رسالة السودان

التأليف والعرض المسرحي ومحمود امين العالم!

عصام أبوالقاسم

المسرح كان الاكثر حضورا في مشهد الشهر الماضي اذ شهدنا العديد من الندوات والعروض المسرحية، منبر(مسرحيون من اجل التغيير) ناقش تجربة عرض مسرحية طائرالصدى المفقود التي قدمت بمسرح الفنون الشعبية وهي من تأليف عثمان جمال الدين واخراج عادل حربي وقد قدم الورقة الرئيسة في مناقشة العرض ربيع يوسف وناقشه طارق البحر، ومنبر تجارب بالمسرح القومي استضاف الناقد الفاتح مبارك للحديث عن (سيمولوجيا الثقافة) ومهرجان ايام البقعة المسرحية بدأ مشاهداته التمهيدية لاختيار العروض المتقدمة لمسابقته الرسمية في الفترة 27 مارس الي 4 ابريل وغادرت فرقة مسرحية "فرجة بين سنار وعيزاب" من اخراج علي مهدي نورى للمشاركة بمهرجان المجد في الجمهورية الاسلامية الايرانية بعد ان قدمت عددا من عروضها في دولة الامارات العربية المتحدة، بالاضافة الي هذا التقي مدير المسرح الجديد د. شمس الدين يونس رواد المسرح السوداني ومجموعة من الفرق الناشطة وبحث مع الطرفين امكانيات التعاون تطلعا الي عهد جديد من الادارة المسرحية، والمدير الذي قوبل تعيينه من وزارة الثقافة بالكثير من السخط من قبل بعض المسرحيين مضي الي احداث تغييرات في بيئة المؤسسة العريقة واعداً بتحويلها الي مساحة لا يُطفئ نورها، وفي هذا الاتجاه قام بمنح جزء من بناية المسرح لتتحول الي دار للمسرحيين بعد ان عجز اتحادهم عن توفيرها لهم! كذلك أعلن المدير الجديد انشاء قاعدة معلومات تضم السير الذاتية للمسرحيين كما أقّر اصدار صحيفة (المنضرة) الناطقة بلسان المسرح بصفة شهرية. ووعد بتفعيل المنتدي الفكري وفتح سبل المشاركات في المهرجانات الدولية لجميع الفرق والمجموعات، بعد ان ظلت الفرقة التابعة للدولة تحتكر هذه الفرصة طيلة الوقت.

ومن جملة هذه الفعاليات سنتوقف عند الندوة التي اقامها المسرح القومي تحت عنوان (أثر التأليف علي العرض المسرحي) وتحدث بصفة رئيسة فيها محمد محي الدين وناقشه قسم الله الصلحي وعبد الحكيم عامر بحضور مجموعة من المسرحيين والصحفيين. وفي هذا الصدد نشير بداية الي انه من الصعب القول ان ثمة حركة مسرحية سودانية يمكن ان يُشار الي انها تحض أو تدفع الي طرح اسئلة نقدية كهذه، فالساحة ظلت لوقت ليس بالقصير مفتقرة للعروض المسرحية الراتبة أو المنتظمة، وليس ذلك بسبب ضعف أو غياب النصوص المسرحية ـ وهو ما ارادت الندوة ان توحي به ـ لكن لانها افتقرت لابسط المقومات التي يمكن ان تنهض بالفعل المسرحي، فالمنابر (الصالات والمكتبات) غائبة، ليس ثمة ورش عمل او مؤتمرات أو اصدارات او بعثات، ليس هناك ما يسعف فرقة شابة ما في ان تظهر ما لديها أو تعين ذاتها. صحيح ان ثمة تجارب تنطرح، من وقت لاخر، لكن ذلك يحدث بصفة طارئة،يحدث عشوائياً ـ كما هو الحال في مشهد شهر يناير المنصرم ـ ويمكن رد ذلك للكثير من الاسباب بالطبع لعل اهمها غياب اتحاد الدراميين والخلافات المتفاقمة ما بين الكيانات القليلة المتحركة في المجال بالاضافة الي إحجام الدولة ممثلة في وزارة الثقافة عن دعم الفنون! اذن ان ُيناقش شأن التأليف المسرحي هو قفز علي قضايا أكثر حيوية،قضايا تمس العصب الحي للحركة المسرحية، فالمسرح القومي، الذي أعد للندوة، عجز حتي عن الايفاء بأبسط ما يحتاجه أمر مثل اقامة ندوة، كما عبر احد الحضور، دعك من قدرته علي مقابلة أمور مثل تنظيم برامج وفعاليات تلبي تطلعات العشرات من المسرحيين الذين ظلوا علي حالهم العاطل منذ سنين!.

من بعد، قضية التأليف بصورة عامة هي من القضايا التي نوقشت كثيرا في الساحة الثقافية. بذل الكثير من الحبر فيها وهناك ما يشبه الاتفاق بين الجميع علي ان الكاتب السوداني يقصر عن المساهمة بصورة دائمة، فهو ما يلبث ان يتوقف عن التأليف بعد انجازه لكتاب واحد أو كتابين وقد شاعت عبارة (الكاتب السوداني نفسو قصير) كثيراً، وانت لن تشقي كثيرا لتجد من كتب: إن الشاعر الراحل عبد الرحيم ابو ذكري (1942 ـ 1989) تساءل مرة: «لماذا نحن أصحاب الديوان الواحد او القصة القصيرة الواحدة...  لماذا نحن شحيحو العطاء بهذه الطريقة»، ومن قبله قال الراحل احمد الطيب: «إن ثقافة هذه الأمة ثقافة شفوية، تعتمد على القصص المروى والنوادر المحلية وعلى المدائح النبوية...  فلقرون ظل الناس يسمرون في ضوء القمر وفي ضل الضحى، وقل فيهم من كانت القراءة هوايته ومسرته، فالثقافة المكتوبة امر مستحدث لم تثبت جذوره بعد، وحتى عهد قريب كانت الكلمة المكتوبة وقفاً على بعض بيوت الدين وقلة ممن رحم ربي ـ ولا ننسى ان القراءة عادة لا يسهل اكتسابها وهواية تشق المواظبة عليها».

ولقد اختار عز الدين هلالي ان يقدم لرسالته للدكتوارة (النقد المسرحي في السودان من البدايات الي 1985) بذات العبارة مؤكدا انه لمس ذات المشكلة وهو يبحث عما حفظته الذاكرة العامة من كتابات نقدية لاجيال العشرينات من القرن الماضي واربعينياته.. الخ، ومشكلة النفس الكتابي القصير أضيفت اليها مشكلة أخرى هي: النشر، فالقليل الذي كُتب لم ينشر الا نادراً (واذا نُشر ينقصه الرص الجيد والتصحيح وما الي ذلك) ويمكن الاشارة هنا لتلك النصوص المسرحية العديدة التي قُدمت على أيام المواسم المسرحية في السبعينات، الفترة الاكثر نشاطاً، فتلك النصوص علي كثرتها لم تنشر! ولم تتوفر اية إصدارة تتبعت شأنها أو شأن مواسمها على ما لذلك من أهمية!المكتبة المسرحية خالية، كما يقول عثمان جمال الدين، من الإنتاج النظري منذ معرفة السودانيين للمسرح عام 1881 الى الآن المعاصر حيث لم يتعد ذلك بضع عناوين "دراسات في المسرح السوداني" للدكتور الطاهر محمد علي "حرف ونقطة" و "تاجوج" لدكتور خالد المبارك "الحركة المسرحية في السودان" لسعد يوسف وعثمان علي الفكي!.

محمد محي الدين المتحدث الاول في الندوة أقر بأن في الحديث عن ازمة النص المسرحي تجاوز لمشكلة أكبر وهي ازمة المسرح، لكنه قال لنناقش اذن مشكلة النص المسرحي لانها جزء من مشكلة أكبر، وبهذا المنطق ابتدر حديثه مستعيداً التركة النقدية التي ناقشت مسألة ضعف الانتاج الكمي للكاتب السوداني، قال إنه هو الاخر يعتقد ان فترة السبعينات شهدت نشاطا مسرحيا نوعيا، وان العديد من الاسماء المسرحية طلعت من رحم تلك المرحلة واسهمت في الحركة المسرحية من مواقع مختلفة، وان ما يلفت في تجربة السبعينات انها قدمت العديد من الكتّاب «كتبوا بمختلف الاساليب وقاربوا موضوعات اجتماعية وسياسية شتي»، الا ان أثرهم لم يتجاوز تلك المرحلة، فلقد انقطعت الاكثرية منهم من الكتابة وبقيت في ذاكرة تلك الايام وقال «لماذا يكون نفس الكاتب السوداني ضيقاً، ولا يقدم سوى عمل أو عملين.. يمكن ملاحظة ذلك في الشعر والقصة.. الكاتب السوداني مقل وبخيل مقارنة مع الكاتب العربي والافريقي». وتساءل ايضا: «حتي تلك النصوص التي قدمت في وقت سابق اين هي الان؟» مضيفاً: ان انقطاع استمرارية التجربة في الكتابة الجيدة والترجمة والاعداد والسودنة والتعريب أدي الي هوة وفراغ بين الاجيال! لكن ما استجد في حديثه اشارته وهو المسرحي السبعيني الى أنه يعتقد ان ثمة تجارب شابة تتقدم في المشهد الان باسهامات مبشرة خاصة في المهرجانات التي تنظم من حين لاخر قال: «لايمكن الحكم عليها بالفشل أو الابتعاد عنها..اعتقد ان الاقتراب منها أمر مهم وضروري بالحوار والنقاش وبعقد السمنارات حول طرائق الكتابة المسرحية وتاريخها ونماذجها العالية ومدراسها..كلما اتسعت مواعين العرض كلما تخلقت افكارا جديدة». ما زالت الثقافات السودانية ثرية الحكايات والاساطير.. لا زالت ممتلئة بعالمها الساحر الغامض وتحتاج لمن يملك الخيال الخصب الخلاق لبلورتها في نصوص مسرحية هكذا انهي محمد محي الدين حديثه داعيا الي وضع الاستراتيجيات التي تنظم الفعل المسرحي في أطر فاعلة ومسؤولة،مشيرا الي اهمية الطباعة والنشر لاثراء المكتبة لكن قبل ذلك تحفيز الكتّاب ودعمهم. من جانبه عرض عبد الحكيم عامر الي تواريخ مختلفة جري خلالها التعامل مع النص المسرحي في كل مرة بطريقة مختلفة لتجسيده كعرض، واهتم بابراز الفروق ما بين الاتجاهات أو التيارات المسرحية في علاقتها بالنص المسرحي، وشارك الحضور بمداخلاتهم مرة في اتجاه ان المسرح السوداني يواجه مشكلة معقدة في التأليف المسرحي ومرة أخري في اتجاه ان المشكلات أكبر بكثير من قضية النص المسرحي!.

حول رحيل محمود أمين العالم
هذه افادات لمثقفين سودانيين حول رحيل محمود امين العالم الذي ارتبط بالسودانيين عبر مؤلفاته ومن خلال مواقفه، خاصة في الاوساط اليسارية ومنذ رحيله كُتب الكثير في أثره بالملاحق الثقافية وصفحات الرأي بالصحف، ويشارك في هذه الافادات عبر (الكلمة) امين اتحاد الكتاب السودانيين الاسبق الشاعر كمال الجزولي، والكاتب د.عبد الله علي ابراهيم والباحث غسان علي عثمان والناقد المسرحي راشد بخيت.


خاص وعام

كمال الجزولي

لعلاقتي بالعالم بعدين اولهما خاص: فلقد كان مبادراً في وقفة تضامن معي نظمتها مجموعة من المثقفين العرب عندما أُعتقلت في 1989، وهو أمر كان له وقعه في نفسي. والعالم كان ينظر الي كصديق فيما كنت اري انه استاذي، وقد تعلمت منه الكثير، ومؤلفاته الثرة افادت اجيالا عديدة من المثقفين السودانيين والعرب علي العموم.. في البعد العام كان محمود امين العالم داعماً قويا لاتحادنا.. تحدث عنه في المنابر المختلفة، وقد جاء الي مقره بالخرطوم وتحدث عن حراك المثقفين المصريين في الخمسينيات، وكيف انهم واجهوا الكثير من المشكلات، وكان لمساهمته تلك تأثيرها القوي علينا، كان صلبا في استنارته، منفتحاً ومبادراً بمواقفه لصالح كل ما هو ديمقراطي وحر.. رحمه الله.


يا آكلي المهلبية في الصبح بالمعالق... اتحدوا

عبد الله علي ابراهيم

كان السيد مهدي عاكف مراقب الإخوان المسلمين من بين الذين شيعوا أستاذنا محمود أمين العالم، المفكر الماركسي والمناضل المصري الفذ، إلى مثواه الأخير. وهذه لحظة غير نادرة جداً في تاريخ الإخوان والشيوعيين. فقد تحالف اليسار مع الإخوان المسلمين وحزب الوفد في العام 1954 لإنهاء انقلاب يوليو 1952 والعودة بالبلاد للديمقراطية الليبرالية. وهي القرارات المعروفة بقرارت مجلس الثورة في 5 ـ 25 مارس 1954 التي اتفق فيها للمجلس العودة للديمقراطية النيابية. ولكن المجلس أو ناصر حركا العمال في إضرابات لتلغي تلك القرارت بإرادة شعبية. وقد سير عمال حدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني الشيوعية) ترامات القاهرة لإفساد تلك الخطة. وتغلب ناصر أخيراً. وكان العالم جزءاً من هذا الحلف المناويء لانقلاب يوليو. ولكنه عاد بأخرة ليعض بنان الندم عليه. ولم ارتح لتبريره انفراد ناصر بالسلطة بضعف الشيوعيين وتحالفهم ضده في 1954. وبدا لي مما بلغنا عن الدولة الناصرية خيرها وشرها، مما يصح به القول إن محنتها كانت أنها لم تأخذ من الديمقراطية الليبرالية بطرف حتى غربت شمسها. وتحتاج الناصرية مع ذلك إلى تحليل أسدى وأنصع من تبشيعها الحادث الآن. فمن رأي أحدهم أنها جددت الوطنية ومدت من عمرها لعنايتها بالعدالة الاجتماعية وبواسطة قائد له هالة كاريزما ومعجون من طين مصر لأول مرة. وتحيرت في ناصر ونظامه القواعد السياسية والفكرية من إخوان وشيوعيين حتى أن خالد محي الدين كان يسأل العالم إن كان ناصر ديمقراطياً. فينفي العالم الديمقراطية عن الرجل. فيقول: خالد ولكنه فعل كذا وكذا. أما الإخوان فقد عادوه بصورة مستقيمة. حاولوا اغتياله أو زعم ناصر ذلك. ومن بقى منهم على جادة مقاومة ناصر مثل قطب طوقته العزلة لأن ناصر لم يترك لهم جمهرة. وبدا ناصر للإسلاميين فرعوناً لا قبل لهم به بغير تكتيك العزلة والتكفير والهجرة الواردة في "معالم في الطريق" في ما بدا لي وساماً من الجماهير المأخوذة بناصر. وانتشرت عقيدة الإصوليين هذه من مصر إلى بقاع في العالم كما هو مشاهد. والأصل فيها الجماعة الناجية المخاطرة المتوكلة لا الشعب المُنتظر.

وأضطرب الشيوعيون بالناصرية إضطرابا حتى قال العالم أن علاقتهم بانقلاب 23 يوليو كانت مداً وجذراً. ورد العالم هذه البلبلة لأنهم كانوا يحتكمون للنظرية في تقويمهم لناصر بينما كان هو يخوض غمار الواقع. فهم يريدونه على خطهم الطويل والمستقيم بينما كان هو يتقلب في تيارات الواقع يدنو من اليسار حيناً ثم يبعد حيناً. فقد عادته جماعات شيوعية من بينها فريق العالم. كرهوا منه أن يروا السفير الأمريكي في وداع الملك فاروق المخلوع. فاتهموه بالزيغ الأمريكي. كما أن الانقلاب لم يفرج عن المسجونين الشيوعيين بحجة أنهم سجناء جريمة اقتصادية لا سياسية. ثم جاء إعدام خميس والبقري وهم من قادة العمال الشيوعيين في شركة نسيج كفر الدوار ليتم الناقصة. ويبدو أن حدتو وحدها التي نظرت إلى جوانب وطنية ديمقراطية في الانقلاب لم يفطن لها الآخرون. فعلاوة على أنه كان لحدتو ضباط نافذين في الانقلاب مثل خالد محي الدين ويوسف صديق وأحمد حمروش فهي دون الآخرين تبنت من قديم "خط القوى الوطنية الديمقراطية". وهو حلف يسع الطبقة العاملة ولا يقتصر عليها كما جاء في برامج الحركات الشيوعية الأخرى. وكان هذا البرنامج موضوع جدل يساري ومؤاخذة لحدتو لتمييعها مقام الطبقة العاملة. وأسفت أن اليسار السوداني لم ير في خصومات اليسار المصري غير التشيع المهلك. فلو توقفنا عند مضمون خلافاتهم لربما فهمنا بصورة أجلى نزاع أستاذنا عبد الخالق محجوب والسيد عوض عبد الرازق في العام 1949 وما بعدها. فقد كان عبد الخالق عضوا بالحركة المصرية للتحرر الوطني (التي اصبحت حدتو). وقال لي حمروش في لقاء في ديسمبر الماضي إنهما كانا معاً في لجنة قيادة مدينة القاهرة. ووصفه بالنحافة الشديدة والاستغراق في عوالم الأدب. فلربما كان صراع عبد الخالق وعوض عبد الرازق أثراً من خصومات تشربوها في مصر.

ومشاهد اضطراب الشيوعيين حيال ناصر تراجيدية حين تتنزل إلى سير الواحد منهم. ولعل من أحزن لحظات سيرة العالم في كتاب "إعترافات شيخ الشيوعيين العرب" لسليمان الحكيم هي عذاباته من نظام لم يكن له غير الولاء أغلب وقته.. فقد تحالف الشيوعيون مع ناصر بعد عدوان إسرائيل على غزة في 1955 ثم العدوان الثلاثي في 1956. واندفعت كتائبهم إلى القتال بقيادة أحمد الرفاعي. وكان العالم وشهدي عطية الشافعي بمثابة أركان حرب الكتائب من مقرهما من مقهى الحرية المختلط بالقاهرة. ومات شهدي في المعتقل لاحقاً تحت تعذيب وقح. ثم جاءت وحدة مصر مع سوريا وقيام ثورة العراق في 1958 وتباينت مواقف الشيوعيين وناصر. وضغط أنور السادات على العالم لكي ينحل الشيوعيون في الاتحاد القومي حزب النظام. وتعالى العالم عن ذلك. وعاقبه السادات برفضه توصيله إلى منزله بزعم أن السائق نائم. واضاف السادات: "ما أنت بروليتاري مشي الرجلين مش مشكلة معاك". ولكن حين اعتقل النظام العالم كان الأمن يضربهم بالسياط بوصفهم مثقفين لطيفين مرتاحين: "يا أولاد الكلب يا البتاكلوا المهلبية "الرز باللبن" الصبح بالمعالق". أو كما وسوسوا لهم.

قال أحدهم إن العالم عاش في شباب دائم. فهو دائماً في حالة من الابتسام الفوار. وبسمته هي خطته للاستيلاء على الكون بالموعظة الحسنى. فلم يزال هو داعية الحارة المصرية الذي يعرف أن الهداية للحق هي عاقبة الأمور وإن طال السفر. والبسمة والضحكة شفاء عند العالم. فحكي يومً حملوهم إلى سجن أبو زعبل فأدمى سوط الأمن ظهورهم جرياً إلى داخله ومعه فؤاد مرسي. ثم رموه في غرفة مظلمة. فسمع ضحكات تأتيه من موضع مما فظن أنه نوع من التعذيب والإفزاع بالضحك. وتبين الضحك فإذا به صادر من زملائه مرسي وعبد المنعم شتيلة تعجباً من شكله الذي اصبح مسخرة. ودخلوا في نوبة ضحك هستيري.ونجحوا بذلك في قول العالم من منع الطغاة من اصطياد الإنسان داخلهم. وقال إننا بالضحك أعلنا فشلهم واحتفظنا بالإنسانية فينا. حزن شقيقه: وتواتر نبأ موت الدكتور عبد العظيم أنيس شريك العالم في تأليف كتاب "في الثقافة المصرية" الذي افترع لجيلنا طريقاً ماضياً في الثقافة. مات سيد (العالم) وفريد (عبد العظيم) وكانت تلك اسماؤهما من وراء حجاب في الحركة التقدمية المصرية. رحمهما الله ووسع عليهما بقدر ما اتسع نظرنا الأدبي والنقدي بفضلهما. والحمد لله.


في رحيل صاحب المواقف النقدية من التراث

غسان على عثمان

مساهمات محمود امين العالم في حقل الوعي العربي تمثل مدرسة فكرية بحد ذاتها، ومساهماته في حقل الأنثربولوجيا الاجتماعية واسعة ومعروفة، فمساره على صعيد التوفر على تحليل منطقي رياضي لقضية التراث ودراسته تجعلنا نطلق عليه "مثقف مُشّخص"، وان كان قد التبست مواقفه كثيراً وانغقلت أدواته في إطار "مركسة الوعي ـ من الماركسية" وذلك بسبب عقيدته السياسية، فالعالم الحاصل على درجة الماجستير من جامعة فؤاد الأول سابقاً (القاهرة حالياً)، تركزت جهوده حول البحث عن التأصيل للحداثة بكافة صورها وسؤاله، هل بالإمكان تحقيق الحداثة السياسية؟، والرجل يميزه تلك الحاسة المعرفية الواسعة الدلالة في مجال العلوم الإنسانية ونلمس ذلك في بحثه (فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية) حصل بها على جائزة الشيخ مصطفى عبد الرازق في الفلسفة. ولعل من مكاسب الوعي العربي التي يحسب للعالم دوره فيها هي تلك اللاعتيادية في طرح السؤال التاريخي، وذلك بتحقيقاته عن طبيعة الحالة التاريخية التي يتجلى فعل العقل العربي في مستوياته الدينية والفلسفية والعلمية، فمن يدرس كتابه: (الفكر العربي بين الخصوصية والكونية: الفكر العربي بين الخصوصية والكونية) سيجد السياسي فيه يسيطر على المفكر ولو على مستوى الحيدة العلمية، فمثاله هو كمثال كافة المثقفين العرب، والذي يختلط لديهم السياسي بالفكري، والعالمي بالمحلي، وصحيح بأنه ليس من الضرورة تحكيم أدوات العمل الفكري بإحدى الرايتين بل تتطلب الكتابة الفكرية مواقفاً يستبين قارئها حقيقة مجالية المادة العلمية من نفسها ومطابقاتها، ولكن عذر الرجل مجاهداته في الحزب الشيوعي المصري والحياة السياسية هناك، فقد أبلى الرجل بلاء حسناً في الدفاع عن معتقده السياسي وسجن في سبيله، ولذا نلمس فيزيائته المفرطة «بسبب ماركسيته» في توصيفه العلاقات والموجودات، وتحليله للمجتمع باعتباره مجموعة علاقات والسلطة فيها تمثل القوة فالعالم يكتفى في مرافعاته عن " التحليل الرياضي للمجتمع" بتشخيص تعميمي وهو غياب الغائية في مجتمعاتنا العربية وهذا موقف لا علمي بل تبريري في المقام الأول (راجع كلمته عند تسلمه جائزة بن رشد). ونقدية العالم تلك النظرة للتراث من "منظور مكتسبات الفلسفة الغربية الحديثة"، أي من موقع ذاك الذي أدرك تلك المفاهيم مكتملة فجاء لينتقد ويحاكم ويحكم ويحاور. ويبقى من حقنا أن نتساءل: أية فلسفة غربية هاته، ما دمنا نفترض فيها تعددا واختلافا بل وتناقضا، ومنطلق الحوار الذي لم يدعو له العالم هو حوار مع دعاة الإصلاح، أو على الأقل مع أحد أكابرهم وهو محمد عبده. إلا أننا سرعان ما ننجر إلى محاورة المادة التي حاورها عبده. ذلك أن عبده "نقد علم الكلام بذهنية كلامية، وحدد العقل بالمعقول، والمعقول بعلم سابق على العقل". فنقد التراث هنا حكم على التراث انطلاقا من مفاهيم غير نابعة من صلبه، فنحن لسنا بصدد وصف تقريري، وإنما موقف انتقادي معياري.

مؤلفات محمود أمين العالم يصح وصفنا لها بالموسوعية فالرجل قد كتب في كل شيء تقريباً (ألوان من القصة المصرية) دار النديم، 1955 تقديم د.طه حسين، (الثقافة والثورة) دار الآداب 1970، بيروت، (فلسفة المصادفة) 1971 دار المعارف، القاهرة، (هربرث ماركيوز أو فلسفة الطريق المسدود) 1972، دار الآداب، بيروت، (الإنسان موقف) 1972، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، (الرحلة إلى الآخرين) 1974، دار روز اليوسف، القاهرة، (الوجه والقناع فى المسرح العربى المعاصر) 1973، دار الآداب، بيروت، (البحث عن أوروبا) 1975، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت. والرجل صدر له ديونان في الشعر، وهذه الموسوعية تدل ورغم شمول مادتها وترابط بناها إلا أنها في نظرنا تعبير عن حالة المثقف الموسوعي في طبعته العربية التراثية، فالعالم ورغم نقديته اللاذعة للتراث، إلا أنه يشبه في قولاته مفكري "المقابسات" في العصور الوسيطة للثقافة العربية. وحتى لا يظلم جهد الرجل بسبب هذه الشمولية في الكتابة، نقول، أنه قد مارس دوره كتنويري فاعل لا خلاف في ذلك، ولكن حالته كحالة الفلاسفة المشارقة: وفرة في الإنتاج مع قلة في التوصيف، أو بعبارة أخرى الانشغال بالكتابة على حساب تجهيز الأدوات وبناء المفاهيم.

رحم الله محمود أمين العالم.


«الموتُ والموت الزائف».. أو في حياة الأطياف!

راشد مصطفي بخيت 

في العالم ظاهرتان مختلفتان للموت، تتجلي أولاهما في ظاهرة الموت (الفيزيقي) المألوف من فرط تكراره البغيض، بأن يغادرنا من نحب في برهة من زمان ماسخ، أجساداً تآلفنا مع فكرة وجودها لكنها سرعان ما تسقط من حواف ذاكرتنا إلا من بعض حنين لظروفٍ خاصة جمعتنا بهم! أما فكرة الموت الثاني، فهي التي تقف خلف مفهوم البقاء ذاك الذي جعلني أحس بالخوف للحظاتٍ طوال، وأنا أحاول أن أتلمس طريقة للتعبير عن فقد عزيز بالنسبة للحركة الثقافية العربية جميعها، فألهمتني هذه المخاوف فكرة الموت الآخر، الذي سرعان ما تأكدّت من حقيقته الأخري عبر التاريخ. وفحواها أن القليل من البشر الذين وُجدوا علي سطح هذه البسيطة، استطاعوا الإجابة علي سؤال الموت المستعصي علي كلٍ من الأديان والفلسفات كما سبق الذكر عملياً، بأن هزموه شرَّ هزيمة من خلال خلودهم الذي سطروه عبر صكِّ فلسفات ومفاهيم خلدت مع مرور الزمن، لتتلازم اسمائهم علي الدوام وجودياًً بالاقتران معها، رغماً عن مواتٍ زائف ألم بهم. فنحن نعرف (ماركس) مثلاً ونعايشه في لحظةٍ متأخرة من تاريخ القرن الحادي والعشرين، مع إنه يرقد مستريحاً من عبء الحياة غير متخطياً عتبات القرن التاسع عشر! والمسافة التي تفصلنا عنه بقياس سنوات الموت الفيزيقي بعيدة جداً، ومع ذلك، لا زال يتحرك بيننا حياً نتدارسه كطيف عنيد، مخيمٌ علي كل منعطفات حياتنا الحرجة، بحسب تعبير (جاك ديريدا) في كتابه الأشهر (أطياف ماركس)، وكأنه يعيش بيننا الآن، نتفق معه أو نختلف، ولكنا نظل في نهاية الأمر، نتحرك انطلاقاً منه في الحالتين.

ومن هؤلاء البشر الطيفيين هازمو فكرة الموت، يجئ المفكر والشاعر والناقد الأدبي محمود أمين العالم متربعاً علي عرش خلودٍ من نوع خاص، خلود رُسِمت حدوده وآفاقه الخاصة بعزيمةٍ فكرية وسياسية منعتقة من كل أشكال الظرفية والآنية لتستمر في الحياة عبر كل منعطفات التاريخ، وبمغناطيسة فذة، تجذب إلي مداها كل من يمد عقله متسائلاً عن قضية ما. فمحمود، من ذلك النوع من المفكرين واسعي الأفق، الذين يتحركون بين الفلسفة والفن والسياسة والتراث والإقتصاد والأبستومولوجيا وفلسفة العلوم، بأريحية عالية وسعة نظر، دون أن تلين لهم عزيمة أو صبر. ولتكن ظواهر الحياة متسقة بالنسبة لنظرهم الفلسفي، وكأنها خلية نحل التقطتها عدسة مُصورٍ بارع من الزاوية الأكثر اتساعاً للنظر. يدهشك العالم وأنت تقرأ له متابعاً نقدياً حصيفاً لمشروع محمد عابد الجابري بدأب، في كل أجزاءه الأربع، ويدهشك أكثر بسلسلة كتاباته المتميزة في الكتاب غير الدوري (قضايا فكرية) أو اهتمامه العنيد بفلسفة العلوم، التخصص الأكثر ارهاقاً من بين كل هذه التخصصات، ليُعد فيه رسالةً كاملة لنيل درجة الماجستير تحت عنوان: "فلسفة المصادفة الموضوعية فى الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية". وتجده شاعراً متمكناً من تطويع مفردات اللغة ببراعة فائقة وسعة خيال شرس يبني الكلمة بناء التصاوير الملونة. وبين كل هذا وذاك لا يغيب عن محمود شغله الشاغل في الاهتمام بمجالات إعادة بناء الماركسية ومحاولة نقد ما استجد من فلسفات أوروبية وفقاً لمنهجها الذي أسهم في تطويره محمود أيما إسهام. وفي الفن تجده متحركاً بسلاسة بين كل أجناسه الإبداعية ناقداً أدبياً ومسرحياً لا يشق له غبار.. فهل يعقل أن يموت من شابهت عيناه ووعية وكتاباته دقة هذه العدسة اينما اتجهت؟! هذا هو معني (الموت والموت والزائف).