلا في مسلسل مصري يقول للبطلة، وكانا يسكنان مثلنا في حومة مثل حومتنا خائبة وخنزة مليئة بالوسخ والمسخ يسمونها الحارة: شو رأيك أعزمك على كأس مية ساقعة من الحنفية):

على شاطئ الوادي نظرت حمامة   أطالت عليّ حسرتي والتندم

حاولت مرّة أن أقلد المشهد بحضور لطيفة بنت الفحام التي كانت قد جاءت تسقي الماء من سبيلة الحومة، والتي كنت مزعوطا فيها، ضربة صاعقة، لأهل الشرق نفس العبارة: أحبّك موت:

وقولوا لها يا منية النفس إنني   قتيل الهوى والعشق لو كنت تعلمي

قهرتُ الخجل والحشومة وحدير العينين وكل الأشياء المزيفة التي تعلمناها بين ذوينا وفي الكتّاب والمدارس، قلت لها ووجهي يتصبب عرقا (تبغي نعرضك تشرب معاي كأس ماء بارد ديال سبيلة)، ولّت من حيث أتت وهي تتمتم: أظن أن الحشيش بدأ يلعب برأسك، أو أن مخّك عشّش فيه الدود.. مَن يشوفك حتى الشوفة أيها الوغد الوقح يا سقيط اللسان.. الرجل للخدمة والدمير وليس ليعترض لبنات الناس في السقاية.. لو كان الخوخ يداوي لو داوى رأسه، ولو كانت فيك أية علامة ربح لشمّرت على ذراعيك، مثل ما فعل السيكي، وذهبت تبني الطرقات مثل إخوتك.. الحاجة الغالية لا تصلها بمال، الحرّ بالغمزة والحمار بالنغزة، افهم المعنى وكن فائقا، انظر إلي، انظر كما تشاء، أنا هي وسأبقى دائما أنا.. لكن يا خسارة على من أعطاه الله الفول وهو لا أسنان له.. لو كنت رجلا فعلا ورّيني شطارتك.. لكنك ثعلب بدون مخّ.. تركت سطلاها وولت تجري باكية في اتجاه برّاكتها. كان أبوها واقفا أمام باب البراكة مرتديا لحية طويلة حمراء، ينظر إلي بعينين شريرتين يخرج منهما لهيب النار من كثرة الاحمرار. برمّ وجهه وقال باشمئزاز:

ـ تفو..
لعن الله الخجل والحشومة والرقيب والحراز وكاغط الصداق والجيران:

مال الحرّاز الدّامي ما يثيق بِيَّ هيهات
غير حاضي الأوقات، في ثيابه مسلم فعايله رومية
مال الحراز قضيب البان ما يجاور عمره جيران
عاسّ على القتلة مشعور
جامع أطرافه ما يندى، ولا نظرت بحاله جلدة، بين لحظ عيونه عقدة
وقت ما نجيه نصيبه عبوس آ لطيف آ لطيف واش نعمل واش المعمول

كان قلبها ينخره الأسى، كانت وكأنها في شتمها وسبّها ترحبّ بي وتقول مرحبا بك يا فارس الأحلام في بلد الظلام والغيوم السوداء والبراقع الظاهرة والخفية، مرحبا بك يا هوائي البحري، يا مطري في وقت الحرّ، لقد نشفت دموعي من كثرة الانتظار، خذني، ضُمّني بين ذراعيك أو إلى قلبك، ولكن ضمّني، زمّلني بكل المعاني وفي كل المعاني، لأني أصبحت جُملا لا معنى لها. ينقصني الفعل والفاعل والمفعول، ينقصني اللمس والهمس، تنقصني قصتي مع حبيبي، تنقصني مشاجراتي الغرامية، وحنيني لحبيبي، ينقصني الغياب والانتظار وحين العودة (أيها القارئ المحترم.. ليكن في علمك أنني لم أفهم لغز لطيفة بنت الفحام إلا مؤخرا، بعدما فات الأوان، عندما جاءت تزورني مؤخرا في السجن العسكري مع إحدى بناتها الأستاذة شامة التي عينت نفسها رسميا محاميتي دون أية استشارة).

ـ علاش عليك هذا الشيء، قالت لي لطيفة، ضيعت حياتك وعذبتني، كم من ليال قضيتها أبكي لي ولك، لكنك ذهبت في تيه وأنا في تيه آخر، كم كنت أحبّ ذكاءك الحيواني، تفهم من غير تفكير، وتحبّ من غير كلام، حزنت على ما ضاع مني وأعيش في حزن الحاضر والقادم. لقد كلمتك باللغز والإشارة والمعنى وحَبّ الفهامة، لكنك قضيت عمرك تهوى الإحباطات بشتى أنواعها. لماذا لم ترد علي يوم شتمتك عند السقاية؟ ظننتك فهمت المعنى، لكنك كنت مثل الحمار أمام السكنجبير، ولّيت هاربا كثعلب ضاع منه ذكاؤه. ليتك كنت مثل أبيك، صاحب المعنى.

ـ خالتي الكبيرة هي السبب. أجبتها
ـ وما شأن خالتك الكبيرة هنا؟ سألت.

سكتّ. لم أجبها. أتذكر أنني كل ما قلته هاربا من سؤالها: كيف أجيبك والأشياء فهمت للتو أنها مغشوشة من البداية. قبل وأثناء وبعد ولادتك. أأقول لك أن أبانا الأول كان أكبر الخطائين. إن حبّي سبقني لأنه كان أذكى مني، لم أفهمه إلا الآن. استيقظت متأخرا، كمن وصل إلى المحطة وهو ينظر إلى القطار الذي شرع في التحرك، وما الحاجة إلى الفهم الآن.

نظرت إلى نفس النظرة التي ألقتها وهي تسبني في سبيلة.
ـ هذه بنتي شامة. محامية تسكن في العاصمة. قررت أن تدافع عنك وبدون مقابل. إنها تعرف كل شيء عنك. الكبيرة والصغيرة، لقد حكيت لها الحكاية من البداية، لما كنا في باطيو بينطو.

التقيت بغزالي اليوم وعذبني حبيب القلب. طرشتني الفطنة، يا ليتني ما استيقظت.. لماذا تمشي الأشياء الجميلة دائما على رأسها.. وتمشي السفن بما لا تشتهي الرياح. ارحميني يا راحة قلبي من عذابي ونار غرامي.. ليتها أطالت الشتم إلى هذا اليوم، لتعبر عن كل آلامها. لكن لم أكن قد أكلت حبّ الفهامة مثل اليوم، أما هي فقد كان لها الحراز بالمرصاد. إن الرقيب يحوم بطيفه من حومتي هنا في قرن القارة إلى أقصى حي في الشيخ عثمان في قاع الجزء الغربي من القارة الأخرى. إنه قامع الأصوات.

وسكتت لطيفة بنت الفحام عن الكلام المباح.. قهرها هذا الصمت الأبدي.. وعلى طاولة المونتاج أعادت ربط شريط الماضي بشريط الحاضر ليكتمل الفيلم.
ذهب عني النعاس، أفاقت عيناي وتحررت من سباتها:

فأيقنت أن الطرف (كان قد) قال مرحبا
وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم
  ألا فاسقني كاسات (ماء) وغن لي  
 بذكر (لطيفة) والرباب و(سبيلة)

(الكلام الآتي لا علاقة لي به إنه نابع عن الشخص الذي عزم نفسه من غير عزومة، يؤكد أن هذا الذي فعلته بهذين البيتين يسمّى رفوا. أضيف إلى أنني قرّرت أن أقاطع كلام ضيفي الثقيل الذي يحشو به سيرتي، فمن الآن فصاعدا لن أشير إلى كلامه، أظنكم تستطيعون فرزه عن كلامي في حالة إذا ما حصل وتطفّل من غير إذن).

أما سبيلة الثانية فيلزمك أن تذهب إلى غاية بداية حومة درادب وتلوي في اتجاه طريق سبيلة الجماعة، وأنا شخصيا كنت أكره حومة درادب، لأننا كنا في صراع وحرب دائمة مع أولاد تلك الحومة وذلك لأسباب جيو ـ إستراتيجية لا يتّسع الوقت لذكرها وإلا سندخل في اعتبارات أخرى، كلّ ما يمكن قوله هو إن أولاد تلك الحوم وآباؤهم كانوا يسكنون منازل مبنية بالحديد والياجور والإسمنت، وكانوا يعتبرون أهل براريك باطيو بينطو عالة على المجتمع، مثلنا مثل سرّاق الزيت (الصراصير) والفئران والجرذان والكلاب السائحة.. وغيرها من الأشياء التي تكرهونها وتنغص عيشكم. كرههم ساذج وبهيمي مثل كرهنا، كان يقول أبي.. كنت أفضل أن أستقي الماء من قرب جامع النصارى، لأنه قريب من باطيو بينطو ولا يسكن بجانبه إلا النصارى الذين لم يكونوا بحاجة إلى سبيلة، لأن عماراتهم كان فيها الماء الصالح للشرب والكهرباء وحتى التليفون، كما كان بحوزة بعضهم التليفزيون، منهم، هكذا سمعت أمّي تعدّهم لجدّتي، مدير بنك اسبانيول ونائب مدير سبيطار اسبانيول (لقد تم شرح كلمة سبيطار للأجانب من قبل، ليس لدي متسع من الوقت لأشرح لكم كل الكلمات التي لا تفقهونها، ما عليكم إلا أن تتعلموا لغتي التي يتحاشاها أهل البديع وأصحاب لغة القواميس الجوفاء التي لا تصلح إلا لتحنيط المومياء مثلما كان يقول أبي) ومدير مدرسة اسبانيول الكبيرة ريمون إيكاخال ومدير شركة الطيران الإسبانية إيبيريا ومدير شركة طرانسميديطيرانيا السبنيولية صاحبة البواخر التي تعبر البوغاز يوميا في اتجاه الضفة الأخرى، والتي أصبح خوسي بن السيكي مديرا لها فيما بعد، أما نحن فكانت عندنا باخرة واحدة لها نفس خصائص سطل أمي الذي سأتحدث عنه عاجلا، اسمها "ابن بطوطة"، وعندما تحسنت حالتنا أضفنا باخرة ثانية تحمل اسم "بسم الله"، لن أقول لكم ما كانت تقلّه على ظهرها! كانت الباخرتان، حسب رحالة عاش فترة بين الضفتين، والله أعلم، من بقايا البواخر التي لم يحرقها طارق ابن زياد.

أمي كانت تعمل خدّامة عندهم جميعا، لأنهم كانوا يسكنون كلّهم في نفس العمارات المجاورة لجامع النصارى، قال لي صديقي الكازاوي مرّة إنكم تسكنون في إسبانيا، الكل إسباني حولكم، حتى أن الحي برمّته اسمه إيبيريا، كان باستطاعتنا نحن سكان الشابولات والبراريك السقاية من بئر حفرتها البلدية، كان يستعملها مزارعو ورعيان الحقول المجاورة لغسل مواعينهم ويروون منها بهائمهم وكلابهم ومواشيهم من معز وخرفان، لم يكن لدي لا دلو ولا شريط.. أو بالأحرى كان لدينا سطلان حقيقيان من البلاستيك الخالص، لأن هناك سطولا مزورة مصنوعة من البيدونات والعجلات المطاطية، كانا السطلان الرئيسيان اللذان يتعايشان في سلم، ولكن كل في منطقته لا يعتدي أحدهما على حرمة الآخر، يتقاسمان فضاء شبولتنا بتقنية عالية، شبولتنا! النوالة كما كانت تسميها أم الدابة، كانت قد أصبحت منذ مدة لا يستهان بها براكة حقيقية بكل معايير البراريك، لكني أحن دائما إلى اسم الشابولة لأنني رأيت فيها النور، ولأنها كانت مبنية بالخشب وعيدان الأشجار، لم يكن قد دخلها القصدير والياجور بعد، يقال إن في الضفة الأخرى تخلوا عن البناء بالإسمنت والقصدير، وبدأوا يبنون بالخشب، يسمونه بناء بيئيا يعني طبيعيا، كان السطل الأول مخصوصا بجدّي، يشرب ويتوضأ منه، لا يتركه دقيقة، وكأنّه قرّة عينه، لأننا بالنسبة له كنا تقريبا كلنا نجسين، ليس في مستوى أبي الذي كان بالنسبة له في قمة النجاسة، والثاني كانت أمي تستعمله للسقاية وللشرب ولغسيل المواعن ولتنظيف البراكة ولها فيه مآرب أخرى، مثل عصا جدّي.. كان لسطل أمي ثلاث خصائص: الوحدانية والقدم والبقاء.

ـ استغفر الله يا ابني!
ـ كيف أستغفر الله.. إنها الحقيقة يا مولاي.. حقيقة تخلع السبع وباقي الوحوش.
ـ كنت تحدثني عن خناتة بنت حدّهوم.. أليس كذلك؟
ـ هل تعرفها؟
ـ لا.. حاشا لله.. أعرف زوجها المرحوم.. كنا مشارطين معا عند فقيه في إحدى قبائل بني مكسر. كان أكبرنا سنّا وأكثرنا علما رحمه الله، بحر العلوم، (كأنه اخترع لست أدري ماذا).. قيل والله أعلم إن زوجته كانت تصغره سنا.
ـ تريد أن تلتقط الزؤان يا عمّي الفقيه. ومتى كان الفقيان يبحثون في سير أعلام النساء الهجّالات؟
ـ حاشا لله.
ـ ظننتها أنها ستدفع لي قليلا من الفلوس مقابل الماء الذي أسقيه لها، لكن بعد خمس أو ستّ سفرات لاحظت أنها لم تدفع، فقلت ما مفاده أنني سقيت لها ماء حق الميت المرحوم زوجها، ولكن انطلاقا من اليوم لن ترى سفرة واحدة من الماء إلا إذا دفعت.. دعتني إلى براكتها في نفس اليوم الذي صادرتُ فيه الماء، ظننتها أنها ستدفع. قالت لي:
ـ لا تسألني حْلوف، أنا هكذا وهذا طبعي، أقول لك الذي كان، عيني فيك يا السيمو من قبل أن يموت المرحوم.. أنت تعرف أنه كان مسنّا.. ولم يكن قادرا على ممارسة الأشياء التي على بالك، ولكنني لم أستطع أن أصرح لك وقتها بذلك.. فها أنا اليوم وحيدة لا من يحميني ولا من يسقيني.. وإذا ما لا يبغيني قلبك لله لا ترحمني. نظرت إليّ وعينيها يغليان، ثم أضافت: هل تعرف أنّك وسيم؟ أحسست بز...
ـ احترم أيها الحمار. قال الصوت السلطوي.
تابعت:
ـ سامحني.. أحسست بعضوي يتحرك في عرينه.. (وكأن كلمة "عضو" تعني شيئا آخر غير الذي في بالكم. ذكرني هذا بقصة الجبلي الذي حضر كشاهد في قضية هتك أحد الشيوخ عرض قاصر.. فسأله القاضي: ماذا رأيت؟ قال الجبلي: كلّ ما رأيت أن شيخ القبيلة أخرج زبـ... أوقفه القاضي على التوّ صارخا بلهجته السلطوية: تكلّم بأدب أيها البغل، إنك في مكان موقّر أيها الحمار. كانت علامات الوقار بادية على القاضي. قال الجبلي: أخرج أدبه وأدخله في أدبها وأدّبها تأديبا ليس مثله أدب). حاولت خناتة أن تنقض علي وجدتني قفزت قفزتين الأولى من البيت إلى الفناء والثانية من الفناء إلى رأس الحومة.. دخلني رعب شديد.
ـ هكذا يكون الأتقياء يا ابني.
ـ أي أتقياء.. يا مولاي الفقيه.. لم أستطع مواجهتها ـ.. لم يعلمني أحد كيف أباشر امرأة وخصوصا امرأة تكبرك بعشر سنوات على الأقلّ.. لما حكيت القصة لأولاد الحومة انشقوا مذهبين منهم من رأى في روايتي كذبا في كذب، وكل ما أردته من ذلك هو أن أعتدي على حرمة رجل ورع ذهب لملاقاة ربّه، وأن أبين دروعي بأن لي في النيك شأنا وباعا، ومذهب أيدني مبيّنا أن هذه حال كل ذكور الحومة وفحولها ونصحني بأن أطلب خدمة قحبة تعلّمني فنّ النياكة وأمرّن قضيبي حتى أستطيع مواجهة العدو في المعارك القادمة. التقطت آذان أمي آثار الحادثة، استدعتني وقامت باستنطاقي بنفس الطريقة التي قام بها البوليس أثناء التحقيق معي في قضية ستعرفونها فيما بعد، الاختلاف الوحيد بين أمي والبوليس هو أن أمي كانت تعلقني من أذني مثل خالتي الكبيرة وتقرفص وجنتي، بينما كان البوليس يبصق على وجهي ويطرش وجنتي وقفاي وأنا معلق من رجلي، وفي حالات أخرى عندما يكون البوليس أقل قسوة، ينتف زغب لحيتي زغبة زغبة، ويخلع عني ملابسي ويجعلني أمتد على بلاط من الرخام الرخيص البارد وكأنك ممتد على لوح ثلج كالذي كان يبيعه السيكي طالبا مني بكل أدب واحترام أن ألحس البلاط بلسانك، بينما يدخلون قرعة (قارورة للأجانب) كوكاكولا الزجاجية، متوسطة أو كبيرة الحجم، حسب الزبائن، في مؤخرتك لتمثل صورة الكلب أحسن تمثيل، طالبتني أمي بكل التفاصيل، قلت لها عيب، كيف أجرؤ على التفاصيل في حضرة أمي، نطق جدّي مقرا أنه لا حياء في الدين، وأن الزواج على سنة الله ورسوله يفتح أبواب الجنة، لاسيما الزواج من امرأة أرملة. كانت أمي وعبرها جدّي يريدان أن يضربا دجاجتين بحجر واحد، أن يتخلصا مني ومن كل ما يترتب عن ذلك، من إقامة وسكن وأكل ومصروف الحلال والحرام، وأنها صفقة رابحة إذ سيستفيدان من القليل الذي تركه المرحوم لخناتة بنت حدّهوم، إلا أن القليل في حومتنا كثير ناذر. شهور بعد ذلك حصلت على قطعة نقدية واتجهت إلى إحدى دور القحاب في شارع موسى بن نصير، طرقت الباب فإذا بخناتة تفتح الباب، لم أستطع الهروب هذه المرة، حصلت في المصيدة مثلما تحصل عيشة قرعة (البرقش أو الشرشور بالنسبة الأجانب) (كثيرة هي الأسماء المركبة من عيشة وشيء آخر، عيشة قنديشة، عيشة البحرية، عيشة الدويبة، عيشة أم النواجر، لا أعرف لماذا بالضبط هذا الاسم، تساءل ضيفي المتطفل، وكأنه سيجد الجواب في سيرتي هذه!) وعيشة قرعة هذه، فصيلة من الطيور المهاجرة، تنزل ضيفة علينا في حومتنا كل سنة مع بداية فصل الربيع، وكان أولاد الحي يصطادونها بالمصائد الحديدية ويبيعونها للنصارى واليهود وسكان الأحياء الراقية.

نترتني خناتة من ساعدي وغلّقت الأبواب.. أخذت مني القطعة النقدية.. أخبرنا جدّي، شهورا بعد موت زوجها أن خناتة بنت حدّهوم هجرت الحومة فجأة وانقطعت أخبارها، من دون أن يعلم ذلك الكارطيرو (ساعي البريد للأجانب) الذي كان يقضي معها في بيتها ساعات طوال، إلى درجة أن نصارى العمارات المجاورة لباطيو بينطو وبعض نصارى الباطيو قدموا شكاية لنائب البريد لتأخر هذا الأخير، لا ليس النائب بل البريد، عن الوصول في الموعد، وذلك يسبب لهم متاعب بالنسبة لأعمالهم الإدارية والمالية والاجتماعية.. صادفت مرة الكارطيرو يوزع راجلا الفاتورات واستدعاءات البوليس والمحاكم، لأن الرسائل والبطاقات البريدية والجرائد كانت شبه منعدمة في حومتنا. استغربت، لأنه عادة كان يأتي راكبا دراجة نارية من نوع موبيليط يضع عليها حقيبته الجلدية الممتلئة بالرسائل وغيرها من الأوراق الأخرى، فهمت إثرها أن النائب الإقليمي للبريد وبّخه وحكم عليه المجلس التأديبي أن يرجع الدراجة النارية إلى كراج البلدية وكذلك ساروت (مفتاح) باب الكراج وأصبح بذلك من صنف سعاة البريد المشاة بعدما أن كان من صنف سعاة البريد ذوي الدراجات النارية. قال بعضهم وكلهم من أصدقاء جدّي، إن ما حصل للكارطيرو، كان بسبب اعتدائه على حرمة شيخ ورع لم يفت على وفاته رمضانين. وقيل والله أعلم، من مصدر غير موثوق به، روجته إحدى جارات الكارطيرو، أن زوجة هذا الأخير التي كانت من أجمل نساء الحومة، لما علمت قصة زوجها مع خناتة، قرّرت انتقاما منه أن تصبح معشوقة النائب الإقليمي، ودائما حسب المصدر نفسه، أنها رحلت عن زوجها وتزوجها النائب وأقاما حفلة زواج في إحدى أوطيلات المدينة الفخمة، لأنه، حسب ما يروى، عن مصادر هي الأخرى غير مباشرة، مصدرها جارة أخرى، كان نائبنا الإقليمي مزعوطا فيها زعطة التوكال (والتوكال عبارة عن وجبة سرّية تخلطها المرأة في الغالب بالأكلة الرئيسية وتقدّمها للرجل دون أن يشعر، علمت فيما بعد لماذا كان أبي يرفض أن يأكل الطعام الذي تحضره أمي أو جدّتي قبل أن يمدّ الجميع يده، كان دائما آخر من يضع يده في الطبسيل، أما سرّ التوكال لا يعلمه إلا بعض الفقيان الذي قرأوا الدمياطي وحمزة ويعرفون ضرب خيط الزيناتي، أو أولائك الذين أخذوا السر عن اليهود وأهل سوس أو بعض العصاميين مثل جدّي)، ويضيف نفس المصدر أن زوجة الكارطيرو كانت عشيقته، قبل أن يستلم الكارطيرو وظيفته، وأنه هو الذي سهل له المأمورية للحصول على ساعي البريد. مجمل القول كما قالت طيطم بائعة النعناع بقي الكارطيرو يدا في الأمام ويدا في الوراء، تركته موحلا بابنيه التوأمين. وبما أن آخر الكلام يعود دائما إلى جدّي الذي قال إنه أوحي إليه، ربما عن طريق أحد الأولياء الصالحين، أن توأمي ساعي البريد يشبهان إلا حد يدخل الشك والارتياب السيد نائب البريد المحترم.. غابت خناتة بنت حدّهوم واختفى معها ظلها. فمنهم من قال إنه صادفها في جبل طارق تشتغل منظفة مراحيض أحد الفنادق الفخمة، ومنهم من قال إنها تشتغل في الكونطرابندو بين الفنيدق وسبتة، ومنهم من قال بأنها تزوجت من ريفي متزمّت يرتدي لحية يقيم بألمانيا، ومنهم من قال إن رجل أعمال خليجي، من رجال الأعمال الذين لا عمل لهم إلا الزواج، وقع في شرك غرامها فرحلت معه.

كانت أول مرة تلمس فيه يداي جسد امرأة.. أما قضيبي فقد تقوقع من كثرة الخوف، من كثرة ما كنت أخشى أي يعضني فرجها.. خالتي هي صاحبة هذه الصورة الوحشية للفرج، لم أجرؤ على قول ذلك للطيفة بنت الفحام، عندما زارتني لأول مرّة في السجن، والسبب في خوفي هذا هو أنني أردت أن أرافق أميّ مرة، كالعادة إلى الحمّام، فرفضت ذلك مبرّرة أنني قد أصبحت رجلا ولم يعد لائقا أن أرافقها إلى حمام النساء، كان عمري آنذاك، على أكثر تقدير بين أربع وخمس سنوات، لأنني لم أكن أذهب بعد إلى المدرسة، لأن السن القانوني للتمدرس كان سبع سنوات، أضافت أمي أنني إذا أردت، من الآن فصاعدا، الذهاب إلى الحمام، ما علي إلا أن أذهب مع جدّي إلى حمام الرجال، أبي لم يكن يذهب إلى الحمام، كان أبي في عيني جدّي شخصا خنزا ووسخا، وكانت الحمامات في عيني أبي، وبالخصوص حمامات الأحياء الشعبية التي لا ترى النور أبدا وحيث يختلط الوسخ بالصابون البلدي والغاسول وقشرة الرأس وقشرة الحكّة وبقايا الجلود ورؤوس الدمامل وجثث شفرة السبع مينورا والقمل والتونيا وزغب الإبطين وكذلك زغب اللحيتين الفوقية والتحتية وما تبقى من الماء السائل، حمامات في قمة القذارة. بدأت أبكي وأصيح وأركل كل شيء برجلي وأبصق على كل من يمرّ حتى انقلبت الدار قيامة، وصلت أثناءها خالتي الكبيرة، سألت عن أسباب هذا الهرج والمرج، حكت جدّتي القصّة بكاملها وأضافت أشياء لا أساس لها بالواقع، من أن الجن والعفاريت سكنوني، وربما كان قد وقع ذلك مرّة عندما ذهبت إلى الكنيف (المرحاض) في الليل، لأن أبي كان قد نسي أن يفرغ الكريزي (نوع من قطران كيماوي) في الكنيف حسب تعليمات أمي وذلك لسبب بسيط أنه كان كالعادة سكران، أن كل أنواع الجان الأبيض والأزرق والأحمر وكذلك العفاريت تعاف رائحة الكريزي، فمنذ ذلك اليوم لاحظت جدّتي تغيرا في تصرفي، وهذا طبيعي لأنهم هم الذين يهيجونني ويتكلمون باسمي، وأنه عليهم أن يزوّروني مجموعة من السادات، ابتداء بسيدي بوعرّاقية، وإن لم يستطع خلاصي من السكان القاطنين داخلي، زوّروني سادات آخرين، كسيدي احساين وسيدي هدّي وسيدي أحمد بو قجّة ولالاّ جميلة، أو أن يطلبوا من جدّي أن يتوسط لي للحصول على موعد مع فقيه دار زهيرو صديق طفولته الذي، حسب ما يروى، له كرامات في هذا الشأن.

كان هذا قبل أن يأخذ جدّي البركة من أحد الأولياء الصالحين، لأن البركة تعطى عبر طريقين إما بالوراثة أو باللوطوريا (اليانصيب)، أخذتني خالتي الكبيرة من أذني ورفعتني حتى صار أنفي في نحر أنفها وعيناي هي الأخرى في نحر أنفها، لأنها كان لها أنف طويل كأنف الشيطان حسب أبي، سمعتها تصرخ في وجهي: النساء عندما يكنّ في الحمام يخلعن عنهن لباسهن، يعني يكن عاريات مزبّطات، يكون همّهنّ، أي فروجهن من دون سليبات وتعرف ماذا يحصل عندما يرى فروجهن ذكرا في مثل سنك، تجري الفروج وراءه لكي تعضّه. ضحك مني أولاد الحومة حين حكيت لهم دورتي التدريبية.. لقد كانت دورة تدريبية فاشلة.. قررت إثرها أن ألتجئ، مثل باقي ذكور الحومة وفحولها إلى العادة السرية التي لا تكلفنا أدنى مشقة إضافة إلى أنها بدون مقابل.
ـ أعوذ بالله يا ولدي من العادة السرية، إنها تقلّل النظر والإيمان، وأستغفر الله لي ولك من هؤلاء المومسات، إنهن حطب جهنم يا ابني.. حاشا لله أن يعادلن زغبة، بل زغيبة، من جمال الحور الصافي، جمالهن ليس كجمال هؤلاء الباغيات اللواتي يخنّ بعولهن خفية وعلنا، أين هنّ من الحور يا ابني؟ استمع إلى قول ابن القيم رحمه الله حتى يستقيم لك المعنى (كنت أتمنى أن يستقيم لي شيء آخر، احترم أيها الوغد، قال الصوت السلطوي) وتعرف قيمتهن بالنسبة للحور:

لا تسبينّك صورة من تحتها الداء الدوي تبوء بالخسران
قبحت خلائقها وقبح فعلها شيطانة في صورة الإنسان
تنقاد للأنذال والأرذال هم أكفاؤها من دون ذي الإحسان

لا يغريك جمالهن يا ابني.. فكلّهن باغيات خائنات، قال رحمه الله:
أما جميلات الوجوه فخائنات بعولهن وهن للأخدان

لقد ابتلاك ربّك ليمتحنك، إن كل البلاوي والمصائب التي مررت منها كانت آية ودليلا قاطعا على أنك من الذين اختارهم الله وقد هيّأ لعباده المحصنين أجمل مما يمكن أن يتصوره عقلك (وكأن لي عقل)..

إن كان قد أعياك خود مثل ما تبغي ولم تظفر إلى ذا الآن
فاخطب من الرحمن خودا ثم قدم مهرها ما دمت ذا إمكان
ذاك النكاح عليك أيسر أن يكن لك نسبة للعلم والإيمان

ما عليك إلا أن تخطبها وتدفع المهر وستجدها إن شاء الله تنتظرك. (سيكون المهر غاليا، والذي فهمته من بعد هو أن الفقيه طلب مني أن أشتري السمك في البحر وفعلت).
ـ كم؟ (أكرّر، سيكون الثمن غاليا)
لم يجبني، (كأنه نسي حضوري)..
... بل تجدهن ينتظرنك كلّهن لك سامعات طائعات تتمتع بهن أبد الآبدين، يعاملنك مثل السلطان:

وإذا انحدرت رأيت أمرا هائلا ما للصفات عليه من سلطان
لا الحيض يغشاه ولا بول ولا شيء من الآفات في النسوان
فخذان قد جفا به حرسا له فجنا به في عزة وصيان
قاما بخدمته هو السلطان بينهما وحق طاعة السلطان
وهو المطاع أمره لا ينثني عنه ولا هو عنده بجبان
وجماعها فهو الشفا لصبها فالصبّ منه ليس بالضجران
وإذا يجامعها تعود كما أتت بكرا بغير دم ولا نقصان
فهو لشهي وعضوه لا ينثني جاء الحديث بذا بلا نكران

عاد إلى رشده، وكانت قد غمرته نشوة مثل تلك التي تغمرني كل مرة مارست فيها العادة السرية في الحمام، أو مثل تلك التي غمرت صديقي الدابة، على ما يحكى، الذي كان يساعد أمه طيطم في بيع النعناع على ظهر حمارة تركها لهما أبوه من بين الأشياء القليلة التي ورثوها عنه، حتى أن تلك الحمارة كانت سبب خلافات كادت أن تشق عصا قبيلة بني مسكين، لأن عم الدابة طالب بحقه في الورث، وقال إنه كان يجب على الحمارة أن تبقى في الدّوار حتى يستفيد منها الجميع، وإن ترحيلها إلى المدينة واستعمالها في أشياء لا تصل إلى ما يمكن أن تتحمله الحمارة من الأعباء فرط وتفريط، لا يقبله عقل عاقل، ولا وقف ناقل، كان عمّ الدابة عدولا. إلا أن خال الدابة كان له رأي آخر، وهو أن رحيل الحمارة إلى المدينة سيجعلها تعيش في ظروف أحسن من تلك التي تعيشها الحمير عادة في القرى، وهذا سيجعل أخته وابنها يستفيدان من البهيمة مدة أطول، وعبرهما قبيلة بني مسكين، وإن ساعد البهيمة الحظ، تزوجت من حمار متمدّن يجعلها تخلّف حميرا صغيرة قمورة حلوة كثير، وتتكاثر الحمير، يستغلونها في البناء والفلاحة والنقل والتجارة، ويصبح بني مسكين أغنياء. كان خال الدابة يبيع الكيف في مقهى صغير قرب رحبة عيساوة. واحتد الخلاف بين أهل أب الدابة وأهل أمه، حتى أن حومتنا استيقظت في أحد الأيام على صياح وعويل سبّبهما حرب الحمارة الغبراء ذات اللون الترابي، تدخّل إثرها المقدم وبعده القايد والباشا وتمّ حجز الغبراء أربعين يوما، حتى يتمّ النظر في القضية، وتمّ تسليمها أخيرا لطيطم بائعة النعناع وابنها الدابّة، بناء على قرار يستند إلى المسطرة والمادة والبنود التي تؤكد كلها على أنه في إطار التطور الذي تشهده المدينة يمنع منعا كليا تصدير البغال والحمير، لأن المدينة في حاجة ماسة إلى هذه البهائم، كان هذا أول قانون غير مباشر، يعترف بمدنية البهائم.

خرج الدابة، فيما يحكى، ذلك اليوم والبشاشة تغمر وجهه، سأله أولاد الحومة عن سرّ بشاشته غير المعتادة هذه، أجاب إنه سعيد غاية السعادة لأن الدابة غجعت (أي رجعت، لأن الدابة كان ينطق الراء غينا). ومن يومها صار اسمه المتداول بين أهل الحومة الدابة غجعت. ومع مرور الأيام سقطت غجعت ولم يعد يتذكر أهل الحومة إلا الدابّة. كان الدابة سعيدا بلقبه، وكأن الدابة التي كانت على وشك الضياع رجعت وسكنته، أصبحت جزءا منه، يطعمها بأحسن أوراق البروق والتبن النقي، يمشط ظهرها بمشط من حديد يشبه القرشال، وفي بعض الأحيان لما تكون الحالة ميسورة يعطيها حفنة صغيرة من سكرّ سنيدة، أما يوم الأحد فكان يرافقها، بعد صلاة العصر، إلى البئر التي حفرتها البلدية لتستحم. حاولت أن أتذكّر اسمه الحقيقي، لكني تيقنت أني لم أسمع أبدا أحدا في حومتنا ينطق أو يناديه باسمه الحقيقي. ما أجمل إنسان يحمل اسما لا يعرفه إلا هو. كان الدابة يغيّر مهنته كل يوم جمعة وفي أيام العواشر (الأعياد الدينية، كالمولد والنسخة والمعراج وعاشوراء)، فمن بائع نعناع يتحول إلى بائع ريحان، لم يكن يرافق أمه التي تقوم بجولاتها المعتادة في الأحياء شبه الراقية تبيع النعناع. كل سكان الأحياء شبه الراقية وكذلك سكان أحياء غير الراقية، يموتون في الشاي وبالنعناع، لأن الشاي من غير نعناع، بارك الله فيكم، كالخمر من غير كحول أو كالبحر من غير ملح أو كالرجل من دون..

ـ اخرس أيها الخنزير. قال الصوت السلطوي وكأنه استبق وتوقع ما سأقوله.
ـ لماذا تشتمني هكذا بدون مقابل. قلت محتجا.
ـ لأني عرفت خبايا نيتك الوقحة أيها الوقح.
ـ لم تعرف حتّى زفتة (لم تفقه شيئا، بالنسبة للأجانب)، أي نية وقحة في مقارنتي أتاي بلا نعناع برجل من دون شهامة. أنت تعرف يا صاحب الصوت السلطوي مثلي أن أتاي بالنعناع الشراب المفضل عندنا، يحل محل كل الخمور، نديم كل الأوقات. وأنت لست دون علم بما قال أبو العباس أحمد بن عبد الرحمان الجشتيمي رحمه الله في الشاي:

تضلع في الأتاي ما استطعت واتّخذ قداحا ظرافا للتأنس والقرب
ولا تتجاوز من كؤوس ثلاثة تنل منتهى اشتهاء نفسك في الشرب
ولا تقربنّه قبل إفراط نضج الماء والغليان واجتماعك في الشرب
ولا تقبلن مناولا غير عارف بأحوال تحسين الشراب على الدأب
ولا تجلسن في غير مجلس نزهة على أرفع الفراش في المنزل الرحب

كنت أريد أن أسأل الفقيه إن كان ابن قيمه هذا قد قال شعرا في الشاي. لم أسأله. جاءني الجواب بعد ذلك بمدّة، وأنا مرابط في أحد المعسكرات بعيدا عن أهلي وحومتي، مع أناس لا أعرف لا لغتهم ولا عاداتهم، لست أدري كيف وصلت إليهم، يقال، والله أعلم، أننا حينما نسلك مثل هذه السبل، نكون في حالة ثانية وكأن هناك رادار سماوي يشق لنا الطريق ويرشدنا من غير أن نعلم، لكن اليوم الذي تقوم فيه من "القلبة" حسب تعبير صديقي الكازاوي، تجد نفسك قد فعلت أشياء لم تكن لك في الحسبان. التقيت أثناء إقامتي هناك بشيخ نجدي، كان أصله من درعية، لم أكن أعرف أن درعية في نجد، ولا أن نجد في جزيرة العرب. سألته، وكنت قد اشتقت إلى شاي قهوة حومتنا المنعنع أي اشتياق، إن كانوا يشربون الشاي على طريقة أهل حومتنا، فاجأني بإجابة لم تحضر على بال شيطان ولا جان. قال: قال أحد الأئمة المغاربة المبارك فيهم رحمه الله، وقد عرف أن هذا المشروب ما هو إلا شهوة استلذذتها النفس:

إن الأتاي لشهوة مضر مضرة تفض لجلب الهم والخسران
وتؤول لارتكاب دين فادح ولمحق مال مع فساد عنوان
تعمي مكان المرء تقفر بيته والفقر منه تكون الأحزان
لا ذو حف يبقى له ذو حافر ويعود للبساط والدكان
تبّا لكل تاجر سعى بها وأتى لمسلم شهوة الشيطان

كان الدابة يحمل برويطته ("مِنْقلة"، هكذا وجدتها في المعجم، أنا لست مسؤولا عن هذه الكلمة أفضل برويطتي) الممتلئة بالريحان ويتوجه إلى المجاهدين، لا، ليس الأفغان، المجاهدين اسم أكبر مقبرة في المدينة. يقف عند بابها يبيع وريقات الريحان، لأن شذى الريحان يذكر بجنة الرحمان. حفظ الدابة كلمات كانت مسجلة على شريط كاسيت، يكررها أمام باب المقبرة ليجلب الزبائن الزائرين: "الجنة دار الخلود، والفرح والسعود، وهي دار صفاء ونقاء، وجمال وكمال، فيها ما لم تره عين، وما لم تسمعه أذن، وفيها من شتى الفواكه لذيذة المذاق جميلة الألوان، وفيها الحور الحسان، وفيها راحة الجسد والأبدان" ويضيف في الأخير جملة من وحيه الخاص "وفيها من الشجر الرند والمسك والعنبر والريحان"، ومتى كان المسك والعنبر من الشجر يا دابة! الله يسامحك، حشّمتني مع قرّائي، لقد شرّعت لهم الأبواب، ماذا سيقولون الآن عنك وعنّي وعن أهل حومتي، سيقولون أنّنا كلنا جاهلون. بعد موت أبي بشهور، كان موت أبي بعد زواج جدّي الثاني، انتهزتها فرصة لأرافق الدابة إلى المجاهدين، لا لزيارة قبر أبي، لأنني كنت علمت علم اليقين أن زيارة المقابر وزيارة أضرحة السادات والأولياء كله شرك يجب محاربته، هذا اليقين الذي تعلمته هناك بعيدا عن أهلي مع أناس لا أعرف عنهم شيئا ولا يعرفون عنّي شيئا، وقفت معه أتفرج على أفواج الزائرين حتى وقف علينا شيخ وقور وسيم الوجه بلحية حمراء وقال بصوت رباني: ما شاء الله ما شاء الله كلها أشجار سنلقاها بشذاها في الجنة وستكون ظليلتنا.. (أن يغلط الدابة ابن حومتي جائز، ولكن أن يغلط مولانا التقي ففيه رأي. كنت قد وعدتكم بأنني لا أشير إلى كلام الضيف المتطفل، إلا أنني أراني هنا مرغما على وضع النقط على الحروف، في هذه الفترة حتى أنا لم أكن أعرف أي شيء لا عن المسك ولا عن العنبر وما زلت لا أعرف أي شيء عنهما، كل ما كنت أعرفه وحسب تعليمات شيخنا القادم من درعية أن كل أنواع العطر حرام).

مسح ما تبقى من لعابه المبعثر على شفتيه المختبئتين وعلى لحيته الكثيفة، كانت وجنتاه محمرتان وكأنه خرج للتو من الحمام. ذكرتني حمرة وجنتيه وجسده الممتلئ وكتفاه العريضتين بعمر بن الخطاب وأنا أخال هيئته وأستاذ التربية الإسلامية يحدثنا عنه وعن عدله وفروسيته.. حتى أنني أتذكر أن المرة الوحيدة التي ذهبنا فيها مع جدي إلي السينما، لأن السينما والموسيقى والراديو والتلفيزيون والفيديو والغناء والرقص والكمبيوتر.. كلها حرام بالنسبة لجدي، إن عملت برأي جدي ذهبت مكّة راجلا، ذهبنا لمشاهدة فيلم عن عمر بن الخطاب. كانت سينما الريف تبرمجه مع فيلم رابعة العدوية وفيلم صلاح الدين الأيوبي مرّتين في السنة، مرة في أيام العيد الصغير، ومرة في أيام العيد الكبير. أما فيما عدا أيام العيد هذه فكانت كل الأفلام التي تعرضها سينما الريف أفلاما هندية، هل تعرفون أن جلّ أولاد الحومة كانوا يتكلمون الهندية بطلاقة ويعرفون الأغاني الهندية وأسماء الممثلين والممثلات عن ظهر قلب، أكثر مما يعرفون المعلقات السبع والعشر والمفضليات ودواوين الأخطل وجرير والفرزدق (كلامي أنا الضيف المتطفل، يذكرني ضيفي هذا المتطفل بمسمار جحا، بدأ يتدخل في سردي متى أراد ذلك ومن دون حياء ولا حشمة)، وأسماء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأسد الغابة في معرفة الصحابة والإصابة في تمييز الصحابة (هذه الأسماء تعلمتها في الخارج)... كانوا يعرفون شاشي كابور، وراج كابور، وشامي كابور في أغنيته الخالدة سوكو سوكو في فيلم جنكلي، وأشا باريخ، وراجيش خانا، ودرامندرا وجيتندرا و...

ـ تكلّم بما هو مفيد أيها الخنزير. هل تحسب نفسك في بومباي.. هل فهمت يا ابن الخنزير؟ قال. (سعيد سعادة الدابة يوم غجعت حمارته. حتى صاحب الصوت السلطوي يعترف رسميا بأني ابن أبي)
ـ فهمت. التفت الفقيه حوله يبحث عني.. قلت له:
ـ هل تعني أن نساء حومتي وقحاب حومة الشياطين كيف كيف؟
ـ لا يا ابني الأمور أصعب مما تتصور.. هل تعرف أن أكثر أهل النار من النساء؟ كل ذلك مذكور في حديث المعراج.

جاءني حديث المعراج وأنا مرابط للمرة الثالثة أو الرابعة في معسكر لا يبعد عن المعسكر الأول، دائما مع أناس أجهل لغتهم وعاداتهم، ودائما بعيدا عن أهلي، وذلك عندما زارنا واعظ خطيب وإمام واعر عفوا، سبحان من لا ينام ولا يسهو، اللسان ليس فيه عظم، قصدت وارع إلى أقصى درجات الورع، هو الآخر نجدي من درعية، جاء ليحدثنا ويرشدنا حتى يكمل إيماننا. وحصل أن كان درس ذلك اليوم عن حديث المعراج، لاحظت أن حديث المعراج هذا، عند زياراتي المتعددة لإخواننا في مساجد الأحياء الأخرى كان له حضور قويّ، حاجة جامدة جدّا. حديث رهيب لمّا يقارنه أمثالي بشعر ابن القيم عن الحور الذي حفظناه عن ظهر قلب.

بعد خطاب الإمام عن المعراج وأهوال نسائه، حمدت الله أنني لم أولد أنثى، كان همي الوحيد تائه بين اختيارين إما التخلص من هذه الحياة في أسرع وقت ممكن والجلوس بين حورياتي، أو العودة من حيث أتيت المرة الأولى.

كلما انتابتني مثل هذه الخواطر أحوّلها إلى أسئلة وجودية (لا دخل لي بهذا الكلام، ابحثوا عن قائله) أوجهها إلى أبي الأبدي: لماذا أكلت من تلك الشجرة اللعينة. يحسبك أنني أتيت إلى هذه الدنيا بعد مشاورة. لماذا لم تشاورني؟ لو كنت شاورتني لكنت أعطيتك إجاصة أو برتقالة عوض التفاحة ولكنا بقينا في حومتنا هناك في أمان كل مع حورياته.

هكذا كنت أتخيل الأشياء عندما فهّمني شخص من أولائك الذين يفهمون (أظن أنه هو نفس الشخص الذي تكلم من غير أن يستأذن، هذا الضيف المتطفل، الذي انتهز الفرصة ليتكلم باسمي يريد بذلك أن يعكر علي صفاء سيرتي ويتدخل فيما لا يعنيه. أخبركم بأن الحوار التالي والذي جعلني أحاوره فيه من محض اختراعه) أنّه لو لم يكن أبونا الأول أكل التفاحة لما كُنّا! يعني وُجدنا. قلت: كيف ذلك؟ قال: إن أبانا الأول قبل أكله التفاحة لم يكن لا رجلا ولا امرأة. قهقهت حتى بانت أنيابي. قلت: لا رجل ولا امرأة، وماذا سيكون؟ من غير الخنثى المشكل لا أرى أحدا، وإلا فهّمني. قال: لأن أبانا الأول لم يكن بحاجة إلى نسل ولا إلى ذرية. كانت حياته أبدية، كان في جنة الخلد. ولكنه عندما أكل تلك التفاحة الملعونة من تلك الشجرة الملعونة، بعدما أن وسوس له الشيطان الملعون، وساعدته في ذلك صديقته أمّنا الأولى التي هي إلى حدّ ما مسؤولة عن جزء مما حصل، ولكن ليس أكثر منه، إذ كان باستطاعته أن يقول لها لا.. ألا ترى أن كل الرجال في حومتكم يقولون لنسائهم لا. (ما عدا أمي، هي التي تقول لأبي لا، إنه تعقيب على كلامه لأنني أصبحت مع هذا الضيف الثقيل لا أعرف أين موضع الكلام من سياقه).

قلت: ماذا تقول؟ صديقته؟

قال: بالضبط صديقته، لأنهما لم يكونا قد تزوجا بعد. زواجهما جاء بعد حادثة أكل التفاحة وليس قبلها. لأنه بمجرد ما عضّ أبونا الأول أول ما عضّ التفاحة ظهرت ذنوبهما. قلت: ذنوبهما؟ تعني خطيئتهما؟ قال: لا، أعني ذنوبهما، أي أطرافهما، وإن أردت سوآتهما أو عوراتهما. قلت: تعني أنهما لم يعودا طهورين. قال: بدأت تفهم. لأنهما قبل أين يأكلا من الشجرة لم يكونا بحاجة إلى مخرج للتخلص من نفايات ما أكلاه، ولكن بعد الأكل تغيرت الأشياء، أحدثا تغييرا في النظام لم يكن متوقعا، فيروس شلّ الكمبيوتر، فجعل الله لهما مخرجين، مخرج للسائل ومخرج للصلب، وبهذا أصبحت علتهما متعلقة بالأكل والشراب.. ألا ترى أنهما بعد ذلك غفرا ذنوبهما بأوراق الشجر.. قلت: كيف يستطيعان أن يغفرا ذنوبهما وبورق الشجر، إن الله هو الذي يغفر الذنوب. قال: لم تعد تفهم. غفرا، أي سترا مخارجهما أو إذا أردت عوراتهما.. قلت: يعني أنت الآن تحاول أن تفهمني أن غفر الذنوب معناها ستر العورات. قال: بالضبط. بدأت تأكل حبّ الفهامة. قلت: وما دليلك على ذلك؟ قال: ألا ترى أن من أقوال العرب نجد: "غفرت المتاع في الوعاء" وأن "فلانا غفر الشيب بالخضاب، ومنه قول الشاعر:

حتى اكتسيت من المشيب عِمامة غَفْرا، أُغْفِر لَوْنُها بخِضاب

وأن من معاني الغِفارة خرقة تلبسها المرأة فتغطي رأسها والرقعة التي تكون على حزّ القوس الذي يجري عليه الوتر والسحابة التي تكون فوق سحابة أخرى (جميلة سحابة فوق سحابة أخرى هذه). فكان من اللازم أن ينزلا لكي لا يدنسا جنة الخلد، فسخر لهما الكلأ والماء والجنس ليحيوا وليعمّروا طمعا في طريق العودة (سيزيف أبدي).. ولكي يجدا حلقتهما ويعودا من حيث أتيا أصبح كل منهما زوج الآخر، فتزوّجا وحصلت بينهما أول علاقة جنسية في تاريخ البشرية تناقلتها بعدهما الأجيال، لست أدري إن كان ذلك طمعا في العودة أو محبّة في البقاء والدوام (تغركم التناقضات).. وبهذا يكون الجنس قد أصبح القانون الأساس والمنظم التي تدور حوله الحياة. ألا ترى أن لا جنس للملائكة لأنهم ليسوا بحاجة لأن يتوالدوا.
وأصبح الخلود إثر هذا متواترا بعدما أن كان متواصلا.

*     *     *

كان خطيبنا هو الآخر يرتدي لحية لا بأس بها. سألنا إن كنا نعرف قصة المعراج كاملة، لم يكن جوابنا لا سلبيا ولا إيجابيا، لأنه بعد سؤاله بدأ مباشرة في الحديث عن المعراج. قال: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:

«ولما كشف خازن النار الغطاء عن جهنم فإذا هي سوداء معتمة مظلمة فيها نساء باكيات محزونات ينادين فلا يجبن ويتضرعن فلا يرحمن لأنهن كنّ يتزيّن لغير أزواجهن. ومنهن نساء وعليهن سراويل من قطران وفي أعناقهن السلاسل والأغلال كنّ مستخفات بأزواجهن اللاتي تقول الواحدة منهن لزوجها ما أشنع وجهك وما أقبح شكلك وما أنتن ريحك (ربما كان كلاما وجهته زوجة صبية قاصر في مقتبل العمر لشيخ هرم نتن خبيث طمّاع كجدّي، لأنكم لا تعرفون قصة جدّي الأخرى، سأوافيكم بها في سياق الحديث). ومنهن نساء معلقات من شعورهن ويغلي دماغ رؤوسهن كغليان القدور لأنهن كنّ لا يغطين شعورهن من الرجال الأجانب. ومنهن نساء معلقات بشعورهن ومكبلات بأبزازهن بكلاليب من نار (ذروة ذرى السادية، وحلم المازوشية) لأنهن كن يرضعن أولاد الناس بغير إذن أزواجهن. ومنهن نساء أرجلهن إلى ألسنتهن وأيديهن إلى ناصيتهن (يوغا) لأنهن كنّ لا يحسنّ العشرة، ولا يحسن الوضوء، قذرات الثياب والجسد ولا يغتسلن من الحيض والجنابة، ويتهاون في صلاتهن حتى تفوت. ومنهن نساء صم بكم عمي في تابوت من نار يخرج دماغ رؤوسهن مثل الدهن من مناخرهن، وبدنهن ينقطع من الجذام والبرص لأن أولادهن كانوا من غير أزواجهن من الزنا فيجعلنهن في أعناق أزواجهن. ومنهن نساء معلقات بأرجلهن في تنور من نار، لأنهن كن مسلطات اللسان يشتمن أزواجهن. (سألت مرّة جدي عن النساء الذين يشتمن أزواجهن، ملمّحا لابنته، أي أمّي، أجابني بأن الأمر يتعلق بالمؤمنين وليس بالخنازير). ومنهن امرأة لها رأس كرأس الخنزير، وبدن كبدن الحمار، وعليها ألف نوع من العذاب لأنها كانت نمامة توقع العداوة بين زوجها والجيران وتسعى بين الناس بالنميمة والكذب. ومنهن نساء معلقات بشعورهن في شجرة الزقوم والحميم يصب عليهن فيهري لحومهن لأنهن كن يشربن الأدوية حتى يقتلن أولادهن خوفا من مطعمهم ومشربهم وتربيتهم. ومنهن نساء مقيدات بقيود نار وقد فتحت أفواههن ولهيب النار يخرج من بطونهن لأنهن كنّ مغنيات ومتن من غير توبة (مسكينة أم كلثوم وفيروز وأسمهان والحاجة الحمداوية وحجيب وعبيدات الرمى، ما هذا الهذر حجيب وعبيدات الرمى رجال يا فلان). وينهي شيخنا الإمام حديثه بقوله: ورأى النار وأهوالها وعقابها شديد لا تقوى لها الحجارة والحديد ورأى فيها أهوالا عظيمة فداخله منها رعب على ضعاف أمته وأكثر أهلها النساء». انتهى.

سمع صديقي البيضاوي نفس حديث المعراج في مكان آخر، وكان تعليقه: والله إتّ فيلم دورور (رعب) تّع الخوار، ولينّي سينياست (مؤلف سيناريو) هاد الفقيه...

أين أنتن يا حورياتي، النجدة، خذنني إليكن. أكره أفلام الرعب، إنها ترعبني.. هل أفشي لكم بسرّ حكاه لنا جدّي في إحدى ليالي رمضان؟ لأن حكايته هذه أرعبتني إلى حدّ الجنون. لا تجزموا ولا تأخذكم العجلة.. إن العجلة من الشيطان.. والتأني من الرحمان، ازرب تتعطّل، الفأر المقلّق (أو الزربان في حديث آخر) من سهم القطّ. إن الشيء الذي أرعبني ليست الحكاية، لأنني كنت أعرف أنّ جدّي كذّاب، ولكن الذي حصل بعد الحكاية.

الحكاية: ذهب جدّي مرّة لزيارة ولي من أولياء الله الصالحين في جبل من جبال الله الشامخة.. لم يكن لهذا الولي الصالح لا مبنى ولا قبة ولا مسجدا، مجرد حائط من الحجر مطلي بالجير، وفي وسط الحائط شباك من حديد يطل على شجرة من فصيلة البُطميات، أما مكان الصلاة فكان عبارة عن رحبة صغيرة تطل على السماء، منظرة ينسرح منها النظر إلى مسافات لا تكاد تدرك حدودها، كانت الرحبة وقد فرشت برقاع من الفلين تحيط بالشجرة. لم أر وليا بيئيا مثله، (ولي إيكولوجي! جميل، قال الفضولي). وعندما ختم جدي زيارته بالترحم على موتانا والدعاء بكثرة البنين والمال والجاه، وقد كان بلغ من الشيخوخة ما شاء الله، وكان ذلك بعد صلاة المغرب. أحس بالبرد وقرر أن يصلي صلاة العشاء في مسجد القرية الذي يبعد عن ضريح الولي الصالح بحوالي ربع ساعة مشيا على الأقدام. دخل جلبابه وسوّى رزّته وشرع في النزول.. عندما يغيب القمر يحلّ الظلام الحالك محلّه ويجّن الليل. وبينما كان جدي يتحسس طريقه في سواد الليل سمع صوتا، من بين أصوات أخرى تتكلم بهمس، يناديه من أعلى شجرة الفلين التي تركها وراءه. حاول أن يدور ليتصفح مصدر الصوت، فاجأه الصوت الذين ناداه قائلا:

ـ لا تتحرك وابق مكانك.
سكن الرعب قلب جدّي، كم كنت أتمنى أن أكون شاهد عيان سرّه هذا، وأنتقم من الذي سيفعله لاحقا. سأله أبي:
ـ هل بلت في السروال؟
أجابه:
ـ اسكت لعنة الله عليك يا كريه الخلقة..
خيّم الصمت من جديد، تابع جدي الحديث:
ـ بقيت مكاني أقرأ المعوذتين عندما قاطعني الصوت:
ـ ما اسمك؟
ـ الكبـ ـيـ ر التـ ـهـ ـامي.
ـ ما لك ترتعش مثل نوافذ وكراسي وركاب حافلات النقل القروي؟ لماذا قرأت المعوذتين؟
أحسست وكأن الجبل يتلاشى تحتي.. كيف عرف أنني قرأت المعوذتين.. نسيت سؤاله بدأت أردّد في داخلي وبسرعة البرد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أسألك الأمن والسلامة من كل إنس ماكر وجان مارج.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أسألــ...
ـ قرأت المعوذتين والآن تشتمني.. أو تريد أن أمرجك حتى لا تعرف رأسك من رجلك.. سألتك ولم تجبني. هل أنت زيزون (أخرس للأجانب)؟
ـ لا يا سيّدي... أنا... ها العار، أنا في عاركم.. أنا هو المارج، أنا بيضة مارجة.. شيّ الله يا سيدي الولي بن سيدي.. شيّ الله يا مولاي الولي، يا قنديل الجبال.
ـ هل أنت مؤمن؟ قال.
ـ مؤمن يا سيدي. لا أفلّت الفجر أبدا. (عرفت فيما بعد عندما فطنت أنه كان كذّابا.. كم مرّة رجعت من قهوة الحومة مع الفجر، وهو ضاربها بشخير يسمعه الملائكة في السماء والجان في باطن الأرض. كانت هذه أول كذبة).
ـ أنت الكبير التهامي ولد رحّال؟
ـ نعم يا سيّدي. هل تعرفني؟
ـ بالطبع أعرفك أصلا ومعدنا، أعرف أباك وكل عشيرتك.. نحن من أهل الأرض.
ـ أنتم موالين الأرض؟ أنا في عاركم يا موالين الأرض، أنا لست إلا عبدا حقيرا، جئت لزيارة الولي الصالح وتبركا بمقامه الرفيع. فإذا كنتم من موالين الأرض الصالحين، فأنا أخوكم من الإنس. (كان جدّي أكبر جنّي عرفته الحومة، بالفعل كان بيضة مارجة، ولكن كم كانت عينه مارقة).
استرسل جدي حديثه قائلا:
ـ سمح لي أحدهم أن أدور بتأنّ وأن أرفع عيني إلى الشجرة التي كانت ورائي، وصارت أمامي بعدما أتممت الدورة، وذلك بعد أن أكّدوا لي أنهم من الجانّ المسلمين. درت كما أُمرت ورفعت عيني فإذا بي أرى ثلاث جنيين في شكل قزم، لكل منهم قرنين وعينين حمراوين يخرج من داخلهما نور يضوي المكان، كانوا يرتدون جلاليب بيضاء، وكان للأول أصابع بأظافر طويلة وملتوية وكأنها مخالب وللثاني أنف أطول من غصن الشجرة التي كانوا يمتطونها،.
ـ أطول من أنف خالتي. سألته.
ـ اسكت يا ابن الجيفة. قالت أمّي ألم تر أنف أبيك المحكوك، كبير الجيفات. (بالفعل كان أنف أبي طويلا وعريضا، ولكني كنت أجده مع ذلك وسيما).
قال جدي:
ـ الجني الثالث والذي كان في صورة ملاك، سبحان من صوره، كأنه بنت المصمودي حرفا بحرف (كأن جدّي سبق له أن رأى ملاكا).
ـ بنت المصمودي، من الذي دخّل بنت المصمودي في الكلام؟ تعجبت جدّتي.
ـ خلاص يا أختي، اتركه يكمل حكايته. ردّت خالتي الكبيرة.
تابع جدي:
ـ قال هذا الجني: اسمع يا ابن رحّال، نشهد أنك من المؤمنين الصالحين الورعين، وما نحن إلا مسخرين، يخبرك الولي الصالح بن الولي الأكبر، أنه سيهبك من بركته وتصبح بذلك شريفا من الشرفاء.. ستسهل لك العزامة وكتابة الحجابات وحل العقايد.. هذا سرّ بينك وبينه.. كلما ناديته وتوسلت إليه قضيت حاجتك (قضينا نصف العمر في تلك البراكة اللئيمة بين خراء الفئران وعضّ البعوض والناموس)، واطلب من بنت المصمودي أن تخدمك وإلا سكنّاها وخرّبنا بيت أهلها..
قال أحد جيراننا من بين الذين تابعوا خطاب جدي وأبواب فمه مفتوحة على مصراعيها:
ـ كنت دائما أقول إن السي الكبير التهامي له هبة الأولياء وحشمة الأتقياء.. (وأنف الذئاب التي تشمّ رائحة ضحيتها عن بعد).
ـ أردت أن أشكرهم على ما فعلوه معي وأن يبلغوا الولي الصالح إحساسي وشعوري، إلا أنهم كانوا قد اختفوا. قال جدي.
منذ ذلك اليوم أصبح سكان الحومة يخشون جدّي وأصبحوا يكنّون له بالوقار والاحترام.
(انتهى الفصل الأول من حكاية جدي).

*     *     *

بنت المصمودي هذه كانت فتاة آية في الجمال، كم مرة رأيتها في سبيلة تسقي الماء مع لطيفة بنت الفحام. أبوها كان يعمل حارسا وحفارا للقبور في مقبرة سيدي بوعبيد، يقضي النهار كله يحفر القبور، وبعد صلاة المغرب، يعمل دلاّلا يدلّل جميع أنواع الخردة في جوطية السوق البراني. ماتت زوجته وتركت له صفية بنته الوحيدة. وأوصته بها خيرا وهي على فراش الموت. إنها أمانة في عنقك يا المصمودي. كان المصمودي يحب ابتنه حدّ الجنون، يرى فيها زوجته التي فقدها وابنته التي تعيد ذكرى زوجته. لم تذهب بنت المصمودي، مثل جميع بنات الحومة، لا إلى المدرسة ولا إلى (المسيد) الكتّاب ولا حتى لدار المعلّمة لتعليم الطرز والفصالة والحبك مثل بعض فتيات الحومة، لم يكن الذكور أكثر حظا من الإناث، أكثرهم كان يطلّق المدرسة في بدايتها، كانت تقوم بتنظيف بيتهم البسيط المتكون من غرفة ودهليز صغير. مصبوغ كله بالجير الأبيض المخلوط بالنيلة.. كانت هذه الزرقة تعطي لبراريكنا لونا ذا صبغة خاصة.. تراها دائما في حركة، تقوم بترتيب بيتها وبغسيل حوائج أبيها، بعد ذلك تصاحب بنت الحمام إلى سبيلة لتسقيان الماء اللازم، كانت كالنملة والنحلة معا، في حركة أبدية.. بالفعل، قالها جدّي الملعون.. كانت ملاكا صغيرا بين وحوش ضارية.

عندما رجع جدي وجدتي من الحج بعد غياب دام ستة أشهر، على ما أظن، لأنهم كانوا يذهبون أيامها إلى الحج في البواخر من ميناء المدينة المطل على المضيق. بعد ما أقيمت لهما حفلة استقبال الحجاج، وفرّق جدّي الطاقيات والمسبحات وماء زمزم، جمع أعيان الحومة وأقام حفلة عشاء على شرفهم، لأن جدّي بعد زيارته الولي الصالح ولقائه الجنيين الثلاثة، أصبح رجلا له كرامات، مشعوذا (كلام الفضولي)، وبدأ الخير يعم عليه من كلّ فجّ عميق، من نساء أرامل يردن الزواج، ومن بنات فيهن الأرياح، وأطفال مسكونين يقطنهم موالين الأرض مثلي، وآخرين يبصق على دماملهم وحزايزهم لتبرأ... بعد العشاء والدعاء.. نطق أحد سكان الحومة:

(بدأ الفصل الثاني من حكاية جدي)
ـ أنتم تعلمون أن السي الحاج الكبير التهامي بن رحّال، والله شاهد على ما أقول وأهل الحومة كلهم شاهدون، رجالا ونساء شيوخا وأطفالا، وحتى النصارى واليهود وغيرهم من الكفرة لعنهم الله إلى يوم الدين، يقضي أوقاته متفان في خدمة الله وخدمتكم وخدمة كل الناس، وذلك بفضل البركة التي أخذها عن جدّه الولي الصالح (يا ويلي أصبح الولي الصالح جدّا لجدّي، لم نكن آنذاك نستطيع أن نستمع على أمواج الراديو لأغنية "والله عجايب يا دنيا والله عجايب"، لأن الواقعة سبقت الأغنية، أنا آسف أنني لن أستطع إدراجها في سياق الحكاية) صنع المعجزات.. قال أبي الذي لم يكن سكران ذلك اليوم، يا خسارة!:
ـ بدون مقدّمات ولا تبرير ادخل مباشرة في الموضوع، لقد عقنا وفطننا بك يا كبير الذئاب.
قال جدّي:
ـ العجلة من الشيطان، وما أكثر الشياطين والعيّادُ بالله.
قال الحاضرون:
ـ صدق الله العظيم.
تابع ساكن الحومة مرافعته:
ـ أنتم تعرفون أن حرم السي الكبير التهامي لالا الكبيرة بنت السي المعطي أصبحت امرأة مسنة، انتفخت أوداج جدّتي، ورفعت أنفها في اتجاه السماء، لا ليس كغانزبورغ، بل كمن يدقّ السمّ في المهراز (الهاون)، عندما سمعت اسمها يذكر علنا أمام الملأ في حومتنا الملاصقة بباطيو بينطو، وارتسمت على شفتيها ابتسامة مكرة، (واتَّ زدني، قال صديقي الكازاوي، الوليّة أصبحت حرم، آمْوّي (أُمّاه)، ولد رحّال أصبح عنده حرم)، وهي بحاجة إلى شيء من الراحة، ويلزمها يد المعونة، ولكي يخفف عنها هذا الوزر الثقيل، نصحناه ينكح بنت المصمودي على سنّة الله ورسوله، كما نصح بذلك الجنيين وعبره جدّه الولي الصالح.

غنت بنات الحومة:
أو هنا طاح اللويز
أو هنا نلعبوا عليه

أحسّ ساكن الحومة بالعطش. شرب جغمة ماء بتأنّ. بينما هو يشرب، قال له أبي:
- تشرب السمّ ويذوب في مصارينك أيها المتعاون مع الأعداء.
وضع ساكن الحومة كأسه غير محتفل بما قاله أبي وتابع:
- ما لم يقله لكم السي الحاج الكبير التهامي ولد رحّال، لأنه وكما تعلمون رجل متواضع، وقد باح لي مرّة بعد صلاة الفجر بسرّه هذا الذي سأحكيه أمامكم مباشرة، هو أنه عندما كان يؤدي مناسك الحج جلس يستريح من شدّة التعب والحر، وكان ذلك بين الصفا والمروة، فغفا غفوة دامت رمشة عين، وأثناء غفوته هذه سمع حينها هاتفا يقول:

لا تفرّط في صفية
إنها لك معطية
جمالها وصفاؤها
كجمال وصفاء حورية
سل أباها يدها لن يرفض
لأنها لك وصية

هلل من هلل وسبح من سبح وزغردت من زغردت، وألبسوا جدّتي أحسن ثيابها: قفطان ودفين وكرزيّة وسبنية بلدية مطروزة بطرز معروف اشتهرت به مدينة مجاورة عاش فيها، حسب ما يقال، أُميّ أصبح كاتبا قبل أن يستقر في مدينتنا، ورافقتها أمي حاملة قفة مملوءة بمتطلبات الخطوبة من سكر سنيدة وسكر القالب وأتاي القافلة الأخضر خمس نجوم، وزجاجتين من ماء الزهر وشمع أبيض، وخطبوا لجدّي صفية بنت المصمودي.. قبل أبوها على التو الوصية، لم تقبل صفية، لم تقل ذلك لأبيها، لأنها كانت تعلم أنه كان قد حفر قبرها ودلّلها كخردة للحاج الكبير التهامي بثمن بخس. ونكح السي الحاج الكبير التهامي صاحب الكرامات المشعوذ صفية بنت المصمودي حفار القبور الدلاّل.

بكى الملاك الصغير يوم دخلته، ولول وصاح صيحة وصلت تخوم الكون وتلاشت، وتمت راجعة والخيبة قد سكنتها إلى الأبد.
لم أعد أذكر بالضبط إن كان حصل ذلك بعد زواج جدّي من صفية بفترة، ولكني شبه متأكد أنه كان خلال تلك الأيام، غابت لطيفة بنت الفحام، وكأن أهل الأرض خطفوها. ونسيتها كما نسيتها حومتنا بالمرة، إلى أن فاجأتني عندما جاءت لزيارتي في السجن مع ابنتها شامة.

بعد ذلك بكم يوم رجع أبي من حيث لا أدري، وكان مخمرا، لكن لم تكن علامات البهجة والسرور بادية على وجه مثلما كانت تبدو عليه لما يكون سكران، كنت أحسست أن حالته كانت قد بدأت تتدهور، جلس في وسط المراح (فناء براكتنا) وطلب مني أن أعطيه طبسيلا (صحنا بلغة حومتي) صغيرا، أخرج من جيبه شيئا ملفوفا في ورق أبيض، نظر إلى جدّي وعلامات الجد بادية على وجهه، ثم قال:
- أفضل أكل الخنزير على مشاهدته.
فتح الورق الأبيض وأخرج قطعا من الخامون الذي اشتراه من عند السيكي، لأن السيكي كان يبيع لحم الخنزير كذلك، بدأ يلتهمه بنهش ولهف.. كانت أول مرّة أرى فيها جدّي لم ينبس بكلمة واحدة، كأنه تابوت توت (لقد سبق أن قلت إننا في حومتنا نفضل الاختصار في كلّ شيء وبالخصوص في الأسماء) كما لم تتزعزع لا جدّتي ولا أمّي.
توقف أبي لحظة عن أكل جدّي، عفوا عن أكل لحم الخنزير، وكأنه قد نسي شيئا تنبّه إليه.
ـ يجب أن تبني بيتا آخر لحريمك الجديد، يا ولي الله الصالح، هل تعلم أنه حرام الجمع بين وليّتين واحدة قدمها الأولى في القبر والثانية لم تقل بعد بسم الله. (ذكرني هذا بقصة حكاها لي صديقي الكازاوي، مفادها أن الفقيه الذي كان يدرسهم في المسيد (الكتّاب)، كان يسكن مع زوجته وأبنائه في غرفة ليس لهم إلا هي، وعندما كان يريد أن يمارس ما أحلّ الله له مع زوجته من الممارسة، كان ينتظر أن ينام أبناءه جميعا وينغز زوجته بقضيب طويل صنعه خصيصا لهذه المأمورية، فتتسرب زوجته بين أجساد النائمين ويمارسان في دفئ ما أحل الله لهما من الممارسة. إلا أن الأبناء بدؤوا، ما شاء الله يكبرون، والشيخ، بفعل السنين، أصبحت بوصلته غير دقيقة لاسيما ليلا. يحكى، دائما حسب صديقي الكازاوي أنه ذات ليلة من ليالي البرد القارص صوب قضيبه الطويل نحو زوجته ينغزها إلا أنه وقع على أحد أبنائه الذي لم يكن قد نام بعد بسبب قرص البرد. انتظر الفقيه لحظة ثم أعاد العملية مرة أخرى، لكنه هذه المرة نغز قضيبه بنته الوسطى، كرر العملية عدّة مرّات حتى ضاق الحال بابنه الصغير، الذي على ما يبدو، حسب قول صديقي، تذكره أفعاله بأبي، تمتم الابن قائلا بين إخوته حتى لا يسمعه أبوه:
ـ قولوا لتلك القحبة أن تلتحق به قبل أن يعوّر عين أحد منّا.
عندما سمعت صفية كلام أبي، وقد كانت مختبئة وراء باب الفصيل ويديها متعلقتين بإحدى دفتيها، ارتسمت على وجهها بسمة حزينة، كما ترتسم على وجوه كل طفلات العالم البريئة في سنّها.
هذا الحشو جاءني بعد زيارات لطيفة بنت الفحام المتعددة لي وأنا في السجن، لأنه كان يصعب علي فهم كل هذه الأشياء، كل هذا كان عاديا جدا، مثل الماء الذي تسقيه البنات من سبيلة ونشربه والنعناع الذي تبيعه أم الدابة...

وما أنا إلا من (باطيو بينطو) إن غوى   غويت وإن يرشد أرشد

أدار الفقيه رأسه ثم باشرني بسؤال يسألني فيه أين توجد حومتي. أجبته:
ـ قلت لك في طريق الجبل الكبير؟ هل أنت سطل؟ لست أدري إن كان الريح قد ضربك أم اختلطت عليك الخيوط أم ماذا؟
ـ أين بالضبط؟
ـ قلت لك في حومة صدّام. يعني لم أقلها لك مباشرة ولكني قلتها، لأن ذلك جاء في سياق الكلام.
ـ بدون دخول وخروج في الكلام، تكلم بالمفيد. قال الصوت السلطوي وقد بدأ يحس بالجوع لأن ساعة وجبة الغذاء كانت قد اقتربت.
ـ طلب مني أن أتبعه.
ـ وبعد ذلك؟
ـ بعد ذلك، دخلنا من باب صغير خلفي. يتبعه ممر طويل كأنه الصراط. الرطوبة ورائحة الغمل والعفن خارجة من حيطانه. كان يتقدمني مسرعا خطاه، وكأنه يريد أن يتفادى رائحة الغمل الطاغية بسرعة. نسي أنني أسير وراءه. توقف فجأة وكأن حيّة تعترض طريقه. استدار ناحيتي وتمتم بصوت خافت:
ـ لا أريدك أن تنبس بكلمة في حضرة مولانا، إلا إذا سألك مولانا، أجبت باختصار واحترام ومن غير كلام فاحش، لا تنظر إلى مولانا مباشرة، يجب أن تحدر عينيك إلى الأرض، لأن ذلك لا يجوز في مقام وحضرة مولانا. إنه أعمى ولكنه يرى بقلبه.. (الأعمى يراك ولكنك لا تراه، لكي تراه يجب أن تكون أعمى مثله) إن خيطك رفيع.. مفتول من برشمان الرحمان.. أنت لا تعرف حظك.
ـ ما الذي يضحكك؟ قال الصوت السلطوي وقد بدأ فعلا يحس بالجوع، كأنه ذئب لم يأكل طيلة فصل الشتاء.
ـ تذكرت أنني قلت له: لا أعرفه ولا يعرفني، ومتى كان لبلاّرج (اللقلق) ولأولاده حظّ.
وغنيت أنشودة كان أبي يغنّيها لي مهدهدا وهو يناولني العصيدة:

يا بلاّرج طاق طاق
خلاّ ولادوا في الطبق
مشى يصطاد الحجل
ضربو المنجل للرجل
قال لها يا عيشة يا أختي
اعطيني صبيع د العسل
باش نداوي هاد الرجل
خيط اخضر
خيط احمر
خيط معمّر بالجوهر

وكان أبي يضيف:
ـ وخيطنا نحن مطروز بالخراء.
ـ يا ابني، لا تقلل من قيمتك، قال الفقيه، لقد وهبك الله قيمة وزنها الأرض.. قليل هم الذين وصلوا إلى هذا المقام. انظر حولك كم هم أولئك الذين قهرهم الزمان وجعلهم طريحي حلبة الفقر والمرض والشدة والعسر والقهر والقحط وكل أنواع البؤس والتعاسة... انظر حولك إنك محظوظ بن محظوظ، (بقة بن بقة، وعنطيز بن عنطيزة، أنا المتطفل هذه المرة وليس الآخر. هل لاحظتم أنه لم يتدخل منذ مدة، ربما غضب. أحسن) لا تأكل من القمامات ولا تشرب الماء غير الصالح للشرب، لقد أرادك الله أن تعيش في حومة صدّام وأن تكون من أبناء حومة صدّام، في هذا الزمان اللئيم (كم كنت مشتاقا إلى حومتنا في باطيو بينطو وإلى أهلها بجميع أصنافهم الصالح والطالح والمليح والقبيح والطلي والبشع). احمد الله وصلّ على النبي، تخيّل برهة أنك الآن من بين أولئك الذين يقطنون بالواد الخانز، أو بدوار الشيشان أو بدوار الظلام أو بدوار الرجا في الله أو بدوار جمافو أو بحومة الهجاجم أو بحومة الحمير (أعرف حومة جديدة في ضواحي المدينة تحمل اسم حي السعادة، اسم على مسمى، ومن الهم ما يضحك، كل شيء موجود في هذا الحي وبكثرة، القمل والوسخ والدود والزبل والكلاب السائحة والكذب والرشوة، إلا السعادة). احمد الباري، لأنه استقاك من بين عباده وقد رأى فيك العبد الصالح والإمام الفالح، سيملأ قلبك إيمانا وعلما، ستحدّث في المساجد وتصل كلمتك مشارق الأرض ومغاربها. ستؤتى من العلم من حيث لا تحتسب، وستصبح بإذن الله أمير الأمراء (ظننته يستهزئ مني، ولكن من يدري).
اختلطت علي الأزمنة والأمكنة. أحسست بنسائم الجنة النابعة من شجر المسك والريحان تداعب أنفي، بكلامه المتقاطر كالعسل، رأيتني أناجي سيدنا رضوان. وأنا أتفسح في حضرته في جنة السلوان. رائحة الغمل أيقظتني من غفوتي. عدت إلى رشدي.
ـ هل الشخص الذي قُدتَ إليه موجود في هذه القاعة؟ سأل الصوت السلطوي ليتأكد. لأن السلطة يجب دائما أن تتأكد من الأمور، إنها مثل اللاهوت لا تحب اللبس والغموض والمجاز، تفضل البيان والبلاغة والفصاحة.
ـ نعم.. لم يطلب مني الصوت السلطوي أن أنعت له الشخص، وإلا سيخمد عنصر التشويق وتصبح المسرحية ركيكة، لأنني نسيت أن أقول لكم، أنه أثناء محاكمتي كنت قد بعت حقوق تصوير المحاكمة لتلفيزيون أجنبي، يتابعها المشاهدون مباشرة عبر شاشاتهم الصغيرة، فكان القاضي مضطرا أن يؤجل الكشف عن أسماء المورطين في القضية إلى آخر حلقة من المحاكمة.

بعد الممر الخَنِز نزلنا بعض الدروج، فإذا نحن أمام باب من حديد أسود أصدأت أطرافه بفعل الرطوبة والندى الذي ينبثق من الحيطان مكونا فقاقيع سوداء ناتئة عفنة. مثلها مثل التي نجدها على جدران حمامات حومتنا، مرورا بحمامات السيدة نفيسة والسيدة زينب والسيد الحسين وحمامات حارة الفليحي وحتى عند القليس الذي بناه أبرهة. وكذلك في السجون كالسجن الذي أقيم فيه خلال هذه الأيام.

ـ من غير هزل أيها الوقح.. ربما تريد أن نحجز لك غرفة في الشيراتون؟ هيا تابع.
ـ نحنح مرتين. انتظر قليلا ثم أعاد النحنحة ثلاث مرات متواترة فتح إثرهما الباب الحديدي الأسود الذي أكل أطرافه الصدأ. تقدم شخص في شكل بغل بعضلاته المفتولة، كان يرتدي لحية طويلة من اللون الأسود على وجهه وطاقية هي الأخرى سوداء على رأسه، لم أعد أذكر إن كانت الطاقية أفغانية أو نجدية من النوع الذي يشتريه الحجاج قبل عودتهم من الديار المقدسة.
ـ هل تعرف اسم البغل؟
ـ بعدما فتح الباب تقدم نحوه صاحبي وباسه بوستين طويلتين على وجنتيه العامرتين المعتمرتين، وهو يردّد:
ـ إن شاء الله توحشّتك كثيراً يا أبا مصعب. ما هذه الغيبة إن شاء الله؟
ـ كنت إن شاء الله كما تعلم.......... (تمتم محتوى النقط في أذنه لهذا لا أستطيع ترديدها) إن شاء الله وقد عدت منذ أسبوع إن شاء الله. وأنت يا أخي أبا صهيب... هل من جديد؟ إن شاء الله.
ـ هذا أخونا أبو عيينة.. إن شاء الله، عيّنّاه إن شاء الله أمير العملية. سيصبح أبا عيينة إن شاء الله عن قريب أمير الأمراء (قلت لكم أنه سيغير اسمي دون أن يستشيرني).

خلعنا أحذيتنا، أشار إلي البغل أن أقعد في مكان معين.

غابا عني أظن بعض الوقت.. طال انتظاري.. كنت تعبانا نخرني السهاد بكل أنواعه.. كل ما كنت أبغيه هو أن أتقيّأ سيرتي هذه، بكل حوادثها ووقائعها، لأنني فعلا كنت تعبانا.

أغمضت عينيّ وغفوت بعض الوقت. رأيت، وكأنني بين الحلم واليقظة، أشياء كثيرة رهيبة، كأن كل الأشياء المنكفئة على نفسها تنفجر من تلقاء نفسها وتنهار أمامي، كأنها من ورق، يختلط الهدير بالصياح بالصراخ بالبكاء بالنشيج بالعويل بالأطفال بالصبيان بالبنات بالفتيات بالرجال بالنساء بالشيوخ بالمسلمين باليهود بالنصارى بالبوديين بمن لا دين له بالمسافرين بالقادمين بالراحلين بالواقفين بالجالسين بالقاعدين بالنائمين بالفرحين بالغاضبين بالمديرين بالموظفين بالمستخدمين بالمستأجرين بالفقراء بالأغنياء بالعربية بالريفية بالسوسية بالإسبانية بالفرنسية بالشرطة بالإطفاء بالإسعاف بالمحامين بالمحاميات بالركض بالجري بالتلف بالضياع بالبحث بالعثور بالشاحنات بالسيارات بالدراجات بالطائرات... كأن شيئا تفرقع وأحدث كل هذا الخليط... كان كابوسا مهولا، روّعني إلى أقصى حدّ.

ولما استيقظت كانت لطيفة بنت الحمام واقفة قبالتي، أتذكر أن صوت حارس الزنزانة هو الذي أيقضني طالبا مني أن أتقدّم للتفتيش لأن هناك شخصا جاء لزيارتي. ظننته أبي. لكن أبي مات من زمان، بينما كان أحد الحراس يفتش جيوب سروالي، رأيت أبي يقول: لاشيء أغرب من بني آدم. كررها ثلاث مرات ثم غنّى بعدها:

يا ليت آدم طلّق أمهم حوّاء... يا ليته

لطيفة بنت الفحّام. كانت هناك وراء الحاجز الحديدي الذي يفصل بين السجناء والزوار.

قالت والدمع قد عاد من جديد ليبلل عينيها بعد غيبة طويلة، نفس الدموع التي سالت من عينها ونحن عند سبيلة حومة باطيو بينطو:

ـ ماذا فعلت؟
ـ أين أنا؟ سألتها.
ـ أنت في السجن العسكري.
ـ ولماذا أدخلوني السجن العسكري؟ سألت مندهشا.
ـ هل تعرف لماذا أنت هنا؟ سألت بنت جميلة كانت ترافقها، كانت هذه البنت تشبهها إلى درجة أنني ظننت أنها لطيفة بنت الحمام التي عرفتها ونحن في الباطيو.
ـ هذه شامة بنتي، أجب على سؤالها. قالت لطيفة.
ـ لا أعرف.. كيف أعرف وأنا لا أتذكر أي شيء.. آخر ما أتذكّره من صور هو أنني كنت مع فقيه كان قد وعدني بشيء لم أعد أذكره.. تبعته إلى أن دخلنا مكانا ما، كان هناك رجل كالبغل ينتظرنا، أمرني بالجلوس في مكان ما. جلست. أحسست بتعب وإرهاق شديدين.. غفوت. ولما استيقظت وجدتني واقفا أمامك. لا.. أتذكر شيئا آخر كنت قد نسيته.. أتذكر أنني عندما غفوت، عاد الرجل البغل ورجّني زعزعني من كتفي، استيقظت وأمرني أن أتبعه.. فتح بابا دخلنا قاعة مظلمة يتوسطها شيخ أعمى.. وبعدها لم أعد أذكر شيئا.
ـ لقد أعماك الأعمى. قالت شامة.

*     *     *

دهش أهل حومة صدّام عندما رأوني ولأول مرة، بعد غيبة دامت مدة لا يستهان بها، عدت وأنا أرتدي لحية طويلة غزيرة سوداء.. نعم كانت ملامحي قد تغيرت كثيرا، لم أعد ذلك الحشايشي المتسكع الذي شجعته سياسة بلده على أن يترك المدرسة في عزّ الشباب وأن يتبع أولاد السوق وأولاد الحرام وأولاد الزنا الذين لا عمل لهم سوى العربدة والكسل والنوم الثقيل.. أتذكّر أن أمي كانت، كلما رأتني أستيقظ من نومي خملان، كل يوم بعد صلاة العصر، إلا يوم الأحد اليوم الذي كنت أرافق الدابة وحمارته إلى البئر، تسأل: من أين تلك الرائحة؟ وتجيب على سؤالها: من ذلك الكنيف، مشيرة إلى أبي، مضيفة: حاشى السامعين. تفاجأ أهل الحومة جميعهم، سبحان مبدل الأحوال قال بعضهم. رأيت أبي في المنام يقول لي متمتما لما رآني في هيئتي الجديدة: أهل الويل والوسخ والمسخ، وبرّم وجه وبصق بصقة حمراء على الأرض. رأيتني أحرّم على أبي البقاء في المنزل الحرام، ذهب ولم يعد، قالوا عنه أنه قضى حياته متسكعا من باب بار إلى باب بار آخر يطلب صدقة السكارى والمعربدين، كان لا يقبل إلا الصدقات العينية.

استقرت في حومتنا الجديدة، حومة صدّام. أدخلت بعض التغييرات والترميمات على الأشياء التي كان ولابد من تغييرها وترميمها. أرغمت أختي المطلقة مرّتين ـ تلك التي كنت أقبلّها وهي صغيرة ـ على ارتداء الحجاب راجيا المولى أن يغفر ذنوبها، هدّمت جوانب قبر أمي التي بنتها أختي بالمرمر المزور تفاديا للشرك.. بدأت بتغيير المنكر في بيتي، كسّرت الراديو والفيديو والتليفزيون التي اشترتها أختى من سوق الكونطرابندو أثناء غيبتي، وبعدها انتقلت إلى تغييره قولا وفعلا في حومة صدّام كما جاءت به التعليمات.

*     *     *

ولّت أيام باطيو بينطو، بنيت عمارات عديدة مكان الباطيو، تغيرت الأشياء وتغيرت المدينة، واختلط الحابل بالنابل، وذهب أناس وجاء أناس آخرين. مات جدي بعدما أن عمّر طويلا وعمّر صفية بالبنين والبنات، وبني له ضريح في أعالي الجبل، وكتبت سيرته وأصبحت له هو الآخر شجرة الشرفاء، بعدما أن كان مقطوعا من شجرة، ومات جدّتي وتلتها أختها وتبعتهم أمي.. أخذت لي ولأختي المطلقة سكنا في حومة صدّام لأنه أرخص وأجدى بنا، صرت مثل الملايين من المنسيين، المهمشين، أصبحنا منسيين إلى درجة أنني كنت حاضرا في جميع الأحياء في نفس الوقت ولا أحد يراني. إلا الأعمى.. الذي كان يذكرني بين فينة وأخرى:

ـ أنت راقد تنتظر ساعتك، وعندما يصل اليوم المعلوم، عندها ستستيقظ.

انتظرت بفارغ الصبر ذلك اليوم المشهود، ذلك اليوم الذي سألتحق فيه بحبيبتي الأبدية. بحبيبتي؟ بحبيباتي الأبديات. أنتظر وأنا أردد في أعماقي:

فيرى محاسن وجهه فوجها وترى محاسنها به بعيان
حمر الخدود ثغورهن لآلئ سود العيون فواتر الأجفان
والبرق يبدو حين يبسم ثغرها فيضيء سقف القصر بالجدران
ولقد روينا أن برقا ساطعا يبدو فيسأل عنه من بجنان
فيقال هذا ضوء ثغر ضاحك في الجنة العليا كما تريان

وأردد وأردد..:
أقدامها من فضة قد ركبت من فوقها ساقان ملتفان
والساق مثل العاج ملموم يرى مخ العظام وراءه بعيان
والريح مسك الجسوم نواعم واللون كالياقوت والمرجان
وكلامها يسبي العقول بنغمة زادت على الأوتار والعيدان

فتح شيخي الأعمى بصري.. فهمت حقائق الأمور كما شرحها لي.. أصبحت على استعداد للسفر.. سفر لن يدوم أقل من هنيهة.. رمشة عين وتجدهن ينتظرنك في مضجعك.. أي شيء ألذ وأحلى وأغلى من هذا الذي ينتظرني.. لقد اشتقت إليكن، تنتابني رعشة ونشوة نعيميتين بل أكثر فردوسيتين وأردد:

واضرب لهم مثلا بصب غاب عن محبوبه في شاسع البلدان
والشوق يزعجه إليه وما له بلقائه سبب من الإمكان
وافى إليه بعد طول مغيبه عنه وصار الوصل ذا إمكان

ما هي إلا ساعات معدودة وتبدأ الحياة من جديد، سأرحل وسآخذ معي من حطب جهنم ما تيسر.. سأتلاشى وتجمع الحور أطرافي وأتهيأ ويبدأ عرسي الأبدي.. وأردد:

وإذا بدت في حلة من لبسها وتمايلت كتمايل النشوان
تهتز كالغصن الرطيب وحمله ورد وتفاح على رمان

وأردد وأردد...
كالبدر ليلة تتمة قد حُفّ في غسق الدجى بكواكب الميزان
فلسانه وفؤاده والطرف في دهش وإعجاب وفي سبحان
 

*     *     *

ركبنا سيارة مرسيدس فخمة.. اكتراها الفقيه أبو صهيب.. كان الجو هذا اليوم غائما أكثر من اللازم، سحابة سوداء كست المدينة، وأطلت علينا عتمة لم نعهدها من قبل، طلب أبو صهيب من السائق أن يطلق الراديو: نشرة أخبار الظهيرة، إليكم التفاصيل: مومسات يترحمن على الرئيس الشهيد: (جاءنا من مصدر موثوق أن أكثر من عشرة ألف مومس ترحمت على رئيس شهيد سابق بعد أن خرب حزب مازال قائما بيوتهن بمغامرته التي استمرت أكثر من شهر هرب خلالها أكثر من أربعين ألف سادن من مكة كانوا يفرغون حيواناتهم المنوية في شارع مو... (انقطعت الموجة) في العاصمة المملوك في معظمه لأثرياء من الخليج وأصدقاء للرئيس الشهيد وأولاده الذين يقومون الآن ببناء أكثر من شارع مو... (انقطعت الموجة) في الع... (انقطعت الموجة) بعما... (انقطعت الموجة) وشاطئ العق... (انقطعت الموجة أيضا). توقفت سيارة المرسيدس أما المدخل الرئيسي للبناية.. أشار لي أبو صهيب بالنزول بعدما أن ودّعني الوداع الأخير وكنا قد قرأنا قبلها الفاتحة، وقرأ معنا سائق التاكسي هو الآخر الفاتحة، ليس له أي دخل بالعملية. أخذت حقيبتي وشهّدت ثلاثا ونزلت من السيارة المرسيدس وأسرعت خطاي في اتجاه باب المبنى الرئيسي.

ـ ومن الذي أمرك بتنفيذ العملية؟ سأل القاضي.
ـ الفـ...
ـ اسكت. صرخت شامة.
ـ قل. قال الصوت السلطوي بحدة.
ـ الجـ...
ـ قلت لك سدّ فمك. صرخت شامة.
قاطعته بصوت هستيري، أنا شامة بنت لطيفة بنت الفحام بنت الفقيه الدوغري:
ـ لا، ليس أولائك الذين من كان سينطق بأسمائهم هم مدّبري العملية ولا غيرهم.. كلهم بيادق، عملاء يساهمون ويساعدون ويدبرون ولكنهم ليسوا بالآمرين. إن الذي أمره بتنفيذ العملية هو ذلك الأعمى!

*     *     *

حكموا على السيمو بالإعدام رميا بالرصاص، وحكموا على أبي الفقيه الدوغري المعروف بابن صهيب بالسجن المؤبد، أبي هذا الذي أنا من صلبه، رفضني ورفض أمي وطلّقها وطلّقني في نفس الوقت بحكم أننا عاهرات بالشبهات (أصبح الوأد سيكولوجيا)، عشت في حضن أم من غير أب، ولا أندم على ذلك، حفظت منها عن ظهر قلب كل كبيرة وصغيرة عاشها سكان حومتها بباطيو بينطو. شهورا بعد طلاقها، طلبت أمي من خوسي ولد السيكي أن يساعدها في الحصول على شغل وكان قد بدأ يشتغل كمشرف ومسؤول على دخول وخروج بواخر شركة طرانسميديطيرانيا بميناء المدينة، أسابيع قليلة بعد ذلك انتقلنا إلى العاصمة، وقد استطاع خوسي أن يحصل لأمي على منصب خدّامة في سفارة إسبانيا، وكذلك في بيت السفير، ومن تمّ انقطعت أخبارها وأخباري معها.

لم يسأل أبي عنا أبدا، لأننا كنا ممن ذكرهم حديث المعراج.
إن أبي يفضل الحور. بدأ بحوريات أرضيات. أرغم جدّي، أمي من الزواج، وهي في نفس سنّ صفية تقريبا أو تزيد عليه قليلا، من الفقيه الدوغري الذي كان يكبرها بكثير، جدّي هذا جاء إلى الحياة مغتاظا، كانت تقول لي أمي، كان عابس الوجه طول الوقت، يقضي وقته يسب وينعل(*) كل الناس منتهيا ببصقته الشهيرة: تفو..، كان أبو السيمو يسميه السي تفو، بعد مدة من زواجها أحست أنها حامل، وكان أبي في تلك الفترة قد التحق بجماعة الأعمى. كان عمري سنة عندما بدأت أمي تعامل أبي بطريقة جعلته يغيظ منها ومن تصرّفاتها. نصحه الأعمى أن يطلّقها طلقة لا رجعة فيها، بحكم أننا من أهل حديث المعراج. طلّق أبي أمي أربع مرّات ثلاث مرات أمي ومرّة أنا. أخذ أبي له بعد ذلك بفترة قصيرة أربع حوريات أرضيات، وأسدل عليهن ستارا أسود حتى ينفرد بهن مثلما سينفرد بحورياته هناك.

 أمّا الأعمى فلم تعثر عليه السلطات.
غريب أمر الأعمى هذا! كل مرّة يفلت من يدها. إنها لا زالت تبحث عنه إلى اليوم. والأغرب أنه متواجد في نفس الوقت في كل أرجاء المعمورة ولكن لا أحد يراه!

*     *     *

أسبوعا قبل أن يعدم السيمو، ذهبت لزيارته آخر مرّة، وجدته شاحبا شاردا نظرته غائبة لا يبالي بالذي يدور حوله. سلّمت عليه، ردّ السلام بأدب واحترام. تمعن في وجهي وقتا طويلا من دون أن ينبس بكلمة واحدة. غادر مكانه بهدوء أدار وجهه جهة الحائط وسألني:

ـ كيف حال حورية؟
ـ تقصد أمي. قلت
طأطأ رأسه.
ـ إنها تسلم عليك.
ـ قولي لحورية، لقد حان الوقت للرجوع من حيث أتينا. لقد عمّرنا طويلا، وأنا تعبت.. يجب أن نعود على هيئتنا الأولى، هيئة ما قبل الذنوب.. يا ليتنا ما أكلنا من تلك الشجرة. كل هذا التعب من أجل الجنس!

كانت هذه آخر كلمة نطق بها السيمو ولد السالك المفقوص والجملة ما قبل الأخيرة التي كتبتها أنا شامة بنت لطيفة بنت الفحّام قبل أن أضع المخطوطة في ظرف لأرسلها إلى مدير دار النشر.

لحقة: أطلب أن تصفحوا عني إن كنت قد تسربت كالزئبق داخل سيرة ليست بسيرتي وأحدثت فوضى داخل السرد.

عبد اللطيف الإدريسي
بيزوس المحروسة، ديسمبر 2008.