يكتب الشاعر والناقد التونسي في هذه الرواية مسيرة تكوين موجعة لفتاة تونسية غضة تفتح وعيها الريفي على العالم مع حرب عاصفة الصحراء، واشتبكت رغبتها في معرفة المدينة بتناقضات أبناء الزمن العربي الردئ، واستيهامات اكتشاف طبقات واقعية وحلمية متراكبة من الرؤى والدلالات.

بِنْت سِيدِي الرَّايِسْ (رواية)

نزار شقرون

(1)

لم أفكّر في هذا الأمر إلاّ الآن. حين صعق جسدي بلاط حديقة البناية واطمأنّ الدّم المتخثّر في عروقي على سلامة الشّجيرات الفارعة في حضرة ذهول القرنفل الذي ودّعني قبل أيّ شخص آخر من الذين أعرف ولا أعرف. لأوّل مرّة أدركت معنى أن يكون المرء مغمض العينين إلى الأبد، ومسلوبا من تحريك إصبعه أو وجهه في أيّ اتّجاه، بل وفقيرا إلى أبسط رغبة يستشعرها كائن للحركة. فالظّلام الذي كنت أطلّ عليه، طيلة ليالي حياتي، ليس غير شبّاك صغير أمام هذا الظّلام الواسع الذي له امتداد البحر في جوّ عاصف. ولأوّل مرّة يستوي الصّمت في داخلي بفزع الجموع من النّاس الذين يئسْتُ منذ سنوات تبيّن ملامحهم وحفظ أسمائهم ومطابقة أقوالهم مع ما يصنعون أمام ناظريّ وفي ردهاتهم، جميعهم هبّوا رافعين رايات نجدتي، لكنّهم لم يجرؤوا على لمسي رغم أنّني لم أكتب على قميصي البرتقالي عبارة "ممنوع اللّمس" وكانوا يتهاطلون مثل مطر ضارّ في صيف قائض، يتحلّقون حولي كالجراد، يلتهمونني بأعينهم ولم يمنعهم حلول فريق الإسعاف الطّبّي من رجمي بنظرات الرّحمة.

لكنّني فعلا ما تبيّنت همسا أو همهمة، فأذناي كانتا مثل جهاز رادار من مخلّفات صفقة عسكريّة قديمة مغشوشة، تشوّش بسرعة عند أوّل قصف لأعداء وهميّين، كانوا أقرب إليّ من نفسي. إذ لم أميّز صرخات النّسوة في الشّرفات من صوت الآذان أو حتّى من فحوى أنفاس الطّبيب الذي جسّني مثل قطعة شكولاتا أخرجت للتّوّ من الثّلاّجة. لم أشعر إلاّ بوخز الإبر في ساعدي وبمضخّة الأوكسيجين تتسلّل إلى فمي وأنفي محاولة استدراجي إلى حياة مللت إعلامها بنيّتي في مغادرتها. كان الطّبيب ينصت إلى حشرجات سامي أكثر ممّا كان يتابع نبضي المتباطئ، وأعوان الشّرطة يخترقون الجموع جيئة وذهابا في شبه نزهة صيفيّة في منتجع مهدّد بالتّفجير وبعضهم يهدّأ روع نجمة عاملة التّنظيف التي سقطتُ أمام باب بيتها مثل هديّة ملغومة لبابا نويل.

ففي كلّ رأس سنة كنت أقف أمام المرآة لأمشّط شعري الأسود الطّويل وكنت أكره الضّفائر فهي تذكّرني بعملي الموسمي في المنسج أيّام العطل الصّيفيّة حين كنت أنهض في تلك الصّباحات قبل أن تشرق الشّمس فأسلق بيضتين وآكل قليلا من خبز الفرن وأعدّ يوميّا وجبة غدائي من بقايا أكلة البارحة. في تلك اللّيلة التي يطول فيها الحديث مع الذّات بينما يقصر العمر كنت أسهر بحثا عن أفق بلا خيوط متشابكة أو ألوان متداخلة إلى درجة الغثيان. كنت أمنّي النّفس بمساحة بيضاء لا تشبه النّول الذي هدّ ظهري حتّى كدت أتقوّس، ففي البيت أطهو مع جدّتي وأشرف على إطعام الخرفان والدّجاج وأكنس زوايا البيت دون أيّ كلل في جدول أوقات يناهز توقيت أيّام الدّراسة بل ألعن منها. ولم أفقد مرآة بيتنا القديمة إلاّ حين نجوت من الأشغال البيتيّة بدخولي إلى الجامعة، فلم يكن والدي قادرا على توفير المال لأحصّل كلفة الزّيارات المتعدّدة التي تستوجبها العطل الرّسميّة والأعياد الدّينيّة والعطل الافتراضيّة التي لا تعرفها غير الجامعة وهي تموج بالاضطرابات. فكنت لا أستطيع أن أساير نسق العطالة ولم تكن المنحة الجامعيّة تكفي لتغطية مصاريف الأسبوع الأوّل من كلّ شهر، وكان رأس السّنة الميلاديّة في سنتي الجامعيّة الأولى أسوأ من تقوّس الظّهر، قرّرت على إثره قصّ شعري.

في ذلك اليوم الشّتوي بقيت أفكّر في أحاديث جدّتي عن الجازية الهلاليّة وعن شعرها الفاحم الذي كان يغطّي أخمص قدميها وبدا لي أنّ خصلات شعري المتناثرة على أرضيّة قاعة الحلاقة بقايا كلمات الجدّة وقد أضحت بلا روح وهي في طريقها إلى القمامة. انتابني حينها أسى فظيع، فلم يخطر ببالي أن ألهو بنكهة تلك اللّيالي أو أشيح برأسي عن همس جدّتي حين كانت تقول: "يا ابنتي شعرك تاج مملكتك، اعتبري بالجازية". ولم تكن الحكاية تنتهي حتّى أغفو لأحلم بذياب بن غانم يفرك عينيه أمامي ليتملّى وجهي يلتمع على صفحة حدّ سيفه البتّار، ثمّ يدنو منّي في رقّة الأقوياء ليركبني هودجا محلّى بالعنبر ومزركشا بصور بطولات الفرسان من نجع أولاد هلال. كان خلخالي يلامس لحيته الكثّة حين أركبني بيديه الفولاذيّتين. لكنّي سرعان ما كنت أسقط من أعلى الهودج لأتمرّغ في اليقظة ويتبدّد وجه ذياب في غربته الدّائمة حين تصيح ديكة الجيران فجأة مع تسلّل أبي إلى البيت وهو يرفع المزلاج الحديدي عن الباب الخارجي ثمّ يدخل الباحة مترنّحا عابثا بكلّ ما تصطدم به رجلاه. يوما بعد آخر كنت أستيقظ على صوت أنامله تتحسّس جدران الغرف في حلكة اللّيل ليلج إلى غرفة نومه، فيسقط على سريره الرّحب لينام على عرضه دون أن ينزع ثيابه أو حذاءه ثمّ يستسلم إلى وحدته منذ أكثر من عشرين سنة. وفي أحيان كثيرة كنت أعجز عن العودة مجدّدا إلى حلمي أو نومي فأستسلم إلى قراءة الرّوايات والكتب التي اصفرّت لقدمها وتآكلت أطراف أغلفتها وكأنّ أصابعي أسنان فؤيرة لم تجد بدّا من قضم جبنة قديمة تخمّرت على امتداد سنوات.

كانت السّكِينة أعتى من دقّات قلبي ومن شخير جدّتي وبين أسارير الضّوء الخافت لغرفتي وبين السّطور السّوداء للكتب التي كنت أطالعها بحمّى الباحثين عن الماء، كانت خواطري تتفتّح على حياة جديدة فيما وراء ضاحيتنا الصّغيرة التي لا تبعد عن ساحل البحر سوى مسافة كيلومترات، هي أقرب إلى المسافات الضّوئيّة لبنت لا تخرج من البيت إلاّ إلى المعهد الثّانوي أو إلى المنسج أو إلى الزريبة. وإذا كنت ألتقي بشخصيّات ورقيّة جديدة في الرّوايات التي طالعتها فإنّني لم أكن ألتقي في الطّرق التي ألفتها بغير أشخاص اعتدت لقاءهم منذ الصّغر وألفوا قامتي وخطواتي التي تكاد تنكمش في ظلّ رجليّ كلّما حيّاني أحدهم قائلا: "كيف حالك يا بنت سيدي الرّايس؟ وكيف هو أبوك أمازال مضربا عن مجالستنا في المقهى؟". أينما كنت أذهب، أنادى بـ "بنت سيدي الرّايس" مثل "ماركة مسجّلة" وفي بداية طفولتي كدت أنسى أنّ اسمي باشيّة فلا أحد يناديني به غير جدّتي وأبي وأساتذتي في المعهد والذي زاد في حيرتي أنّ أبي لم يكن رئيس البحّارة في يوم ما أو صيّادا. ولم أفهم إلاّ لاحقا سرّ هذه الكنية حين تعلّمت القراءة وبدأت تزعجني روائح القوارير التي كان يعاقرها أبي فكنت أسرع إلى إلقاء الفارغ منها في كيس القمامة حينها طالعتني لفظة "سيدي الرّايس" مخطوطة على بطن القارورة. أدركت يومها أنّي أنادى بنوع هذا الشّراب الأحمر الذي لم ينفكّ أبي عن ابتلاعه. يومها احمرّ وجهي ولم أقرب المرآة، فبقي شعري مخبّلا إلى أن نهرتني الجدّة.

هذه الخصلات المتساقطة على أديم القاعة لم تعرف لسنوات صولة المقصّ فلا أذكر أنّ للمقصّ من وظائف غير جزّ صوف الخرفان أو قطع الخيوط على النّول أو الأشغال اليدويّة التي طالبتنا بها المدرّسة في الدّراسة الابتدائيّة. أمّا أصابع الحلاّق النّاعمة فكانت تلامس رأسي بحنوّ بالغ إلى درجة سريان الرّعشة في جسدي فلم أعتد أن يلمس هذا الرّأس غير جدّتي حين تمشّط شعري أو تطليه بالطّفل لغسله أو بالحنّاء. كما أنّ رخاوة تلك الأصابع لم أشعر بها إلاّ لماما، كلّما ترفّق بي أبي في كلّ ذكرى وفاة أمّي التي لا أذكر ملامحها لولا صورتها الوحيدة المؤطّرة في غرفتي. كان الحلاّق يستشعر ربكتي المضاعفة فلأوّل مرّة أقرّر جزّ هذا الشّعر وأستسلم ليدي رجل غريب وإن كان حلاّقا. فلقد تردّدت كثيرا في الذّهاب إليه لولا غواية زميلاتي اللاّتي نصحنني به. كانت فائزة تقول دائما: "أصابع الحلاّق أرفق بشعر المرأة من الحلاّقة" وكانت تضيف أيضا في غنج خافت: "الحلاّق وطبيب النّساء فيهما الشّفاء" ولا أدري أيّ رابط يجمع بينهما ولماذا لا تأنس المرأة بشكل غريب إلاّ للرّجال في هاتين المهنتين؟ كلّ ما كنت أعلمه أنّ مجرّد التّفكير في التّوجّه إلى الحلاّق بدل الحلاّقة هو أمر مخيف بالنّسبة لبنت مثلي لم تعرف في القرية غير حلاّقة واحدة، منفوشة الشّعر على الدّوام وتكره رائحة الرّجال بعد أن فشلت في زيجتين متتابعتين خلّفتا النّسيان لديها، فكانت تضيع أغلب الوقت في البحث عن أدوات الزّينة التي تضعها في مواضع متفرّقة ولا ينتظم لديها القول في جمل بسيطة ومتتابعة، فهي تبدأ حكاية ثمّ تنقطع عنها لتبدأ في قصّ حكاية مختلفة واصلة بين الأولى والثّانية بآهات عميقة تخرج من صدرها ثقيلة لتجثم على صدور الزّبائن.

"ألا تدخّنين؟" كان ذاك هو السّؤال الأوّل الذي غمرتني به الزّبونة المجاورة بينما كانت تسحب من حقيبة يدها علبة سجائر خضراء لتستلّ سيجارة بنيّة اللّون، طويلة ونحيفة مثلي. فسارع صبيّ الحلاّق بالقدّاحة وأخذت المرأة الرّشيقة في تجرّع الأنفاس الأولى، لتنفث دخانا كثيفا يشبه السّحب الخفيفة التي كانت تطلّ على حيّنا ولا تمطر. كانت رائحة النّعناع تتسلّل إلى أنفي فتذكّرني بطعم الشّاي الأخضر المنعنع الذي علّمتني جدّتي إعداده، فكنّا نشربه كلّ يوم إثر الغداء. ودغدغتني الرّائحة حتّى كدت أنسى أن أجيب على السّؤال العجيب. "طبعا لا أدخّن!" خرج النّفي على لساني وكأنّني أفقت للتّوّ على صوت قذيفة. ولم تنبس المرأة بكلمة غير أنّها أطلقت ضحكة ساخرة مرّت في فضاء القاعة كأنّها مقطع قصير من ضحكة الكوميدي إسماعيل ياسين. وبقيت صامتة على إثرها وسط رشقات أعين الحاضرات اللاّتي أخفين ضحكاتهنّ مثلما أبقين على علب السّجائر رابضة في حقائبهنّ. وبقيت طيلة فترة حلق الشّعر مسكونة بخجل القرويّة الصّغيرة التي سقطت في أوّل اختبار مديني، وبدا لي أنّ رأسي الذي تملّكته يد الحلاّق يهرول في اتّجاه جسدي كأنّه رأس سلحفاة مستنفرة من خطر محدق.

كانت كثبان الدّخان تعتلي سماء المدينة، ففي المساءات لا يمكن أن نميّز لون السّماء عن لون رماد السّجائر والمصانع التي دجّجت معدّاتها لإنتاج السّلع, لم تنس أن تتصدّق على النّاس بوابل من دخانها. وكلّما خرجت إلى شرفة غرفتي في المبيت الجامعي إلاّ وأنّبتني الرّوائح الفسفاطيّة حتّى أقلع عن الخروج مرّة ثانية. وكم كدت أختنق في الأيّام الأولى حين حللت بالمدينة وانتابني شعور الدّجاجة التي أسلمت عنقها لمن سيذبحها، ولكنّني بعد فترة وجيزة تخدّرت بدوري بهذا الهواء الآسن وصرت لا أقوى على قضاء فترة قصيرة في بيتي بالقرية إذ أصاب بنوع من القلق والاضطراب العصبي فأسارع بالعودة إلى المدينة باحثة عن جرعة هواء مرّ مثل مدمنة لا تقوى على فراق أقراص مخدّراتها الصّغيرة. كان ذلك الشّعور في البداية مدوّيا في نفسي الطّفوليّة التي شغفت بالبريّة وتنسّمت في صباحات الطّفولة والصّبا نسائم الفجر العليل وقطر النّدى وهامت بأجواء الرّومنطيقييّن الذين عشقوا الطّبيعة حدّ الفناء. وكنت أرى الأفق طلقا، صافيا يداعب نظراتي الحالمة، ويربّت على كتفيّ كلّما صعدت على هضبة الوادي، فأصبحت لا أرى غير الأفق منقبضا يحبل بجنين مشوّه. وعلا عيناي الصّغيرتان غبش من داهمته الحمّى في صحراء بلا ماء.

لم تخف فائزة زميلتي في الغرفة، ابتسامتها السّاخرة من ردود أفعالي، فقد أطبقت عليّ بذراعيها وزلزلتني مقهقهة لمّا قصصت عليها واقعة السّيجارة عند الحلاّق. وصاحت في وجهي قائلة: "ألم تجرّبي نكهة السّجائر من قبل؟ خلتك تدخّنين خلسة". مرّة أخرى بدوت شاحبة ومشدوهة إزاء ما أسمع ولم أعد أميّز بين الصّواب والخطأ. هل كنت ساذجة إلى حدّ أنّ سيجارة تخدش ذهني وتربك تربيتي بحيث أستجمع كلّ طاقاتي لأتماسك وكأنّني أدان بارتكاب إثم جسيم. لم أعرف أنّ مواجهة سؤال التّدخين أخطر من الامتحانات التي اجتزتها في الباكالوريا. "خذي، جرّبي هذا النّوع الخفيف النّسوي" كانت فائزة تقدّم لي سيجارة من الصنف الذي واجهتني به المرأة عند الحلاّق، وهي تبدي سخريّتها المستمرّة قائلة:

ـ أنت يا عزيزتي في مدينة صناعيّة كلّ متساكنيها يدخّنون عنوة، يتجرّعون كلّ الهواء الملوّث بأريحيّة من يستقبل الموت.

صمتّ قليلا، في شبه غياب كأنّما استشعرت حجمي الضّئيل وضعفي إزاء هذه السّيجارة النّحيفة ورأيت فائزة المكتنزة الرّدفين تضع تبّانها المبتلّ على حبل الشّرفة وهي غير آبهة بحالتي، ولم أصح إلاّ ومذاق النّعناع يتسرّب إلى بدني فيرديني عشبة في المزهريّة الخزفيّة التي اصطحبتها معي من البيت.

في الغرفة رقم 7 استنشقت روائح المدينة، وجرّبت جميع العطور المهرّبة التي يزخر بها جراب الباعة المتجوّلين. وفي كلّ يوم أدلق قطرات من عطر "ديفنشي" على وجنتيّ ولا تكاد تمرّ ساعة حتّى تتبخّر الرّائحة، فأطلى بدخان السّيّارات والدّرّاجات النّاريّة، فأسخر من نفسي وألعن هذه العطور المقلّدة التي شابهت زيف الوجوه. مدركة أنّ هذه العطور ليست لها مناعة كافية لمواجهة شراسة عطر المدينة. ولكن من أين لي بالعطور الرّفيعة حتّى أنجو من هذه اللّعنة؟

الغرفة ضيّقة لا تسع غير سريرين باليين، وكرسيّين وطاولة مخربشة بجميع ألوان الأقلام الحبريّة، عليها خطّت جمل وكلمات وأسماء لمن عبرن من طالبات الحيّ الجامعي. في كلّ سطر مشوّش ظلال أصابع مرتجفة أو قاسية أومشرئبّة إلى حلم بعيد وأفق سرابي، لكنّها تدعو إلى التّمعّن. كنت أحاول فكّ شفرة هذه الخطوط المتشابكة واستقراء ألغازها مثل قارئة الطّالع. كلمات عن الغرام المستحيل، تواريخ تعود إلى حقبة كاملة وأجزاء من أبيات شعريّة محا الزّمن بعضا من حروفها. لم تصادفني في قراءاتي الشّحيحة للشّعر، ولم أتعرّض لها في مقرّرات الدّراسة فلمن "عروس عروبتكم"؟ أو "أناديكم وأشدّ على أياديكم"؟ كانت تلك عبارات ترنّ في ذهني دون أن أجد لها صدى في ذاكرتي التي عبقت ببقايا أشعار مقرّرات الدّراسة الثّانويّة. بعض الكلمات المتكرّرة في مواضع عديدة على سطح الطّاولة الخشبيّة: "خبز، حريّة، كرامة وطنيّة"، وأشكال محفورة لمنجل ومطرقة، جعلتني أتساءل في البداية إن كانت تمتّ بصلة إلى علم الأبراج، لكنّني لم أصادف في قراءاتي برجا يختزل في صورة المنجل والمطرقة. تبيّن لي أنّ هذه الطّاولة خارطة آمال محترقة ومتآكلة، وهي ليست غير بقايا خيوط قصيرة ومهترئة من منسوجة سير ذاتيّة لطالبات عبرن من هذه الغرفة إلى مصائر مختلفة.

إزاء عجزي عن فكّ شفرة هذه الخطوط في هذا اللّوح المفضوح والغامض، كنت أستجمع صوتي لأطلب من فائزة تفسيرا لهذه الالتباسات فهي تفوقني سنّا وتقيم في الغرفة منذ سنتين وليس من الغريب أن تكون بعض العبارات المكتوبة على الطّاولة من إنشائها. لكنّني وجدت صوتي مبحوحا وكلماتي معلّقة بين حنجرتي ولساني، لا أستطيع التّكلّم بسهولة وطلاقة ولا تخرج منّي الكلمات إلاّ كمثل ما تضع الدّجاجة بيضتها وهي تتحرّق. فبمجرّد أن أتحدّث إلى فائزة يساورني شعور بأنّها ستلتهمني، فطريقتها في التّخاطب حادّة وهي تظهر ثقتها الفائقة في نفسها، ثمّ إنّني أخشى تندّرها من جهلي ببعض ما هو بديهيّ. لكن ما يخيفني أكثر هو جموحها عندما تتوجّه إليّ بيديها، وكأنّها ستسقطني أرضا أو ستدفعني من شرفة الغرفة. لذلك كنت أدعوها بـ "فائزة الغولة". هذه الكنية لقيت انتشارا رهيبا بين الطّالبات في الحيّ الجامعي وفي كليّة الآداب أيضا.

ـ هل رأيت في ملامحي شيئا يباعد بيني وبين البشر؟ أم أنّك تعتبرين حماستي للحياة من ضراوة الغيلان؟

كانت تسألني والضّحك يعلو محيّاها ويرتجّ في صدرها النّاهد، فتكاد حلمتاها تقفزان خارج الحصّارة. ودون مبالاة، استقبلت كنيتها الجديدة، وكأنّما زادتها فخرا وشهرة بين الطّالبات. واندفعت منذ ذلك الوقت إلى ملاطفتي حينما نكون منفردتين في الغرفة. لكنّها تعود إلى مزاجها وسلوكها الأشعث كلّما دخلت علينا جارة من الغرف المجاورة. ودفعها التذاذها بكنيتها الجديدة إلى استعارة شخصيّة "الغولة" التي ترهب الفتيات، وتلوّح لهنّ بالعقاب إن لم ينصتن إلى تعليماتها. فمرّة تأمر إحدى الطّالبات بإعارتها البدلة الجديدة أو بتوفير سلفة عاجلة لاقتناء علبة سجائر فاخرة للـ "مارلبورو" الأمريكاني رغم أنّها تدّعي مقاطعتها للسّلع الأمريكيّة، ولكنّها تقول دائما:

ـ السجائر لا تعرف وطنا، فما الفارق الصّحّي بين "السّيقار" الكوبي و "المارلبورو" على الرّغم من التّناقض الإيديولوجي بين الامبرياليّة وثورة الكادحين؟

ـ لكنّك تلبسين سروال الجينز أيضا. أليس هو سلعة أمريكيّة؟ نبست بهذه الكلمات من فرط الحيرة دون أن أسبّب لها حرجا فقد جاء ردّها هازئا:

ـ أترين ردفيّ. هما لا يأبهان بشيء مثل مدرّعة كاسحة، تلتذّ بسحق هذه الماركة كلّما اقتعدت في أيّ مكان. ثمّ لا تنسي أنّ زملاءنا الطّلبة يداعبون هذه المؤخّرة بالصّفع كلّما وقفت في طابور المطعم الجامعي، تحت شعار ضرب المصالح الأمريكيّة، حتّى وإن كانت مجرّد قماشة زرقاء فاتحة تكسو لحما وطنيّا.

نزلت كلماتها الباذخة بالتّهكّم على مسمعيّ مثل أزيز نحلة تاهت عن مجموعتها. وبقيت واجمة لبضع دقائق أتفحّص في ذاكرتي سجلّ الشّخوص الذين عرفتهم طيلة حياتي فلم أجد شخصا يطابق هذه الكتلة النّاريّة من لحم ودم. فعلا لا يمكن أن تكون غير "غولة" فهي عصارة الإنس والجنّ. وهي لعوب تحسن مداراة الحقائق ومراوغة المتكلّمين ولا تتوانى عن رفع صوتها عند الحديث دون أن يهمّها إزعاج الجيران. كانت تكتفي بغلق باب الغرفة وفتح باب الشّرفة دون أن تعتبر ذلك نوعا من الاحترام للأجوار. فالغرفة قريبة من بيوت الرّاحة ورائحة البول لا تنفكّ عن التّسرّب إلى أنوفنا. وإذا ما طرقت إحداهنّ الباب بهدوء، فإنّها تنتفض من سريرها أو من كرسيّها وكأنّها تجهّز نفسها للدّفاع عن البيت في حالة اكتساحه من الأعداء.

ورغم هيجانها الدّائم وسلاطة لسانها مع زميلات الحيّ، فلم تكن تتطاول عليّ. كانت أشبه بشوك الصّبّار الذي يخز أصابع الأيدي التي تحاول القبض عليه بينما كانت تحنو عليّ فترمقني بنظرات دافئة، تذكّرني دائما بشرود جدّتي كلّما حدّثتها عن اقتراب موعد التحاقي بالجامعة. ومن أغرب ما شعرت به في الأيّام الأولى لتعرّفي عليها، أنّ لها نضج المرأة المجرّبة. وكان سلوكها في الغرفة يثير دهشتي حيث كانت تذرع الغرفة وهي شبه عارية، إذ يحلو لها أن تبقى دون سروال النّوم، فكانا فخذاها ناصعين مثل رخام أملس لا تنبت عليه شعرة واحدة. وكنت أستحي حين أتوجّه إليها بالكلام وهي مستلقية على السرير ورجلاها يتمدّدان على حافة الكرسي فيبدو ما بينهما منتفخا في شبه وضع انقضاض. عندها تناهى إليّ صوت جدّتي:

ـ يا باشيّة سيّدنا سليمان استنكف من بلقيس لمّا جاءته ونظر في البلّور الذي كانت تقف عليه فإذا برجليها يكسوهما الشّعر. فكاد يعرض عنها لولا أن تكرّم الهدهد بإحضار خلطة لإزالة هذا الشّعر. وأنت حين تكبرين أوصيك بتنظيف رجليك فإنّ الرّجل يميل إلى الصّفحة الملساء ليباشرها بالكتابة.
ـ مازلت صغيرة بعد، يا جدّتي، وإنّي ألاعب هذه الشّعيرات مثلما ألاعب فرو قطّتنا البريّة.
ـ إيه يا ابنتي، أمّك أبقت على شعرها حتّى بعد الزّواج، فكان أشبه بأغصان شجرة المهبولة.
ـ لكنّك قلت بأنّ الرّجل لا يستهويه هذا الشّعر المتنطّع.
ـ أبوك، كان يقول بأنّ نساء الرّومان يبقين على شعر أرجلهنّ حتّى إذا ماوقعن في الأسر يستنكف منهنّ الغزاة فلا يثرن أحدا لاغتصابهنّ.

كان هذا الجواب يثير دوما فضولي فما صلة أمّي بنساء روما؟ وأيّة بدعة ابتدعها أبي عن الرّومان وأعرافهم؟ إذ لم أقرأ في حياتي شيئا عن أسلوب دفاعي كهذا لحماية المرأة الرّومانيّة أثناء الأسر. ثمّ إنّ أبي كان ينشئ صورا فسيفسائيّة لنساء عاريات ولا أذكر أنّه أنشأ صورة لامرأة يغمرها الشّعر من رأسها إلى أخمص قدميها. كان يجلب إلى ورشته أبهى القطع الحجريّة الصّغيرة ليثبّت بعضها إلى جانب بعض في أشكال بشريّة وحيوانيّة وطبيعيّة محلاّة بزخارف ذات ألوان فاقعة تكاد لا تخرج عن الألوان التّرابيّة. أنامله تحنو على المكعّبات الصّغيرة وتمسح وجهها بنعومة بالغة حتّى تصير كالبلّور، يكاد اللّون يفارقها. هذه المكعّبات المنتشرة في أرجاء البيت في شكل أكداس صغيرة مثل كثبان رمل بيوت النّمل، تعلّمت بواسطتها الأعداد وعمليّات الجمع والطّرح قبل أن أدخل إلى المدرسة، فلم تكن لي دمية بلاستيكيّة أمشّط شعرها الحريري بل كانت جدّتي تصنع لي بالطّين المفخور أشكالا أنثويّة مخيفة، الرّأس صغير، والعينان جاحظتان، والنّهدان مترهّلان، وكذلك الفخذين، والبطن منتفخ. أمّا القدمان فنحيفتان، ولا أدري لماذا تصرّ جدّتي على تكوين هذه الأشكال الأنثويّة المخيفة وتضعها في كلّ زاوية من غرفتي، حتّى أنّي كنت أخاف النّوم في الظّلام إذ يتملّكني إحساس بالضّآلة، بينما يخيّل إليّ بأنّ هذه الدّمى تتمطّط، وتنتفخ كبالونات الأعياد الدّينيّة، وكنت أرتعد إذا ما نفخت الرّيح فكأنّما الدّمى تتكلّم أو تتهامس عليّ. ولذلك تواصل هذا الشّعور لديّ مسبّبا خلافا ليليّا مع فائزة الغولة فهي لا تقوى على النّوم في النّور. وكان عليّ أن أقبل تعليماتها، على مضض، فبتّ لياليّ الأولى في شبه يقظة أتنصّت إلى أنفاسها، وحمدت اللّه أنّها لا تشخّر، بل كانت تسترخي في نومها كجثّة هامدة لا تحرّكها حتّى نداءات استغاثة أيّ زميلة انكسرت رجلها وهي في طريقها إلى غرفتها. لكنّ أغرب ما عرفته فيها قوّة حاسّة الشّمّ لديها. فهي تنهض مذعورة من نومها إن تسرّبت إلى أنفها رائحة كريهة أو غريبة وهي التي أيقظتني من سباتي في تلك اللّيلة البيضاء التي افتكّت فيها الشّمس منّي أسنان الحليب.

ـ مالذي يحدث؟ أهذه رائحة حريق. لكن... ما هذه الأصوات أيضا؟

كانت فائزة تصرخ في وجهي بينما لم أتبيّن غير كلماتها فلم أشمّ رائحة الحريق الذي تشير إليه. وملكني صمم غريب ولم أفق من غفلتي إلاّ بعد هنيهة حين فتحت فائزة باب الشّرفة، فدخل علينا دخان رهيب استولى علينا، فصرنا شبحين وشملنا سعال حارق كأنّنا تجرّعنا علبة سجائر دفعة واحدة. وانهالت علينا أصوات زميلاتنا المذعورات فخرجنا من الغرفة دون أن نشعر. كأنّنا قذفنا بشكل لا إرادي في اتّجاه الطّابق الأرضي. كنت ممسكة بذراع فائزة وكلّي هلع، هل هي الحرب؟ سؤال وحيد دغدغ ذهني فقد سمعت أصوات طلقات في الجوّ، وصياحا من كلّ صوب وبكاء للطّالبات من هنا وهناك. كان الحارس يأمرنا بالبقاء في مكاننا، وعدم مبارحة السّاحة الدّاخليّة المغلقة، قائلا بأنّ طلبة مبيتات الذّكور اعتلوا أسوار حيّنا هربا من قوّات الأمن الدّاخلي.

السّاعة الواحدة ليلا، واللّيل خارج هذه السّاحة لا يقوى على بسط نفوذه. ومن النّوافذ كنّا نتطلّع إلى مدخل الحيّ فلا نرى شيئا سوى غيوم الدّخان، ولا نسمع سوى هتافات وأصوات مكبّرات الصّوت. كانت الدّموع تنساب منّي ومن عيني فائزة رغما عنّا. ولم نكن نبكي على شيء، فالدّخان المتسرّب من الشّبابيك المكسورة الزّجاج يثير فينا شهيّة البكاء، ولفظ الوجبة المسائيّة التي ابتلعناها في المطعم الجامعي دون أن نعرف هويّة الأكلة، أو نقدر على تصنيفها في قائمة "المطبخ التّونسي". كان البكاء يتحوّل إلى عويل كلّما تشقّق الباب الخارجي، بسبب الطّرق العنيف للطّلبة. وبدأ الدّوار يشمل بعض الطّالبات حين انفتح الباب فجأة ودلف منه طلبة، عيونهم شبه محترقة، ووجوههم خارطة صمت دموي، بينما خفت دخان القنابل المسيلة للدّموع.

سارعت فائزة وبعض الطّالبات الكبريات في جلب سطول من الماء وبدأن في مسح وجوه الطّلبة بقطع قماشيّة مبلّلة وفي لحظات متسارعة أصبحت السّاحة الدّاخليّة ميدانا مختلطا لحركة إنعاش جماعيّة ولم أفق من شبه غيبوبتي إلاّ حين نهرتني إحدى الزّميلات:

ـ أصابك الشّلل يا باشيّة، انظري ذاك الزّميل في الرّكن.. يحتاج مساعدتك.. خذي هذه القماشة وبلّلي جبينه.

لم أعتد لمس جبين غير جبين أبي حين كانت تعصف به الحمّى، وبدا لي أنّي أتحسّس أرضا لا أعرفها وغمرتني أنفاس متقطّعة وحارّة لهذا الطّالب الذي كان طريح الأرض، في ثياب تكاد تلتصق بجسده من شدّة العرق، حتّى أنّ صدره يعلو وينخفض بسرعة من فرط الإعياء، كأنّ عوده الضّامر ظلّ عدّاء دخل خطّ الوصول متأخّرا في سباق الألف متر. كان صوته مبحوحا وهو يزمجر بكلمات لم أفقه معناها، سوى أنّها مزيج من اللّعنة والشّتائم الكريهة، فكنت أبلّل وجهه بخرقة القماش، فتنبسط ملامحه وتنفتح عيناه قليلا في شكل لوزتين صغيرتين.

ـ ما اسمك؟

نزل سؤاله البسيط على مسمعيّ نزول برد خفيف، فكانت حشرجاته أعلى من حروفه، فأجبته بعفويّة حازمة:

ـ بنت سيدي الرّايس.. وأنت ما اسمك؟ وماذا تفعلون في هذه اللّيلة الشّتويّة؟ هل بدأت الحرب من هنا؟

لم أستطع إتمام إلقاء أسئلتي الكثيرة، فقد عصفت به قهقهة غريبة حتّى أنّ الصّخب الذي كان يدوّي حولنا لم يكن غير صفير ريح عابر أمام زمجرة رعده.

ـ بنت من؟.

سألني في سخريّة عالية وعيناه تبسمان، وأخذ القماشة من يدي ليضعها على أنفه وفمه بينما كنت مشدوهة، فلم أدر كيف أفصحت له عن كنيتي دون اسمي، فلا أحد في هذا المحيط الشّاسع يعلم بها حتّى فائزة نفسها. وبدأ وجهه يستعيد صحوه وبدأت السّاحة تقفر من الطّلبة الذين خرجوا لاستطلاع الوضع. وبقينا منفردين فأخذت بيده كمن يقود طفلا صغيرا إلى مخدعه. وحين انتصب أمامي ظننته جرادة خرافيّة، ذراعاه نحيفتان، وسحنته السّمراء توشك أن تبتلع اللّيل، أمّا قدماه فكانا يشبهان "المخارق" الرّمضانيّة النّحيفة، حتّى أنّ سرواله بدا فضفاضا وسترته الزّرقاء الشّبيهة بسترة عمّال المناجم أشبه بخيمة إغاثة تابعة للأمم المتّحدة.

تقدّمنا رويدا في اتّجاه السّاحة ولأوّل مرّة حزمت قامتي ومشاعري وأفكاري مثل عرجون بلح، ووطئت السّاحة مع هذا الغريب الذي أرسلته القنابل إليّ، فاستقبلته دون أن أحتمي بمطريّتي وقلت هامسة:

ـ "أين بقيّة الطّلبة؟ كأنّ الدّخان بخّرهم جميعا."
كان يحملق في كلّ الجهات شاردا عنّي. فمسكته من ذراعه وعدت إلى سؤاله:
ـ أتسمعني؟ لقد خفت دويّ القنابل ودنت صفّارات سيّارات الإسعاف. أتعتقد أنّ هناك إصابات في صفوف الزّملاء؟
ـ اصمتي قليلا. هذا الهدوء فوهة بركان. انتبهي إلى جهة الشّارع الرّئيسي، فالباب ما يزال موصدا ويبدو أنّ بقيّة الزّملاء قد هرعوا إلى منطقة آمنة من جهة أخرى.
ـ علّهم خرجوا من الباب الخلفي للحيّ الجامعي حيث الطّريق الفرعي إلى المطعم.
ـ انتظريني هنا ولا تتحرّكي سأستطلع المكان.

تقدّم في اتّجاه الباب الرّئيسي مداريا نفسه من شجرة إلى أخرى في خفّة وسرعة فائقتين. كان يتنقّل من جذع إلى آخر، يزحف في اتّجاه اللّيل، بينما تعالت من بعيد أصوات صياح وقذف متجدّد للقنابل وسط هدير مكابح سيّارات الأمن. وبدا الغريب فزّاعة داخل حديقة الحيّ. وكدت أضحك حين رأيته يعتلي جذع الشّجرة المطلّة على الشّارع ويضع يده فوق جبهته، ويؤخّر قدمه اليسرى كطائرة استطلاع صغيرة من دون طيّار. ومرّت لحظات قضمت فيها ضحكتي وخوفي معا إلى أن عاد مسرعا كسهم لا يبالي برشقات سهام الأعداء. وتسمّر أمامي ولهاثه مزيج من القلق والوداعة ثمّ قال:

ـ يا بنت الرايّس. العجلات المطاطيّة منعت تقدّم طواقم الأمن في اتّجاه الشّارع الرّئيسي ويبدو أنّ التّعزيزات تحوّلت كلّها في اتّجاه المنطقة الخلفيّة لمحاصرة الزّملاء.
ـ ما العمل إذن؟ أنبقى منفردين في هذا المكان، فلا نستطيع الخروج في أيّ اتّجاه؟
ـ لنعد إلى الدّاخل. أليس لبنايتكم هذه من سطح؟
ـ ألا نلتحق بالزّملاء؟

اتّجهنا مسرعين إلى المدارج. وحلّ فيّ صوت من بعيد "يا باشيّة انزلي من السّطح. واللّه لأخبرنّ أباك بصنيعك في عزّ القيلولة. انزلي وإلاّ صعدت فورا وقضمت عظمك ولحمك بأسناني". إنّه صوت جدّتي يرنّ في أصقاع ذاكرتي يوم صعدت سطح البيت لأنتظر مرور "عجوزة السّتوت" التي سمعت عنها كثيرا ومنعني طيفها من مغادرة البيت في أوقات القيلولة. يومها عزمت على مراقبة ظهورها فأمضيت وقتا طويلا دون أن أرى غبار قدميها، أو أشتمّ رائحة قدامتها حتّى خرجت عليّ جدّتي فأفزعتني بندائها ووعيدها. فخلتها "عجوزة السّتوت" نفسها. وما عدت إلى رشدي إلاّ حين التمع أمام عينيّ ثديا جدّتي الشّبيهين بضرعي نعجة عجوز ويدها محمّلة بقطع الفسيفساء الصّغيرة. تلقي بها صوبي محاولة زجري، كي أنقطع عمّا عزمت عليه، وأخسر جولة أخرى مع "عجوزة السّتوت".

حين بلغنا السّطح استقبلتنا موجة برد حاسرة من أيّة شفقة، ومشينا في اتّجاه الحائط بخطى وئيدة تتطلّع إلى مشهد مجهول. كانت أصوات استغاثة تطلق في سماء الحيّ الجامعي آتية من ساحة الملعب الرّياضي، الذي يفصل بين المبيتات وبين المطعم. كنّا مشدوهين أمام ما نرى ونسمع. رأسانا يطلاّن من حافة الحائط وعيوننا تكادان تنفصلان عن وجهينا. ألهذا الحدّ يتحوّل الملعب إلى معسكر؟ ثمّ كيف تحوّل زملاؤنا الطّلبة إلى جيش من النّمل فلم أميّز أحدا ممّن أعرف، وتحوّلت أكداس الحجارة المحاذية للملعب إلى مجرّد حصى صغيرة، وصارت هراوات أعوان الأمن مثل أعواد ثقاب تنهال على الظّهور والرّؤوس والأرجل والأيدي، فلا نسمع غير اشتعال الألم والبكاء والاستغاثات.

وفي دقائق معدودات خمدت الهراوات وخيّم صوت مزمجر يأمر الطّلبة بالجلوس في وضع القرفصاء، فصار المشهد أقرب إلى استعراض للفرق الرّياضيّة المهزومة في بطولة دوليّة للعبة غير مدرجة في مصنّفات الألعاب الرّياضيّة المشروعة. وفجأة توالت سيّارات بحجم ناقلات الجنود لإخلاء المكان وقذف بالطّلبة تحت وابل الشّتائم داخل هذه السيّارات مثلما يلقي بعجينة الخبز في فرن الطّابونة. كنّا نتابع بصمت الموتى حركات البوليس والطّلبة ونعيق السيّارات السّوداء والبيضاء دون أن يكلّم أحدنا الآخر أو يعلّق على شيء، سوى أنّ جسدينا اقتربا من بعضهما البعض وتلاصقا من فرط البرد. وشعرت أنّي أتكوّر في بعضي بينما كان الغريب يحزم أنفاسه فتتمدّد قامته كأنّه أراد أن يلحق بالطّلبة المعجونين في السّيّارات، لكنّ أطراف قدميه كانت ترتعد داخل حذائه البنّي وتشدّه إلى الأرض فتكوّر بدوره وجلس على أديم السّطح حذوي بلا حراك، رأسه في الأرض، ويداه تقبضان على يديّ، وأنا لا أستطيع أن أخلّص أصابعي من حرارة أصابعه، مثلما لا أستطيع أن أمتنع عن التّدثّر بجمرة صغيرة في ليلة باردة مثل تلك اللّيلة.

بقينا أكثر من ساعة في شبه وجوم، مكتفيين بالإنصات إلى زفراتنا، أو تحريك قدمينا من حين إلى آخر. وطيلة ذلك الوقت فكّرت في أمر واحد. كانت صورة فائزة لا تفارقني. أتراها استطاعت الاختفاء في مكان آمن أم قبض عليها وتخيّلتها تدلف إلى سيارة البوليس، مثل راقصة ملهى ليلي تقهقه وتكيل الشّتائم للزّبائن الذين انهالوا على بعضهم البعض بالضّرب وأفسدوا السّهرة. وافترضت أنّ فستان النّوم الأصفر الذي ترتديه ليلتها سيجعل ضحكتها فاقعة ومؤلمة في الآن نفسه. فمن عادتها ألاّ ترتدي غير السّراويل. لكن ماذا كانت ستصنع بذلك الفستان الأصفر الحريري الذي أهداه إيّاها رفيقها وحبيبها حسن في ذكرى ميلادها؟ ربّما استطاعت الإفلات فهي تعرف الزّوايا والأركان أكثر من الذين وضعوا هندسة كلّ هذا الحيّ الجامعي. ثمّ إنّ قدميها من ريح، فهي تمشي بسرعة بالغة، ولا أعتقد أنّها تقع فريسة لعدّائين لا يدافعون عن الزّيّ الوطني قدر دفاعهم عن مورد رزقهم.

انهمرت عليّ هواجس مبكية ومضحكة وخشيت فعلا على فائزة وأدركت أنّ الغريب الذي يلاصقني قليل الكلام على نقيض ثرثرتها، فكان يتمتم بلغة مؤدلجة تعرّضت لها حين كنت أقرأ أعمدة المجلّة الحائطيّة في الحيّ. ولم أكن أكترث لها كثيرا فطالما ردّدتها فائزة عليّ كلّ ليلة إلى أن حفظت بعضا منها. ولم يسألني ليلتها سوى عن اسمي مجدّدا وعن هويّتي السّياسيّة. أكنت يساريّة مثله، ففاجأته بابتسامة محايدة. تذكّرت عندها كيف عرضت عليّ فائزة أطروحات اليسار في الجامعة التّونسيّة، وكان ردّي حينها ماكرا، إذ قلت لها بأنّني تعلّمت منذ صغري أن أدخل إلى المرحاض بالرّجل اليمنى، وأن آكل باليد اليمنى، وأن أصافح النّاس باليمنى أيضا، فكيف أختار اليوم اليسار؟ أليس أصحاب الشمال في أسفل السّافلين؟ كان ردّي المراوغ مصدر تندّر بالغ وصنّفت منذ ذلك الوقت في حزام اليسار كما تقول فائزة التي كانت تمزح حين تميّز بين الخصر والحزام في السّياسة.

بدأت الرّطوبة تقلق أناملنا، وأصبح صوت كلينا شبه مبحوح، فعزمنا النّزول إلى البهو السّفلي، فقد انزاح الخطر، وساد صمت كثيف. وخلنا أنّ ما حدث لم يحدث في الحيّ الجامعي، فلم يهرع أحد من الأجوار إلى حيّنا ولم نشاهد سيّارة مدنيّة واحدة تقترب من المكان. كأنّنا جزيرة معزولة، ولسنا على رقعة من هذه المدينة التي تنام باكرا، ولم تنجح معركة الطّلبة مع البوليس في إيقاظ أهلها، أو خدش صفير شخيرهم. فما الجدوى في أن يستيقظ النّاس الذين ينتظرهم نهار من الأعمال في مدينة لا تعرف غير العمل؟ لكنّنا فوجئنا بحركة غير عاديّة أمام مدخل البناية تشبه حركة اللّصوص، وإذا بجمع من الطّلبة والطّالبات يدخل البهو واحدا إثر آخر، مثل دودة أمّ أربعة وأربعين. وكانت فائزة تتوسّطهم، تلتمع من بعيد كنيزك. ورأسها معصوب بقطعة قماش، بينما وجوه الغالبيّة مصفرّة ومغبرّة، والأجساد محنيّة، ولا أحد ينبس بكلمة حيث عمّ الصّمم وأطبق عليّ مشهد العائدين من حرب زائفة. غير أنّ ابتسامة ثكلى فرّت من عينيّ استبشارا بمقدم النّاجين من الوليمة التي آل إليها الطّلبة المحتجزين لدى البوليس. وفجأة صاح شفيق منفلتا من أسر أصابعي:

ـ أين كنتم يا رفاق؟ خشينا عليكم من براثن قوّات الأمن... كيف تمكّنتم من الاختفاء؟

بدت كلماته كصيحة في صحراء، فالطّلبة الذين يجرّون الأقدام في شبه غيبوبة، اكتفوا بتوديع بعضهم البعض، كأنّ الفترة الوجيزة التي جمعت بين الطّلبة والطّالبات كانت كافية لخلق صلات أعمق من صلة الزّمالة. وسرت في البهو غوغاء، كلّ يحدّث الآخر، فلا تسمع غير همهمات الحارس الذي ظهرت قامته الواهنة في آخر كوكبة الطّلبة، يحرّك يديه ولسانه محاولا إعلام الطّلبة بضرورة مغادرة البناية، آمرا الطّالبات بالالتحاق بغرفهنّ. وكان يرفع سبّابته ليحصي عدد الطّالبات كراع غير متمرّس بقطيعه، فيضع من حين لآخر يده على رؤوسهنّ لفرز منظوريه، ودفع الغرباء خارج البهو. وبدأت الأفواج الغريبة تتسلّل نحو الخارج، فشدّني شفيق من يدي وهمس في أذني:

ـ باشيّة... أراك غدا صباحا... سأنتظرك عند المدخل الخارجي لا.. تجدينني أستقلّ سيّارة "أكاديان" بيضاء.

فرددت مازحة:

ـ تقصد بعد قليل فلا يفصلنا على الصّباح غير سويعات.
ـ السّاعة العاشرة... سأترقّبك فلا تتأخّري.

هكذا ألقى بتوقيت أوّل انصرافي عن الانفراد والوحدة، ثمّ اندسّ في الجموع كغيمة طائشة في السّماء، فانكمشت على نفسي وسرت فيّ قشعريرة رهيفة لم توقف سريانها إلاّ يد فائزة التي مسكتني من ذراعي، كأنّما تفرك عجينة. وصعدنا معا إلى غرفتنا وسط موجة الزّميلات الصّاعدات كلّ إلى مخدعها، وكلّ واحدة مطرقة فلا مجال للحديث فقد استقبلن بداية العام الجديد بليلة استثنائيّة، ليست من إنشاء الكاميرا الخفيّة، وإنّما من غرائب هذه الدّنيا. حين لم تطلق صفّارات إنذار الحرب بعد في الخليج العربي، بينما بدأت المعارك هنا، في حيّنا الجامعي.

وضعت ذراعي على كتف فائزة وشعرت أنّ جسدها هذه المرّة أثقل ممّا كان عليه، فكأنّما أصابها حزن العالم واختزنت صمت اللّيل في انغلاقة جرّة شفتيها. ودلفنا إلى الغرفة فأبعدت الوسادة عن السّرير لتستلقي وتمدّد رجليها، لكنّها سارعت إلى الكرسي، وجلست دون أن تلتفت إليّ، ونزعت القماشة من على جبينها فظهر برأسها انتفاخ طفيف كأنّما ضربت بعصا أو اصطدمت بحاشية جدار، فاقتربت منها وتحسّست النّفخ بحنوّ:

ـ ماهذه "الزّلّومة" يا فائزة؟ هل واجهت قوّات الأمن أم هذا من أثر اختبائك؟

ولكنّ فائزة الغولة رمقتني باستنكار شديد، مواصلة إطراقها الشّبيه بإطراقة تمثال المفكّر لرودان، وفهمت أنّني أسأت الإشارة إلى النّفخ الملتهب في رأسها باستعمالي للفظة "زلّومة"، التي تعني "البظر" في الاستعمال الدّارج لأهل قفصة، موطن فائزة. فسكتّ لوهلة ثمّ صوّبت إليها كلامي من جديد:

ـ فتيل الحرب لم يشتعل في العراق، ونحن في برميل نفط مشتعل. أهكذا هي الجامعة يا فائزة نموت نموت... ولا يسمع أحد؟ لقد خشيت عليك من الذّوبان في الجموع التي زفّت إلى مخافر البوليس، وحسبت أنّي سأعود إلى هذه الغرفة وحيدة متآكلة الأمل، أمّا وقد نجوت فحمدا على سلامتك. ثمّ إنّني لم أعهد فيك هذا الصّمت والشّرود، فحسبك أنّك "غولة" ولا أحد يجرؤ عليك.

ظننت أنّ مزاحي يستدرجها نحو الكلام ويفكّ ضفيرة صمتها، لكنّها تبسّمت قليلا ثمّ لاذت من جديد بالوجوم، كأنّ مصابا كبيرا حلّ بها. هل كانت تستشعر رائحة نواقيس الحرب، أم أنّ شيئا في داخلها انكسر؟ فلم أعتد رؤيتها في مثل هذه الحالات، إذ كيف لجسم مثل جسمها أن يتحوّل إلى عود خيزران جامد؟ وظللت أفرك أصابعي في شعرها الأسود، أهدّئ من روعها إلى أن قالت بصوت خافت منكسر:

ـ لقد احتجزوا حسن.
ـ هل أنت متأكّدة؟
ـ بلى.. كان برفقتنا حين خرجنا من الحيّ باتّجاه المطعم الجامعي.. كان سيقودنا إلى المخبأ السّفلي للمطعم.. لكنّ زحف الدّخان حال دون ذلك فتفرّقنا. كان يتقدّم في اتّجاه الدّخان، وكنّا نتراجع في الاتّجاه المعاك.. لقد رأيته يسرع إلى حمل قنبلة "لاكريموجان" سقطت على الأرض ليقذفها في اتّجاه مرسليها... ثمّ غاب كأنّما تطاير معها.

ألقت بكلماتها ثمّ غابت بدورها في الصّمت، ولم أجد طريقة مثلى لمواساتها. فأيّ كلمة قادرة على نزع الحزن من صدرها؟ وأيّ يد تحنو عليها لتهدّئ رعشتها وتلاطف بركانها؟ هي التي لم أعرف لها قريبا يزورها أو يسأل عنها، ولم أسمع أنّ لها أبا أو أمّا أو إخوة، فكأنّما جاءت إلى الدّنيا مقذوفة من كوكب آخر كشهاب ملتهب. ولذلك جعلت من حسن كلّ دنياها، فكانا من فصيلة دم واحدة.

في وهلة واحدة رأيتها تنطفئ، فتكبو على سطح الطّاولة وتأخذ القلم لتخربش به وتخطّط أشكالا لا معنى لها سوى أنّها امتداد لألمها. ثمّ غفت على كرسيّها وراحت في سبات عميق. كان الفجر يتشقّق بصعوبة بالغة، والمبيت محاط بالخرس، ولا أعلم كيف استطعت أن أقاوم النّوم للحظات، وأن أستجمع قوّتي حتّى أمدّد فائزة الغولة على سريرها، فقد تهيّأ لي أنّ السّويعات التي ما تزال في عمر هذه اللّيلة أطول من قامة آدم لمّا نزل من الجنّة، فالتجأت إلى فراشي بسكينة من يقبل قضاء لا مردّ له. ولذت بالنّعاس دون أن أفكّر في الموعد الآتي، أو فيما سيفرّخ اليوم القادم من أحداث. فأحيانا يشمل الإنسان شعور بالحياد التّام وينثني في زمن بين الكلام والصّمت، لا يستطيع تحديده أو وصفه أو تقديره غير أنّه يتمرّغ فيه حدّ الذّوبان.

(2)

أتعرفين يا باشيّة أنّ رائحة الحديد تزكم أنفي. ففي ورشة أبي تعلّمت أكل الرّائحة لا شمّها وفيها لفحتني النّار الموقدة في الفرن، دون أن أصاب بأذى، فكأنّما كنت حاويا ألاعب الأفعى وهي في سلّتي ولكنّني لم أكن أسمع غير موسيقى الطّرق المتهافتة على أذنيّ ولا أرى غير حركة نشيطة للعمّال يجلبون الحديد ويعملون على صهره وطرقه. كانت الورشة جزء من سوق الحدّادين في قلب المدينة العتيقة، تعبق برائحة النّار منذ عشرات السّنين وتشهد على مرور العشرات من الصّنائعيّة ببدلاتهم الزّرقاء المتّشحة بآثار الحديد ولون الصّديد. كنت أدخل إلى السّوق من الباب الكبير والوحيد في الصّباح الباكر، فيستقبلني الفناء المربّع الواسع الذي تطلّ عليه جميع الورشات. وكنت أظنّ أنّني أوّل الفاتحين فإذا برؤوس العمّال تتطلّع إليّ لتحيّتي، حيث كانت الغالبيّة تقيم في الفندق الذي يشمل الغرف العلويّة للسّوق. وبدا لي ذلك الصّيف حارّا أكثر من العادة، وكانت حرارته لا تتأتّى من شرارات النّار التي تملأ ردهات السّوق فتجعل من العمّال الذين يقاومونها بملاطفة كبيرة أشبه بمجوس يغتسلون بالنّار، وإنّما كانت الأحداث السّياسيّة في الخليج العربي توقد فيّ نارا عصيّة على المقاومة. دخول العراق إلى الكويت، وتلويح الأمريكان بالتّدخّل العسكري، واحتماء العرب بشبهة الحلول الدّيبلوماسيّة، كلّها قطع حديديّة زجّت بنفسها، دون إذن، إلى فرن ذاتي، ولا أعرف كيف ستصهر أو ما الذي ستؤول إليه، كلّ ما أحسّه أنّ رائحة النّار صارت تطبق على خياشيمي، مثلما تشعرني رائحة بقايا هذه العجلات المطّاطيّة التي اشتعلت ليلة البارحة، بأنّ سوق الحدّادين يمتدّ خارج المدينة العتيقة.

كان شفيق يتحدّث إليّ بفيض كبير مثلما تبتلع هذه السّيارة الطّريق الرّئيسي للمركّب الجامعي، ولشدّ ما اندهشت من طلاقة لسانه فقد خلته شحيحا في الكلام. كانت حركة المرور عاديّة جدّا، لا تربكها قليلا سوى نظرات الرّاكبين في السّيّارات والحافلات إلى ركام العجلات المطاطيّة على جانبي الطريق، وبقايا الحجارة التي استعملت في المناوشات مع البوليس. تلك النّظرات المستغربة أكلت ببريقها مشهد الطّريق المتألّم ولاذت باللاّمبالاة كعادتها. كان شفيق يحدّثني عن موقفه من الأوضاع ويزوّدني بآخر الأخبار.

ـ اليوم يا باشيّة إعلان الإضراب المفتوح إلى حين الإفراج عن الزّملاء.
فقلت بنبرة ساخرة:
ـ وغدا التّمديد في عمر الإضراب بسبب رفض الوجود الأمريكي في الخليج العربي.
لكنّ شفيق لا يهتمّ لمشاكساتي بل يواصل عرضه لنشرة إخباريّة مفصّلة لو حوّلت إلى ملفّات لفاقت سعة "الأكاديان".
ـ يجب أن تكوني على علم بكلّ هذه الأخبار فهي من مصادرنا الموثوقة وسوف نملأ بها أركان الكلّيّة وجدرانها. ثمّ عليك أن تقاطعي الإعلام الرّسمي والقناة الفرنسيّة الثّانية، فالفرنسيّون وضعوا أفكار عصر الأنوار في متحف اللّوفر وسارعوا إلى المناداة بـ "حرب نظيفة". إنّهم يضعون نصب أعينهم "القانون الدّولي" الذي يبرّر حربهم القادمة ويصمتون عن المصالح الاستراتيجيّة للعالم الصّناعي... اقرئي، على الأقلّ صحيفة "لوموند"... مازال بعض المثقّفين في فرنسا يكرهون "الحروب المقدّسة".

كان يتحدّث بوثوق المعاندين كأنّه يقرأ نشرة صباحيّة لإذاعة محلّيّة، سمح لها بأن تخرج قليلا عن أسلوب الإذاعة المركزيّة في التّعامل مع الأحداث، كان يبغبغ مثل مذيع متربّص في قسم الأخبار، وكنت أتلهّى عنه بتصفّح المجلاّت والجرائد الموضوعة على لوحة القيادة فأصادف في أغلب الصّفحات بخطوط تحت الجمل وتعليقات في طرّة المقالات، ونقاط استفهام وتعجّب طائشة هنا وهناك، وفقرات ملوّنة بأقلام حبريّة تعكس طريقة شفيق في قراءة هذا الكمّ الهائل من المادّة الإعلاميّة. وما شدّني في تعليقاته تكراره لفظة "هراء" في أكثر من موضع وكتابتها بالبنط العريض تعليقا على فقرة مطوّلة وردت في مقال ريتشارد نيكسون، ولا أعلم من يكون: «إذا كان علينا أن ندخل الحرب فلن تكون حربا من أجل البترول وحده، ولن تكون حربا من أجل الدّيمقراطيّة وحدها، بل ستكون حربا من أجل السّلام، لا السّلام في أيّامنا فحسب، بل السّلام لأبنائنا وأحفادنا في السّنوات القادمة... وهذا هو السّبب في أنّ انخراطنا في الخليج مشروع أخلاقي للغاية.» وبدت لي هذه الجمل خطيرة للغاية، رغم أنّي لا أعرف في الحرب والسّلام إلاّ حرب النّفس، وسلام النّفس، وأكره أن تكون لهاتين الكلمتين أثر في الجغرافيا وفي تقسيم العالم. إذ أنّي اخترت دراسة الجيولوجيا لأنّي على استعداد لدراسة تحوّلات طبقات الأرض وليس طبقات الدّول.

هذا "هراء" ما صلتي بالحرب في باطن الأرض وعليها ثمّ ماذا أصنع في هذه السّيّارة التي تتسلحف باتّجاه مركز المدينة؟ أينك يا فائزة تخلّصينني من هذه الورطة؟ كنت أتحامل على نفسي وأنا أنصت لشفيق، فأبتلع ريقي كلّما هممت بمقاطعته إلى أن ظهر سور المدينة من بعيد فسحبت لساني من جحره ودلقت سِؤالي:

ـ سوركم منيع، أحقّا كان البحر يضرب بموجه على جدرانه؟
ـ سيتكسّر العدوان على سور بغداد... المنعة لهذه الأسوار الأبيّة.
ـ أقصد سوركم يا شفيق فلماذا ترى الأشياء من كوّة واحدة؟
ـ الأسوار مرآة بعضها البعض وعلينا أن نرى صورتنا عالية في هذه المرآة.. ومن الغريب أن لولا المرآة لما بني هذا السّور.

بقيت مندهشة من طريقة تفكيره، فهو يتعاطى مع كلّ مسألة بأسلوب واحد، قد يكون انتسابه إلى عائلة الحدّادين يسمح له بأن ينظر إلى كلّ شيء باعتباره كتلة حديد تستحقّ الطّرق بنفس الطّريقة، مادامت النّتيجة واحدة فلماذا يغيّر أسلوب الصّهر؟

ـ هل كان بناة هذا السّور من السّحرة الذين أمروا المرآة السّحريّة بأن تشيّده فلبّت الطّلب؟

ألقيت سؤالي وخشيت أن تتقلّص قامة شفيق أو يقبض على المكبح فيوقف السّيّارة، ويأمرني بالنّزول، لكنّه واصل حديثه كأنّه لم يسمع حرفا ممّا قلت.

ـ لقد بنى إبراهيم بن الأغلب هذا السّور تحقيقا لتوبته، فيروى أنّه ذات ليلة كاد يشرب فيها دنّ الخمر، وكان يجالس جواريه وهنّ يظفرن له شعرة وسط رأسه، وينظمنها بالجوهر كالعادة، فيجعلنها كشعرة طاووس، فهمّ بالمرآة يحدّق فيها فطاله العجب بنفسه، فتكلّم بكلمات فسق وكفر، ولمّا أفاق من سكره وأعلِم بما ارتكبه، سارع إلى طلب التّوبة فسارع في بناء الدّيار والأسوار علّه يطفئ جمرة الكفر التي شقّقت لسانه.
ـ هذه لاشكّ خرافة تشبه خرافات جدّتي التي بدت لي حكيمة أكثر في تفسيرها لأعمال البناء فقد سألتها مرّة:
ـ لم كلّ البيوت في قريتنا لا تشتمل إلاّ على طابق أرضي؟

وكانت تجيب بطرافة لا تخلو من بصيص يقين خافت:

ـ الجميع هنا يخشى سقوط الطّابق العلوي على الطّابق السّفلي. ولكن أتعلم يا شفيق أنّ القصر الرّوماني يطلّ على سطوحنا وهو أعلى من رؤوسنا جميعا، وهو لا يخيف سوانا، فقد أشيع بأنّ نوافذه وأبوابه المطلّة على مساحة القرية مثل العيون السّحريّة التي تتربّص بالأهالي فالبنت لا تخرج من بيت أبيها خلسة إلاّ وتتفطّن إليها عيون القصر، فيعلم والدها بشكل حدسي فيعود إلى البيت ويشبعها ضربا. كما أنّ التّجّار لا يستطيعون الغشّ في الكيل ولا اللّصوص يستطيعون العبث بالدّيار في الشّوارع المحاذية للقصر. لكنّ من أغرب الأحداث أنّ القصر لا يستطيع أن يحمي نفسه. فقد نهبت حجارته، وأصبحت جزءا من جدران البيوت، وتعرّى القصر، واستسلم لصنيع النّاس كأنّه مريض بالجذام، ولا حول له ولا قوّة حين يرى بأمّ عينيه كيف تسرق حجارته يوما بعد آخر.

تنهّد شفيق والسيّارة واقفة أمام إشارة الضّوء الأحمر ثمّ قال:

ـ ليست المشكلة في سرقة الحجر، انظري إلى تلك السيّارة الفارهة التي اجتازت الإشارة الضّوئيّة، وفكّري بأحلامنا التي سرقت منذ سنوات. ألا تحلمين يا باشيّة بمثل ما نحلم؟ أتراك مثل الحدّادين الذين لا يرون في ليلهم غير الكوابيس، حتّى يخالون أنفسهم في جهنّم، ففي النّهار يصهرون الحديد في النّار، وليلا يستسلمون للنّار تعبث بهم فلا يقوون على التّخلّص منها.

ـ لا أعرف ماذا تقصد بالأحلام التي تحلمون بها دون غيركم من النّاس حتّى أنّي أظنّكم تحلمون باستعادة الأندلس، أو بدخول بيت المقدس والصّلاة فيها في السّنة المقبلة. لا أعتقد أنّ حديثي عن الحجر يجعلك مهذارا إلى هذا الحدّ. أنا، لا أحلم بهذه الأحلام الكبيرة مخافة أن أغرق في الحلم، ولا أقوى بعدها على اليقظة. ولهذا قبل أن أنام أقيس قماشة الحلم التي تناسب قامتي، ثمّ أغفو بامتلاء لأنّي واثقة من أنّ هذه القماشة هي دون رأسي، ولن تغمرني مثل موجة كاسحة. أنا أفكّر في هذه الجامعة التي دخلتها فوجدتها مفتوحة الأبواب والنّوافذ، يدور فيها الريح دورانه في ناعورة قديمة، وأحيانا لا تكون هذه الرّيح غير ضراط الأرض، فلا أقوى على احتمال رائحته، ولا أستطيع أن أتماسك... خلت أنّني جئت بحثا عن الارتواء ولكن هيهات.

ـ أنت واهمة يا باشيّة، فالجامعة فرصتك لالتهام الحياة، ولكي تحلمي دون رقابة، ودون حدّ. وما العيب في أن نحلم بدخول القدس؟

شعرت بحاجة إلى الماء، ولا أعلم أيّ عطش أصابني رغم أنّ الطّقس غير حارّ، وتسرّب إلى صدري عرق طفيف، لامس حلمتي الصّغيرة، فطلبت من شفيق أن نتوقّف عند مكان ظليل. وفجأة ركن السّيّارة وطلب منّي النّزول والدّخول إلى مقهى "الجوكندا". كان المقهى مواجها لسجن المدينة، واجهته البلّوريّة معتّمة لا تظهر من في المقهى وبابه مغلق لا ينفتح إلاّ لذوي الخبرة في التّردّد على هذا المكان. وشملني نوع من التّردّد فلم أعتد دخول المقهى، وخفت من العالم المخفيّ خلف الواجهات البلّوريّة، لكنّ يد شفيق كانت أسرع إلى فتح الباب، فوجدت نفسي في مواجهة شفيق وقارورة الماء وفنجان "الكابتشينو"، وهو يحملق فيّ بنظرات حائرة، ترسم أسئلة كثيرة كأنّه لا يصدّق ما يرى، ويشكّك في حرجي من الجلوس في المقهى. ولكنّني فعلا لم أجلس في أيّ مقهى، ولا أعرف نكهة "الكابيتشينو"، ولم أتطلّع إلى المقهى إلاّ أيّام سوق الأحد في قريتنا، حينما كنت أتجوّل مع جدّتي للتّسوّق.

وكان مقهى القرية على ناصية الطّريق الوحيد المبلّط وكراسيه تجبر المارّة على المشي في الشّارع، مكتسحة كامل الرّصيف. وأخذت أشرب الماء بلهفة دون أن أنتبه لنظرات الحرفاء. فلا حرج عليّ وأنا أشرب الماء كأنّ بي عطش منذ قرون. فالماء المعدني لا يرويني مثلما ترويني بضع قطرات ماء فسقيّتنا. ولكنّه أهون في كلّ الحالات من ماء حنفيّات هذه المدينة التي ما إن تتجرّع ماءها حتّى تعطش من جديد. وأولى أن يسمّوها مدينة العطش. ألم يسخر منّي أبي حين وجّهت إلى الجامعة قائلا: "هل صمّمت الذّهاب إلى "قرعة العطش"؟" ولم أعقل عندها معنى كلماته سوى أنّي كنت أخزّن في المرّات القليلة التي زرت فيها بيتنا عشرات اللّترات من الماء، في جوف هذا الجسد وكأنّني بيضة نعام، ولكن لا جدوى من ذلك. فجسدي معرّض لألسنة الدّخان والشّمس، وكلّ ما فيّ يتبخّر حتّى الوداعة التي نعتّ بها، كانت تغيب عن جسدي مثلما كنت شبه غائبة عن شفيق، وهو يسترسل في الحديث غير آبه بشرودي، إنّه مثل صيّاد لا يعنيه انصراف السّمك عن صنّارته، بل كلّ ما يعنيه أن يمدّد أدوات صيده ويعيد رمي خيط الصّنّار للمرّة الألف، موهما نفسه والعابرين أنّ شرف الصّيد هو في تحقيق مشهد الصّيد وليس في ملئ كيسه بأنواع السّمك المختلفة.

ـ اسمعي يا باشيّة حياتنا كلّها متاهة مثل أزقّة المدينة العتيقة ولهذا على كلّ واحد منّا أن يقبل بالضّياع لفترة، وأنت تبدين تائهة ليس لك خطّ إيديولوجي يحميك من فيضانات الحياة اليوميّة وما أنت غير مجرّد لقمة لليمينيّين الذين يجدون في أمثالك طينة جيّدة للقولبة. فما دمت لا تحلمين مثلنا فإنّك تشبهين العامّة الذين لا يؤمنون بحياة تنتفي فيها الطّبقات ويسود فيها التّوزيع العادل للثّروات فتلك حياة لا سبيل إلى الحلم بها. والغريب أنّ هؤلاء ينكرون تحقّق هذا الحلم البشري، بينما يؤمنون بشراسة، بحياة يكون فيها للرّجل طاقة ألف رجل، وله أن يختار بين الغلمان وبين الحور، أو يجمع بينهما. وله أن يغرق في أنهار من الخمر دون أن يسكر. كلّ ذلك ممكن، بل وسيتحقّق! ولكن لا أحد منهم يسلّم بإمكانيّة قيام عدالة أرضيّة بقوانين وضعيّة. من الصّائب اليوم أن يختار المرء بيته الفكري بدل أن يبقى مفترشا الحجر فيتعرّض للانجراف كلّما نزل السّيل. وأنت ما تزالين في بداية الطّريق، ومن الضّروري أن يكون لك رأي في هذه الحياة فتكونين حرّة. أنظري إليّ مثلا، فقد دخلت إلى الجامعة وأنا مشرئبّ إلى القضايا الكبرى، مثلما تمنّيت يوما أن أدير ورشة الحدادة بدلا عن أبي،وما هي إلاّ ثلاث سنوات مرّت حتّى أضحت لي مواقف واضحة من قضايا مجتمعنا وخلافات جوهريّة مع اليمينيين. واقتلعت حرّيّتي من العائلة وانضممت إلى رفاقي لنصرة الإنسان. ألم تلاحظي عدد الطّلبة الذين شاركوا في الاعتصام بالمركّب الجامعي؟ إنّ نسبة كبيرة منهم من أبناء هذه المدينة، التحقوا بطلبة المبيتات للتّعبير عن وحدة الصفّ الطّلاّبي، وعن الوقوف يدا واحدة للتّنديد بالتّواجد الأمريكي على الأرض العربيّة. ألا تعتقدين في جدوى الدّفاع عن الأرض؟ أم أنّك تدرسين طبقاتها دون التّفكير في حياة من يقف عليها وكلّه ألم وعذاب؟

كان شفيق يلقي بأسئلته في صورة مدرّس أطرش لا ينصت لغير صدى فحيحه،بينما كنت أتابع حركة لسانه وتوتّر أصابعه وهي تكاد تحترق بعقب السّيجارة. وأتلهّى أحيانا بمتابعة ذبابة ما انفكّت تحدث طنينا، ولا أدري كيف انتهت الجلسة دون أن أستمرّ في مناقشته أو صدّ أفكاره. وجدت نفسي من جديد جالسة في غرفتي لا قدرة لي على استعادة هذه الصّباحات الصّاخبة وكلّي رغبة في النّوم، فألقيت بجثّتي على السّرير، وغصت في سبات ثقيل لم أفق منه إلاّ على وقع صوت فائزة. كان وجهها إسفنجة يتوغّل الريح منها من كلّ صوب. ولا أدري لم علا محيّاها كلّ هذا الصّمت، فليس من عادتها أن تسكت كأنّها حاضرة غائبة. كنت أحدّق فيها وألعن السّياسة التي أطفأت هذه النّار وأردتها رمادا، وربّما لعنت أيضا رعشة القلب حين تصبح في سجن الحبيب. أكان على فائزة أن تربط في علاقة بحسن، فيدمي القبض عليه قلبها المتّقد؟ لماذا تحتاج المرأة إلى رجل، إذا كانت غولة مثل فائزة؟

لقد خلت أنّها تلتهم الرّجال فلا يعقل أن تذوي هذه الجمرة بمجرّد أن يبتعد عنها حسن. هل ذوى أبي حينما اقتلع الموت أمّي، وهي تطرحني على بساط الحياة؟ صحيح أنّه أصبح يصفّف قوارير الخمر، ويكدّسها مثل هضاب صغيرة، ويمكث طيلة اليوم في ورشة الفسيفساء، ويعود متأخّرا كلّ ليلة، ولا يكاد يسأل عنّي إلاّ أيّام الآحاد. ولكنّه حافظ على ابتسامته فكانت جدّتي تقول في خيلاء: "أبوك يضحك في وجه الموت". وفعلا كان أبي قويّ الرّوح، عنيدا ولا يمشي إلاّ وصدره يسبقه، ولا يهاب أحدا كما أنّه كان يعجن الضّحكة، حتّى وإن كانت مرّة، ويطعمها للسّامعين في ليالي رمضان. وإذا أنبئ بموت أحد الجيران فإنّه يتلقّى الخبر بابتسامة ماكرة. ويروى أنّه في أحد أيّام العزاء اصطفّ مع المعزّين ولمّا بلغ ابن المتوفّى قال له "العاقبة لك"، بدل أن يقول "رحم اللّه أباك". ولم يحنق الابن بل انفلتت من صدره ضحكة مدوّيّة فظنّ أنّه جنّ. وبقيت أصابع أبي ترصّف القطع الفسيفسائيّة على وتيرة واحدة طيلة سنوات، دون أن ترتبك لسبب أو لآخر. فهل كانت أمّي مجرّد نزوة عابرة، ولذلك لم تخلّف في ذاكرته حزنا طويلا أو جرحا نازفا؟

في أحد الأيّام سألته إن كان قد نسي أمّي أم أنّه يخبّئ جرحه في أدغال قلبه؟ ولا أذكر أنّه أجابني إجابة قاطعة، كلّ ما قاله: "أرأيت صورتها في غرفتك، إنّها صورة فوتوغرافيّة، ولك أن تسألي لم لم أنجز صورتها من قطع الفسيفساء؟ اسمعي يا ابنتي أمّك ما تزال حيّة. وأنا لا أريد أن أدفنها مرّتين في الحجر، إنّ كلّ ما أصنعه طيلة حياتي هو دفن حياة الرّومان في هذه الحجارة، وأحيانا كثيرة يطلب منّي أن أرصّف أسماء الأحياء والأموات في لوحات فسيفسائيّة، لتكون شاهد قبر أو يافطة بيت، ولكنّني كنت أرفض أن أسجن أحدا بين هذه الألوان الصّقيلة". إيه، لعنة اللّه على هذا الحجر. ولكن لولاه لما ترعرعت ولما درست ولما أتيت إلى هنا، ولما قادوا حسن إلى قسم البوليس بتهمة قذف أعوان الأمن بالحجارة، ولما أصبحت فائزة تلوك كلماتها قبل أن تتكلّم.

كانت فائزة تخشى على حسن من التّجنيد، ومن رميه في الصّحراء حيث الرّمل يأكل الحيّات، فما بالك بأقدام الطّلبة. وكانت الجامعة وكالة أنباء عربيّة لا تنقل الأخبار الحقيقيّة عن طبول الحرب، وكان الجميع يتعطّش لما سيحبل به الغد، هل يهجم الحلفاء؟ هل تسقط بغداد كما سقطت قديما على أيدي التّتار؟ وترامت الأسئلة وسط غوغاء سياسيّة، فانقطعت الدّراسة، وأصبحت ساحة الكلّيّة حلبة مصارعة بين اليسار واليمين، والكلّ يتراهن على النّصر. أكان من عند اللّه أم من عند الجيش العراقي. وخسرنا لأيّام طعم الدّرس الجامعي، وربحت راحتي عند ركوب الحافلة العموميّة، فقد تقلّص حضور الطّلبة ووفودهم على الكلّيّة، وأصبحت أفوز بمقعد خاص في الذّهاب والإيّاب، بعد أن كنت أدفن بالحياة بين قامات الطّلبة، ولا أجد نفسا للكلام. ففي الحافلة تعلّمت الصّمت الاضطراري، وفي الكلّيّة أجدني في زحام الطّلبة الواقفين في الاجتماعات العامّة، لا أسمع غير خطابات متقطّعة، ولا أحرّك لساني، فأنا ـ كما يقول الزّملاء الأفاضل ـ من الأغلبيّة الصّامتة.

كلّ ما حفظته خلال تلك الأيّام، الأنهج المؤدّيّة إلى مقهى "الجوكندا" وارتشاف صوت شفيق الذي يأتي متأخّرا عن الموعد بسبب التزاماته السّياسيّة. كان يدخل المقهى والعرق ينزّ من جبينه، ولا يفتأ يقول "من نار الورشة إلى نار الحياة". ويبعثر نظراته في أرجاء المقهى باحثا عن رقيب أو واش،ففي كلّ مرّة يبرق إليّ بالأنباء الجديدة. ولا ينسى بين كلّ خبر وآخر أن يكيل الشّتائم للعرب الذين قبلوا الدّخول في قوّات الائتلاف. ويلعن الشّارع العربي الصّامت وكأنّه يدينني بلطف قائلا بمزاح لاذع "إذا ما قامت الحرب فسيتحوّل السّكوت إلى "سكود" مشيرا إلى القوّة الصّاروخيّة العراقيّة. ولم أحفظ عنه فيما قال غير قول صدّام حسين: "قتل الأعناق ولا قطع الأرزاق".

وبدت الجامعة في تلك الأيّام من شهر جانفي وكأنّها قلعة في بحر من الشّقاق. وكنت أرهب الدّخول في مناقشة فائزة التي سرعان ما اصطفّت في لجنة الدّفاع عن الطّلبة المحتجزين، وأصبحت ترى العالم بعيني حسن. وبدل أن تكون مجرّد غولة صارت من الجنّ، فهي لا تعرف النّوم، ولم تعد تغيّر ملابسها أو تغتسل كعادتها في "حمّام السّلام" المجاور للحيّ الجامعي، وما عادت تبيت في الغرفة، بل اندسّت مع الزّميلات اللّواتي كنّ يكترين منزلا فخما في الحيّ المجاور. وبدأت أشعر بالملل والاضطراب، وكرهت زيارة فائزة في بيت الزّميلات، وكأنّها تقود شبكة سرّيّة في ظروف الحرب، ومللت أيضا رؤية شفيق، لأنّه لا يعرف السّكوت، فجملته لا تنتهي ولا تعرف فاصلة أو نقطة أو وقفا، كأنّه قصبة ممتدّة وفارغة يدخلها الهواء من الجانبين، فلا تحتاج إلى جهد للتّنفّس.

وسط هذا الهياج شعرت بأنّني مجرّد حجارة صغيرة، لا أستطيع أن أكون حجرة كيلومتريّة لهذه الأيّام التي تتسارع باتّجاه مجهول، وكان قرار إغلاق الجامعة بمثابة قطار سريع، أعادني إلى قريتي، دون أن يتوقّف في أيّ محطّة ولم يترك لي فرصة توديع أحد.

(3)

"دار سطيحة" من جيراننا القدامى، الحائط جنب الحائط كما يقال،وباستثناء ذلك لا تربطني بأيّ واحد منهم صلة ما عدا كلمة "صباح الخير" أو "تصبح على خير". وأغرب ما في الأمر أنّي لم أفكّر في طرق معاشهم إلاّ حين دنوت بحقيبتي الصّغيرة من باب بيتنا حيث كانوا كعادتهم، منذ أكثر من عشرين سنة، لا يحلو لهم الجلوس إلاّ على سطيحة باب منزلهم. فيتطلّعون إلى حركة المترجّلين في النّهج، ويستوقفون بعض المارّة بغية استحلابهم وإفراغ ما في جيوبهم من حكايات. صدقا سألت نفسي "كيف لم أهتمّ طيلة هذه السّنوات بأمر هذه العائلة الغريبة الأطوار" واكتشفت أنّني لم أقف عند هذا السّؤال البسيط إلاّ لكوني افترضت أن تكون عودتي هذه المرّة من المدينة على غير العادة، فأجد، مثلا، "دار سطيحة" وقد انصرفوا عن مكانهم الأزلي، أو أنّي لن أجد أمام بيتهم غير حصى صغيرة تحمد اللّه على مبارحة الأثقال التي ضيّقت أنفاسها منذ دهر، أو أن أجد بيتهم ساكنا وخاليا من الحركة، وقد غادروه إلى كوخهم في حقل الزّيتون، مخافة أن تبلغهم الصّواريخ التي قد تستعمل في الحرب القادمة. لكن يبدو أنّ "دار سطيحة" لا يتزحزحون عن مواقعهم حتّى وإن عاد الرّومان من جديد. بيد أنّني لا حظت تمدّد أعناقهم نحو الأعلى فصاروا أشبه بالغرانيق، كأنّهم يتنصّتون إلى السّماء، فقد تأتيهم بالأخبار الطّازجة.

إذن، لم يتغيّروا بل أصبحوا مثل الصّحن اللاّقط للأخبار، ذلك الذي سمعت عنه في المدينة وقيل إنّه يلتقط القنوات التّلفزيونيّة من الأقمار الصّناعيّة. والشّيء الملفت للانتباه أنّهم أدخلوا على جلستهم بعض التّحوير. فقد وضعوا المذياع على حافة الحائط، وتركوه يهذي بأعلى صوته، علّه يسوق إليهم أنباء جديدة عن الحرب. ولا أدري كيف يستقيم لهم العيش وهم يأكلون على تلك السّطيحة، ويفترشون عليها حصيرا باليا في الصّيف، ويضيفون فوقه جلد الخروف أيّام البرد. وهم لا يأبهون بحديث النّاس عنهم. كانت "نعيمة" البنت الكبرى تقول دائما "حديث النّاس ولا معاشرة الجنّ" حتّى أنّها تتباهى بأنّها أعدّت لامتحان الباكالوريا وهي تستضيء بالفانوس الكهربائي العمومي الوحيد الذي وفّرته البلديّة لنهجنا. وكان عموده، بالصّدفة، يحاذي جدار بيتها. بل جميعهم يقولون بأنّ لهذه "السّطيحة" بركة عظيمة. فقد ذبحت جميع أضاحيهم عليها. ولو حفروا ما تحتها لوجدوا بئرا من الدّم. أمّا أمّهم "للاّ فاطمة" فكانت تكنس كامل النّهج بعرجون البلح، لتحلّ البركة على الجميع. وبقي عودها واقفا صلبا رغم تقدّمها في العمر، فلم تكن تجاري بناتها في دوام البقاء على "السّطيحة" لأنّها تقوم بأشغال البيت بمفردها، وتهتمّ بابنها الوحيد "سالم" الذي يقضي أغلب الوقت في غرفته المظلمة، ولا يخرج إلى النّور إلاّ لقضاء حاجته كما كانوا يقولون. كان سالم يعمل في ورشة النّجارة حيث يقضّي اليوم كلّه بين صوت المنشار الكهربائي ورائحة النّشارة، إلى أن اختطف هذا المنشار يده فقطعها إلى المرفق. يومها نزلت على عائلته نكبة كبيرة، وزادت ضراوة حين اعتزل "سالم" النّاس وامتنع عن الأكل لأيّام حتّى ظنّ أنّه ميّت لا محالة. ولم يمضي أسبوع حتّى بدأ خبر معاشرته للجنّيّة يسري في كامل أرجاء القرية.

"بوحة" أو ما شابه كان هو اسم الجنّيّة التي يزعمون أنّ سالم يعاشرها معاشرة الأزواج، وكان أبي كثير التّندّر بهذا الاسم ويترنّم به إذا ما صادف "للاّ فاطمة" ويتعمّد السّؤال بوجه الخطإ: "كيف حال سالم اليوم مازال مخبّل في شعر بوخة؟" ولا تلتفت للاّ فاطمة إلى مشاكسة أبي، بل تكتفي بمداراة ابتسامتها ثمّ تهجوه: "الشّراب قلبلك لسانك؟" ويمرّ أبي للمرّة الألف غير مبال بهذا الموقف الاعتيادي فما الفرق بين بوحة أو بوخة، أليس كلاهما يقلب الرّأس ويقطع العقل والجسد عن النّاس؟

"دار سطيحة" لا يدخلون بيتنا، فلم ألعب مع البنات مثل أترابي، ولم أعتد الوقوف أمام البيت فالجدّة لا تخرج بدورها للحديث مع "للاّ فاطمة" تحاشيا لصلة ما بالجنّ، فوصل الجنّ أمر معد ولا حاجة للجدّة بهذه العدوى فقد حسمت في أمر الإنس منذ سنوات ولم تبد رغبتها يوما في استبدال هذه الصّلة بعالم الجنّ. لقد طالبت جدّتي مرارا تغيير البيت فمجاورة الجنّ تعدي أيضا. ونقلت أثاث غرفتها إلى الغرفة الغربيّة، رغم مساوئها فهي حارّة في الصّيف، مادامت غرفتها الشّرقيّة الأولى تطلّ على شبّاك غرفة سالم. ولكنّ أبي امتنع عن تغيير البيت لأنّ مفارقة رائحة أمّي يصيبه كما قال بالزّكام. كيف نستبدل بيتنا وهو من رائحة أمّي؟ ولكنّ جدّتي كانت تقول:

ـ المرا مدفونة في الهضبة العالية. وإذا أردتما مجاورتها، فلنغيّر البيت.
ـ ولكن لا يمكن أن ننقل معنا بقايا صوتها في أرجاء الغرف، وظلال يديها على الجدران، و "زيتونتها" هل يمكن أن نجتثّها ونغرسها في أرض أخرى؟
ـ يا ولدي، المرا ماتت، اللّه يرحمها والحيّ أبقى، أيعجبك أن يتحوّل البيت إلى سجن أو قبر؟ البيت هذا فيه ريحة والدك ومع ذلك أتمنّى تغييره.
ـ هذا البيت مثل الوشم على قلبي، لا يمكن لي أن أنزعه من جلدي، ولا من لحمي.

للمرّة الألف كنت أسمع هذا الحوار المقتضب بين جدّتي وأبي، فصارت طبلة أذني متشحّمة أكثر. وللمرّة الألف يزبد أبي بكلمات لا أفهمها وهو يخرج من باب البيت، كأنّه لن يعود إليه ثانية. وللمرّة الألف أدرك أنّ هذا البيت سكننا الأبدي، فلا حاجة إلى التّفكير في تغييره، حتّى وإن كان واطئا ومخيفا في أيّام اشتداد المطر، حيث نكاد نصاب بالفيضانات كلّما سكنت فوق سماء البيت غيمة هائجة ربوخ، لا تفرّط في المواقعة وتفيض علينا بلا رحمة.

أذكر أنّني امتنعت عن لوك أغنية شعبيّة يقول طالعها "يامطر صبّي صبّي" منذ أن دخل السّيل غرفتي وقضّيت ليلتي أفرغ الماء من الغرفة بالسّطل، فنهشني المرض لمدّة أسبوع، عرفت فيه الحرارة غزوتها الكبرى في جسدي، ولم أنج من الموت إلاّ بأعجوبة. ومن يومها أصبحت كلمة مطر تفزعني، ووضعت في قلب ساحة البيت فزّاعة لتخيف الغيوم فتنسحب من سمائنا. وما عدت أغنّي مع الأطفال لاستجلاب المطر بل أسبّح في داخلي لزوال السّحاب. ولكنّني عندما كبرت رقّت نفسي للمطر، وعشقت حبّاتها الصّغيرة فقط، وكلّما نزل الرّذاذ خرجت إلى الباحة لأبلّل شعري قليلا، وألمس القطرات بوجنتيّ، وأتمعّن في قرميد سقف البيت يحمرّ أكثر ويبرق من الضّياء، وهو يسمح لحبّات المطر بأن تعبره وتتدحرج على صدره دون أن يستبقيها لديه طويلا. هذا السّقف الذي رصّفت قراميده أيادي البنّائين القدامى فكان مائلا على طراز سقوف الفرنسيين، يستقبل بطش السّماء ونعمتها بلين ولطف.

بيتنا، كيف نغيّره وهو غنيمتنا من المعمّرين الذين أعاروا لبعض عمّال السّكك الحديديّة منازل قريبة من محطّة القطار. وكان جدّي مكلّفا بالسّهر على توجيه القطارات، وتحويل أعمدة السّكة، وإعلام المسافرين بمواعيد قدوم القطار أو خروجه من المحطّة، مستعينا بصفّارته السّوداء، وبرايته الحمراء يرفعها بيده ويصفّر في الآن نفسه، كأنّه يدير حركة المرور. إيه، أين صفّارة جدّي من صفير هذا الوقت؟

الوقت؟ مرّت أيّام على قدومي ولم أتفطّن إلى تمطّط الوقت، فحينما ننتظر شيئا يطول الوقت ويجثم على الصّدر دون حياء مندسّا في الحصّارة ولا يظهر منها إلاّ إذا نهرته للخروج بسرعة. ولهذا قرّرت الخروج بدلا عنه. تسلّلت إلى الشّارع. مرّ عون البريد يجرّ درّاجته دون أن يتوقّف، فلا رسالة من فائزة، ولا برقيّة من شفيق، و "الحرب على الأبواب" كما قال أبي. نظرت إلى نعيمة بطرفة عين فوجدتها تنكبّ على صحيفة متآكلة الجوانب. لم أفكّر طويلا في محادثتها. فما دامت الحرب على الأبواب فعليّ مفارقة هذا الباب، والبحث عن تسلية على قارعة أبواب أخرى. وما نعيمة غير منصّة دعابة متنقّلة.

ـ عمت مساء يا نعيمة. أفي الجريدة خبر جديد؟
ـ الأخبار عندك يا باشيّة. بنت الجامعة حقيبتها ملآنة بالأخبار، أمّا جرائد اليوم والأمس فكلّها طبول فارغة لا تصلح إلاّ للقرع.
ـ لا علم لي بشيء، أنا هنا منقطعة عن العالم.
ـ بل نحن جميعا كذلك. لهذا نتابع الأخبار في الراديو. يقال أنّ الأمريكان استعدّوا للهجوم، والعرب فتحوا قصور الضّيافة، ويقال أنّ باخرة عربيّة دجّجت بالعاهرات في طريقها إلى القواعد العسكريّة.
ـ لاشكّ أنّ الجنود ظمؤوا.
ـ ليس كذلك فتلك حيلة عربيّة لاستنزاف طاقة جنود الحلفاء وإصابتهم بحالة استرخاء دائمة. أفلم تقولي لي مرّة أنّ "المنيّ" يخرج من خالص الغذاء، وأنّ الإكثار من النّكاح هدم للبدن. أليست هذه أحسن طريقة لمهاجمة الأعداء.
ـ قليلا من الحياء يا نعيمة.
ـ يبدو أنّ هؤلاء العاهرات أكثر وطنيّة من عديد الحكّام العرب فهنّ يضحّين بأجسادهنّ في سبيل ردع القوّة المنويّة للأعداء.
ـ كفى مزاحا يا نعيمة، العرب يودّون إكرام الضّيف فقط. وقديما كان الإنسان يهب زوجته للزّائر الغريب، فما بالك اليوم بهؤلاء الذين نعرفهم أكثر ممّا نعرف أنفسنا، أفلا نعطيهم من نساء القطاع العامّ؟

كدنا نشهق بالضّحك، وأصبحت صورة الأوضاع في ما قبل الحرب أشبه بوضع اختلاء العريس بعروسه الكارهة له في ليلة الزّفاف. ولا أعرف لماذا استحضرت فجأة أوضاع الجماع حين بلغ ضحكنا آذان ديكة البيتين، فصارت تهرول خلف الدّجاجات الهاربة والمولولة، ولا أعرف لماذا تفرّ الدّجاجات من حمّى الدّيكة، هل هو هجر للذّة في عالم الحيوان أم نوع من الغنج الأنثوي؟ وتناهت إليّ رائحة أيّام الدّراسة الثّانويّة حين كانت نعيمة تعرّفني على أيسر الطّرق إلى المعهد الثّانوي، وكنّا نرافق بعضنا البعض على امتداد الطريق، ولا نفترق إلاّ عندما يلوح لنا البيت، ونوهم الجميع بأنّنا لا نترافق أو نتحادث فمادمنا لم نلعب معا ونحن صغارا، فكيف نتقارب وقد بزغ الزّغب تحت الإبطين. إلاّ أنّ ما كان يثير دهشة "للاّ فاطمة" هو ضحكنا المشترك، كلّما اقتربت من حمارها لتعلفه وهو مربوط بعمود الكهرباء. فقد كنّا نستذكر حكاية المرأة التي تنسلّ ليلا من فراش زوجها، لتذهب إلى الزّريبة فتضع البردعة على ظهرها، وتدهن بالرّوث فرجها فيولج الحمار فيها إيره.

لعنة اللّه علينا لم نحفظ في تلك الأيّام غير نشارة الكلمات الصّفراء في الكتب القديمة. فقد كانت نعيمة التي تكبرني سنّا وتجربة تهرّب لديّ كتبا بالية مغلّفة في كاغظ الجزّار. وكنت أحفظه في غرفتي متوهّمة أنّ الكاغظ الشّبيه بعلبة كرتونيّة يحمل أوراقا سرّيّة، قد تكون رسائل غرام نعيمة مع حفيّظ ولد النّجّار، أو أوراقا تخصّ رسم البيت وعقود بيع أو شراء. ولم أفتح الكاغظ المغلّف بخيط بلاستيكي شفيف إلاّ بعد أن داهمني شكّ فظيع. فربّما حمل الكاغظ أوراقا سحريّة تخصّ جنيّة سالم، وربّما حملت هذه الأوراق العدوى. من يدري لعلّ لـ "للاّفاطمة" نيّة التّخلّص من أهل البيت، فدسّت مع نعيمة كتْبًا يجعلني عزباء إلى الأبد، ويجعل أبي أب الخمرة بلا ريب. وجدّتي صموتة إلى حدّ غيرة الحجارة منها. ربّما يحمل الكاغظ كلّ هذه الأوراق دفعة واحدة. المهمّ أنّي فتحت الكاغظ بشهيّة كأنّي سأتملّى قطعة الكبد أو قلب الكبش، ولكنّني فوجئت بكتب صغيرة الحجم أوراقها صفراء، وأغلفتها خالية من الصّور. ومن هذه الكتيّبات التي طالعتني وخلتها تتحدّث عن الجنّة، كتاب "لرّوض العاطر" للشّيخ النّفزاوي، فقلّبت صفحاته وانتابني شعور بالغثيان وأنا أقرأ الفهرس. وذهلت من ترسانة كلماته وألفاظه حول "أدب النّكاح"، وتعجّبت من هذا الأدب الذي ظننته أكبر باب في كتاب قلّة الأدب، حسبما تربّيت ونشأت عليه. فلم أكن أعرف قبل يوم تصفّحي للرّوض شيئا عن الجماع، وعالم الرّجل والمرأة ساعة دعاء اللّذّة. بل إنّ أقصى ما كنت أعرفه أنّ الطّبيب بقر بطن أمّي كي تلدني، ولم يجد خيط الصّنّار الكافي لرتق البطن فبقيت شقوق غير مسدودة سريعا ما تسرّب إليها الهواء، فانتفخت البطن إلى أن انفلقت أمّي.

ـ تبّا لك يا نعيمة ما هذه المخدّرات التي ألقيت بها إليّ؟
ـ أيّة مخدّرات؟ هل فتحت الكاغظ؟ إنّها مهيّجات وليست مخدّرات يا غشيمة.

وقهقهت نعيمة في صبيحة ذلك اليوم الذي أعدت إليها كاغظها، بينما بقيت في ذاكرتي قصص النّفزاوي تنافس قصص "الأميرة النّائمة" و "علي بابا والأربعين حرامي" و "بحيرة البجع". وصرت أبطأ في الخروج من البيت عند ذهابي إلى المعهد كي لا ألتقي بنعيمة، فمن الأفضل أن أتحاشاها مخافة أن يغويني الأدب الذي تخصّصت فيه. وأدركت لاحقا أنّ من ينغرز في فكره شيء من هذا الأدب، فلا يستطيع الفكاك منه. ومن الغريب أنّ نعيمة قرّرت بعد نجاحها في الباكالوريا التّوجّه لدراسة شعبة علم النّفس، ولكنّ الوضع المادّيّ للعائلة حال دون ذلك. وكنت أقول في داخلي بأنّ الجامعة خسرت طاقة إبداعيّة من الدّرجة الأولى، وبدل أن تتخرّج نعيمة من قسم علم النّفس، نالت إجازتها من قسم "السّطيحة"، وتعلّمت على أيدي العابرات اللّواتي غلّفن أجسادهنّ بالملية، ودثّرن صدورهنّ بتجارب نساء القرية. لكنّ نعيمة لا تستطيب إلاّ مجالسة المطلّقات والأرامل. ولا أدري لماذا يستهويها معاشرة هذا الصّنف من النساء اللّواتي انقطع حبلهنّ مع الرّجال؟

فعلا أصبحت أجد في نعيمة تصريفا لهذا القلق الغريب. ففي اللّيل يغمرني الأرق وفي النّهار لا أشعر بالحاجة إلى تصفّح الكرّاسات العذراء. يوميّا ألتقي بنعيمة، ويوميّا ترمقني" للاّفاطمة" بشيء من الاستغراب، باحثة عن سرّ هذا الوئام بيني وبين ابنتها. كانت تتعمّد الاقتراب منّا لتتنصّت إلى حديثنا، ثمّ تلتفت صوب بيتنا فلا تجد جدّتي أمام المدخل، وهي تجهد النّفس لتناديني. وأحيانا تهمس إليّ "للاّفاطمة":

ـ هل سافرت جدّتك إلى ديار أهلها في الجنوب؟
ـ "الجدّاية" تنظّف في حوش الدّجاج. وأنا ونعيمة نتبارز على الكلام مثل الدّيكة.
ـ أمتأكّدة من وجودها في البيت؟
ـ بالطّبع. ولا داعي للاستغراب. لم أطلب منها استرخاصا للبقاء على "السطيحة". لكنّ الحرب على الأبواب والنّاس في هذا الوقت تتقارب.

وبمرحها الدّائم نبست إليّ:

ـ ليت الحرب تقوم فترضى عنّا جدّتك وتقبل بزيارتنا.
الجدّة و "للاّفاطمة" امرأتان متباينتان. فالأولى برّية الطّبع، والثّانية مهذارة وتدخل إلى البيوت، وكأنّها تفرك أحشاءها الخاصّة. الجدّة طويلة والثّانية قصيرة نسبيّا، ومتشحّمة الرّدفين، ولها رقبة طويلة. وهو لأمر غريب فعادة ما تكون المرأة ذات الرّقبة الطّويلة فارعة الطّول. وهو ما دعا الجيران إلى القول بأنّ رقبتها طالت من كثرة تنصّتها على أخبارهم. والجدّة لا تخرج من البيت إلاّ في يوم السّوق الأسبوعيّة بينما "للاّفاطمة" فلها جولات وزيارات وتحضر محاضر الخير والسّوء. ولكنّهما يتشابهان في شيء واحد. فكلتاهما ورثتا التّرمّل وفنون إخفاء خصلات الشّعر البيضاء. فقد ينفد السّكّر أو الشّاي من البيت، ويحنق أبي على جدّتي، ولكنّ الحنّاء هي الشّيء الوحيد الذي لا ينفد، وتستعمل في كلّ الفصول وخارج المناسبات، فتخضيب الشّعر بالحنّاء لا يزيل الشّيب فقط، وإنّما يربط المرأة برائحة الجنّة التي نزلت منها. ولذلك فإنّ أهمّ تاجر في السّوق الأسبوعيّة هو عمّ سعيد القابسي، الذي لم يتغيّب طيلة سنوات عن موعد السّوق، ويقال أنّ عشرته لرائحة الحنّاء أكسبته مناعة ضدّ الأمراض. زد على ذلك فهو من عائلة متديّنة ورثت غراسة نبتة الحنّاء عن الأجداد الذين يعود أصلهم إلى الجزيرة العربيّة. وكان عمّ سعيد يتفنّن في رواية سيرة حياته كلّما اصطحبتني الجدّة، ولا أدري أكان يستجدي دهشتي أم يفكّر في شيء آخر. فلطالما فتل شاربيه، ورفع حاجبيه، وهو يحبك الكلام عن مجد أجداده وعن دوره في حفظ سجلّّهم الخالد، ويرشقني بنظرات مريبة لا يزيدها غرابة إلاّ تمطّط لسانه بين جوانب شفتيه، وكأنّه يتذوّق شيئا لا يرى.

السّوق، مرتع لكلّ النّاس والدّوابّ أيضا. ولم أشعر بتزاحم هذه الكائنات إلاّ حين رافقت نعيمة و "للاّفاطمة". فالجدّة منذ عودتي من المدينة وهي مريضة. وللسّوق نكهة الفوضى المقبولة، والحمّى الجميلة التي تبعث في النّفس طراوة الالتقاء بزملاء الطّفولة. لكنّ السّوق هذه المرّة كان مكفهرّا ومزدحما كيوم الحشر. الباعة ينتصبون كزبانية جهنّم، تعلوهم الصّيحات المتتابعة فقد تحوّل نداؤهم للمشترين إلى نوع من الهياج. وتعاظم إقبال الجموع ولهفتهم على شراء ما يلزم، وما لا يلزم أيضا. وبدأت "للاّفاطمة" تعبس قائلة بهدوء غير معتاد:

ـ يا نعيمة هل من عيد على الأبواب؟
ـ بل هي الحرب حوّلت أهل القرية إلى جراد، ينهش كلّ شيء.
ـ هل ستقوم عندنا أيضا؟
ـ قد تمتدّ إلينا بالطّبع، فنحن عرب وهذه حرب شاملة.

كنت أنصت إلى حوار نعيمة و "للاّفاطمة" وأخفي ضحكاتي، إذ تحوّلت نعيمة إلى محلّلة سياسيّة وبدا الاقتناع على محيّا أمّها فشدّتني من يدي وصاحت في وجهي. ولم أتبيّن أكانت صيحتها من شدّة جزعها، أم هي إعلان عن سقوط صاروخ أو تفجير قنبلة في الشّارع المحاذي:

ـ انتبهي... كادت العربة تستعير رجلك؟
ـ ما هذا التّدافع؟ أهو نوع من الحجّ؟ ماذا يحدث للنّاس؟

كنت أخرج كلماتي بدهشة العائدة إلى أرض تركتها لسنوات، ولكنّ السّوق على غير العادة فعلا، والإقبال على السّلع بهذا الشّكل يعجّل بنهاية الدّنيا. ولا يعقل أن يبتلع النّاس كلّ هذه المشتريات في أسبوع واحد، فهذه مؤونة دهر. أيحسب النّاس أنّ الحرب إذا قامت في العراق فإنّها ممتدّة إلينا؟ أم يحسبون العراق على الخطّ الحدودي معنا؟ كلّ شيء جائز فالنّاس هنا يتحدّثون عن بغداد، وكأنّها حاضرتنا، وعن صدّام وكأنّه آخر فحل من أهل القرية. ولا أظنّ أنّ أغلب النّاس قلّبوا خريطة الأرض ما دامت هذه الخريطة لا تعرض تقسيمات الأراضي الفلاحيّة، وحدود غابة الزّيتون أو مناب أولاد العتروس في إرث أبيهم الذي خلّف لهم الحسرة ووجع لسان زوجة الأب. هذه التّقسيمات هي أساس الخريطة،ولكنّ الأرض الكرويّة لا تعني أهل القرية لأنّها لا تضبط لهم حصّتهم منها. وما يعنيهم هو الأرض المنبسطة، حتّى أنّ نعيمة كانت تتندّر:

ـ لو كانت الأرض مستديرة لتدحرج أهل الشّمال علينا. وقد أصحو في يوم فأجد روميّا مستلقيا عليّ.
نعيمة تسعى في السّوق كالزّرافة، تهبني الأوصاف كأنّها مرصد بشري.
ـ هذا خليفة ولد الطّاهر بن محرزيّة صار يبيع رزم الثّوم من على سيّارة الباشي. والنّاجحة تصحب ابنها المعتوه، يضرب بكفّه على أفخاذ النّساء فلا يتوجّعن، بل يلتفتن إليه صائحات: هو انت؟ ويواصلن إخفاء لذّتهنّ. أنظري إلى هناك... معلّم الفرنسيّة في المدرسة يجرّ نعجة بنّيّة.
ـ أين؟ أمازال يتاجر في الدّواب؟
ـ لقد فهم أنّ اللّغة الفصيحة هي لغة الدّواب.
ـ يكفي يا نعيمة. كم حفظنا عنه شعر فيكتور هيغو،حين قال بأنّ اللّه أضاع وقته أثناء الحرب في خلق النّجوم والزّهور.
ـ أنظري إلى حميدة تقبع في الرّكن المحاذي لدار العزّام تبيع البيض ودجاجاتها. لا أعرف كيف تجمع كلّ هذا البيض من دجاجاتها فكلّ هذا الكمّ لا تنتجه غير مدجنة. علّ الدّجاج خشي الحرب أيضا، ففرّخ كلّ ما كان سيفرّخه في المستقبل دفعة واحدة. للّه في خلقه شؤون.

لم تسكت نعيمة إلاّ بتكشيرة "للاّفاطمة" التي نهرتها بنظرة لاسعة. وتقدّمتنا وسط الجموع كمن يغطس في حوض سباحة مليء برغوة الصّابون. هذا السّوق يعجّ بالنّاس مثلما عجّت الحافلة بركّاب السّاعة الثّامنة صباحا من الطّلبة الذين يهرعون لحضور الحصّة الصّباحيّة، وكلّهم أنظار إلى حيطان الكلّيّة. هذه أصوات تعلو من الباعة والمشترين مثلما تنخفض أصوات الطّلبة، وهم يندسّون لقراءة آخر أخبار المجنّدين. وتلك الخيام المنصوبة على أطراف السّوق تشبه إلى حدّ بعيد تجمّعا للطّالبات المقمّطات، لكنّ الفرق أنّهنّ يتنقّلن بخيامهنّ في كلّ صوب، عارضات بضاعتهنّ على كلّ طالب. هذا السّوق يصلح لكلّ متاع، وترى وجوه الباعة القدامى من رموز الأسواق الأسبوعيّة أكثر حنكة في عرض البضائع واستمالة النّاس، مثلهم مثل رموز التّيّارات السّياسيّة في الجامعة. لكنّ شبح الحرب تَدافعَ في غبار السّوق مكوّنا غيمات لا حصر لها. ولم أجد نفسي بعد أكثر من دقائق معدودات إلاّ بعيدة عن نعيمة، وقريبة من الطّريق المؤدّي إلى البيت. فلا السّوق استطاع أن يمتصّ قلقي، ولا نعيمة أحسّت بانفلاتي من قبضتها.

لا أدري لماذا يساورني هذا السّؤال الأرعن: لماذا لم يتنبه أبي إلى نعيمة؟ فالبنت مكتملة النّضج ومليحة، والأهمّ أنّها مكسورة الجناح. لا أدري سرّ تفكيري المجنون في زيجة ثانية لأبي، هل أستطيع قبول زوجة الأب؟ وبدل أن أنصت ليليّا إلى صمت البيت، تأتي نعيمة لتسلّيني بدعابتها، وتملأ باحة البيت بالأغاني. ولكن ماذا عن جدّتي؟ أعتقد أنّ مجرّد لفظ اسم نعيمة أو الإشارة إليه، يجعلها ترشف الشّاي الأحمر بدل الأخضر، وتملأ كأسها بملاعق السّكّر وهي المريضة بالسّكر. لا.. إنّ شبح نعيمة وحده، قادر على هدم البيت على من فيه،والأفضل أن يبقى البيت واقفا حتّى وإن بقي أبي أعزل من نصفه، وبقيت جدّتي تنسج ماضيها في خلوة مستديمة، وبقيت وحيدة دون نديم مثل قوارير البيت. كدت أتدحرج حين اقتربت من جوانب محطّة القطار لولا أنّ هاتفا أيقظني، وثبّت قدميّ:

ـ هاي باشيّة.. باشيّة!

وخلت أنّ نعيمة لحقت بي، فهي مثل الأرنب البرّي، لكنّ الصّوت ليس صوتها، ودون أن ألتفت قفز إلى ذهني صوت الغولة. فعلا، إنّه صوت فائزة. نعم، فائزة. ولكن فائزة ! ماذا تفعل في ديارنا؟ وما الذي أتى بها؟ وهل أنا في هلواس بسبب الخوف من الآتي؟

(4)

أيّة ليلة تلك التي قضّيناها في انتظار ما سيحدث إثر انتهاء المهلة. كان النّوم يسترق فائزة بعد أن أفرغت ما برأسها من أفكار وتخمينات، واستلقت على الجانب المعاكس للسّرير. فمذ حلّت بيننا وهي تتقاسم معي سريري، ننام سويّة رأس وذنب، وكنت أبدو ذنبا رقيقا أمام انتفاخ ردفيها، ولم يكن السّرير واسعا، بل ازداد ضيقا. كلّ ذلك، لأنّ الغولة لا تريد أن تنام مع جدّتي في سريرها الشّاسع، ولأنّي رفضت استعارة هذا السّرير كي أنام عليه مع الغولة. أنا أكره النّوم في مضجع غير مضجعي، ويكفيني ما قاسيته في غرفة المبيت الجامعي. النّوم يحتاج إلى الوحدة. ورغم أنّ السّرير منقذ حقيقي من الضّياع في الفضاء الكوني، فإنّه لا يحتمل غير إنسيّ واحد في حالة عزوبيّتي، ولكن من الجائز أن نعتبر السّرير أشبه بسفينة نوح لا تحمل الفرادى بل المثنّى. ولكنّني وحيدة. بل إنّني لم أشعر بأنّني مفردة، إذ كنت أحاور نفسي وكأنّها شخص ثان يقيم معي في جسد واحد.

كان شخير فائزة يؤكّد لي صعوبة السّكن المشترك الذي طالما عايشته. فائزة وضربات البرد في جانفي العاصف أشبه ببطاريّة سمينة تشحنني فلا أقوى على النّوم. هناك ما يجعل المرء قاسيا مع نفسه: قبول هذه الصّداقة واحتمال استيطان جسد الآخرين لجسدك. ولكنّ تلك اللّيلة كبحت فيها نفسي طويلا، كي لا أنهر فائزة أو أرجمها بغيظي، فتذهب للنّوم في الغرفة المجاورة، أو حتّى في ساحة البيت. ذاك الشّعور العميق بالزّفير هو ما داهمني في ليلة أخرى حين قفز عليّ سامي وطوّقني بذراعيه، فلم يترك لي هنيهة للتّوسّل إليه كي يغادر تربتي، رأيته جسدا فولاذيّا، ورأيت يديّ ورجليّ مزلاجا نحاسيّا رقيقا وسمعت زفيري يعلو فيرتفع صداه إلى أمّي في قبرها. بين الزّفير والشّخير صلة قربى، ينتمي الإثنان إلى عائلة الضّجّة، ورغم أنّي بنت عائلة، كما يقال، فلقد بدأت أكره العائلة من تمطّط صمتها وثقل طمأنينتها. ولكن، ألست مطمئنّة مثل الجميع؟ ألست سكينة هذه القرية التي لا يشقّها غير صفير القطار أربع مرّات في اليوم؟

ـ لا يا باشيّتي، أنت فوران هذه النّرجيلة، أنت حبيسة هذه البطن البلّوريّة.
ـ هذه تخميناتك الفارغة، أنا مثل آلاف النّاس، اعتدت على المشي كي أعبر الطّريق بدل أن أقفز خلف الأفق، وقبلت بعينين شاخصتين متجمّدتين كحياد الأيّام.
ـ يبدو أنّك تجهلين ما في نفسك من غليان؟

طالما أنصتّ إلى سامي يزلزل هذه الأرض التي تشكو من بطء قدميّ،وطالما ثقلت عليّ اللّيالي كثقل تلك اللّيلة على أنفاسي، فلا أدري كيف مرّ الوقت دون أن أصيح في سكون الحيّ، لا يشوبه غير طرقات خفيفة للرّيح. وكيف دخل أبي البيت دون أن يحدث ضجّته العاديّة، إكراما لضيفتنا. وكيف تذكّرت أمّي للمرّة الألف وظللت أحصي خصلات شعرها علّ النّوم يفجؤني، ولكن لا النّوم طلبني إليه، ولا استطعت استكمال العدّ. فكّرت حينها في الخروج إلى الباحة بل في الخروج إلى الشارع أصلا، إن لم يداهمني هذا النّوم. هدّدته بالبقاء على سطيحة نعيمة، بل والاستنجاد بها إن لزم الأمر. هدّدته بالصّعود على سطح البيت مجدّدا لأشكوه إلى اللّه، فلا يعقل أن ينيم اللّيل كلّ النّاس، وأبقى مستيقظة الحواسّ. فكّرت أخيرا أن أذهب لمعاينة الدّجاج. لكنّ دجاجات جدّتي غارقة في النّوم أيضا.

تضاعف حنقي. مررت من كوم القوارير مرّات ونسيت أنّ البرد يرجّني، وأنّي لم أدخل جسدي في برنس أبي. كنت أتكوّم على نفسي في قميص النّوم البرتقالي، وكنت أتحسّس العرق يتسلّل إلى جيدي، ووخزا للبرد بين قدميّ، فغمرتني رغبة التّبوّل. وبدل أن أسرع إلى المرحاض دحرجت تنّورتي، فتقاطر البول على القوارير محدثا إيقاعا لطيفا هدهدني وخدّر أعصابي، وظننت أنّ النوم آت، لكنّ صوتا أفزعني بنحيبه. أعاد يقظة حواسّي من جديد. كان صوت المؤذّن يزلزل اللّيل، ذلك المؤذّن الذي ترهّلت حنجرته وتبعثرت حبال صوته من شدّة صياحه في السّوق، فكان آذانه تعذيبا خالصا للنّاس. هرعت إلى البيت من جديد وقبلت بالأرق رفيقا بدلا عن حشرجات المؤذّن فاصطدمت رجلي بشيء سميك كدت أسقطه، فدنوت إليه بيدي ورفعته فإذا هي قارورة شبه فارغة. واندهشت كيف لأبي أن يترك ثمالته من غير أن يسكبها في جوف جسده؟ تأمّلت حمرتها تحت الضّوء الخافت، فأشعّت لهبا. تسمّرت للحظة طويلة في مكاني أسائلها عن اضطرامها، وهي في قيد الزّجاج مثل اضطرامي في قيد طباعي وسلوكي. ووجدتني أقرّب شفتيها من أرنبة أنفي وأتشمّم رائحتها فتكاد تخنقني، إلى أن تسلّلت الرّائحة إلى أوصالي. فقبضت على عنق الزّجاجة وأرقت قطرات منها على شفتي، فتدحرجت إلى حلقي دفعة واحدة. لأوّل مرّة أشرب هذه الملعونة، ولكنّني شعرت عندها برغبة عاصفة في التمدّد على السّرير فدخلت غرفتي وجلست على حافة السّرير لأستسلم لغفوة طويلة وثقيلة لم أفق منها إلاّ ويد أبي تحرّكني.

ـ لقد قصفوا بغداد.. دمّروها تدميرا.

دلق أبي كلماته على رأسينا، أنا وفائزة التي أفاقت مذعورة كالفأرة السّمينة، وأخذ يروي لنا هول أخبار بداية الحرب، وحديث الإذاعة والتّلفزيون أيضا عن حجم الدّمار، ودخول بغداد في غيمة نيران الأعداء والأصدقاء. ولاح وجه أبي لأوّل مرّة مثل وجه أبي الهول، كمارد استيقظ من نوم طويل، وبدت حبّات عرق تنزّ على خدّه، تسترسل في السّيلان. ولم أنتبه للوهلة الأولى أنّ عينيه اختطّتا مجريين لدموع غريبة، كانت لا تغادر العين الواحدة إلاّ بصعوبة كبيرة مثل عربة قطار لا يرغب في مغادرة المحطّة الرّئيسيّة. وتداخلت كلمات أبي بتداخل ملامحه دون أن ننبس بكلمة واحدة. كنّا ننصت إليه كجدار أصمّ. الحرب وأمّي خنجران في قلب أبي، فلم أره ضعيفا وقويّا بمثل هذا التّضارب إلاّ في لحظات تذكّر أمّي. لم أره مجروحا ومنشطرا إلى نصف واحد كهلال. ربّما انشطر قبل ذلك حين كان يتوجّع لقهر الموت وأكله للحم أمّي. لولا الحرب لما دخل أبي فجأة إلى مخدعي، لقد أمضى سنوات دون أن يجلس إليّ ويحادثني في غرفتي ومع ذلك لم أتفطّن إلى هذا الأمر إلاّ حين شعرت بحرجه الطّفيف فجأة. هل شعر أبي فعلا بأنّه مقصّر تجاهي، وبأنّي في بيته غريبة؟ هل رأى في لباس نومي رائحة الحميميّة الغائبة؟ لكنّه كان يثبّت عينيه في وجهي كمن يهرب من لدغة حيّة، قلت ذلك لنفسي الكسيرة دون أن أنتبه لوجود فائزة، لذلك الوجود الكاسح، فأبي تفطّن لوجود الغولة، بعدما تقيّأ حنقا على العرب، وهي في لباسها القصير الشفّاف. ولم يدر بخلده أنّ امرءا يرتدي مثل هذا اللّباس في فصل الشّتاء، فالغولة ادّعت بأنّ جسدها حارّ صيفا وشتاء، وأنّها من نسل حوّاء أخرى لم تخلق من ضلع آدم الأعوج، بل من ضلع إبليس المستقيم الذي بقي واقفا دون أن يسجد.

ومرّت ساعات ثقيلة في ذلك اليوم الأغبر على العرب وعليّ، وأصوات الغوغاء في كلّ مكان. وبقينا جميعا في البيت لا نكاد نغادره إلاّ لإرضاء فضولنا بالاطّلاع على ما يحدث في الشّارع، فالمظاهرات الصّاخبة انتشرت كالحمّى في مسالك القرية. وتسمّرنا فعلا أمام التّلفزيون، مرّة نشاهد القناة الوطنيّة، ومرّة نقفز إلى جديد القناة الفرنسيّة الثّانية، وبقينا مشدوهين من وطأة الأخبار مصدّقين لها تارة ومكذّبين تارة أخرى، تتقاذفنا الحقائق والأباطيل. جدّتي تزبد كفقاقيع الشّاي، وأبي يحرّك يديه ولسانه في اتّجاه فائزة، يحلّل الأوضاع، يركّب الخبر تلو الخبر، يجمع الحجارة الملوّنة من جديد، يتعلّم تلمّس حجر لا أحد يلمسه باليد، يتدرّب على تكوين لوحة فسيفساء الحقيقة أو الأكذوبة، سيّان، المهمّ هو التدرّب في حدّ ذاته، اللّعبة ذاتها واستعراض مهارة اللّعب أمامنا، بل أمام الغولة بالتّحديد. فقد تحوّلت الساعات إلى أيّام دون أن يتغيّر شيء، أبي يربض في البيت، مرّ يوم الأحد دون أن يذهب إلى قبر أمّي. قالت له الجدّة: "هذه سابقة.. الواجب تطلّ على القبر." وتعلّل أبي بالحرب، الحرب جمّدت قدميه وقلبه أيضا. وحلمتُ مرّة بأنّ أمّي منزعجة وحكيت للجدّة تفاصيل الحلم، ظهرت لي أمّي من شجرة الزّيتون، وخلتها في البدء الجنّيّة "بوحة"، نادتني: "يا باشية عليك نلوم، تجيب زرّاعة الشّوم"؟ لم تظهر أمّي بلباس أبيض، كانت مخبّلة في شعرها، بقيت تناديني وتكرّر "الشّوم"، "الشّوم" مرّات إلى حين عادت تحت تربة الزّيتونة، وسمعت صوتا للقوارير المتكوّمة على التّربة قرب الشّجرة يضرب بعضها بعضا، فأفقت مذعورة، وأنّبت نفسي لأنّي تبوّلت مرّة على القوارير، وظننت أنّي بلت على أمّي، فارتجفت واعتقدت أنّ فعلتي هي "الشّوم".

جدّتي لم تفسّر لي هذا الحلم، قالت "ذاك الوسواس الخنّاس، أمّك رقدت من زمان هانئة في قبرها"، وكرّرت لجدّتي بأنّني رأيتها طالعة من الشّجرة وأنّ القوارير تحرّكت فمالت عليّ قائلة:

ـ "اذهبي إلى أبيك وقصّي عليه ما رأيت".

لكنّني لم أجد رغبة لمحادثته في الأمر، فقد خلت أنّ ذلك نوع من التّأنيب له. وظللت لأيّام أدخل المرحاض فأشعر بعسر التّبوّل خشية أن ينزل "الشّوم" وما رويت لفائزة ما حدث لي. ربّما لأنّني كرهت أن أُطلع الغولة على شيء يخصّني، وربّما لأنّني لم أجد منها اهتماما وقد طالني الشّرود، بينما كانت تُكثر من محادثة أبي وتغنج بين الحين والآخر وتكاد تأكله أحيانا بعينيها المتسمّرتين الهائجتين. كم كنت ساذجة بل غبيّة حين اعتقدت أنّ في جوفي "زرّاعة الشّوم" بينما كانت أغصان هذه الزّراعة، تنتشر أمامي، تتسلّق أرجاء البيت وتقبض على روح أبي فتسلسله بضحكاتها الرّعناء وتكنس ماضيه وجراحه وكلّ ذكرياته بردفيها المستوطنين سجّاد البيت.

خرجت لمرّات وحيدة إلى السّطيحة، في تلك الأيّام غادر "دار سطيحة" مكانهم المفضّل، ولبثوا بدورهم في الدّاخل. ناديت على نعيمة فلم تسمع إلاّ بعد دقائق وقلت في شبه تأنيب ودهشة:

ـ ما خطبكم؟ تركتم السّطيحة على غير العادة؟
ـ يا باشيّة، الحرب نذير شؤم. فمنذ أيّام وسالم مريض، يقول بأنّ الجنّيّة تركته، خيّرته بين أن تنجب منه، وبين أن ترحل إلى الأبد، وقال سالم بأنّه يكره الأطفال، فما بالك بخلف من زيجة لا إنسيّة ولا جنّيّة؟ أغرب ما في الأمر أنّ أخي استعاد عقله برفض اقتراح الجنّيّة، ولكنّ صحّته اعتلّت، فأصبح يبصق سائلا أخضر أشبه بالمخاط.

نظرت إلى نعيمة بعتاب مرير وقلت لها:

ـ حمدا للّه على شفائه من الجنّيّة، ولكن أيمرض أخوك فتنسينني. خلت أنّكم منهمكون في الفرجة على أطوار الحرب.
ـ دعنا من الحرب، كيف حال صديقتك لم أرها منذ أيّام. أهي في البيت نائمة؟

سكتّ قليلا ثمّ دنوت من نعيمة وكأنّني أردت أن أهمس إليها بما رأيت في الحلم، ولكنّني تردّدت وامتنعت في آخر لحظة. لماذا أسرد عليها غبش أحلامي؟ ستأمرني أن أهتمّ باليقظة أكثر، فهي لا تقدّر الأحلام، قالت لي مرّة بأنّها رأت في نومها لصّا يدخل بيتهم ويداهمها في غرفتها فصاحت به: ماذا جئت تسرق؟ أهذا ما تريد، ورفعت فستانها فلمحت تقطيبة وجهه، فاندفعت صوبه وهي تولول: سأتولّى سرقتك هذه اللّيلة، لنر من يسرق صاحبه.

ـ فائزة تقرأ لأبي رواية

كنت ألوك حروفي ببطئ شديد، وأنا أفكّر فعلا فيما تفعله فائزة، ولماذا خرجت مسرعة باحثة عن نعيمة؟ هل تناسيت وجود فائزة تماما؟ من الصّائب أن أبقى في البيت معها، لماذا لا نخرج سويّا وتتعرّف إلى نعيمة؟ أمطرت نفسي بالأسئلة، وهرعت إلى الداخل كمن مسّه نداء دون أن ألتفت إلى صوت نعيمة. كان ذلك آخر عهدي بفحيحها.

رأيت فائزة مستلقية على "الكليم" بينما تمدّد أبي على دكّة جدّي القديمة، وسمعت الغولة تقصّ عليه فصلا من فصول علاقتها بحسن، هل تبقى وفيّة له وهو في الصّحراء مع المجنّدين. وهل يخلّف البعد نسيان الحبيب. لقد قالت بأنّها تعشق رمال الصّحراء، ولكنّها تخشى الغرق فيها. تحلم بقدمي حسن، تبوس ظلال أطراف أصابعه. حتّى يده التي اخشوشنت بفعل العمل اليومي، ستضعها في الحرير. والبدلة العسكريّة ستقبل بها مهرا. ستنقطع عن التّعليم إن لزم الأمر لتخدمه. ستطبخ له أكثر من ثلاث وجبات في اليوم، لتعويض ما رآه في الجيش. ستغسل له ملابسه بيديها، دون أن تستعمل آلة الغسيل حتّى تتمرّغ أناملها في رائحة عرقه. ستنظّف البيت. وتضع مجمرة البخور في مدخل الباب. ستنجب له كتيبة من الأطفال رغم كرهها للإنجاب. "هات المهمّ يرجع". بقي أبي ينصت إليها، وابتسامته تنفرط بين الحين والآخر من شفتيه، وفائزة تتكلّم وأنفاسها تتسارع دون أن تنتبه لقدومي، أو حتّى لتغيّر ملامح أبي، سيطرت عليها رغبة البوح وامتلاك المكان.

قالت فائزة غير آبهة بدخول جدّتي وهي تحمل طبق الشّاي:

ـ الحياة دون حبيب أشبه بالعين التي تنزف حتّى ينغلق فيها العالم إلى الأبد. وعيني بها غبش. ها أنا اليوم حرّة خارج الثّكنة الصّحراويّة ولكن ما طعم هذه الحرّيّة. أمضغها كالعلكة. فيسجن فمي في حركة طوعية. ما طعم الحرّية وأنا سجينة أفكاري وعواطفي؟

أبي لا يتدخّل، لا يقاطع فائزة، ينصت إليها وباله في مكان غير معلوم، نظرت إليه للمرّة الأولى، بقيت محدّقة فيه، علّه يقاطعها. أقصد أنّه كان يقاطعني عندما كنت أتحدّث إليه، كان يقاطع أمّه، وعلى امتداد السّنوات لاذت بالصمت، وبقيت تقول لي "قلّة الكلام ميزان ذهب"، ولذت بدوري بمملكة الصّمت، هكذا جمّلت لنفسي الطّريق إلى النّفس، وعبّدت حريّة الحديث إلى ذاتي، ثمّة كائنات كثيرة تسترسل في الحوار إلى ذاتها دون أن يقاطعها أحد على النّماء، قد أُشبه تلك النّملة تحمل حصاتها بحرّيّة، تلقيها حيثما تريد ثمّ تقبل بأن تمرّ قدم جبّارة فتدوس بيتها. عندما كنت وحدي تعلمت من النّمل أكثر ممّا تعلّمت من أبي أنّ الحياة حصاة كبيرة تحمل على الظّهر بصمت.

فائزة تسترسل في الذّكريات. تروي لأبي حبّها الطّفولي الأوّل، والأخير لذلك الرّجل الذي يكبرها سنّا وتجربة.

ـ كان أشبه بعمود الكهرباء، يا سي الطّاهر، وأنا كنت بنتا في العشرين، أبحث عن جسد أعلى من جنوني، كان يقول لي "بنُّوتّي" فأتقلّص وأنزّ عرقا حتّى أغرق فيه. هل تعرف. الجبال التي غسلت عينيّ في موطني لم تجعلني يوما أشعر بضآلتي بينما استطاع صوته أن يختزل جسدي ويحوّلني إلى طفلة ناعمة.

أبي، طبعا يعرف، وكيف لا يعرف يا فائزة معنى اختزال الأشياء أمام القلب وهو الذي يحنو على قطع الفسيفساء الصّغيرة فيختزل صورة الطّبيعة أو الحيوانات بيديه. إيه ما ألذّ أن يختزل الإنسان الأشياء من حوله. كنت أفكّر بأن أحمل شجرة البيت الفارعة إلى غرفتي بالمدينة، أطويها بين جناحيّ، بل كنت أتمنّى أنّي حملت غرفتي بأسرها إلى المبيت الجامعي، وللأسف الشّديد لم أحمل غير صوري الذهنيّة عن أشيائي، ولكن الرّائحة، رائحة جذع الشّجرة المجعّد، ورائحة أركان الغرفة، إنارتها الخافتة، شبّاكي الصّغير، حدوده المطلّة على العالم، حمدا للّه كلّ ذلك حملته معي. أيّ معنى للاختزال؟

هناك أشياء لا يجب أن تختزل، ومع ذلك تختزل بسهولة مثل هذه الحرب، إنّها تئنّ في المسافات الطّويلة كالرّتل الذي شيّعني، بعرباته المتأفّفة من ركّابها، مثل جميع الهتافات التي ناوشت أذنيّ على امتداد تلك الأيّام، مثل جميع الأحداث التي تحوّلت على أعمدة الصّحف إلى عناوين بالبنط العريض أي إلى اختزال، وطالما كنت أتنصّت إلى كلّ شيء باختزال شديد، وأضرب الاختزال في الاختزال، فيتضاعف ويتلوّى تلوّي القطار، كنت أسمع أزيز عجلاته على سكّة الفرنسيّين، وأتذكّر وجه فائزة، أعتقد أنّها ما تزال تهذي إلى أبي بعد أن تركتها في البيت، كما لو أنّي تركت دميتي، ولكنّ دميتي من طين وفائزة "لحمة، حيّة".

(5)

هذا الجسد ممدّد، هذا نعش أم سرير؟ هل أنا في بيت الدّود، في بيت الوحشة؟ ورأسي ما باله منفصلا عن الجثّة؟ هل يفحص سؤالا طرحه الملكان؟ هل وحدي في هذا الظّلام الطّويل أتخطّى مرحلة الخوف والقلق؟ وهذه الضّجّة التي تتعالى في منطقة الجبهة من رأسي، هل هي السّكينة إذا ما بلغت أقصاها انقلبت ماكرة إلى صخب طاحن لكلّ من في الأرض؟ ولكن هذا صوت اصطكاك حديد بحدي،د واهتزاز نشيج بنشيج، والجثّة الآن ترتجّ، تهتزّ، وشيء فوق كتفيّ يميل إلى اليمين، لا أدري إلى اليسار، هذا ممكن إلى الجهتين، في رقصة أم في دوار؟

ـ رفقا لا تخافي، هل هذه أوّل مرّة تركبين القطار؟
من هذا الصّوت؟ يأتي من أين؟
ـ أنت طالبة، لاشكّ، هل فتحت الجامعات أبوابها؟ تابعت الحرب؟ سمعتِ كيف انتصرنا في النّاصريّة؟ أخيرا تعودون إلى الدّراسة أليس كذلك؟ هناك شائعات تقول أنّ السّنة ستكون بيضاء.
لكنّ العالم أسود. كيف تكون السّنة بيضاء؟ هل نستسلم في الأخير للنّوم؟
ـ تشربين شايا أم قهوة، تريدين بسكوتا؟

مرّت عربة بيع المعلّبات الغذائية والشطائر والمنبّهات بتؤدة، ومرّت تلك الرّحلة بتثاقل أيضا، كان القطار القادم من تونس العاصمة فارغا على غير عادته، والسّاعة التي كان يقضيها بين قريتي والمدينة الجنوبيّة طال عمرها، وكان سامي مفاجأة ذلك القطار، يرجمني بحديثه، يخترقني بثرثرته، يلغو بلكنات عجيبة وبعربية فصيحة، خلته أوّل الأمر مشرقيّا، فهنا لا نتكلّم بهذه الطّريقة، نمزّق اللّغة ونمزجها مع الفرنسيّة والمالطيّة والإيطاليّة واليونانيّة، لساننا متعدّد الجنسيّات، فيه خرائب اللّغات، محاسنها ومثالبها، ولنا توابلنا الخاصّة، لذلك نهرشها هرشا لكي تكون لغة لا تتعدّانا، من يقدر أن يتعدّانا، نتعدّاه أي نتجاوزه، لدينا قدرة على الصّدام في اللّغة ولكنّ الرّفق في طيّاتنا نتأبّطه، مفارقة عجيبة، إذا مررتَ من شارع، من زقاق تشتمّ روائح السّباب كالبول على الحيطان، والكلمات النّابية نبال في وجه الإخوة والأعداء على السّواء، ذلك لساننا: يد مهراس تدعك الفلفل الأكحل في جوف اللّيل. لساننا غير لسان كريم، هناك ألفاظ قرعت طبلة أذني بدفء، ثبّتت وتد خيمة قبيلة منقرضة واستمرّت في رفع الخيمة.

تملّكني الخوف بل الرّهبة من صوته، يقيّد وجهي، كأنّ كلماته تتأرجح مع تلويحة يديه في الفضاء، لم يكن يتكلّم إلاّ ويداه تغزلان فراغ الفضاء، تعتقلان ما لا يُرى ووجهي. أحسست بأنّه يضعني في لوحته، ربّما كان يرسمني أو يحاول امتلاك حركاتي، علّه كان يشكّلني فيمشّط شعري على الطّريقة التي يهواها، وحين أبتسم قليلا فاتحة له بوّابة العبور إلى حزني، كان يفكّكني ليخطّني من جديد. حدّثني عن الطّريق إلى المدينة بالسّيارة، القطار كما قال دودة لا يهمّها غير رأسها إذا ما انقضّت الأقدار على الذّنَب، أمّا السّيّارة فهي الرّأس المدبّر المكتفي بذاته. تعرفين، إنّني أقود بجنون، ألتهم الطّريق السّريعة، وإذا ما بلغت الطّريق العادي فإنّني أزداد نهما بدل أن أقلّص السّرعة، والغريب أنّني لا آكل كثيرا بسبب التّدخين، وأحيانا كثيرة لا أجد مبرّرا قويّا للأكل، أمّا في الطّريق فقيادة السيّارة ملعقتي والطريق وجبتي المفضّلة، ولا يحدث أن أتقزّز إلاّ إذا ما صادفني كلب شارد يجعلني أدوس على المكبح قليلا، أنت لا تعرفين الكلاب، الكلاب ماكرون، إنّهم عكس ما يشاع، لا يخلصون إلاّ لسلالتهم، وسيبقون أعداءنا إلى الأبد، المهمّ أنّ الطّريق له بريق لمّاع، هو ليس السّراب، إنّه شيء آخر كنت أراه حتّى في اللّيل، كنت أحسّ بأنّه رداء عزرائيل يتثنّى متّقدا في كلّ ردهة، هل كنت ألمح الموت؟ لا أدري، خيّل إليّ مرّات عديدة أنّني أدخل جوف اللّيل بالسيّارة ومع ذلك لم يكن باستطاعتي قطف نجمة واحدة.

تراءى لي حديثه إسفنجة مملوءة ماء، كلّما نظرت إليه كان ينزّ كلاما، ولكنّني لم أتحدّث إليه طويلا. لا يوجد ركّاب كثيرون في العربة، ولا يتسلّل علينا إلاّ من كان يعبر بين المقاعد ليذهب إلى مرحاض القطار، أو يدلف إلى خارج العربة ليدخّن سيجارة. ولكن، لماذا اخترت الجلوس إلى جواره والمقاعد شاغرة؟ وهل اخترت فعلا؟ ألم يكن هناك شيء خفيّ جذبني إليه، أم لأنّه كان على غير عادة الركّاب منغمسا في قراءة كتاب؟

الاهتداء إلى إجابة لم يكن ضروريّا ولم يخامرني إلاّ الآن. حينما كانت العربة تهتزّ، بدا لي أنّ الأرض أكثر دورانا ممّا يقال، وحين كان سامي يغمرني بالكلام كانت الدّنيا تهتزّ في رأسي، شعرت به أوّل الأمر لصّا يدلف إلى مخدعي، يتحسّس الطّريق إلى سريري ليسرق شيئا آخر غير ملابسي، لا أعرف سبب هذا الشّعور، هل كنت بحاجة إلى يدٍ تنتزعني من مخبئي الوجودي لتقذفني إلى مغارة اللّصوص؟ هل يجدر بي أن أستسلم لأكون متاعا يُسرق ويُحمل؟ لم أجرّب لعبة بهذا الشّكل. خرجت من بيت أبي تاركة الغولة وجدّتي وبكاء الملايين على حرب خاسرة، قاصدة المبيت الجامعي دون أيّ رغبة في العودة إليه، كنت أستشعر افتقاري لمذاق الأشياء والأمكنة، فلا البيت شدّني إليه ولا المبيت يجذبني، كنت ألتقط أنفاسي وأنا أفكّر في الذهاب إلى مكان معزول بعيد عن النّاس، ليس فيه مجال للكلام ولا للصّخب، هل يمكن أن أعثر على منطقة صامتة؟

مازال كلام سامي يعصف بأذني: "السّفر نعمة، لهذا أقضّي أغلب الوقت في السّفر، ولهذا السّبب أُجلّ مهنتي. جرّبت سياقة كلّ أنواع السّيّارات، إلاّ أنّي أفضّل الشّاحنات لأنّها تسمح لي بالسّفر ليلا، فليس أفضل من السّفر اللّيلي، وأنا كائن ليلي بامتياز. في اللّيل لا أحتاج إلى أنيس، وحده دخان السّيجارة رفيقي في الطّرقات، قيادة الشّاحنات الكبيرة تعني الحرّيّة الثّقيلة، هناك أصناف من الحريّات، حين تقودين سيّارة صغيرة ترهبين من الطّريق، يكفي أن تنفلق عجلة واحدة حتّى تندلق حرّيّتك في الهاوية، بينما الشّاحنة تعطيك ثقة أكبر بالحياة، الثّقة هي الحرّيّة، لا معنى للحرّيّة دون اطمئنان، الشّاحنة تشحنك بالثّقة، تمتلكين الطّريق، والمقود الكبير يجعلك تفكّرين بأنّك مسؤولة عن حياة دائرتها أوسع من حياة النّاس، أمّا السّفر في القطار فهو سلب للحرّيّة، ألا ترين أنّي أهذي، أكاد أصيح كمن يندب حرّيّته المفتقدة؟"

بقيت أنصت إلى كريم، وفي كلّ جملة يطالعني صوت أبي: "يا باشية، النّاس ألوان، احذري من أن يبقّعك أحد بلونه" هل كان أبي يقصد تنبيهي من التّورّط في حياة النّاس أم من التّأثّر بهم؟ ولكنّي أمضيت طفولتي في تفرّس ألوان الفسيفساء دون أن أتورّط يوما في لون منها، ألهذا كان أبي يفضّل توضيب مكعّبات الفسيفساء، على أن يبلّل يديه بالألوان؟ أليست ألوان الفسيفساء معتقلة في هذه المكعّبات؟ ألهذا كنت أنظر إلى النّاس وكأنّهم مكعّبات فسيفسائيّة جامدة ألوانها، ولا داعي للتّفكير في إمكانيّة مداهمة ألوانها لحياتي؟ تبّا، كم كنت ساذجة حين أنصتّ إلى كلام أبي، فقد كنت عمياء أتضوّر جوعا إلى الألوان، أتفحّص فيها، ولا أتحسّسها بلساني، وها أنّي أشعر بطعم آخر للألوان، فكلّما تحدّث سامي بلّل قيدي بحنوّ غريب، حدست أنّ الألوان هذه المرّة تخرج من زنزانة المكعّب، لتسيل على كتفي وتغمر انفراجة أصابعي. وجدت نفسي في ذلك اليوم في غرفة بيته بدل أن أكون في غرفتي بالمبيت الجامعي، سألته في الطّريق: "هل ستستقبلني زوجتك؟ والأولاد؟" ذكر لي وهو يطوي الطّريق بقدمين ثابتتين: "الأولاد زينة ولا حاجة لي بها، أمّا زوجتي فقد ركنتها في بيت أمّها منذ سنين، كانت تحبّ تقليم الأظافر ليلا على سرير غرفة النّوم، وكنت أتشاءم من أظافرها، أرى الكوابيس في منامي، أرى الأظافر أغصانا هوجاء لشجرة عجوز بعيني بومة، بعد سنة واحدة من الزّواج تجمّعت هذه الأظافر، صارت أشبه بمنجل قطع شيئا بوسط جسدي، وما عدت أقوى على ركوبها، أمعنت أكثر في ركوب السيارات، عوّضت جسدها القاتل برائحة البنزين، وعوّضت لذّة القذف بدوسي على المكبح في منتهى كلّ طريق."

كيف أمشي إلى جانبه وهو يحملني إلى بيت لا يسكنه غيره؟ ما سرّ هذه الجاذبيّة التي جعلتني أنقاد إلى وجهته؟ سالت في رعشتي قطرات شوق إلى المجهول، وغمرتني قوّة على الانتباه لم أشهدها طيلة حياتي، ورأيت النّسيان ظلاّ يفارق ذاكرتي لمّا أدار مفتاحه الأبيض في ثقب الباب. كان البيت وديعا في بناية حديثة الطّراز، بقيت متسمّرة في غرفة الجلوس، كلّ ما فيها يتدافع باتّجاه الفوضى: ألواح مرميّة على الأرضيّة، على الأريكة تتراصف الكتب والمجلاّت، خزانة مفتوحة، لها باب ومفتاح يتأرجح من القفل، منحوتة خشبيّة صغيرة الحجم تجسّد رأسا، الإضاءة خافتة وشرفة تتراءى من خلف ستارة بنيّة شفّافة، غرقت ليلتها في الوحدة، قال لي: "سأعود متأخّرا هناك أكل في الثّلاجة، ويمكنكِ فتح المذياع أو المسجّل، تجدين الشّرائط تحت الفراش، فلا تلفاز لديّ، وحين تنوين النّوم ادخلي الغرفة الشّرقيّة، هناك سرير عزوبيّتي، وملاءات كافية". ليلتها لم آكل شيئا، دلفت إلى الغرفة، وسوّيت السّرير ثمّ غرقت في النّوم.

في صباح اليوم الأوّل وجدته مستيقظا يعدّ لي كوبا من العصير، بدا البيت ساكنا باستثناء صوت محرّك سيّارة كان يتعالى من خارج البناية، وقفت إلى جانبه كأنّني زوجته أو ما شابه، لا أدرك أيّ إحساس انفرط منّي، أنا اللاّجئة الغريبة. استمرّ يعدّ قهوته ويدندن بأهزوجة لا أعرف لها أصلا، تذكّرت يومها أنّ صلتي بالغناء باهتة. ولم يمرّ ذلك اليوم حتّى فاجأني بحركاته وطقوس حياته. سمّرني بهدوء قبالته أمام مسند لوحته، تطلّعت إلى عينيه تزيغان في أرجاء الغرفة، قال لي بلهجة صارمة، "سأرسمك الآن، في جسدي رعشات غريبة وجريحة لا يمكن أن يضمّدها غير الرّسم"، سكتّ قليلا، كيف يعقل أن أصدّه عن ذلك وأنا ضيفته، ولكن بشعور معتقلة في زنزانة صغيرة قلت له: "لا أريد أن تعتقلني في قماشتك أو تلوّن وجهي أصباغك" لم يجب، بل استمرّ في البحث عن شيء ما، أبي لم يكن يحبّذ رسم النّاس في فسيفسائه، والنّاس يقولون بأنّ الرّسم حرام، وأنا لا أريد أن أرتكب الحرام. بقيت ذلك اليوم أمانع بالكلمات، بينما حزم سامي لسانه في صندوق الصّمت، وراح يضغط على أصباغه، يريقها على ملونته، ويدسّ فيها فرشاته، يرفعها إلى السّماء، ويحدّق فيها ثمّ يغرزها في القماشة بضربات لا تُسمع وأنا موصدة، لا أتحرّك، لا أبرح ذلك المقعد الخشبي القديم. في الأيّام الأولى تردّدت على الكلّية دون أن أحضر درسا واحدا، خبرت طاولات المشربة، كأنّ حياة طالبيّة دون الغولة متعذّرة، فالجدران شاحبة، مذاق الكابتشينو يلسع اللّسان، مرارتها مكلومة، والزّملاء يهيمون أو هكذا كنت أراهم، أشجار السّاحة كئيبة، هناك أصوات تنبعث من المدرّجات، يرسلها المصدح، أصوات الأساتذة ينهمكون في الإملاء، ما كان لي أن أواصل هذه الدّروس، ولكن عليّ أن أحضر إلى الكلّية في أوقات الجدول الدّراسي، كأنّني مجبرة على زيارة المساجين، بل كنت أنا السّجينة وكنت ألاحق حرّيّة شرطها الوحيد أن أستعيد الضّحك الذي ارتسم على محيّا أوّل قدومي إلى الجامعة.

لمحت نبيل أكثر من مرّة يركن سيّارة أبيه، حمدت اللّه أنّه نجا من الاعتقال، خلته في الصّحراء يبحث عن سراب استعادة ما ضاع، ولم أجد دافعا لمحادثته بقدر ما أحسست بضرورة ذهابي إلى المبيت الجامعي، افترضت أنّ فائزة قد عادت من قريتي، غير أنّي لم أعثر على رائحتها أو صوتها في أروقة المبيت. قال لي الحارس المسائي: "الغرفة مقفلة منذ أكثر من شهر، وأنتما غائبتين، خلنا أنّكما استأجرتما مكانا آخر "انتبهت يومها أنّني أعود إلى المبيت مثل شريدة أو مهاجرة، انتبهت إلى مذاق آخر لحياتي، أنا الطّفلة الشّاردة الوديعة كيف دخلت مغامرة التّيه؟ أسرعت إلى الغرفة وقلّبت جدرانها كأنّني أودّعها، لا أعرف كيف حزمت بقيّة أدباشي وكتبي في كيس بلاستيكي، وهرولت باتّجاه الخارج، حدّق فيّ الحارس بنظرات شكّ، من المؤكّد أنّ خواطره تلعثمت، فقد كانت الطّالبات يخرجن في هذه السّاعة من المساء لقضاء السّهرة، وبقيّة اللّيل مع الرّجال أصحاب السّيارات الفارهة، من المؤكّد أيضا أنّ الحارس استبعد هذا الشّكّ، فقد أنهى نظراته بضحكة ملتحفة بالحياء.

البنات يتسكّعن أمام الرّصيف الخلفي للمبيت، يدمّرهنّ الانتظار، غالبا ما كنّ بعيدات عن السّياسة والنقابات، لهنّ اختيارات بديلة عن ضوضاء الجامعة، كانت سوسن أكثرهنّ إعلانا لذلك: "نحن طلبة الاجتماعات الخاصّة بدل الاجتماعات العامّة، العهر الحقيقي هو بيع الكلام وإيهام الطّلبة بالجنّة الأرضيّة". ذكرتْ ذلك مرارا، عكّرتْ مزاج الغولة كلّما التقتها، قالت أيضا بوثوق: "المنحة الجامعيّة لا تسمن، أربعون دينارا في الشّهر، تعني تعميم شهر رمضان على جميع الأشهر الدّراسيّة". وبقيت سوسن مثل العديدات، تغيب أيّاما وتعود مرتدية أجمل الثّياب وجيبها عامر بالمال، كانت تُسكِت هجوم الغولة كلّما وهبتها علبة سجائر المارلبورو، وظللتُ طول الطّريق أسأل نفسي عن غيابي، فما أنا بالغولة، ولا أنا بسوسن، أعود إلى بيت سامي وكأنّني أتفقّد بيتي، أنقطع عن الأمكنة لأندسّ في المصعد، كيسا من الصّمت يرتفع إلى حدّ الطّابق العلوي للنّشيج. حدّثت سامي عن شعوري بالضّياع، كانت الغولة توازُني الذي وجدته، ولكنّ الصّداقة رائحة كما كان يقول وكثيرا ما تغيب الرّائحة أو يغيّبها الزّكام.

ـ "تعلمين يا باشية أنّ المرء أحيانا لا يصاب بالزّكام ومع ذلك يفقد إحساسه بالرّائحة إذا كان وسط مزكومين". هكذا أسرّ لي وهو يحدّثني عن صداقة طفوليّة مزكومة: "عشت في حيّ يتعايش فيه اليهود مع المسلمين، الدّار جنب الدّار، في البناية الواحدة تجدين تعايشا بسيطا، الباب يفتح على الباب، ولا أحد يغلق الباب على جاره، في رمضان إثر ضربة المدفع لا تجدي يهوديّا واحدا يلعب في ساحة الحيّ، اليهود الذين عرفناهم كانوا متفهّمين لطقوسنا، ولم نشعر يوما بازدرائنا لهم أو بازدرائهم لنا، ولم نسمع أحدا من كبار حومتنا يمنعنا من اللّعب مع أولاد اليهود، وكذا حال كبارهم، بل إنّنا لم نجعل من الدّين عقبة في علاقاتنا بهم، غير أنّ بعض طلبة الحومة كانوا يقومون بممارسات غريبة أخذناها مأخذ الهزل وحين كبرت بقيت تلك الممارسات في ذاكرتي مثل خطيئة رغم أنّي كنت مجرّد متفرّج مثل أندادي، كان لنا جار يعمل معلّما، بخيلا وقاسي الطّبع، وكانت له سيّارة فولكزفاغن فستقيّة اللّون متروكة، قابعة لسنوات على جانب حائط بيته، كانت بلا أبواب وأجهل إلى حدّ اليوم سرّ وجودها على تلك الحالة، كانت تلك السّيّارة ركحا لمجون تلكم الطّلبة، يجرّون "إيفا" البنت اليهوديّة الصّغيرة إلى داخل السيّارة، ويأمرون "بوراس" الطّفل العربي الصّغير بتقبيلها ونزع ثيابها مقابل الحلوى، ولأيّام عديدة استمرّ ذلك المشهد ليثير ضحكنا جميعا، إلى أن علم أخوها الكبير "دانيال" بالأمر فحرّم عليها الخروج من البيت، وخاصم أولاد الحومة الذين قالوا له بأنّ الأمر مجرّد لعب.

والغريب أنّ لا أحد منّا فكّر في تلك الأيّام بأنّ عملا مثل ذلك قد يؤخذ مأخذ التشفّي من جيراننا اليهود، ولا أتذكّر أنّ دانيال غيّر من طريقة تعامله معنا، وكذلك بقيّة أترابنا من اليهود، كنّا نلعب معا دون أن ندخل بيوت بعضنا البعض، بل إذا ما ذهبتُ في طلب دانيال فإنّني أكتفي بالطّرق على الباب، والبقاء في الخارج. كنّا نحيا معا، لا يمرّ يوم دون أن نلتقي، كانت هناك جارة يهوديّة تقطن قرب المتجر، تخرج إلى بلكونة بيتها عند الظّهيرة تطلب من المارّين أن يشتروا لها موادّ غذائيّة، تُنزِل القفّة بالحبل وفيها ورقة الطّلبيّات والنّقود، وكنت يوميّا أمرّ لأنتظر خروجها إلى البلكونة فأعدها بشراء مستلزماتها، كانت امرأة في الخمسين، وتلبس دائما تنّورة تكشف عن رجليها اللذين تزرّع فيهما الاخضرار، كانت لا تستطيع النّزول فلم يحدث أن صادفتها في الحيّ، فمرض رجليها ألزمها البقاء أسيرة البيت ولا أعرف أكان لها أولاد أو لها من يزورها. بقيت لسنوات أقوم بهذا الواجب دون أن يقول لي أحد لا تساعد اليهوديّة، بل كنت أشعر بفرح غريب كلّما سمعتها تدعو لي بالخير، وحين مرّت أيّام دون أن تخرج لي كالمعتاد سألت عنها فقيل لي أنّها وجدت ميّتة في بيتها، وكانت جثّتها متعفّنة، يومها حزنت كثيرا شعرت بأنّني فقدت جزءا من ذاكرتي، تعجّبت كيف لم أعلم بخبر موتها، حتّى دانيال لم يكن يعلم، اكتفى حينها بالقول بأنها امرأة مقطوعة الشّجرة، فأبناؤها هاجروا إلى فرنسا وتركوها لأنّها أرادت أن تبقى في تونس.

كان دانيال في تلك الأيّام يحدّثني عن مشروع زواج أخته من فرنسي، قال لي بأنّ "آن" ستتزوّج قريبا وترتاح من ملاحقة أعين أولاد الحومة، فعلا "آن" صبيّة بديعة الوجه والقوام، من منّا لم يكن يتطلّع إلى جيدها أو خصرها وهي تمشي بتنّورتها القصيرة. لكن زواج "آن" تسبّب في رحيل عائلة "دانيال" من الحيّ، في يوم جاءني وهو حزين قال لي: "سنرحل إلى فرنسا، أمّي لا تريد أن تبعد "آن" عن عينيها، وأبي لم يعد يقوى على عمل الخياطة، نظره يتهاوى يوما بعد آخر"، وسرعان ما انتشر خبر رحيل دانيال من الحيّ، أتذكّر أنّ الحزن داهم الجميع، فكّرنا بأنّنا سنفقد صديقا عزيزا، سنفقد "آن" أيضا، لعنّا الزّواج، وبقينا لأيّام نتجمّع أمام بيت دانيال لنتشبّع بالحديث إليه، وفي يوم الرّحيل خبّأ دانيال وجهه عنّي، ركب سيّارة الأجرة التي ركنت أمام البيت، لم يقل لي كلمة واحدة، بينما كانت "إيفا" تغنّي وتنادي "بوراس" الذي تسلّل من شبّاك البيت وهو يهزج "يا بنيّة شحمة نيّة"، ولأوّل مرّة في حياتي شهدت وداعا نيّئا، بلا رائحة."

سكب سامي حنانه على مسمعي، فتّشت آنذاك عن هذه الرّائحة في ذكرى فائزة، قلت له: "الأصدقاء يهيمون في الذاكرة". قال لي: "لا ذاكرة إن لم يعمّر فيها صديق"، ورحت أمنّي النّفس أن تكون فائزة قريبةٌ منّي، أن تعبر إليّ من جديد وتأتي لتستقرّ معي في هذا البيت، ولكن هل كان سامي يأذن لي بذلك؟ اعتقدت أنّ البيت مملكتي، ولي أن أستدعي من أريد. كلّ يوم كنت أرتّب الفوضى، وهو يردّد:

ـ اتركي كتبي متناثرة ومحتشدة مثل النّمل، دعي أصباغي متهاوية على الأرض، لكِ أن ترتّبي سائر الغرف فقط اتركي قاعة الاستقبال على فوضاها.
ـ ولكن من المستحسن ترتيب سائر البيت وخاصّة قاعة الاستقبال.
ـ قاعة الاستقبال مثل الوجه، أريده نقيّا من التّهذيب، فوضويّا، بريّا، أريد أن أتنقّل بين منعطفاتها دون قواعد مروريّة، ثمّ إنّ أحدا لا يزورني كي أرتّب البيت على نظام النّاس، تلك حرّيّتي، أريد أن أفتح الباب فتصفعني روائح الفوضى. ثمّ لماذا أنت معنيّة بترتيب البيت؟ لست جاريتي ولا خادمتي، أنتِ".

كانت الكلمات تندلق منه سريعا، لكنّه لم يستطع أن يحدّد وضعي، أن يفصح عن سبب وجودي في بيته، من أكون في نظره؟ طيفا أخرجه من وحدته، ملاكا يحاوره كلّما دخل البيت وينساه كلّما غادره؟ كان يريد أن يسمّيني، لكنّه عجز عن إيجاد التّسمية ولا صيغة لوجودي. كان يقول: "أنت هنا لأنّك هنا، ليس ذلك صدفة، أنت هنا لأنّك شئت أن تكوني هنا، أنت مثل الفكرة في خيال الفنّان تتدحرجين من مخيّلته لتعبري القماشة فلا تقرّرين كيف تكونين كما لا يحدّد الفنّان كيف ستتشكّلين عبر مسيرة اللّون والشّكل، أنت مغامرة، فعلا تلك هي الكلمة المناسبة مغامرة حيّة".

جرّدني سامي من صفات اعتياديّة، جعلني فكرة ومغامرة، نزع عنّي الحسّ، وأغفل المادّة، كان ينظر إليّ تائها، عيناه معلّقتان إلى ما وراء جسدي، أحيانا أتفحّص ما خلفي، فأظنّ أنّه يتفرّس في شيء معلّق على الجدار، لكنّه يتفرّس فيّ ببرود. فعلا هناك برودة طافحة من عينيه، بدّدت جميع تخوّفاتي، من أن يلمسني، أو يدخل عليّ الغرفة وأنا نائمة فيدنو إلى جسدي، ماذا يمكن أن يحدث في خلوة بين رجل وامرأة؟ الشّيطان ثالثهما ذاك ما تعلّمناه في المدرسة، ولكن يبدو أنّ الشيطان كان مجرّد أكذوبة، تحقّقت من ذلك كلّما حلّ سامي بالبيت، كلّما تناولنا الطّعام معا، كلّما سهرنا معا وشربنا الشّاي المنعنع، كلّما تحسّست جسدي فلم أجد شعرة مستنفرة تريد أن تعبث بها يده، كذلك وجدته جبلا هامدا يغريني بالتّحليق إلى قمّته دون أن يدعوني للدّخول إلى مغاراته. في ليلة من ليالي برودته اقترب منّي، لم أعر اقترابه اهتماما، اعتدت منه أن يبقى جالسا حذوي مثل لوحة معلّقة على الحائط، كنت أحدّثه عن جدّتي، كيف لا أحدّثه عنها وهي التي أذكرها في كلّ لحظة أكثر من أبي، بقي سامي شاخصا في وجهي كأنّما أُطلّ عليه لأوّل مرّة، فكّرت أنّه سيقبّلني، هكذا كانت كلّ مشاهد اقتراب رجل من امرأة في الأفلام المصريّة، لكنّه ترك نفسا عميقا على وجنتيّ وتحرّك نحو الخلف، ربّما انتظرت في تلك اللّحظة أن يدهسني بأرنبة أنفه أو يعلّق شاربه على شفتي. قال لي وهو يلهو بفرشاة ألوانه:

ـ لا أدري لماذا أراك أبعد ممّا أتصوّر؟ أحيانا يتهيّأ لي أنّكِ مجرّد طيف، وأحيانا أخرى تقفز إلى ذهني شهوة اختطافك من برودتك، يبدو أنّي اعتدت التقاط رغباتي لأعتقلها فحسب.

قلتُ له بهدوء:

ـ لو كنت أشعر بأنّك تنوي تكبيلي بين يديك لما بقيت لحظة في البيت.

ضحك من كلماتي، ألقى الفرشاة بين ركبتيّ، وبتهكّم وخزني:

ـ لو كنت أريد تقبيلك لفعلت، لو كنت أنوي التهامك لزرعت أرضك قمحا ثمّ حصدت سنابلك بلساني، ولكنّني أريدك هكذا فكرة، في النّهار أتذكّرك وأنا أنقل الرّكّاب من مكان إلى آخر، وفي اللّيل تسجنيني في البيت لأتأمّل العالم وأنا أتفحّصك.
ـ أنت أغرب ممّا توقّعت، تقيّدني برهافتك وتحسّسني بصلة نوعيّة بين رجل وامرأة، وفي الآن نفسه تجعلني أُدين أنوثتي، أهذا كلّ ما جنيته من زيجتك الأولى؟

كلّما أعدت إليه ذكرى زواجه الأوّل، يسترسل في صمت طويل ثمّ يحملق فيّ، يشعرني بأنّني واحدة من ركّابه، كأنّني استوقفته في عمق الظّهيرة وطلبت منه أن يسير في اتّجاه أحد الشّوارع، وبعد دقائق طلبت منه معتذرة العودة من حيث انطلقت السيّارة. لا أعرف لماذا يفسد استحضار الماضي متعة اللّحظة؟ كان أبي لا يتورّع عن استذكار أمّي، يقول ليت الزّمن يعود إلى الوراء، ولكن سامي كان يريد أن يطوي المسافات، وحين كنت أطلب منه أن يحدّثني عن طليقته كان يوصد الطّريق ويتندّر بأنّه لم يعد يسلك في حياته الطّرق التي غمرها التّراب وصار إسفلتها مقعّرا. أذكر أنّه أفصح لي بوضوح: "الحياة لا تريد شريكا" ولم أفهم تلك الجملة، فسّرتها بطرق مختلفة، ربّما قصد أنّ حياته تتطلّب العزلة، ربّما قصد أنّه بلا زوجة أفضل حالا، ربّما قصد أنّ المرء يموت في الأخير وحيدا ولذا عليه أن يسير في الحياة منفردا، وبقيت أيّاما أقلّب جملته المتكرّرة على مسمعي، ولا أعرف أكان يقصد ألاّ أفكّر فيه كأيّ امرأة؟ هل كان يريد استبعادي من دائرة اهتمامه؟ شعرت بأنّه سائق مختلف، لأنّه كان يرسم بمفرده إشارات المرور ويحدّد مفترقات السّير. وفي كلّ محادثة معه كنت أفيض احتراقا وتلتمع برودتي أمام مرآة نفسي، كانت فقاقيع صغيرة من التّوتّر تحت جلدي، تدبّ إلى أن ترجّني، أحيانا أرفع يدي دون هدف كأنّ وخزا يقرع من الدّاخل، حتّى أنّه ألحّ مرارا وهو يرسمني بأن أهدأ.

ـ باشيّة، ابقي ثابتة، كلّما ارتعشتِ أفسدت تركيزي، افترضي أنّك جامدة، هكذا يمكن أن نجلس أمام عين الفنّان.
كرهت أن أبقى "جامدة" وكلّي غليان، هدّأت نفسي طويلا، قلت لا يهمّ أن أكون جامدة في اللّوحة، ما يهمّ هو أن أكون حيّة في عينيه. فعلا بهذه الجرأة مع نفسي تمنّيت أن أكون امرأة لا مجرّد موديل آدمي في ورشة رسّام، وبدأت أغيّر طريقة حديثي إليه، فكّرت في تغيير مظهري، طلبت منه سُلفة، لم أعتبر ذلك سلوكا جريئا، وجدته يغدق ما لديه، أعطاني المال دون أن يسأل عن السّبب، ربّما فكّر أنّني أريد زيارة أهلي، كنت مصمّمة على فعل شيء يغيّر من رتابة إقامتي، شعرت أنّني أريد مغادرة اللّوحة، أن أخرج من بيته إلى المدينة، لأعود إليه كخريطة جديدة تقلب خطط سيره وتعطّل إشارات مروره.

(6)

أمضيت أيّاما في التّجوال داخل المدينة، كنت أحسّ بتعاطف مع المدينة العتيقة، شعرت لمرّات أنّها دون سند، ودون أهل، بل إنّها خالية من الرّائحة بعد أن غطّتها رائحة ورشات صانعي الأحذية. هناك مشاعر عابرة بسرعة تؤشّر على موت قادم، رأيت هذه المدينة بسورها وأزقّتها الضّيّقة تنعى نفسها، كنت أحبّذ المشي على ركوب السيّارة، ووجدت في هذه الأزقّة هوايتي المفضّلة عكس سامي الذي عشق الطّرقات الكبرى. كنت أطرق وحيدة أنهجا لا أعرفها وأدخل الأسواق دون أيّ رغبة في اقتناء أيّ شيء، كنت أكتفي بالمشاهدة ومعاينة حركة النّاس وكأنّني حجارة المدينة ترقب زوّراها. يلتحق بي سامي عند الظّهيرة، يأتي مسرعا من محطّة التّاكسي ليدعوني على طبق سفّود في مطعم "عبيد" نلج ردهة شبه مظلمة بعد أن نمرّ من زقاق ضيّق جدّا، يقبل علينا النّادل محمّلا بصحون صغيرة مليئة بالسّلطة التّونسيّة وبعسل اللّحم، وأكواب نحاسيّة، يتبسّم سامي دائما "هذه أكواب رومانيّة في قبو تونسي" خفت من الغثيان لو شربت ماء من هذه الأكواب، لكنّ الماء زلال يلتمع في الكوب، وكلّ توجّس يتبخّر بعد الجرعة الأولى، تخيّلت أنّني سبيّة هذا الرّجل، وعليّ أن أتصرّف طبقا لتعليماته، أستعير عوائده، وأتملّى طريقة مخاطبته للنّادل، وهو لا يفتأ يكرّر: "كالعادة، تصنيفات من كلّ أكلات اليوم والسّفّود على عجل"، لا يجد سامي تصريف سُلطته إلاّ في هذا المكان، رأيته أكثر من مرّة منحبس الصّوت، وهنا في قلب المدينة العتيقة يدقّ قلبه بصوت مسموع، يتصرّف بحرّيّة لا تماثلها حريّته في البيت، إنّه في بطن أمّه يتلوّى، يسمح لنفسه بأن يقهقه ضدّ جدّيته البيتيّة، خاصّة إذا حدّثته عن فائزة، خصّصنا لها في طاولتنا كرسيّا وتوهّمنا أنّها تقاسمنا جلستنا، وأحيانا يستدير سامي إلى الكرسيّ ويهمس في الفراغ كأنّما يحادثها، يريد عمدا إثارتي، وأحيانا يتلوّى في كرسيّه يقول بأنّه غير مرتاح في جلسته فردف فائزة زاد ترهّلا وعليها أن تخضع لعمليّة سريعة لشفط دهون.

كانت أشغال بناء المدينة الجديدة تتقدّم في ناحية ظهر المدينة العتيقة، البنايات الشّاهقة تطلّ ببلّورها على الأبواب الكبرى وتمنحني خوفا متعاظما من الآتي، بدا كلّ شيء يسير في اتّجاه التّغيّر وكنت على ما يبدو أستبطن شيئا ما، تصميما على تغيير سحنة هذا الوجه، ورغبة في نزع ملابسي وبيعها في محلاّت الملابس المستعملة. كنت عازمة على التّغيير كلّما رأيت الكتل الحجريّة للبنايات التي تراصّت على الجهة القبليّة من المدينة العتيقة، ففي هذه الجهة القِبليّة استطاع المعمّرون الفرنسيّون ردم الشّريط البحري ليبنوا عليه مدينتهم بطابعها التّعريبي، فتزاوج البناء الحديث مع بعض عناصر العمارة الإسلاميّة، وكم فكّرت في موج البحر الذي كان يضرب بزبده سور المدينة ثمّ توارى عن السّور ليرسو على بُعد مئات الأمتار منه. هل كان ذلك حقّا ما حدث، أن تعلو هذه البنايات على أرض غاصت فيها الملوحة ويقبل البحر بالتّراجع وهو الذي عوّدنا على زحفه لليابسة؟ إذا كانت يد الإنسان قادرة على تغيير وجه الطّبيعة فيعني ذلك أنّني قادرة على طرد هدوئي الطّبيعي. ذاك ما كرّرته لنفسي في شكل حلم ثمّ تصميم، ولكن ماذا يحدث حين تُزاح الطّبيعة لأجل تطبّع جديد؟ رأيت في هذه المدينة المبنيّة على الرّبض القبلي، والتي يسمّيها أهلها "البلاد السّوري" نسبة إلى بناتها وسكّانها الفرنسيّين في زمن الاستعمار، كثيرا من الشّواهد المعماريّة المذهلة، كنت أبحث عن حجارة تدلّني على إمكانيّة إحداث تغيير، على جدران تومئ إليّ بأنّ العبور من مرحلة إلى أخرى أمر جائز، وأنّ التّعايش رغم التّناقض أمر ممكن.

فكّرت في مشهد ذلك الجامع المبنيّ في قلب بناية مطلّة على المسرح البلدي، والذي يدعى بـ "جامع السّلاّمي". كانت صومعته تخرج من جوف الحجارة لتطلّ على السّطوح، ولأوّل مرّة دهشت كيف لا يكون للجامع استقلاله الفضائي، كيف يجوز أن يقام صرح ديني مدمج بمباني السّكّان؟ كان لآذان المغرب روعته الخاصّة، وهو يطلع من مئذنة تطلّ على شبابيك غرف النوم، يأمرني ذلك الآذان بضرورة التّوجّه إلى البيت، بضرورة إيقاف التّجوال والشّرود في المدينة، وينقل مزاجي إلى التّهيّء لاستقبال سامي، وفي اتّجاهي اليومي إلى البيت أمرّ على بعد مائة متر من الجامع، من مبنى كنيسة الأصوليّين اليونانيّة التي تنفتح في ركن بناية على ساحة حديقة "داكار" فأتلهّف لرؤية ناقوسها الصّامت وأتلهّى برونق بياض جدرانها وزرقة الخطوط في شبابيكها وبابها، لا أعرف لماذا داهمني لمرّات شعور بالرّهبة وأنا أتملّى واجهة هذه الكنيسة مثل مسيحيّة متعطّشة للدّخول إلى غرفة الاعتراف؟ وكانت بداخلي رغبة التّقدّم نحو الباب وطرقه، أردت بأعلى صوتي أن أنادي"هل من أحد هنا؟"، شعرت أنّ الكنيسة خالية ولا جدوى من التّقدّم، تلك مغامرة محفوفة بالعواقب، ولكن في كلّ مرّة يدقّ هذا الهاجس رأسي وفي كلّ مرّة أسترق النّظر إلى الباب بحثا عن فتحة صغيرة تؤكّد لي أنّ الكنيسة غير مهجورة، وتوهمني برتل من المصلّين يدخلونها عامرين بروائح العطر الإغريقي، وفي كلّ مرّة تتبخّر أمنيتي وأستغرب كيف يكون هذا المبنى النّظيف والأنيق مهجورا؟ وأواصل سيري مسلّمة بأنّ ناقوس الكنيسة لا يدقّ وبابها لا يُفتح، وهي لا تعدو أن تكون غير صورة لبطاقة بريديّة فرّت من حاملها الورقي لتستقرّ على ناصية الشّارع.

لكنّ الطّريق إلى البيت عامر بالأعاجيب، من الجامع إلى الكنيسة المسيحيّة، ومنهما إلى كنيسة اليهود الرّابضة أمام معهد ثانوي، أمتار قليلة في نفس الاتّجاه تفصل هذا الثّالوث المعماريّ الدّيني، ولم أكن أفهم سرّ هذا الحضور لشواهد الأديان السّماويّة في المدينة. رغبات عديدة نهشتني في اتّجاه العبور إلى ما بداخل الكنيسة اليهوديّة أيضا، كنت أرى اليهود العجّز يجلسون على أرائك حديقتهم الدّاخليّة المطلّة على الشّارع، عددهم قليل، بل كنت أرى الوجوه ذاتها، وكأنّهم لا يبرحون الحديقة، ولا يخرجون من بناياتهم التي تضمّ الكنيسة، ومرافق سكنيّة ذات طابق أرضي وطابق علويّ واحد، ولكنّ باب المبنى المؤدّي إلى الملحق السّكني دائما ما كان مفتوحا على عكس الباب الكبير للكنيسة الذي لم أره مفتوحا يوما ما، ولم أسمع إلاّ لماما أصوات مصلّين، فقد كنت أتطلّع إلى قبّة الكنيسة لأصغي إلى همهمات الصّوت تنساب من فتحات الزّجاج الملوّن المكسور بفعل ضربات الحجارة التي كان يرميها تلاميذ المعهد المقابل. واستغربت من هذه الجدران المهترئة، ومن حالة المبنى الذي يكاد يسقط على أهله رغم شساعته. جالت بذهني أحاديث سامي عن طفولته في الحيّ التّعويضي مع جيرانه من اليهود، وبدا لي أنّني في مدينة تنطق حجارتها بما لا ينطق به سكّانها، فكّرت حينها في الجامعة وسألت نفسي لم لا ندرس هذه الحجارة بدل أن ندرس حجارة الجبال؟ لو فحصنا حجارة السّور وجدران الكنائس لكان ذلك أفضل، فمن شأن هذه الشّواهد الصّامتة أن تروي لنا وقائع لم تنتبه إليها كتب الإخباريّين. وحين أعلمت سامي بما أفكّر فيه قال لي هازئا:

ـ في المدينة مبان كنسيّة عديدة، وأماكن فريدة من دُور العبادة القديمة، يمرّ أمامها المارّة دون انتباه، هذه المباني ترمقهم باحتقار لأنّهم عميان، وحتّى الجامعة لا تنتبه دروسها إلى هذه الحجارة، الجامعة يا باشيّة مؤسّسة عمياء بدورها، تطلّ على المجتمع بنظّارات سوداء؟

كان للمساء طعم خاصّ في طرقات المدينة، إنّه كالح ومشرئبّ إلى العتمة، وفي كلّ مرّة أعبر حديقة داكار، يداهمني رعب كبير وأستحضر ما قاله سامي عن تلك الشّجرة الوارفة التي شهدت انتحار رجل في مطلع الثّمانينيّات، وكثيرا ما تفحّصت أنواع أشجار الحديقة العامّة ووقفت على جهلي بأسمائها، تبيّنت أنّ الإنسان لا يهتمّ إلاّ بالأسماء التي يجني من وراء معرفتها منفعة ما، لذلك أعرف أسماء الأشجار المثمرة ولا أستطيع أن أتبيّن أنواع الأشجار التي لا تدخل في هذا النّطاق، ولهذا كنت أمرّ بين النّاس ولا أحد يهتمّ بمروري، لا أحد يهتمّ باسمي، فلا منفعة لي، جسدي مكسوّ بملابس مائلة إلى ماهو داكن وعليّ تغييرها، إلقاؤها في أقرب سلّة للقمامة أو في ركن من أركان الشوارع التي غصّت بالزّبالة.

أذكر بامتعاض تلك اللّيلة التي دخل فيها سامي البيت فوجدني مستلقية على الأريكة، رمقني بدهشة ثمّ راحت عيناه تجوبان أركان الغرفة، عمّا كان يبحث مشدوها، وحاجباه يكادان يفارقان مكانهما؟ همس لي: "هل صادفتْكِ باشيّة في البيت؟" نظرتُ إلى شفتيه تتحفّظان على ابتسامة ماكرة، ونهضت بدافع عرض فستاني الجديد، تسريحة شعري الجديدة، بعضا من الماكياج الخافت الذي تمدّد على وجنتيّ وقليلا من أحمر الشّفاه. واصل سامي تهكّمه: "هل استعرت شيئا من أصباغي؟" وبدوت حينها واقفة على صراط بانتظار حكمه، بحثت عن كلمة، بنت شفة تندلق من حنجرته لتقول لي: "يا اللّه ما أروعك؟" أو حتّى مجرّد صوت، حمحمة، همهمة، آهة، تشتّت ريبتي وتعيد إليّ ثقتي بما فعلت. ولكن مرّت لحظات بعمر لحظات الوردة حين تستشعر ذبولها القادم، وما من نفس ينفخ فيّ التّوازن من جديد.

تركني واقفة مثل عمود كهربائي نسيتْ البلديّة إنارته، ودلف إلى غرفته، ونسيتُ إن كنت قد بقيت بعدها واقفة أم ذرعت قاعة الجلوس، أم سقطت هامدة على الأريكة، ما أذكره أنّي شعرت شعور العارية تماما وأنّ سامي استحى النّظر إليّ. ما أتذكّره جيّدا أنّه خرج من غرفته مقتربا منّي، وقال بصوت المتحسّر: "كيف سأكمل لوحتي إن كنتِ قد غيّرتِ مظهرك؟"، نزلت عليّ كلماته نزول البول على أديم قاعة رخاميّة في بهو الكليّة، شعرت بعضلاتي تتقلّص، وبرأسي يتدحرج نحو الخلف مثل حلزون مترهّب، وما وجدت القدرة الكافية على الكلام، كانت كلماته أشبه بتوقيع على ظهر قماشة لوحة. بقي سامي يسترسل في الكلام، وبقيت أنظر إليه وكلّي شرود، سمعت جدّتي تنادي: "يا باشيّة، طلعتْ زرّاعة الشّوم" خفت أن يكون تغيير مظهري هو زرّاعة الشّوم، قلقت على جدّتي، على أبي، ربّما حدث مكروه ما، ربّما لا يجلب تغيير الهندام إلاّ الشّؤم، ولذا يتجنّب أغلب النّاس تغيير العوائد، والسّلوكات، والأفكار أيضا.

أردت أن أصرخ في وجه سامي، أن أقول له بأنّه لا يختلف عن سائر النّاس، بأنّه لا يريد السّير في الطّرق الطّويلة ذات النّهايات الغائمة، بأنّه يتوهّم السير في اللاّنهاية وأنّه يدور في طريق دائريّ، يحوم حول نفسه كطائر جريح. حاولت فعلا أن أصرخ، وتمنّيت أن كانت لي فصاحة الخطباء في الجامعة، وطاقة صوتهم، ولكنّني معلّبة بالصّمت الغارق، مصفّحة في الدّاخل. وملتهبة برغبة مغادرة البيت والعودة إلى القرية، هناك سأجد من يربّت على كتفي، ويرى في مظهري الجديد "بنت سيدي الرّايس" التي تطلع من ثمالة الرّغبة في التّغيير. أدركت ليلتها معنى اللّوحة، كيف يكون المرء معتقلا في قماشة ومقيّدا بالألوان، حزنت لكلّ الذين وقفوا مرّة أمام عين الرّسّام ليحوّلهم من كائنات حيّة إلى مجرّد أشياء، لأوّل مرّة كرهت الموناليزا ورثيت صاحبتها، وفهمت سرّ رفض زوجها استلامها من دافنشي. سارعت ليلتها إلى غرفتي، قرّرت أن أبلّل وجودي معه بالصّمت، أن أكون مجرّد حجرة صلبة وقاسية، كانت خصلات شعري ملولبة، ربّما كفاه ذلك عناء وضع أصابعه على شعري، ربّما صرت حجارة غير صالحة حتّى للتّيمّم.

بعد أيّام كنتُ في باحة بيتي بالقرية، لأوّل مرّة ألمح جدّتي تتوضّأ عند حنفيّة الحديقة، قالت لي بهمسها المعهود "الرّجوع لربّي يا بنيّتي" وسكتت. سكتّ بدوري، جلت بعينيّ في اتّجاه آخر، واصلت انتظار أبي، نزل المساء بثقله على أنفاسي، سكبت الشّمس آخر عزفها وغادرت ركح السّماء وما جاء أبي، هل أطال السّكر هذه المرّة؟ لأوّل مرّة نِمت ليلتها دون أن أسمع جلبته المعتادة عند دخوله قبل تشقّق الفجر. خلت في الصّباح أنّه غارق في نومه، ولكنّني انتبهت لغيابه. طالما كان باب غرفته مغلقا في الصّباح، فهو لا يريد إزعاجا من أحد. يدلف إلى البيت في ساعة متأخّرة ليغلق عالم غرفته على نفسه، ولكنّ الباب مفتوح هذه المرّة وسريره مازال مرتّبا. قالت الجدّاية أنّ نومه خارج البيت تكرّر عدّة مرّات وأنّها سألته عن الأمر فأوهمها بأنّه يبيت في الورشة، وسمعتْ من الجيران أنّه شُوهِد في ليلة من اللّيالي يتسلّل إلى المقبرة ومعه شخص لم يتبيّن أحد ملامحه، ولا أحد يعلم أكان إنسيّا أم جنّيّا. كنت أستمع إلى جدّتي تنسج كلماتها وكأنّني أقرأ فصلا من فصول خرافة، فمن له عقل لا يستسيغ هذا القول، كيف لأبي أن يشقّ طريقه إلى المقبرة ليلا بدل أن يعود إلى البيت؟ وما هذا القول برفقته لشخص أو طيف؟ هذا لاشكّ من قبيل الهذر، فأبي لا ينتهك حرمة الموتى، أعرف جيّدا تقديره للموتى، صحيح أنّه يهجو بشدّة حالة مقبرتنا ويرى في مقابر المسلمين إهانة للموتى والأحياء، وكثيرا ما حدّثني عن مقبرة قتلى الكومنولث من المسيحيّين، التي شاهدها في طريقه عند سفره إلى مدينة قابس في الجنوب التّونسي ووصف جماليّتها، ولكنّه رغم ذلك يكره أصلا عبور المقبرة في اللّيل، ويقول: "اللّيل والموت يجامعان بعضهما في المقبرة، وإذا اقترب أحد من المقبرة ليلا فسيستمع إلى صمت بشع في أوّل الأمر ثمّ سيدنو إلى أذنيه لهاث عميق، وينزّ على كتفيه عرق نتن كأنّه سُكب عليه من السّماء".

هذا ما كان يقوله دائما كلّما أشار إلى اللّيل، وأيّا كانت قصّة التّسلّل صحيحة أم باطلة، فإنّ أبي لم ينم في بيته كما اعتدت أن أراه، وتكرّر ذلك فعلا لليال أخرى، كنت أراه في المساء يدخل البيت مسرعا، خلت أنّه لم ينتبه لقدومي، حتّى أنّه لم يرجمني بأسئلته، عن دراستي وحياتي بالجامعة، وحين قالت لي الجدّة: "اسأليه أين يبيت خارج البيت" قفزت إليّ ضحكة غريبة، فأبي صار يبيت خارج البيت، وأنا صرت أبيت خارج المبيت الجامعي، كلانا فرّ من شيء ما، وهو يقاسم الهروب مع طيف وأنا أجاور سامي. ولكنّ الجدّة ملحاحة هذه المرّة، لا تمرّ ساعة حتّى تعود إليّ لتذكّرني بضرورة الاستفسار عن سرّ أبي، وما لمست حرصها على معرفة أخباري قدر حرصها على ذلك، وكأنّ أبي ما يزال بعدُ صغيرها المدلّل، أمّا أنا فلا خوف عليّ، هكذا كانت تقول منذ أشهر: "أنتِ الآن غرفة موصدة بالحجارة، الخوف على من يلعب بالحجر وهو من بلّور". كانت جدّتي تُشهر خوفها عليّ في سنوات دراستي الثّانويّة، تنتظرني عند باب البيت وقت ذهابي أو قدومي من المعهد، تحاسبني على أيّ تأخير، تمنعني من زيارة أترابي، وتقبل أن يزرنني في البيت، المهمّ أن أبقى أمام عينيها وتحت رقابتها وحين وُجّهت للدّراسة الجامعيّة بالجنوب، صارحتني بريبتها من المدينة، قالت لي "ليست لي عينا زرقاء اليمامة كي أحرسك، من الأفضل أن تتصفّحي مثل كلّ البنات، لا أستطيع أن أتركك تذهبين إلى المدينة وأنت طينة، التّصفيح يحوّلك إلى حجارة، ويبدّد خوفي عليك". ولم أفهم معنى التّصفيح إلاّ لاحقا، بل إنّي أنصتّ إلى كلام الجدّة بطواعيّة مفرطة، وقبِلت بتعليماتها. أتذكّر كيف ذهبنا مساء إلى عرس إحدى جاراتنا، خلت أنّ الجدّة تروّح عنّي، وتغيّر من تعاملها مع الجيران، ولكنّني أدركت أنّ زيارة بيت العروس كان لها هدف آخر.

كان بيت العروس عامرا بالنّساء والبنات، وصوت الأهازيج يصدح من قلب البيت، لا أحد من الرّجال يقتعد كرسيّا أو يعبر بين تجمهر النّسوة، تلك أمسية نسائيّة خالصة، تقوم فيها النّساء من أهل العروس وصويحباتها بالاحتفاء بالعروس بعد مقدمها من حلاّقة القرية، وقبل أن يهبط اللّيل فتزفّ إلى عريسها. كانت العروس تتوسّط باحة البيت، مرتدية فستان الفرح، بينما البنات يرقصن ويتنافسن في عرض غنجهنّ وتدوير خصورهنّ، وفجأة خمد صوت الغناء وخفتت الحركة، تقدّمت أمّ العروس رفقة امرأة في السّتّين من عمرها، تدعى "الشّهباء" وبيدها خرقة بيضاء، اقتربتا من الحاضرات ورفعت "الشّهباء" صوتها: يا بنات من يريد منكنّ أن يتصفّح فليتقدّم". فتحت "الشّهباء" خرقتها وأخرجت مفتاحا غليظا عليه آثار القدم، كنت مطرقة غير قادرة على استيعاب ما يجري، ولم أفق إلاّ ويد جدّتي تجرّني إلى حيث وقفت "الشّهباء" مثل بطلة على خشبة المسرح، وجدت نفسي أتصدّر طابور البنات اللّواتي وقفن خلفي، نظرت إليّ "الشّهباء" وقالت: "هذه ليست لعبة يا بْنيّتي، هذا العمل يصونك، اليوم نصفّحك ونهار العرس نحلّك" كانت تقرأ فعلا هواجسي، ولا أدري كيف تسلّلت إلى شفتيّ ابتسامة غريبة، وشعرت بأنّني أشبه بقائدة فريق ستتسلّم درع البطولة، وفعلا سلّمتني "الشّهباء" سبع حبّات من الزّبيب وطلبت منّي أن آكلها، ثمّ وضعت المفتاح صوبي، وتمتمت لهنيهات ثمّ قالت وهي تديره "يجعل ولد النّاس خيط ويجعل بنت النّاس حيط" بعدها ربّتت جدّتي على كتفي وطلعت من عينيها طمأنينة المنتصرين في معركة مصيريّة، وأمضيت أيّاما أتوجّس خوفا من هذا العمل، وظننت أنّني ما عدت أبول وما عدت أحيض.

أخذت البنات دورهنّ الواحدة بعد الأخرى والكلّّ يتغامز ويضحك إلى أن جاء دور العروس. أمسكت "الشّهباء" بالمفتاح وصوّبته في اتّجاهها، كاد المفتاح يلامس وسطها، وبقيت تتمتم، شفتاها تنفتحان ثمّ تنغلقان وكأنّها تلوك وصفة سحريّة، أدارت المفتاح وكأنّها تفتح بابا سميكا ثمّ قالت "يجعل ولد النّاس حيط ويجعل بنت النّاس خيط"، وبعد لحظات تهلّلت أسارير أمّ العروس، وأمطرت ابنتها تقبيلا، وزغردت النّسوة، واختلط التّهليل بالغناء والعناق، كأنّه مشهد تحرير للأرض أو تخليص من العبوديّة. يومها شعرت بأنّ تاريخا جديدا قد بدأ.

نظرت إلى المفتاح كأنّني لأوّل مرّة أشاهد فيها مفتاحا، سمعت كثيرا عن مفاتيح المدن وعن ضياع بعض المدن العربيّة في تاريخنا بسبب تسليم الخونة للمفتاح، وتكهّنت بحجم مفاتيح هذه المدن، ظننت أنّها أكبر من اليد التي تحملها، وأنّه لا يمكن وضعها في جيب السّترة بل توضع في صندوق خشبي كبير يرفعه الخدم أو العبيد حين يُؤمرُ بفتح الباب، في مشهد احتفالي، ولكنّني ما اعتدت التّعامل مع المفاتيح، فالباب الخارجي لبيتنا لا يغلق أبدا وأمّا الباب الدّاخلي فهو مفتوح في النّهار وليلا تتولّى جدّتي إغلاقه. لا أذكر أنّي احتجت إلى مفتاح في حياتي، وحتّى غرفتي بالمبيت الجامعي، لا أذكر أنّي استخدمت مفتاحها إلاّ يوم قرّرت مغادرة المبيت نهائيّا، بل إنّي أكره فتح الأشياء وغلقها، أشعر بأنّني أنتمي إلى زمن مسترسل في اللاّنهاية، زمن لا يعرف بابا للفتح أو الإغلاق. ولكن سرعان ما بدأ هذا الشّعور في التّلاشي منذ ذلك اليوم الذي صار فيّ عضو مغلق يحتاج إلى الفتح. أخبرت نعيمة بما حدث، فهي محنّكة وتعرف دواخل هذه الأمور، هدّأت من روعي وأزعجتني في الآن نفسه، قالت ضاحكة بأنّ "هذا إجراء وقائي" وأردفت بأنّني قادرة على عشق الرّجال دون خوف على عذريّتي، ونسيت أن أسألها هل لذلك تأثير على نظرتي للرّجال، هل أنّني أستطيع أن أحبّ وصندوقي مغلق؟ هل يمكن للمرأة المصفّحة أن تطفو على سطح الحريّة وجسدها مثقل بالحجر؟ بقيت لأيّام أمشي بشعور من يجرّ معه صخرة، ولا تغيب عن ذهني صورة المفتاح الذي يدور، يدور، يدور.

عصف بي الدّوار وأنا أمام باب بيت سامي، لم أعلمه بقدومي مثلما لم أعلمه برحيلي، ها أنّي أضغط على جرس الباب بشدّة، سمعت بقايا قهقهات تشبه قهقهات فائزة، أدركت لحظتها أنّني نسيت أن أسأل جدّتي عنها، لا أعلم كيف تناسيتها في القرية، في لحظتها فحسب لمحتها طيفا يجرّ شخصا ما إلى الخلاء ثمّ تناثرت الصّورة عندما فتح سامي الباب وأطلّ عليّ برأسه الصّغير مثل إطلالة قنفد. أدخلني قاعة الجلوس، وأحسست بأنّني أمشي على الشّوك، ألج أرضا حامية، أقف واهنة أمام شبح أنثوي، قلت لنفسي "ها أنّه استبدلني بأخرى". قابلني بنوع من الفتور، ولم يستطع أن ينبس بكلمة كأنّ شخصا ما يضع الخنجر خلف ظهره. تأمّلته وهو مطرق، لم يقل لي "آدخلي باشيّة، اشتقتك يا ملعونة"، بقي صامتا، كم أكره صمتي وصمته وصمت هذا الكون؟ تحاشيت في البداية أن أنظر إليها، أمطرته بنظراتي المتسائلة، من تكون هذه الفارعة الطّول؟ هل أصبح البيت مرتعا للغزلان؟ قال لي وكأنّه سمع شهيقي الدّاخلي "إنّها ريم، الموديل الجديد"، ولا أدري أكنت موديله القديم، هل يعني فعلا أنّني ما كنت غير مجرّد موديل آدمي، يعني حَجرة ببشرة آدميّة ناعمة؟ لماذا لا أحد يهتمّ بالإنسان؟ أبي شارد عنّي، جدّتي لا تفكّر فيّ ما دمت مصفّحة، فائزة ذابت في الغياب، وسامي يتأبّط وجهي مثلما يتأبّط رسّام لوحته لتجهيزها للبيع؟

(7)

لماذا يجرّني إلى هذا البحر؟ يعتذر عن جفاف عبارته؟ يبلّل كلماته برغوة هذا الشّاطئ الذي هجره أهله وعمّرت فيه القوارير البلاستيكيّة التي لا تحمل رسائل العشّاق والمغتربين، والضّائعين على سواحل الكرة الأرضيّة؟

عبرنا الممشى الخشبي، كانت "البرّاكة" شبه جرداء من العشّاق والمريدين، تكاد تتمايل وهي على سطح البحر، "البرّاكة" مقهى شبه عائم، مثبّت بأعمدة خشبيّة في شاطئ من نوع مخصوص، المقهى مطليّ بالأبيض والأزرق السّماوي، حتّى أنّني خلته ليلا قطعة هاربة من السّماء، سرنا على الممشى متلاصقين، صُمِّم الممشى بشكل ضيّق، إنّه يشبه صراطا مستقيما، شعرت بأنّني سأحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة، نظرت إلى آخر الممشى، وحمدت الله أنّني لم أر أحدا قابعا في نهايته، فلا حساب ولا عقاب، هذا تدريب على وضع مستقبلي. أحسّ سامي بالقشعريرة تسلخ جسدي، قال لي "أهمّ ما في البرّاكة أنّها رحم أمومي اصطناعي"، اخترنا مكانا يطلّ على البحر، إلى جانب القوارب الخشبيّة المربوطة بحبال سميكة في الرّصيف الخشبي. كانت القوارب راسية في شبرٍ من الماء، ظننت أنّها موجودة كجزء من ديكور المقهى، خلت أنّها لم تتحرّك منذ عشرات السّنين، فمدُّ البحر قصير جدّا ولأوّل مرّة أرى بحرا لا بحر له؟

ثلاثة أشهر مرّت دون أن يصحبني إلى أيّ مكان. ها أنّي أتفحّص وجهه، عيناه تهيمان في دخان نرجيلته، وقلبه موصد. على الطّاولة لا أسمع غير دقّات قلبي، وفي دوائر الدّخان أرى لطخات فرشاته على القماشة، تنهال عليها بلا حدّ. تمنّيت أن أكون ألوانه ولسانه فرشاة، كلماته لا تندلق مثل الفرشاة، أواجه شحّا مجسّدا في وجهه، لا يكاد يتكلّم، وحين سألته عن البحر قال لي "لو كان هذا البحر بحرا لما بقي للرّسّامين شيء يرسمونه". باغتنا صمت طويل، في كلّ ركن طاولات يحيط بها رجال وبنات من أعمار مختلفة، يلفّهم الهمس، كأنّ الجميع في جلسات سرّيّة يتدبّرون أمرا ما، لا أدري لماذا خمّنت أن تكون "البرّاكة" بيت الأسرار. ولكنّ سامي لا يذيع أسراره، ربّما كان ينفثها مع الدّخان. قال لي دون مواربة: "ارتحتِ بعد أن هربت ريم!" وأخذ نفسا من النّرجيلة كاد يكسر بطنها من أثر غليان الماء. سكتّ بدوري، قلت أنّه سيخسر رهانه معي، سأهزمه بصمتي. أنا صموتة منذ نعومة أظافري، وهو لا يستطيع أن ينتصر عليّ. أغرب ما في الأمر أنّني تمنّيت أن أنسحب من مراهنته، وددت أن يثرثر وأثرثر إلى ما لانهاية، أن يسكب فمي رغوة الكلام، أن يسترسل هو في المدّ والجزر، ولكنّ ثلاثتنا، أنا وسامي والبحر، كنّا نتنافس على الصّمت.

كان سامي يباغتني بالحديث، استولى عليّ بالكلمات، أخرجني من الصّمت بصنّارة كلامه، الطُّعم الجميل الذي لم أستبسل في مقاومته، ولكنّه منذ مدّة التحف بالصّمت، وتبدّى لي مرتديا لبرنس الأجداد، خلته كبُر في فترة وجيزة عشر سنوات إضافيّة، لماذا يزيد الصّمت في أعمارنا، لعن اللّه الصّمت والصّامتين!.

حين وجدت ريم في بيته أو بيتي كما يحلو لي التّعبير، فهمت معنى الاستيطان الشّرس، قلت في نفسي، هذه البنت الشّقراء، ابنة هذه المدينة ستكنسني بحذائها من البيت نهائيّا، استقبلتني ببرود، الأنثى للأنثى عدوّ، ذلك قانون طبيعي لا يمكن للثقافة أن تغيّره. حزمت أنفاسي لأيّام، وضعتها في ثلاّجة صدري، وكنت فعلا حينها قارورة سيدي الرّايس المكتومة الأنفاس، قرّرت دون تفكير طويل رميها خارج البيت، لكنّها كلّ يوم كانت تأتي قبل قدومه بدقائق وتسحب نفسها قبل أن يسقط اللّيل عليها، حافظت على توقيت واحد، كأنّها تعمل في مصنع من المصانع. كنت أفتح لها الباب في أوّل الأمر، أتلكّأ في تحيّتها، كيف أستقبل لصّة؟ صرت أطلع من البيت قبل موعدها، جعلتها تنتظره أمام الباب كي أعاقبها، لكنّه سلّمها مفتاح البيت دون أن يحادثني في الأمر، ساوى بيني وبينها، خلت أنّ امتلاك المفتاح هو علامة ثقة وحبّ، مفتاح الدّار لا يوهب إلاّ لأصحابها، لكنّه يتعامل مع المفتاح دون ريبة، يلقيه في أيّ مكان، المفتاح الوحيد الذي كان يضعه في جيبه هو مفتاح السّيّارة. كلّ ما يتعلّق بسيّارته أقرب إليه من نفسه، عناصر الحياة لديه: الدّوّاسة والمقود، لا شيء غير ذلك، أمّا دخان السيارة فكان بمثابة الهواء المنعش الذي يستطيب تنفّسه، يترفّق بدوّاسته، يحنو على المقود، يتحسّس جسديّة الأشياء، بينما هذه البشرة المستلقية على لحمي لا تجد غير لا مبالاته وفظاظته.

كرهت التّحدّث إلى ريم، يجب عليّ أن أعاملها باعتبارها موديلا آدميّا، لا أعرف كيف يعامل الرّسّام موديله، ولكنّني عاملتها مثلما يجب أن تُعامل، ليست ضيفة لأقدّم لها شايا أو قهوة، عليها أن تشعر بغربة المحارب في ساحة الحرب! كنت أعلن عليها حربا صامتة، أكبر حرب يشنّها المرء هي حرب الصّمت. إذا ما وجدتها في البيت أسرع إلى غرفتي، أتلهّى بقراءة أيّ شيء، صلتي منقطعة بها. في أوّل الأمر تركت لها كامل قاعة الجلوس، لكنّني شعرت بالقهر، هل أتركها ترتع في قلب البيت؟ صمّمت على توتيرها، بقيت طيلة أيّام أمام جهاز التلفزيون، أتفرّج على كلّ ما يبثُّ، ما يتعلّق ببرامج الصّحّة النّفسيّة أو الطّبخ، أو الأشرطة السينمائيّة، وحتّى برامج الأطفال تابعتها، كي لا أتركها تستريح في قاعة الجلوس وهي تنتظر كريم، وبيدها مجلّة "سيّدتي" تتصفّحها بعمق حتّى تغيب عن صفحاتها، لا يهمّ كنتُ أقول أنا سيّدتها، وعليها أن تغيب عن البيت. حاولَت في يوم أن تُحادثني، قالت لي: "في أيّ كليّة تدرسين؟ أنا استكملت دراستي منذ سنة، تخرّجت بشهادة الهندسة، ولكنّني كنت أفضّل أن أدرس الفنون الجميلة، العائلة كانت ضدّي، قال أبي بأنّه يحبّني إلى درجة ممانعته في انتقالي إلى تونس العاصمة للدّراسة، البنت عليها أن تبقى في مدينتها قرب أهلها، ذاك ما كان يردّده الجميع".

حاولَتْ يومها أن تتصيّد صيغة تواصل بيننا، بقيتُ أنصت إلى ثرثرتها دون تعليق، خفت أن أتعلّق بها، يكفي أن يتعلّق بها سامي، فمن السّهل أن نواجه تعلّقا واحدا، أمّا أن نسقط الإثنان في التّورّط فتلك نهايتي قبل نهاية أيّ كان. قالت بأنّها تعرّفت على سامي في معرض لأحد الرّسّامين، "سامي فنّان مغمور، من الهوّاة القلائل الذين لهم لمسة بديعة، كنت سأدرس الفنّ، وها أنّي أكون موضوعا، مادّة فنيّة، وبدل أن ألمس الألوان، أن أحترق بأصباغ الزّيت، أحترق بنظراته تثبّت بين الفينة والأخرى على وجهي وجسدي". كادت تقتلني بتلك الكلمات الأخيرة، هل فعلا كان يحرقها بنظراته؟ ألم تكن نظراته أشبه بالماء البارد الذي ينزل من جبل شاهق؟ لماذا كنت أشعر وأنا أمام عينيه بأنّني ثلجة، ونظراته... أنا رأيت نظراته تتيه في الفراغ وهو يصوّب عينيه عليّ، فكيف تراها ريم حارقة، إحباط آخر يضاف إلى إحباطاتي، الحجارة وحدها من لا تشعر بما يشعر به الآخرون، هل فقدتُ الإحساس بالآخرين؟

نهضنا من جلستنا بالمقهى، لم تكن هناك نتائج لمفاوضات، كانت جلسة صامتة، يأتي النّاس إلى البحر للبوح، كلّ يدلق أسراره ويطرح أحلامه، يعترف بالأخطاء أيضا، يطلب المغفرة، يمكن له أن يصيح أحيانا، ويستنكر ويصرخ، يتعرّى أمام البحر، يسمح للأغراب أن يسمعوا صوته يرتفع فوق شعر الرّأس، ولا أحد ينكّس رأسه، كلّنا يمكن أن نتجاوز قاماتنا فنذهب إلى حيث نتمنّى أن نكون، هنا الخيال من نسل البحر، لكنّ بحر "سيدي منصور" في سبات عنّا، والبرّاكة أشبه بمركب سكران يكاد يرتطم بالشّاطئ الملوّث. ليلتها طرق باب غرفتي على غير عادته، كان يناديني بأعلى صوته حين يريد دعوتي إلى العشاء أو لشيء آخر. هذه المرّة، وخز الباب كأنّما نقر جسدي، لم ينتظر ردّي، دخل الغرفة، اقترب من لباس نومي أكثر، صارت رائحته أقرب من الهواء في فوهتيْ أنفي. شممت لأوّل مرّة، رائحة أبي عند استفاقته من سكره، الرّائحة ذاتها. فقدت لحظتها التّمييز بين ما أشمّ وبين رائحة عرقٍ طافح على جلدي. جالت بذهني مشاهد قرأتها عن الخلوة بين العشّاق، ارتبت من يده تنتهك جسدي، رأسه يكاد يثقبني.

انهالت عليّ جملة النّفزاوي "إذا أردت الجماع فعليك بالطِّيب" ولكن أيّ طيب تلك الرّائحة. قلت في رمشة عين لن أستسلم له هكذا، غير أنّه بطيء الحركة، لا يتكلّم، جعلني واقفة على قدم مرتعشة، إليتي إلى الجدار، ثبّتني بيديه في وضع من يُصلب، ترفّقت في ممانعته. قلت إنّ يده ستنزع تنّورتي بقسوة، ستأتي على جذعي كفأس عطشى للقطع، سيغرز أظافره في صدري، ويلتهم حلمتي بل يقضمها بأسنانه، سيفتحني مثل مدينة آهلة بالشّوق إليه، سينتصب فيّ راية لزمن جديد، ويبلّلني أنا الجفاف الماكر، ويثرثر جسده بدلا عن لسانه عابثا بممتلكاتي، قلت ما انتظرته، غازيا منتظَرا. في غرفتي هذه المرّة رجل مكر بانتظاراتي، ودفن رأسه في صدري باكيا، لست أدري من يبكي صاحبه. حملت رأسه بين نهديّ، جلست على حافة السّرير، كانت ركبتاه تجثوان على الأرض، ولم أعرف من أكون لحظتها، أمّه، أخته، امرأته، عشيقته، كنت فعلا شيئا آخر، تلك الحجرة الكيلومتريّة التي توقّف عندها سيره. وانهال على أذني لهاثه. اللّهاث نفسه الذي كنت أطلقه وأنا ألحق بالحافلة العموميّة.

بعد أيّام من تلك الحادثة، قرّرت أن أعكف على كرّاساتي، وأهرب إلى الجامعة، فالبيت مأهول بريم وببكاء سامي، أقضّي اليوم كلّه بين المشربة والمدرّج وقاعات المخابر. كنت أصل متأخّرة إلى البيت، أركب حافلة السّاعة الثّامنة، تكون فارغة، يسرع السّائق في الوصول إلى قلب المدينة، الحافلة أفعى تلتهم من يقف أمامها، لا أحد يستطيع أن يتجرّأ على ملاعبة الحافلة العموميّة، مالكة الطّريق بامتياز، تحتقر قوانين المرور، تعبث بالمواطنين المترجّلين والرّاكبين تلك الدّرّاجات النّاريّة الزّرقاء. كانت الأيّام تتوالى مثل المحطّات الخالية من المنتظرين. فكّرت في مغادرة الكليّة والمدينة على السّواء، امتحانات السّنة على الأبواب، وأنا سأجتازها بلا استعدادات متينة، بعض الموادّ لم أدرسها، اكتفيت بنسخ الدّروس من الزّملاء، وبقيت ليال أفكّ شفرة الخطوط، فكّرت في نعيمة، اشتقت إلى الضّحك، أحسست أنّ مدينة بلا ضحك مثل فسقيّة بلا ماء. تذكّرت كلماتها: "المستقبل هو أن تبقي في البيت في انتظار العريس وتضحكين على الدّنيا". ضحكت في المشربة حين سمعت أحد الزّملاء يقول: "إنّك لا تتابعين الدّروس منذ مدّة، يبدو أنّك تناصرين حملة المقاطعة"، وآخر يقول "أخيرا عرفنا توجّهاتك، وسعدنا بك مناضلة في الصّفوف، فعلا ما يبقى في الوادي غير الحجر". كم ضحكت على هذا التّعليق الأخير، كيف عرف أنّني حجارة!.

يشقّ الآذان مسمعي. عند كلّ مغرب يغمرني اللّهاث إلى بيت سامي، ما أبشع هذه المدينة حين تُغادرها الشّمس. فكّرت في العودة إلى القرية، من الأفضل أن أحمل أدباشي وأرحل، لا أستطيع أن أتمم هذه السّنة في ظروف كهذه. كلّ شيء غير تامّ، والوحدة موحشة، آلاف الرّؤوس تمرّ في هذه الشّوارع ولا أحد يهتمّ لأحد، أمرّ بينهم في خلوة المضطرّ إلى الانسحاب من ساحة معركة. داهمني شعور الغريبة، الوحيدة التي ترشقها العيون دون رحمة وهي تتكوّر في الدّاخل، وتناضل لأجل أن تبقى صلبة، واقفة، متماسكة في الظّاهر، ذاك الشّعور نفسه الذي اجتاحني أوّل مرّة حين وضعني سامي أمامه في ركن البيت وقال لي: "لا تتحرّكي، اختاري لنفسك صورة، وجها أرسمه" ولم أفهم عندها تلك الكلمات، ها أنّك يا باشيّة تختارين لنفسك وجها ومشية، تتقنّعين أمام العابرين والواقفين، وحدك يا باشيّة، لا لست وحدك! صورتك على القماشة، البورتريه الذي لم يكتمل بعد، هو أيضا وحيد، قرينك الوحيد، يقبع في ركن غرفة الاستقبال، وجهه إلى الحائط، مثل وجهك الحقيقي يا باشيّة! صمّمتُ على الرّحيل، عليّ أن أحمل لوحتي، لا يهمّ إن كانت تامّة أو غير تامّة، لا يجب أن أترك شيئا يخصّني في بيت قُذفت فيه بالصدفة! ما أفظع العيش بين الموتى، لو كان سامي حيّا لاقتلعني من وحدتي، وغرسني في قلبه، ما أشبهه بالأموات، ربّما هم أفضل، لا يعذّبون أحدا، ولكنّ صوت أمّي يعذّبني منذ شهور "ياباشيّة انتبهي لزرّاعة الشّوم".

قال لي ونحن نودّع البرّاكة "علّني أخطأت ياباشيّة، جعلتك تتعلّقين بي، وأنا مثل الزّئبق تماما، لنبق صديقين، قالها بمرارة واسترسل: "لا أستطيع أن أعرّف معنى الصّداقة، تحديدا بين امرأة ورجل، ولكنّني أستطيع أن أحدّد أعدائي، العدوّ هو من كان في خندق الصّداقة ثمّ تسلّلت روحه إلى خندق المنافقين، الأعداء الواضحون ليسوا أعداء بالمعنى العميق للكلمة، أولئك لا يخيفون أحدا بل يسعى الإنسان إلى مواجهتم، بينما أصدقاء الماضي، أصدقاء الأمس من المتاجرين بالخبز والملح هم أعداء اليوم، هم الأعداء بامتياز". سحبت نفسي من غلواء فكره، لا أذكر أنّ لي أعداء، وهو ما يعني بتحليل سامي أنّ أصدقائي لم يتحوّل أحد منهم إلى خندق المنافقين، ولكن مَن أصدقائي؟ نعيمة؟ فائزة؟ أقصد مَن من الرّجال؟ أيتحوّل سامي إلى عدوّ وهو حبيب نفسي؟ ولكنّه لم يرفع سيف النّفاق، داهمني بلسعة وضوحه، قال لي بعبارة موجزة "صداقة المرأة والرّجل لها طعم خاصّ، توابلها غير موجودة في المطبخ العربي، في منطقتنا العربيّة لا أحد يستطيع أن يلتزم بهذه الصّداقة، اللّهم إذا تحوّلت إلى التزام سريري". خانقٌ كلامه، يقذفه بسرعة طائشة، وله رائحة البصل في الأفواه ! هل أومأ لي بالرّحيل؟ بالطّبع سأرحل ! سأحمل صورتي من بيته، سأتخيّر لها مكانا في غرفتي ببيتي، وأترك له الفراغ والصّمت، آه وريم أيضا، نسيت تلك الزّرافة، كيف يرسمها وهي على تلك القامة، ألا يخرج عنقها عن إطار القماشة؟ كنت متيقّنة من أنّني وحدي خارج الإطار.

البيت منذ ثلاثة أشهر يوفّر لي معنى الرّحيل إلى الدّاخل، فقلّما توجّهت نحو الخارج، الجامعة رحيل داخلي أيضا، وسامي لا يدعوني إلى الخروج إلاّ لماما. ورغم كرهي لريم فلا أنسى فضلها أحيانا في خروجي معه. ولكن أنا لا أكرهها بالتّحديد، الكره شجرة طويلة تنبت في الصّحاري خالية من الأوراق، نعلّق عليها أثواب الموتى من التّائهين، الكره امتداده أطول من طرقات قلبي، فأنا لم أتعلّم الحبّ حتّى أتعلّم الصّعود إلى الكراهيّة. لكلّ شيء أوانه، ربّما.

شكرت ريم في مساء ذلك السّبت، أحسست يومها أنّها فعلا مجرّد موديل آدمي، أنّها لم تأت إلى هذا العالم الصّغير لتشتّتني أكثر ممّا أنا مشتّتة. دفعتني إلى الخروج معه حين اقترح عليّ أن نسهر معا في مطعم "الشّرق". لم أكن أعرف هذا المطعم من قبل، المطاعم تعني طابورا من الانتظار، وأكلة معدّة للمئات على طاولات ممتدّة في المطعم الجامعي.

اقتربنا من كراج على مرمى نظر مبنى قنصليّة دولة عربيّة، ركن السّيّارة، خلت أنّه يتهيّأ لتقبيلي بحراسة أمنيّة، فالشّرطي يذرع الرّصيف، يتثبّت في رقم السّيّارة من بعيد، ولكنّنا نزلنا وتسمّرنا أمام مدخل الكراج، بالقرب منه تماما، تبدّت لي بوّابة مطعم فاخر. لا أحد يصدّق أنّ خلف هذه البوّابة رفاهة وعالم من الغرابة، كان المطعم أشبه بعلبة كبريت قابلة للاشتعال، الطّاولات متسمّرة في مكانها في شكل شريطين متوازيين والكراسي كذلك، لكن السّمّار يتحرّكون في كلّ اتّجاه إمّا بالأيدي أو بالرّؤوس، يلهجون تباعا على وتيرة صوت المطربة "أمّونة"، رائحة الخمرة تقرع الأنوف، والسّقاة يجوبون الفضاء بزيّهم البنّي، ينتشرون بين المطبخ والقاعة، يوزّعون الطّلبيّات في حركة تشبه رقصة هنديّة غير متأنّقة. نظرت إلى السّاهرين، لا أعرف لمَ كان عدد البنات أكثر من عدد الرّجال، أحسست بوفرة الأنوثة على الطّاولات، حتّى بعض الرّجال لم يكونوا رجالا كما أعرف! يتحدّثون بصوت شبيه بالنّساء يُمعنون في تحريك الأيدي وهزّ الخصر وهم جلوس، يغنجون بطريقة مستفزّة، يتطاولون على أنوثة المرأة!

جلسنا في ركن شاغر، كانت الطّاولة بانتظارنا، حجزها سامي خصّيصا لي، كانت جلسة مبرمجة إذن! كلّ شيء في المطعم بدا لي غير أليف، شيء واحد دفعني إلى التّكوّم على ذاتي، القرنفلة اليتيمة في مزهريّة فخاريّة. جلس سامي قبالتي، الوجه في الوجه والعيون هائمة، كم من مواجهة تتطلّب الغياب حتّى لا نشعر بوخز ما. شعر بدهشاتي تتبعثر شمالا ويمينا. أومأ لي: "لا تندهشي، المطعم مكتظّ بالمخنّثين"، صمت قليلا كأنّه يبحث عن آهة تطلع من أعماقي، لكنّني أمسكتها بين رئتيّ، لا يعقل أن أتعجّب من هذا الأمر، المطعم أشبه بصفحة من صفحات ألف ليلة وليلة، وعليّ أن أتعامل مع ما يحدث كما لو أنّه وقائع اعتياديّة في حكاية لا تعدو أن تكون حكاية، مفرغة من الحقيقة. هناك حقيقة واحدة أنّني أواصل السّير إلى التّيه، وهذه المرّة دون إرادتي، ولا أقصد أنّ سامي يورّطني عمدا في شرك الضّياع، أحسست بانجذاب نحو مصير ما، دون أن أكون فيه على اختيار. كدت أغوص في أوغال تخميناتي. سألني السّاقي "بيبسي أم شيئا آخر"، صحت في وجهه دون أشعر"بيبسي طبعا!" لكنّ صيحتي بلغته متأخّرة ولم تزعج إلاّ مخنّثا في الجوار.

استمرّ سامي في الحديث عن مشروعه الجديد. قال لي إنّه أتى بي إلى هنا ليكتشف ردود فعلي تجاه هذا العالم، قال بالحرف الواحد، مازلت أذكر ذلك جيّدا: "أفكّر بأن أرسم العالم بعينيك، كثيرا ما رسمته بعينيّ، وجدته أليفا، ربّما حين أراه بعينيك يصير أروع"، كان يحلم إذن بأن يجدّد رسوماته باستخدامي كأداة إدراك، يصيّرني وسيلة، يأتي بي إلى هنا كي يلتقط أنفاسه ليعيش. وأنا؟ من يلتقطني من هذا الضّياع. أخذتني "أمّونة": " الطّفله اللي غِرتُوا منها... حبِّيوتوني باشْ نِنساها" ترنّحت مع ترنيمها، رأيت بقعا خمريّة على زنديها العاريين، رحت أدندن وتركته يهذي، يتعالى الغناء وأتعالى عن البيبسي، أفتكّ كأسه المتورّد وأقذفه في جوفي جرعة واحدة، أشياء عديدة تُقذَف بطلقة واحدة، فعلا الجرعة كالرّصاصة. أشحت بناظريّ عنه. في لحظة خاطفة أدركت أنّ العالم غير الذي كنت أعرف، لا يمكن ردّه إلى لونين، أبيض وأسود، إلى مكانين الجنّة والنّار، إلى قيمتين: الخير والشّر، هناك مناطق تقع في الوسط، نظرت إلى ذلك المخنّث وأطلقت قهقهة لم ينتبه إليها أحد، بلغ الغياب أوجه لدى الجميع. أغرب ما في الأمر أنّ السّاهرين يشتركون في المكان وفي تبادل المتعة، ولا أحد يعنّف أحدا بنظراته. هناك تضامن غريب بين الجميع، استماتة في شيوع البهجة. تجرّعت الكأس الثّانية جرعة واحدة أيضا، ولم أشعر بثقل في الرّأس، بل تسرّبت إلى أوصالي روح الخفّة، وجدتني أتمنّى الطّيران، كان الحمام يحلّ على سطح بيتنا، يسجع إلى أن تنهال عليه جدّتي بالحصى، تقول دائما "ربّي يبعّد علينا الحزن".

شعرت بأنّني أقف، أتملّى وجوه السّكارى، مثل ناظر محطّة القطارات، أرقب ولوج أوّل قطار لأطلق صافرتي، قبل صافرته، أرى الوجوه رؤوس قاطرة قادمة، تتمهّل في أكل السّكّة، أرى العيون تبادلني ما أرى، هناك غبش طريّ في اتّجاهي، بقيت واقفة، ويده تمسك بالطّاولة، هل أفزعته؟ خاف أن تندلق القارورة عليه، لم يستطع الوقوف، فقدتُ على ما أظنّ استقامة الواقفين، وكدت أسقط. فكّرت للحظات متسارعة بأنّ السّقوط متعة، سطح البيت، البلكونة، وغرناطة، مسك السّاقي ذراعي، لا أدري لم تفحّصت وجهه، تهيّأ لي أنّه يبكي، رأيت فيه وجه أبي عبد اللّه الصّغير، قلت له بنبرة ساخرة "ابك كالنّساء مُلكا لم تصنه كالرّجال". وقهقهت، سمعته يقول "بيت الرّاحة من هنا يا مدام!" ولكنّني لا أريد أن أتبوّل، التّبوّل في الأماكن العموميّة أمر غير مستحبّ، هذا ليس كلامي، كانت فائزة لا تدخل مرحاض المبيت الجامعي، تقول إنّه مستقرّ للجراثيم، وكانت تخبّئ حكّة الطّماطم الفارغة في ركن البلكونة لتستعملها عند الحاجة، أوه ! كنت أرقب الحكّة كلّما خرجت إلى البلكونة لأنشر غسيل أدباشي، قليلا ما كنت أميّز بين بولها فيها وبين ماء "الجافال". لم أسر في اتّجاه بيت الرّاحة بالطّبع، أقعدني السّاقي.

سارع إليّ سامي بكلماته: "لا تشربي، حتّى البيبسي دعيه جانبا، أنت غير معتادة على الشّراب"

همست له بوداعة: "سأشرب بريق عينيك" ابتسم قليلا، ربّما أحسّ بأنّني عدت إلى استقامتي، ولكنّه لم يقل لي مثلا "بل كُلي عينيّ"، كان يضع كفّه تحت ذقنه ويتفحّصني، لا أعرف من كان يأكل من؟ أحسست أنّ شهيّتي للأكل انفتحت، ولكنّني انتفضت بمجرّد أن اقترب منّا أحد المخنّثين، جلس إلى الكرسيّ المجاور لي دون أن يستأذن، كأنّ هذا الصّنف من النّاس لا تشمله القواعد الخاصّة للأسوياء، فالقانون وضع للقاعدة العريضة المتشابهة، هذا الصّنف ينتمي إلى الاستثناء.

قال سامي:

ـ "تريد سيجارة؟ أم كأسا؟"

نظر إليه المخنّث بريبة، ثمّ قال بتودّد:

ـ "المعلّمة تريدك في أمر"
ـ آه ! لتتفضّل إلى طاولتنا، باشيّة ليست غريبة !
ـ لا ـ قالها بترقيق فاجر ـ تريدك وحدك. دلق كلماته ثمّ اختفى مثل حرباء طويلة ونحيفة.

ما صلة سامي بتلك المرأة، ما صلته بهذا العالم أصلا؟ خلته أبعد ما يكون عن هؤلاء المهمّشين في الواقع، هل تعرّف إليهم بسبب مهنته كسائق تاكسي، ألم يقل لي مرّة "التّاكسي يا ما هزّ، رهوط يا ما رهوط، المسّخ والنّظيف، القحبة والشّريف"، وشعرت يومها بنوع من التّقزّز تجاه اللّفظة السّوقيّة التي استخدَمها، أشحت بوجهي كأنّه قذفني بحجارة، خدشتني اللّفظة فما بالك أن أجلس إلى جوار صاحبتها، أشكرك أيّها المخنّث من صميم خجلي على إعفائي من هذه المصيبة!

خمّنت أن تكون حريفة سامي، وربّما واحدة من اللّواتي رسمهنّ في الماضي. لا، لا.. أستبعد ذلك هل نتساوى جميعا أمام قماشة الرّسّام، أوه يجب عليّ إبعاد هذا الافتراض.. ولكن إن كانت تلك هي الحقيقة فهل يعني أنّ سامي لا يفرّق بين النّاس، وأنّ همّه الوحيد هو الرّسم فحسب؟ أم تراه.. لا.. هذا افتراض غير معقول، صحيح أنّه مطلّق وقد يحتاج إلى دفء الأنثى، ولكنّه أبعد ما يكون عن هذا، سامي له عفّة، رجل من ورق. المهمّ أنّه لم يبطئ، كرهت البقاء وحيدة، المشكلة أنّ الوحدة في الدّاخل متاهة لا تكاد تتشعّب حتّى تخلق متاهة أخرى.

ـ باشيّة هل مللت الانتظار؟ "المرا" تريد منّي أن أرسم لها صورتها لتشتغل بها مع الزّبائن، يعني طلبت منّي أن أساهم في تنمية شركتها المتنقّلة الخارجة عن الأداءات البلديّة والتّجاريّة!

صبّ كلّ مفرداته وضحك، لكنّه أكل ضحكته الأخيرة حين

جدني شبه شاردة.

قلت له بصعوبة:

ـ أريد العودة إلى الدّار
ـ تقصدين نقطع السّهرة ونعود إلى البيت !
ـ لا.. لا.. أريد العودة إلى بيتي في القرية.

سكتنا معا في لحظة واحدة، لأوّل مرّة نشترك في شيء ما، الصّمت نعمة والكلام لو كان.. "لو كان موش الصّبر يطفّي ناري" استرسلتُ في الإنصات إلى أمّونة، من أين خرجت هذه المرأة، صوتها يذبحني، والكلمات، قتل اللّه من أحيا هذه الكلمات! أندسّ في السّمكة التي أمامي، "وراطة" متمدّدة على راحة صحن، هنا لا أرى غير السّمك يتمدّد على الطّاولات، لا يمكن للبحر أن يرثي أبناءه، لاشكّ أنّ المطعم شبكة، وطُُعْمها هذه المرأة.. "آنظر كيف تغنج، تكاد تقع على الأرض باستمالة خصرها".. واصل سامي الصّمت يتنفّس بقوّة فيبتلع دخان سجائر مدخّني الطّاولة المجاورة.. "قالوا ها الأرض مدوّرة.. مْدوّرة.. مْدوّرة.. مْدوّرة.. مْدوّرة يا مْدوّرة" أيّ دوران يا أمُّونة.. شعرت بالحصار، الرّوائح، أمّونة، حتّى السّمكة تحاصرني، تنظر إليّ من أسفل، أخاف كلّ نظرة تنطلق من الأسفل إلى الأعلى، جدّتي ترقبني من أسفل القدمين إلى أعلى خصلة في شعري، من أسفل الدّار إلى السّطح، وسامي يمعن في حصاري بعينيه الكستنائيّتين، الدُّوار هو الطّريق إلى البيت. وصورتي ألا أحملها معي؟ هل أتركها على أرضيّة قاعة الجلوس أم على هذه الطّاولة، أم أجاري الدّوار إلى حيث يذهب بي؟ ألم يقل جبران "علينا باتباع العاصفة" ولكنّ الدّوار غير العاصفة، ولكنّ الأجنحة هي هي متكسّرة! أوه بدأت أسكر فعلا، وسامي يتغضّن وجهه، لا أرى في عينيه غير هذا السّرير بملاءته الباردة.

ضربتني لسعة الهواء حين أطللنا برأسينا من المطعم كحلزونين، لا نتواشج، ونتعاند في ذلك، أطلّ علينا الشّرطيّ من بعيد، صوّب شكوكه ثانية إلينا.. دفعني سامي في السيّارة.. وبدأت أقطف معه النّجوم نجمة بعد نجمة.. إيه نِجْمهْ، تذكّرت. لماذا رشّتني بالماء.. وجلستْ صامتة بردفيها المكتنزين إلى جواري وهي تنتظر سيّارة الإسعاف؟

بعد منتصف اللّيل، للمدينة رائحة أخرى. من بلّور السيارة أنتبه للسّحب الذّخانيّة التي تجثم على البنايات الشّاهقة، لكن هناك قليل من الضّوء، بقعة طائشة في ركن سماوي بعيد. اللّيلة يا باشيّة قد تكون ليلة القدر، ولكن رمضان فات، إيه رمضان مسترسل، ألستُ صائمة عن الأكل، والحبّ والجنون.. سامي يقود بجنون في قلب المدينة، مراوغات شريدة، لا أحد في الشّوارع غير الصّمت، ومع ذلك يسرع كأنّه يفلت من قبضة مارد يجري خلفه، وهو يقود بهدوء، السيّارة إذن تنقاد لوحدها، تسرع لتقلّنا وترمينا في البيت، وليلة القدر ألم يقولوا بأنّها تأتي بشكل خاطف، تنكشف ثمّ تختفي بأسرع وقت ممكن حتّى لكأنّها لا تنكشف.

أراني أتسلّق النّجمة هناك، أدخل دخان المدينة لأعبر من فوهة السّماء، عارية، مطليّة بأحلام البنات في ليلة عرس الجيران، أسمع زغاريد تطلّ من ذبذبة الضّوء في عينيّ، أسمع أصوات العصافير المقيّدة في أقفاص الحديقة العامّة، والبطّ رأيته يسبح معي في بركة واحدة. في السّماء بركة صافية متلألئة بفتات الخبز البارد ورغوة الآباء ينهرون أبناءهم على ضرب البطّ المُسالم. رأيتني أعرج إلى سواد عميم، لعلّني في سماء ثانية أو ثالثة، لم أجد مؤشّرات على ذلك، الصّعود إلى الأعلى لا يعرف عدّا، ألتقي بوجه امرأة مدبرةٍ عنّي "إنّها أمّك يا باشيّة"، امرأة تقاوم خطى الرّومان، لكنّ ملامحهم غير واضحة، أسمع كلامهم الغائم فلا أفهمهم، صياحهم يتداخل مع أصوات الموتى الطّازجين. أصعد إلى هذه الأصوات جالسة على أيّ شيء؟ هو كرسي السّيّارة بجلده الأسود ودون حزام أمان. تعلو هتافات تشرخ طبلة أذني، يزيد الهتاف، يصمّ أذنيّ، ظننت أنّ الطّنين في الأرض فحسب، هذه السّماء مليئة بالطّنين، "هي الأرواح المعذّبة ياباشيّة، انتبهي جرم يتقدّم نحوك أم روح تائهة ذبيحة؟"

أرقص بهذا الكرسي، أصير هزّازته، اعتدت الرّقص تحت لهيب الشّمس في باحة البيت، أمّا أن أرقص أمام لهيب اللّيل؟ "ارقصي يا باشيّة الدّنيا فيها الموت" يعاودني هذا الهاتف، يبتلعني في المجهول فأنكمش على نفسي، يضربني شعر فاحم على صدري، أتوجّع من هذه السّياط، أكتشف أنّي عارية فعلا، أين ذهب الفستان؟ أمسك بالشّعر، وأسمع صوت الموج، "الموج في السّماء؟" أقول في سرّي. ينتابني شعور بأنّ أحدا يستمتع بالنّظر إليّ وما من أحد. هو الهاتف يعاود مجدّدا "مثلما أنجبتكِ أحبّك عارية من شوائب الدّنيا" تملّكني الذّعر، هذا الصّوت لامرأة، هل هي فعلاَ أمّي؟ هل تسلّقت شجرة السّذاجة إلى أن بلغت إليها؟ "إيه يا باشيّة، غدا تلتقين بأمّك فتلفّك تحت جناحيها لتهبك الطّمأنينة" من هذا الهاتف الآخر؟ هذا صوتي أعرفه من شدّة حديثي إلى نفسي، ولكن أيعقل أن تناديني أمّي ولا أستجيب؟ يتضاعف ضرب خصلات الشّعر، لأوّل مرّة يستثيرني الرّقص وأنا عارية، أرقص وأمرّغ ذراعي في هذا الموج من الشّعر، أرقص وأنا أصعد درجات فوق درجات والشّعر يطول، ويطول إلى أين؟ تزداد العتمة، لكنّني نسيت أن أفتح عينيّ، كيف رأيت كلّ هذا؟ أرى بأذنيّ، تكبر صورتي في السّماء والدّرج لا ينتهي، شعرها أطول ممّا كنت أعتقد، أريد وجهها لا قفاها. جدّتي قالت أنّ شعرها يغطّي وجهها، اعتدنا أن نرى الشّعر على الظّهر، ما أطول هذه السّتارة، أتحسّسها بعينيّ وألمسها بأناملي، عليّ أن أفتح عينيّ بقوّة، علّني أراها كما أشتهي برقا في وجهي وطاحونة تأكل الماضي لتهبني قمح المستقبل، "افتحي عينيك يا باشيّة.. افتحي.." ها أنّي أفتح رويدك يا أمّي.. رويدك.. ما فتحت شيئا لأحد، أبوابي مغلقة وجسدي مغلق وعيناي كتلتا شوق متحجّرتين.. رويدك.. ها قد فتحت طلقة واحدة. آه.. ينفتح صوت باب حديديّ متآكل، أفتح عينيّ مرتعبة لأطلّ على غبش بلّور السيارة أمام باب العمارة.

(8)

تُهتِ يا باشيّة؟ أما آن لكِ أن تحملي صورتكِ وتختفي من هذه المدينة؟ ألم يحن وقت إيقاف هذا المدّ من اللّهاث؟ المساء لا يشتهيك، يقبّل الشّمس المتوارية، وأنتِ ما بالك قلقة على غير العادة. عفوا أكثر من العادة، تقدّمي نحو قرارك، القرية في انتظار أبنائها وبناتها، الجامعة ستظلّ جائعة إليك، ولكنّها لن تموت جوعا، لها ما يكفيها من الحطب، بينما أنتِ تحتاجين إلى راحة، تحتاجين إلى صلاة الطّمأنينة والسّكينة. المساء مرّة أخرى يزعجك لأنّه ثقيل هذه المرّة، قرص الشّمس يضغط أكثر على أنفاس المدينة، العيون لا تعشى تماما لكنّها لا تتبيّن مصيرها بشكل واضح، تنفلتين من زحام الشّوارع صوب ذلك البيت، لتَحملي نفسك هذه المرّة ولتتّجهي صوب محطّة القطار. عودي من حيث جئتِ، وأوّل ما تفعلينه في المستقبل مرافقة أبيك إلى قبر أمّك، قولي لها "إنّ الوحدة تهزّ الحصون"، قولي لها "إنّ بينك وبين سامي مسافات سرابيّة"، قولي لها "إنّني غير قادرة على الاندماج وسط هذا الضّياع". وبجرأة قبّلي أباك ارتمي في حضنه، ابقي هكذا معلّقة بين ذراعيه.

أيّتها النّفس القلقة، سأعود، ها أنا أتّجه صوب بيت سامي. دمّرتني الاجتماعات العامّة، حضرتها يوم الخميس، ذلك اليوم المحنيّ على ظهري، وأناشيد الطّلبة تتدفّق "كانْ خميسْ يُومِ الخميسْ.. الشّعب كبّر.. اللّه أكبرْ.. لا ينفع بوب ولا بوليس.. والخسيس دَيْمًا خسيسْ.."، احتفل الطّلبة بعودة المجنّدين، قالوا إنّ ذلك انتصار لا ريب فيه، "هذا يوم من أيّام بدر."، استقبال الطّلبة بيمنيّيهم ويساريّيهم كان أشبه بيوم العيد في ساحة الكلّيّة. بقيت أتفحّص وجوه الزّملاء، أهفو إلى رؤية"حسن" هل عاد فعلا؟ كنت أبحلق بقامتي، أحاول أن أعتلي كتف زميل لي يفوقني طولا علّني أجد "الغولة" فقد طال بي العهد دون أن ألقاها، وهي لن تتخلّف عن هذا الاستقبال، ولكن لا أثر لفائزة. سرت في الشّارع الرّئيسي، بدأت أسرع، عليّ أن أرحل، لا سبيل إلى البقاء، ليس في رأسي غير فكرة الرّحيل، والدّروس لم أتابعها، من المستحسن أن تكون هذه السّنة بيضاء، مثل الثّلج الذي لم أره إلاّ على شاشات التّلفزيون. ولكنّني أشعر به يمتدّ في أوصالي. بلغت باب العمارة، الباب مفتوح كعادته، فتّشت عن مفتاح البيت، لا أريد أن أطرق الباب علّ سامي مندغم في حالة الرّسم، لست مزعجة إلى هذا الحدّ. تلمّست المفتاح بيدي اليمنى، أدركت لوهلة سريعة أنّني سأفارقه ويفارقني، هكذا مرّ طيف هذا الفراق. وقفت أمام هذا الباب، ما سمعت شيئا منبعثا من البيت، اعتدت أن تترامى إلى مسامعي الموسيقى التي كان ينصت إليها سامي عند انغماسه في الرّسم، ولكن ما من صوت، ربّما لم يصل سامي بعد؟ ولكنّه لا ينكث عهدا مع نفسه، " التّقاليد، إنّني أمقتها، ولكن لا يعني ذلك أنّني خال من تقاليدي الخاصّة، لي أوقات للرسم، أوقات للعمل، أوقات للمرح، يعني جدول أوقات مكتوب منذ الأزل، كلّ ذلك هو التّقاليد" كان ينفث جمله مثلما ينفث مدخّن سيجارته في وجه السّماء. فتحت الباب بهدوء، ودنوت من قاعة الجلوس، عيناي تتحسّسان المكان، بحثا عن سامي، لا أحد في القاعة. آه، وصورتي؟ ليست ماثلة كعادتها على الجدار المحاذي للشّرفة القصيرة، هل غيّر سامي مكانها؟ تقدّمت قليلا لأبدأ البحث عن صورتي، تناهى إليّ صوت مبحوح:

ـ أتعرف أنّك تقتلني.

استرقت السّمع، بدوت كمن تسلّم قنبلة يدويّة وهي في وضع منبئ بالانفجار، قطعت أنفاسي، رجلي اليسرى تسمّرت في مربّع الأرضيّة، شعور مرعب بأنّني محاطة بفضاء ملغّم، ليس عليّ التّقهقر ولا التّقدّم. قلت في سرّي "هذا صوت ريم"، واصلت الإنصات، لأوّل مرّة أكتشف أنّ التّماثيل تنصت ولهذا هي حرام؟

ـ قلت لكِ هذا أمر لا يعنيني.
ـ أنتَ تمزح، تعتبر هذه المصيبة أمرا بسيطا.. جنين في أحشائي وأنت لا تبالي.
ـ نزّليه، سأعطيك المال، لو أردتُ أطفالا لواصلت الحياة مع الشّمطاء.
ـ لا تفكّر بغير نفسك، أيّة أنانيّة تسجنك، أنت تعلم أنّ الطّبيب منعني من إجهاض ثان، ما كلّ مرّة تسلم الجرّة.
ـ لا يهمّ، قلت لك منذ البداية المتعة شيء والإنجاب شيء ثاني، اتّفقنا على هذا. لا توّرطيني في حكايتك.
ـ حكايتي؟!

بكت ريم بشهيق القطّة، بينما تزلزلتُ، خفتُ على هذا التّمثال الذي أصبحته أن يتهاوى حجرة، حجرة، فركنت إلى الجدار، اتّكأت عليه، شعرت بدوار، "الأرض مدوّرة" يا أمّونة، مدوّرة فعلا، أحسست بروحي تكاد تفارقني، هو الغثيان، يخرج الرّوح من صاحبها.

ـ أنتَ مورّط معي.. أنا لم أطالبك بالزّواج، ولكن هذا الجنين، ابنك، أو ابنتك.
ـ كفّي عن هذا القول، لا أريد أبناء ولا زوجات، سيّارتي هي ابنتي ولوحاتي هي أبنائي.
ـ تريدني فضيحة متنقّلة؟ ماذا؟ أين أداري هذه البطن التي ستنتفخ بعد أيّام.
ـ داريها بعيدا عنّي. هيّا اذهبي من هنا! لا أريد ذبابا في البيت.
ـ ذباب؟ تطردني لتنال من تلك القرويّة السّاذجة.

"تقصدك يا باشيّة، آدخلي ساحة عراكهما، فكّي وثاق كلماتك، اطرديها من عالم سامي، اكنسيها بعرجون البلح كما كنت تفعلين في حوش الدّار".. لا.. لا.. لا أستطيع. عليّ المغادرة، كلّهم أوباش. ينهال عليّ صياح ريم، أتراجع قليلا عن الجدار، وأدلف إلى قاع غرفة الجلوس، ما انفكّ الصّوت يقترب.

ـ لن تسخرَ منّي بهذه السّهولة.
ـ قلت لك اخرجي من هنا.. هيّا!
ـ آترك يدي.. جبان.. انتهت اللّعبة وعليك دفع الثّمن.
ـ ما ذا تفعلين يا مجنونة؟
ـ آتركني سأشكوكَ إلى الشّرطة.
ـ آخرجي.
ـ آه.. عليك اللّعنة.. يا فاسد.. سأريك ما تفعله النّساء في أشباه الرّجال.

يجب عليّ أن أهرب، أتراجع إلى الوراء، الجيش العراقي تراجع إلى الوراء، دخل مسرعا إلى قلب الكويت وخرج مسرعا مطأطأ الرّأس، دُكّ وهو يتراجع، لم تحبل الأرض سوى الدّماء، والأحقاد، وزمجرة الشّارع العربي. وأبي لم يعد إلى البيت وجدّتي عادت إلى اللّه، وأنا إلى أين أعود؟ أتراجع، هذا الصّوت ينتفخ مثل ضربة شمس، رأسي يتثاقل، يدور، الأرض تدور يا أمّونة، أتراجع ظهري إلى الشّارع، سياط النّظرات في كلّ مكان، تجلدني، تذيب طبلة أذني، تنقرها، غربان، غربان، غربان. أتراجع، أتهاوى قطعة شكولاته. لا أرى غير ما يشبه علبة ياغورت على طاولة. وأسمع صوتا، فحيحا مبحوحا.. مَنْ؟ أين أنا؟ هل هذا أبي؟ لا! الغولة تجرّ أبي من ذراعه، أكاد أراها تطلع من خلف قبر أمّي، تتطاول مثل زرّاعة شوم.


كاتب من تونس