يقدم الباحث المغربي هنا دراسته في تاريخ التنظير لصناعة الترجمة، بالمفهوم الخلدوني للصناعة، ويسعى بعد تعريف المفاهيم النظرية لموضوعه إلى رصد التطور التاريخي لفعل التنظير الترجمي منذ الإرهاصات الأولى له. ووضع هذا التطور في سياقه التاريخي والمعرفي، مع التركيز على الانفجار التنظيري في العقود الأخيرة.

تاريخ التنظير في صناعة الترجمة لدى الغرب

عبد الله بن سرجان

ملخص البحث: تشكل الدراسات الترجمية وتاريخها مجالا خصبا للتفكير والتنظير وإبداء الآراء المختلفة، المتوافقة حينا والمتباينة أحيانا، ولعل هذه هي الميزة التي جعلت منها تأملا فاعلا ومنفعلا وانفعاليا، مرتبطاً أشد ما يكون الارتباط بقضايا لحظته التاريخية وهمومها الفكرية والمعرفية. وإذا ما تتبعنا تاريخ الترجمة والتنظير فيها، سوف نجد أن الجدل الدائر حولها كان وما يزال نتاج نشاط فكري وهمّ معرفي في سياق تاريخي محدد، منذ آراء القدماء فالكلاسيكيين ثم تنظيرات المحدثين. لكننا قبل الخوض في هذا الجرد التاريخي المذكور، سنحاول مقاربة مفهوم "نظرية الترجمة"، ولو بشكل موجز، وذلك من خلال التمييز بين أدبيات الترجمة والمنهج الأكاديمي المعني بدراسة الترجمة وعملياتها.

ونروم من خلال هذا البحث القيام بجرد تاريخي للتنظير في الترجمة، ورصد أبرز الأعلام الذين ذاع صيتهم في هذا الميدان، منذ الإرهاصات الأولى التي جاءت نتاج تأمل في الترجمة الأدبية والدينية، وترجمة الإنجيل تحديدا إلى اللغة اللاتينية ابتداء ثم منها إلى اللغات المحلية الأوربية؛ مرورا بمرحلة التأمل الأدبي والفكري في ارتباط وثيق مع النهضة الأوربية وعصر الأنوار إلى العصر الحديث. لننتهي إلى الفترة المعاصرة حيث استحوذ التنظير اللغوي والفلسفي على الساحة المعرفية، خاصة بعد ظهور اللسانيات الحديثة التي طالت تحليلاتها معظم ضروب المعرفة التي تتخذ اللغة مادتها وموضوع اشتغالها. مؤكدين على كون "دراسات الترجمة" على قدر كبير من التعقيد والتداخل باعتبارها شعبة حديثة نسبيا تلتقي فيها معظم مجالات المعرفة الإنسانية، ما يجعلها متعددة المجالات ومتشعبة التخصصات وحمالة أوجه. وأن فعل الترجمة أكثر تعقيدًا من ذلك التصور الساذج عن كونه عبورًا أو نقلًا أو وساطة بين لسان إلى آخر، بل هي عملية إبداعية يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، والذات والآخر، والماضي والحاضر. كما أن الممارسة الترجمية مجال لتأكيد الحق على الاختلاف الفكري والثقافي، والدفع بالطاقات الإبداعية لدى الأفراد والشعوب إلى مداها.

تاريخ التنظير في صناعة الترجمة لدى الغرب:
يقول العلامة ابن خلدون في المقدمة " اِعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري (...) والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته. وعلى نسبة الأصل تكون الملكة. (...) وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته. ولا يزال الفكر يخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئاً فشيئاً على التدريج حتى تكمل. ولا يحصل ذلك دفعة وإنما يحصل في أزمان وأجيال إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة لا سيما في الأمور الصناعية فلا بد له إذن من زمان". (1)

تمهيد:
لم يكن وصفنا الترجمة في عنوان البحث بالصناعة أمرا اعتباطيا أو بالمصادفة، بل هو مقصود وواع؛ حيث إننا لم نجد في لسان العرب مفردة تجمع بين الإبداع والتفنن وفق مناهج مضبوطة كمفردة الصناعة؛ ولعل في المقولة الخلدونية التي صدرنا بها البحث ما يبرر التسمية ويعطيها الشرعية والمشروعية في آن واحد. وبهذا المعنى نكون قد تجاوزنا، في اعتقادنا، الجدل العقيم حول الترجمة هل هي فن أم علم، ناظرين إليها من حيث هي نشاط إنساني فني وإبداعي يتداخل فيه بالضرورة ما هو لغوي وعلمي ومعرفي وفكري وثقافي، فضلا عن كونها نشاطا تحكمه ضوابط تقنية وفنية وقانونية. ولقد شكلت الدراسات الترجمية وتاريخها مجالا خصبا للتفكير والتنظير وإبداء الآراء المختلفة، المتوافقة حينا والمتباينة أحيانا، ولعل هذه هي الميزة التي جعلت منها تأملا فاعلا ومنفعلا وانفعاليا، مرتبطاً أشد ما يكون الارتباط بقضايا لحظته التاريخية وهمومها الفكرية والمعرفية. وإذا ما تتبعنا تاريخ الترجمة والتنظير فيها، سوف نجد أن الجدل الدائر حولها كان وما يزال نتاج نشاط فكري وهمّ معرفي في سياق تاريخي محدد، منذ آراء القدماء فالكلاسيكيين ثم تنظيرات المحدثين. فمن خلالها يمكن الجزم بأن هذا التطور التنظيري ظل مرهونا بالممارسة الترجمية في حد ذاتها؛ حيث إن الكتابات الأولى جاءت نتاج تأمل في الترجمة الأدبية والدينية، وترجمة الإنجيل تحديدا إلى اللغة اللاتينية ابتداء ثم منها إلى اللغات المحلية الأوربية وانشقاق الكنيسة بعد الترجمة اللوثرية في العصر الوسيط، وبداية ظهور النزعات القومية.

وانتقل التنظير في الترجمة ليصير تأملا أدبيا وفكريا في ارتباط وثيق مع النهضة الأوربية وعصر الأنوار إلى العصر الحديث. ليصير في الفترة المعاصرة تنظيرا لغويا فلسفيا مع ظهور اللسانيات الحديثة التي طالت تحليلاتها معظم ضروب المعرفة التي تتخذ اللغة مادتها وموضوع اشتغالها. لتنتهي إلى تأملات وتنظيرات وفق الدراسات الثقافية الحديثة في ضوء الحداثة وما بعدها، والعولمة وما يستتبعها في ظل الانفجار التقني، باعتبار الترجمة فعل مثاقفة وتثاقف بامتياز.

وينقسم هذا البحث إلى ثلاثة محاور رئيسية: سنسعى في المحور الأول إلى وضع الإطار المفاهيمي الذي ينظم موضوع اشتغالنا، وسنتطرق فيه إلى تعريف مفاهيم: النظرية والترجمة ونظرية الترجمة. أما المحور الثاني فسنخصصه لرصد التطور التاريخي لفعل التنظير الترجمي منذ الإرهاصات الأولى للتفكير الترجمي في العهد الروماني إلى بدايات القرن العشرين. ووضع هذا التطور في سياقه التاريخي والمعرفي. فيما ينفرد المحور الثالث برصد الانفجار التنظيري في الترجمة منذ بدايات القرن الماضي في ضوء المستجدات الفكرية والعلمية، مع ذكر أبرز أعلام هذا الميدان ورصد أفكارهم وتنظيراتهم مركّزِين على المقاربة اللسانية والأدبية والفلسفية.

المحور الأول: تحديد المفاهيم
1.
النظرية:
نجد أن لفظ النظرية في اللغة العربية مشتق من النظر، الذي يحمل في دلالاته معنى التأمل العقلي؛ وكلمة Théoria اليونانية تحمل معاني التأمل والملاحظة العقلية. ونلاحظ في القشتالية أن كلمة Teoría تدل على بناء (أو نسق) متدرج من الأفكار، يتم فيه الانتقال من المقدمات والفرضيات لاستخلاص النتائج.

وتحيلنا الدلالات اللغوية على أن مفهوم النظرية يكتسي طابعا فلسفيا فكريا، كما أنه يتعارض مع المعرفة اليقينية، كونه بناء فرضي ابتداء واستنتاجي انتهاء. ويمكن صياغة تعريف جامع لمفهوم النظرية على أنها: نسق معرفي ومنطقي يدرس موضوعا أو ظاهرة محددة بغية تفسيرها وفهمها، بالانطلاق من مقدمات وفرضيات ليخلص إلى استنتاجات ونتائج. وذلك وفق مناهج الوصف والتحليل والمقارنة.

2. الترجمة:
لقد اختلف المنظرون والباحثون والتراجمة أنفسهم في وضع تعريف موحد للترجمة، ومرد ذلك اختلاف منظور كل واحد منهم لها؛ فأهل اللسانيات يرون بأن الترجمة ظاهرة لغوية لسانية محض، فيما يراها المشتغلون بالأدب ظاهرة أدبية وجزء مهما من الدراسات الأدبية المقارِنة، فيما ينظر إليها أهل الفلسفة على أساس كونها مسألة فلسفية في المقام الأول لارتباطها بالمعاني والأفكار، أما أهل الدراسات الثقافية فيضعونها حجر الزاوية في اشتغالهم كونها ظاهرة ثقافية وفعل تثاقف بامتياز. وتبعا لذلك يمكننا أن نجد تعريفات عديدة للترجمة نجملها كما يلي، الترجمة:

  • عملية تستهدف فك رموز نص في لغة مصدر وإعادة تشفيرها في نص هدف.
  • تلك النصوص نتاج عملية فك الرموز وإعادة تشفيرها.
  • عملية نقل من لغة إلى أخرى.
  • جسر رابط بين الثقافات والحضارات المختلفة.
  • ترجم الكلام أي بينه ووضحه، وترجم كلام غيره أو عنه أي نقله من لغة إلى أخرى، وفسر كلامه بلسان آخر.
  • إيجاد أو توليد رسالة مكافئة للغة المصدر في اللغة الهدف، من حيث الدلالة والتركيب.
  • عمل ثقافي أسه التثاقف والمثاقفة بين مجالات ثقافية مختلفة وفق بنياتها اللغوية المحددة.
  • فعل ثقافي حي قادرة على تحويل موارد المجتمع إلى قوى محركة للطاقات الإبداعية فيه.

ويجد الناظر في الحقل المعجمي والدلالي لكلمة ترجمة أنها لا تخرج في جميع اللغات عن كونها نقل من لغة إلى لغة أخرى، سواء تعلق هذا النقل بمفردات أو نصوص أو كتب بأكملها، وإن اختلفت طرائق هذا النقل والتحويل.

1. نظرية الترجمة:
بادئ ذي بدء لا بد من الإشارة إلى تنوع الأسماء لهذا المسمى الواحد بين دراسات الترجمة النظرية والترجمية والترجميات وعلم الترجمة. ويُقصد بهذا المبحث جُماع كتابات المنظرين والتراجمة حول نشاطهم وإواليات اشتغالهم، ويمكن التمييز بين تيارين؛ أولهما قديم نسبيا ويتمثل في كل الكتابات الانطباعية التي تتخذ من الممارسة الترجمية موضوعا لها، وهي في الغالب الأعم مقدمات وشروحات دأب المترجمون على تدبيج ترجماتهم بها، ويضمنون فيها آراءهم وانطباعاتهم حول العمل المترجم وصعوباته وتبريراتهم للحلول التي لجأوا إليها؛ وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بأدبيات الترجمة.

والثاني منهج أكاديمي يدرس الترجمة ويبحث فيها من حيث قواعد الاشتغال والأهداف والنقد وأساليب التعليم وفق تحليلات نظرية منضبطة ومنهجية محكمة. ظهر في خمسينيات القرن الماضي وشهد طفرة كبرى في الربع الأخير منه، ويعتمد بالأساس على المستجدات المعرفية فيما يتعلق باللسانيات وفلسفة اللغة وتحليل الخطاب، والأنثربولوجيا فضلا عن الانفجار التقني والمعلوماتي، باعتبار الترجمة ظاهرة إنسانية ونشاطا لغويا بالأساس.

وإذ نشاطر سوزان باسنت رأيها القائل بأننا: "بحاجة إلى التعرف أكثر إلى 'دراسات الترجمة'. وأصبح وجود توثيق أكبر ومعلومات أكثر عن تغير مفاهيم الترجمة من الأولويات"(2)؛ سيأتي بحثنا بصيغة جرد تاريخي للتنظير في الترجمة منذ إرهاصاته الأولى إلى الفترة المعاصرة، مع ذكر أبرز الأعلام وبسط أفكارهم وآرائهم وموقعتها في سياقها التاريخي والمعرفي المناسب.

المحور الثاني: الإرهاصات الأولى للتفكير في الترجمة:
1. الفترة الرومانية:
لقد دأبت الأبحاث والدراسات الترجمية على ربط الإرهاصات الأولى للتنظير الترجمي عند الغرب بالممارسة الترجمية لدى الحضارة الرومانية التي أخذت الكثير من المعارف والآداب عن الإغريق. ولعل أبرز اسمين في هذا المجال الخطيب الروماني ماركوس توليوس شيشرون  Marcus Tullius Cicero (43-106 ق.م.) الذي تنسب إليه الإبداعات الأولى في الأدب الروماني، وضمّن آراءه الترجمية في كتابه "De Optimo Genere Oratorum" "عن المناهج الفضلى في الخطابة" والشاعر الغنائي الروماني كوينتس هوراتيوس فلاكوس أو هوراس Quintus Horatius Flaccus (65 - 8 ق.م.) الذي ضمن أفكاره حول الترجمة في كتابه "فن الشعر" "Ars Poetica". وحري بالذكر أن ولع الاثنين بالترجمة يعزى إلى رغبتهما في التقعيد للغة اللاتينية والأدب الروماني من خلال إنجاز ترجمات عن الكتابات الإغريقية، علما أن الدولة الفتية كانت متخلفة حضاريا رغم تفوقها العسكري قياسا إلى اليونان. وارتكزت آراؤهما على الحرية المطلقة في الترجمة وجعلا أولوية المترجم تشرُّب البعد الجمالي والتخيلي والبلاغي لدى الإغريق ومحاولة محاكاته باللغة اللاتينية وفق مقوماتها البلاغية والجمالية والتركيبية. فجوهر عملية الترجمة يكمن في صياغة المعاني، ليس في نقل الكلمات.

غير أن بعض الباحثين لهم وجهة نظر أخرى، وذلك من خلال التصريح بأن آراء شيشرون أخرجت من سياقها وأن أقواله أسيئ فهمها أو أُوّلت على غير ما أُريد لها. حيث إن شيشرون لم يكتب حول الترجمة وإنما حول الفصاحة وفن الخطابة وأن غرضه من الترجمة هو اقتباس أدبيات الخطابة لدى اليونان. كما أنه لم يخصص سوى نصف صفحة من كتابه المذكور للحديث عن الترجمة التي لا تعدو أن تكون في نظره تمرينا بلاغيا:

"وبالفعل، فنحن نقف في أدبيات الترجمة على العديد من التعليقات التي تتجه إلى نقد من استعملوا هذا النص في الدفاع عن طريقة الترجمة الحرة، وتأخذ عليهم إخضاعه لعملية قيصرية تنطقه بغير مراده، وتسعى إلى تحريفه عن قصده بالإفراط في تأويله ليخدم أغراضا لم يكن مرصودا لها. والحال أن هذا الرأي كان صادرا عن عالم بلاغة وفقيه لغة هو شيشيرون بكل التأكيد اللازم، أي عن شخص كان يعتبر الترجمة تمرينا بلاغيا الهدف منه هو تمكين اللاتينيين من التعرف على الأسلوب اليوناني والتشبع بأوفقه"(3).

2. الترجمة الدينية:
عند الحديث عن الترجمة الدينية في الموروث الغربي، لا مناص من ذكر أصلها الأسطوري متمثلا في قصة برج بابل التوراتية الواردة في سفر التكوين، لما شيد أبناء نوح مدينة بابل العظيمة فيما بين النهرين، وأرادوا بناء برج بغية الاطلاع على أسباب السماء فنزل بهم عقاب الرب، تقول القصة:

"وكانت الأرض كلها لغة واحدة وكلاما واحدا. وكان أنهم لما رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في أرض شنغار فأقاموا هناك. وقال بعضهم لبعض تعالوا نصنع لبنا وننضجه طبخا فكان لهم اللبن بدل الحجارة والحمر كان لهم بدل الطين. وقالوا تعالوا نبن لنا مدينة وبرجا رأسه في السماء ونقم لنا اسما كي لا نتبدد على وجه الأرض كلها فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب هو ذا هم شعب واحد ولجميعهم لغة واحدة وهذا ما أخذوا يفعلونه. والآن لا يكفون عما هموا به حتى يصنعوه. هلم نهبط ونبلبل هناك لغتهم وحتى لا يفهم بعضهم لغة بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها فكفوا عن بناء المدينة. ولذلك سميت بابل لأن الرب هناك بلبل لغة الأرض كلها، ومن هناك شتتهم الرب على كل وجهها"(4)

يشير جورج ستاينر George Steiner في كتابه ما بعد بابل إلى أن: "جزءا مهما من نظرية الترجمة وممارستها عند الغرب نتاج مباشر للحاجة إلى نشر الإنجيل وضرورة قول كلمة الرب بلغات أخرى"(5)؛ وترجع بدايات الترجمة الدينية إلى الترجمة اليونانية للعهد القديم(6) من الكتاب المقدس عن العبرية والآرامية، وقد تمت في الإسكندرية بإيعاز من حاكم مصر بطليموس فيلادلفوس إبان القرن الثالث ق. م. وهي المعروفة تاريخيا باسم "الترجمة السبعينية"(7). فضلا عن كون العهد الجديد(8) من الكتاب المقدس ترجمات أقيمت مقام الأصل المفقود علما أن لسان عيسى عليه السلام آرامي، يقول طه عبد الرحمن بهذا الصدد:

"يذكر بعض المؤرخين أن اللغة التي تكلم بها رسول الله عيسى عليه السلام هي "الآرامية" التي كانت منتشرة في فلسطين في عهده، فتكون هي اللغة التي نزل بها الإنجيل، في حين أن نصوص الإنجيل الأربعة المشهورة والمنسوبة إلى "متى" و"يوحنا" و"مرقس" و"لوقا" وردت باللغة اليونانية، فتكون عملية الترجمة قد تلقفت الإنجيل ولما يمض على نزوله قرن من الزمن، لكن هذه النقول الأربعة أقيمت مقام الأصل الآرامي المنزل، بل اعتمدت كأصول حقيقية من وضع هؤلاء القديسين وأطلق عليها اسم "الأناجيل الأربعة" ، فتعاطت الكنيسة المسيحية على مر القرون نقلها إلى اللغات الأوربية ، ثم إلى اللغات الإفريقية واللغات الآسيوية."(9)

ومع استحكام الإمبراطورية الرومانية وتبني المسيحية دينا رسميا لها، انصب الاهتمام على الترجمة الدينية ممارسة وتنظيرا؛ ولمع في هذا الإطار الراهب إيرونيموس جيروم Saint Jérôme de Stridon  (347-420م) الذي قام بمراجعة وتنقيح الترجمـة القديمـة، ولقد عُرِفت هذه الترجمة باسم الفولجاتا، وهي كلمـة لاتينية تعنى الدارجة، وظلت هذه الترجمة معتمدة ورسمية في كل الكنائس الأوربية إلى غاية الانشقاق بعد حركة الإصلاح اللوثرية التي سنأتي على ذكرها فيما بعد. وحري بالذكر أن الراهب أثناء اشتغاله ذاك عكف على مراجعة النصوص المتوافرة آنذاك وأبرزها الترجمة السبعينية المذكورة، فوقف على فساد وتحريف بعض مقاطعها، ما دفعه إلى الذهاب إلى بيت لحم والتعاطي مع المصادر العبرية مباشرة، حيث أمضى خمس عشرة سنة لإنجاز تلك المهمة. ولقد ضمن الراهب جيروم آراءه حول الترجمة في رسالة عنونها: "أفضل طريقة في الترجمة" "De Optimo Genere Interpretandi"؛ حيث يعد أول من ميز بين ترجمة النصوص الدينية وغير الدينية، مشيرا إلى ضرورة توخي الحرفية كلمة بكلمة في النوع الأول "لأن نظام الألفاظ معجز في كلام الرب"، فيما يجب الأخذ بالترجمة الحرة في غيرها أي معنى بمعنى. واستمر الجدل حول نوعي الترجمة المذكورين مركزيا وجوهريا منذ ذلك العصر إلى حدود القرن السابع عشر.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى العداء التاريخي بين الكنيسة وبعض المترجمين الذين نقلوا النصوص المقدسة من اللاتينية إلى اللغات المحلية المنتشرة في أوربا، إذ رأى رجال الدين في ذلك تحديا صارخا لسلطتهم الدينية المستمدة أساسا من احتكار المُقدَّس متمثلا في تعلم اللاتينية وتعليمها. ونجد مثالا على ذلك العداء المأساوي الذي لقيه اللاهوتي إيتيان دولي Étienne Dolet الذي سجن بعد ترجمته الإنجيل إلى الفرنسية سنة 1540، ثم أعدم حرقا لاتهامه بالهرطقة بعد ترجمة أحد كتب أفلاطون، وتجدر الإشارة إلى مصنفه الفريد "الطريقة المثلى للترجمة من لغة أخرى" الذي أتى فيه على ذكر خمسة مبادئ أساسية في الترجمة هي: - الفهم التام للمعنى في النص الأصل. - الإلمام بغلتي الاشتغال. - تجنب الترجمة الحرفية كلمة بكلمة. - وجوب استعمال الصيغ الكلامية المتداولة. - وجوب اختيار الكلمات وترتيبها بشكل مناسب. (10)

أما المصلح مارتن لوثر Martin Luther (1483 -1546) فقد عمد إلى انتقاد الكنيسة، خاصة بعد زيارته لروما ومشاهدة حياة البذخ التي يعيشها الإكليروس، فلجأ إلى تأليف الكتب والاحتجاج على ممارسات رجال الدين، مستغلا لهذا الغرض ظهور الطباعة، ما جلب عليه نقمة رجال الدين الذين رموه بالهرطقة. إلا أن أهم حدث اشتهر به لوثر هو ترجمته للكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية مؤكدا على أنه:

"حرص على صبها في لغة ألمانية شديدة السهولة لتيسير تداولها بين أكثر الأوساط شعبية، أي أشدها حاجة إلى تبسيط وتوضيح موضوعات الكتاب المقدس لأغراض العبادة والتداول، فكانت حسب قوله تلك اللغة الجارية على ألسنة "الأم في بيتها والأطفال في الشوارع والإنسان العادي في الأسواق حتى يتمكنوا من فهم ما يقال لهم بلغتهم". (11) لقد كان لترجمة لوثر تأثير مباشر في انشقاق الكنيسة وظهور البروتستانتية وبداية تبلور الفكر القومي، فضلا عن التقعيد للغة الجرمانية وتطويرها. وفي هذا السياق تؤكد باسنت سوزان Susan Bassnett أنه: "بناء على ذلك، فإن تاريخ ترجمة الكتاب المقدس هو تاريخ الحضارة الغربية على شكل مصغر(...) بقيت ترجمة الكتاب المقدس قضية رئيسة حتى القرن السابع عشر، كما تعقدت المشكلة مع نمو مفاهيم الثقافات القومية ومع قدوم حركة الإصلاح الديني وغدت الترجمة سلاحاً في كل من الصراعين العقَدي والسياسي عندما بدأت الدول القومية بالظهور وبدأت تضعف مركزية الكنيسة، كما دلت على ذلك المصطلحات اللغوية الجديدة مع اضمحلال اللغة اللاتينية كلغة عالمية". (12)

3. حركة الترجمة في عهد الملوك الكاثوليك:
شهدت حركة الترجمة عند الغرب أوج نشاطها بفعل الاحتكاك مع الانتاجات الفكرية والحضارية الإسلامية في بلاد الأندلس. وفي هذا الإطار تجب الإشارة إلى عدة تجارب ترجمية علمية ودينية وأدبية تمت تحت إمرة الملوك الكاثوليك لعل أبرزهم حاكم قشتالة الملك ألفونصو العاشر Alfonso X "الحكيم" "El Sabio" (1277-1252): اهتم بترجمة التراث الإسلامي الأندلسي خاصة ما تعلق منه بالرياضيات والكيمياء والفلك والفلسفة، لأنه أدرك أن سر تطور ورقي دولته القائمة والماضية في حركة الاسترداد هو العلم والمعرفة، ولهذا الغرض قرب المترجمين العرب واليهود، واهتم بالترجمة والمعرفة، وإليه يعزى تطور اللغة القشتالية، حيث إنه اتخذ قرارا قاضيا بتحرير وثائق الدولة باللغة القشتالية بدل اللاتينية كما كانت العادة(13)، كما أن له مصنفات علمية وشعرية وترجمات بوأته لقب "الحكيم" في كتب التاريخ والسّيَر. لقد شكلت طليطلة في عصره مركزا حضاريا وعلميا ورحيا يقصده طلبة العلم من كل أوربا. وفي هذا الصدد يجب التذكير بالدور الفعال الذي لعبته الرشدية اللاتينية في ربط أوربا بالتراث الفلسفي اليوناني:

"ابن رشد (1198-1126) هو عملاق الأريسطوطاليسية في إسبانيا إبان الحكم الإسلامي، لقد ذاع صيت فكره ومعرفته في كل الغرب المسيحي مفسحا المجال للتيار المعروف بالرشدية (...) لقد سمي ابن رشد بأفضل شارح لأريسطوطاليس، الذي خصص له رسائل وشروحات صغيرة ومتوسطة وكبيرة من مختلف الأشكال والدرجات. لقد دخلت أعمال ابن رشد إلى الغرب المسيحي ما بين سنتي 1217 و1230" .(14) وبغية التوسع في هذا الموضوع نوجه القارئ الكريم إلى الاطلاع على كتاب خوان برنيت " فضل الأندلس على ثقافة الغرب" المترجم إلى العربية. (15)

كما تجب الإشارة إلى أن عملية الترجمة في هذه الفترة كان لها الفضل الكبير في حفظ بعض النصوص الفلسفية والعلمية العربية التي اندثرت أصولها بفعل عوامل عديدة لعل أبرزها طغيان محاكم التفتيش في إسبانيا، ونذكر مثالا على ذلك:

  • علي بن خلف المرادي: كتاب الأسرار في نتائج الأفكار، وجداول في علم الفلك.
  • أبو القاسم أصبغ بن محمد بن السمح المهندس الغرناطي: المدخل إلى الهندسة - وهو تفسير لكتاب إقليدس، وكتاب ثمار العدد، وكتاب طبيعة العدد.
  • أبو أسحاق إبراهيم الزرقالي رسالة في طريقة استخدام الصفيحة المشتركة لجميع العروض، وجداول طليطلة.

فضلا عن الجزء الأكبر من مؤلفات العالم الجليل أبو بكر محمد بن يحيى بن الصايغ ابن باجة أبرزها "تدبير المتوحد" و"كتاب النفس" و"رسالة الوداع" والعديد من الرسائل والمقالات الأخرى.

وعلى غرار التجربة السابقة، شهدت أوربا تجارب أخرى تمت تحت إمرة ملول كاثوليك، أبرزها تجربة شارل الخامس Charles V ملك فرنسا (1338-1380) الذي استضاف المترجمين وأغدق عليهم وشجع أعمالهم بل وتنسب إليه ترجمات بعض الكتب العلمية الإغريقية إلى الفرنسية، وله فضل كبير في تطور اللغة الفرنسية وتبلورها. كما شهدت كل من ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا نشاطا ترجميا مهما. وجدير بالذكر أن التفكير حول الترجمة في هذا العصر ظل رهين التصورات الكلاسيكية والدينية حول الحرفية والحرية، والأمانة والخيانة. كما نلاحظ أن المترجمين حافظوا على تقليد المقدمات الشارحة التي يبررون من خلالها اختياراهم واستراتيجياتهم الترجمية. وعلى الرغم من كل ذلك كان للترجمة أثر كبير ومباشر في ظهور القوميات وتبلور لغاتها، وبداية الانعتاق من سلطان الكنيسة.

4. الفترة الكلاسيكية عصر "الحِسان الخائنات":
ترجع عبارة "الحسان الخائنات" «Les Belles Infidèles» إلى النحوي الفرنسي جيل ميناج Gilles Ménage الذي وصف بها ترجمة بيرو دابلانكور Nicolas Perrot d’Ablancourt  كناية عن أنها ترجمة مبدعة وخائنة للأصل في آن معا(16). ويعد هذا المترجم الأبرز في عصره وله شذرة طريفة مقتطفة من مقدمة إحدى ترجماته يقول فيها: "لقد تعود السفراء أن يتزيوا بلباس البلد الذي يستضيفهم خوفا من الظهور بمظهر مضحك أمام أولئك الذين يحرصون على إثارة إعجابهم، إن هذا الأمر ينطبق كذلك على الترجمة"(17). وهنا يظهر طابع التوطين والتدجين والتصرف الذي ميز الترجمة في هذا العصر، وكنه مقولته الجامعة "الحسان الخائنات".

ولفهم أعمق لهذا التيار ووضعه في سياقه، وجب التذكير بالوضع التاريخي لأوروبا في عصر الأنوار وما بعده، حيث شهدت تقدما اقتصاديا وسياسيا كان له بالغ التأثير على الفكر والأدب، ولم تكن الترجمة بمعزل عن كل ذلك. لقد صارت أوربا مستغنية ماديا وفكريا وبالتالي لا حاجة لها في ترجمة تأخذ عن الغير بكل أمانة، بل على العكس تماما أصبحت الترجمة ميدانا لإظهار العظمة والتملك ولو رمزيا، وذلك بانتشار ظاهرة التصرف في المنقول وتغييره بداعي الإبداع وجمالية التعبير، وتكييفه مع مقتضيات العصر وأيديولوجيته(18). والملاحظ أن أغلب المترجمين في هذه الحقبة كانوا أدباء محترفين، يتعاطون الترجمة كنوع من الترف الأدبي.

5. القرن التاسع عشر والتأسيس الفعلي لنظرية الترجمة:
باتت الأوساط الفكرية والثقافية في أوربا الرومانسية تعيش أزمة وجودية (19) جراء تضخم الأنا الأوربية المتمركزة حول ذاتها. ومرة أخرى لم تكن ممارسة الترجمة والتفكير فيها بمعزل عن هذا الجدل الدائر. لقد انخرط ثلة من المترجمين والمفكرين والفلاسفة في تجديد النظر في الترجمة وبعث إشكالاتها القديمة-الجديدة، خصوصا فكرة الأمانة والحرفية التي طالها النسيان في القرنين الماضيين. وكانت ألمانيا بشكل خاص منبع تلك التنظيرات التي نذكر من بين أبرز أعلامها على سبيل المثال:

غوته يوهان فولفغانغJohann Wolfgang Goethe :
يشكل مسار غوته تجربة فريدة من نوعها حيث إنه برع في مختلف الأجناس الأدبية، كما أنجز ترجمات عديدة عن مختلف اللغات الأوربية التي كان يتكلمها (الإيطالية والإنجليزية والإسبانية واليونانية) مستعينا بحسه الإبداعي والفني، فضلا عن أنه أشرف على ترجمة مؤلفاته إلى اللغات الأوربية. إنه حالة فريدة لكونه عاش تجربة الترجمة من كل الجوانب، مترجما ومترجَما له ومتأملا في الترجمة. يقول عنه شتاينر في كتابه الموسوم (ما بعد بابل): "لقد اهتم غوته طوال حياته بالترجمة، ولقد ترجم عن اللاتينية والإغريقية والإسبانية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية والألمانية القديمة والفارسية واللغات السلافية. وتتواتر ملاحظاته حول فلسفة الترجمة وتقنياتها على امتداد ابداعاته، كما أن العديد من قصائده ليست سوى تعليقات أو استعارات حول موضوع الترجمة".(20)

وبسبب نزعته الإنسانية العميقة جاءت أفكاره الترجمية متشبعة بمعاني التفاعل والتبادل بين ثقافات الشعوب، من قبيل فكرة "الأدب الكوني" الذي تتشارك الآداب الوطنية في صياغته والتفاعل فيه. فجعل الترجمة علاقة حية حميمية بين الذات والآخر. وحري بالذكر أن معظم المنظرين في الترجمة الأدبية يستشهدون بترجمته المبدعة لشكسبير فاقت الأصل جمالا ونفخت فيه الحياة ودفعته نحو العالمية.

فريديريك شلايرماخر Friedrich Daniel Ernst Schleiermacher

عالم لاهوت ومترجم ألماني إليه يرجع الفضل في وضع أسس اللاهوت البروتستانتي الحديث، كما يعتبر مؤسس علم التأويل الحديث التأويلية «Hermenéutica»(21). تطرق شلايرماخر لمسألة التنظير الترجمي في مقالته الشهيرة "عن الطرق المختلفة للترجمة" 1813، التي جعلها جورج شتاينر أول مقالة كتبت حول الترجمة في القائمة التاريخية التي ذيل بها كتابه الضخم "بعد بابل" (22)، فيما جعلته باسنت فاتحة لحقبة "ما بعد الرومانتيكية" (23) وركز فيها على تيمة التأويل المرتبط بفهم الخطاب ثم ترجمته. كما ميز بين طريقتين في الترجمة وهما التجنيس والتغريب، اللذين لخصهما بقوله "إما أن يترك المترجم الكاتب وشأنه بقدر ما يستطيع ويقوم بتقريب القارئ إليه، أو أن يترك المترجم القارئ وشأنه بقدر ما يستطيع ويقوم بتقريب الكاتب نحوه". ونجد شلايرماخر قد انتصر لنهج التغريب القاضي بترك المؤلف وشأنه قدر المستطاع والعمل على تقريب القارئ منه وذلك باستغلال أساليب اللغة وتراكيبها إلى أقصى حد ممكن.

المحور الثالث: الانفجار التنظيري في العصر الحديث:
لقد شكل القرن العشرون وما بعده من الناحية التطبيقية والتنظيرية قرن الترجمة بامتياز. ولدراسة التنظير ورصد أعلامه في هذه الحقبة يمكن التمييز بين خمس مقاربات تنظيرية: المقاربة اللسانية – المقاربة الفلسفية – المقاربة الأدبية – المقاربة التقنية المعلوماتية - المقاربة الثقافية وتشمل ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية ودراسات التابع ودراسات النوع.

وسنكتفي في هذا العرض بتفصيل المقاربتين الأوليين، أي اللسانية والفلسفية لاعتبارين منهجيين هما؛ أولا كون هذين الضربين من المعرفة الإنسانية على علاقة مباشرة ووطيدة بالترجمة لأن إطار الاشتغال فيهما يتداخل والفعل الترجمي لارتكازه على اللغة والفكر. ثانيا كون نصوص وآراء بعض أشهر اللسانيين والفلاسفة نصوصا مرجعية وتأسيسية للدراسات الترجمية، بحيث لا يمكن الخوض فيها إلا باستحضار تلك النصوص والاستشهاد بها. كما أن أغلب الكتابات التي اطلعنا عليها لا تعدو أن تكون إعادة صياغة لأفكار هؤلاء المؤسسين أو خوضا فيها توسيعا وشرحا وتعليقا أو حتى نقدا؛ لهذا ارتأينا أن يكون عدد أعلام التنظير الترجمي محددا فيمن شُهد لهم بجدة الأفكار وتتواتر الاستشهاد بهم في مختلف الدراسات والبحوث.

1. المقاربة اللسانية:
كان لظهور اللسانيات وتفرع مواضيع اشتغالها بالغ الأثر في قلب موازين المعرفة الإنسانية وإحداث ثورة في الأوساط الأكاديمية عموما وتلك المتعلقة منها باللغة على الخصوص، وذلك لاعتبارها نظرا علميا قائما على منهجية محكمة غايتها التفكير باللغة في اللغة مع إقامة تمييزات منطقية بين اللغة والكلام وبين الدال والمدلول(24). ولم تكن الترجمة ونظريتها بمعزل عن هذا الجدل القائم، بل إنها شكلت مجالا حيويا لطرح المناهج اللسانية واطّراحها، على اعتبار اللغة محور الاشتغالين وجوهرهما، كما أشرنا آنفا. ويرتكز أهل اللسانيات في مقارباتهم وآراءهم حول الترجمة على مبدأ إعادة صياغة لغة النص الأصل، عن طريق الترجمة كلمة بكلمة أو جملة بجملة مع مراعاة العناصر اللغوية للنص الأصلي من نحو وصرف ودلالة، فضلا عن سياقات النص التاريخية والاجتماعية وظروف إنتاجه وتلقيه. ومن بين أبرز رواد هذا التيار اللساني نجد:

أ. جورج مونان George Mounin
لقد خاض مونان في مسائل الترجمة وبسط فيها القول بشكل منهجي في أطروحته الأكاديمية (المسائل النظرية في الترجمة)، إضافة إلى مؤلفيه الآخرين (علم اللغة والترجمة) و(الحسان الخائنات) موضحا أن الترجمة عملية لغوية تهدف إلى التواصل والاتصال، ويكون المترجم فيها قناة الوصل، إذ يسعى إلى نقل رسالة نصية تتألف من معنى ومبنى، ودلالة وتركيب، وواجبه أن يتحرى نقل المعنى كما هو، وأن ينقل المبنى إلى ما يساويه في لغة الهدف وفق تراكيبها وقواعدها اللغوية. إن الترجمة عنده فن مبني على أسس علمية مضبوطة هي مقتضيات علم اللسانيات، الذي يساعدنا على "أن نتخلص من الانطباعية والذاتية"(25) التي ميزت الفعل الترجمي ممارسة وتنظيرا منذ القدم، وذلك لأنه "تحليل علمي لعمليات الترجمة ووقائعها"(26) يمكننا من أن "نستفيد من إدخال منهج مكان انطباعاتنا وأن نرتب ونصنف خبراتنا وتجاربنا ... كما سنحصل على الطريقة العلمية التي تسمح لنا دائما بتحليل عملية الترجمة بطريقة أكثر موضوعية"(27).  ويزيد في تفصيل جدوى انضباط الترجمة بعلم اللغة قائلا إنه:

" ومن الناحية العلمية، يقدم علم اللغة المعاصر إجابة دقيقة عن السؤال الرئيسي: ما الذي ترجمته –أي نقله من لغة إلى أخرى- في نص ما للوصول إلى الهدف المنشود وإلى مزايا الترجمة: وهي الأمانة الشاملة للنص كله؟ والإجابة القديمة هي أنه يجب ترجمة النص، ولا شيء غيره، بالكامل. وهي إجابة بديهية ودقيقة جدا. ولكن علم اللغة المعاصر هو الذي يجيب باستفاضة على سؤال آخر نشأ عن السؤال الأول: ماذا يعني كل النص؟ ومن أي شيء تتكون كلية الرسالة التي ينقلها النص؟"(28).

لكنه يستأنف هذه التصريحات في موضع آخر، ويؤكد على أنه: "عندما يقدم علم اللغة كل هذه الآراء عن الترجمة، فهو لا يعطي المترجمين عصا سحرية، وإنما يعدهم للتفكير فيما يعملون بطريقة أقل تجريبية وأقل ذاتية وأكثر اتساقا وانتظاما. كما يقدم علم اللغة للمترجمين إمكانات أقوى وأدق لتحليل العقبات التي تعترضهم. وعلم اللغة يثري المترجمين أكثر من أن يُعدهم، ويقدم لهم ثقافة عامة أوسع وأكمل عن الظواهر اللغوية أكثر من أن يعلمهم فنا أو يحول هذا الفن إلى علم أكيد. وأمام كل خاصية من الخصائص تكون الكلمة الأخيرة أو القول الفصل لفن أو مهنة الترجمة المعدة إعدادا جيدا"(29).

وتبعا لذلك فالترجمة "ليست عملا تجريديا أو غيبيا، وإنما هي عملية بشرية بحدودها وجهودها ونجاحاتها وتاريخها"(30)؛ ومن هذا المنطلق جاءت تنظيرات مونان سلسة ومفهومة وبعيدة عن الدقة والجمود الذي يطبع النظريات اللسانية، يقول بحرواي أن مونان:

"بدل الاستغراق في الخطاطات والبيانات المعقدة، استعمل خطابا أدبيا مجازيا مثلما يبدو بوضوح في معارضته بين ما يسميه "الزجاجات الشفافة"، أي تلك الترجمات التي تبدو وكأنها حررت مباشرة باللغة الهدف، وبين "الزجاجات الملونة"، وهي تلك الترجمات الحرفية التي تعطي القارئ الانطباع بأن الأمر يتعلق بترجمة"(31). وفضلا عن هذا وذاك تطرق مونان إلى قضايا جوهرية وأصيلة في الترجمة من قبيل الأمانة والخيانة وإمكانية الترجمة من عدمها، مما بوأه مكانة مرموقة في هذا الاشتغال جعلته من بين الأوائل الذين قعدوا لنظرية الترجمة وأصلوا مصطلحاتها(32).

ب. رومان جاكوبسونRoman Jakobson
ترتبط إسهاماته بمؤلفه الكبير "المظاهر اللسانية للترجمة" حيث تكلم فيه عن الترجمة من وجهة نظر سوسيو لسانية محض، باعتبارها أداء لغويا يكمن في نقل لرموز من لغة إلى أخرى دون إغفال الخلفية الثقافية التي تؤطرها، في إطار آرائه اللسانية المشهورة التي قسم بموجبها وظائف اللغة والتواصل إلى: تعبيرية وإفهامية ومرجعية وانتباهية ووصفية وشعرية. لقد وردت جل تنظيراته مستحضرة البعد الاجتماعي لعملية التواصل، وبذلك "لا يصل جاكوبسون إلى درجة المطابقة بين نظرية الترجمة والنظرية اللسانية لاعتقاده الصائب بأن في الترجمة تتداخل عناصر ثقافية وحضارية تؤشر على الاختلاف القائم بين اللغات"(33). ويكمن الجديد الذي أتى به جاكوبسون في هذا الميدان في تمييزه بين ثلاثة أنواع من الترجمة(34):

  • الترجمة ضمن اللغة الواحدة/ الداخلية: وتعني هذه الترجمة أساسا تأويل علامات لغوية بواسطة علامات لغوية أخرى في إطار اللغة الواحدة. من قبيل الشروح والتفاسير والتعريفات. أمثلة: تفاسير القرآن القران الكريم المختلفة، شروح المعلقات ...
  • الترجمة بين اللغوية: وتعني نقل علامات لغوية من نظام لغوي ثقافي إلى آخر، وهي ما وصفه جاكوبسون "بالترجمة المتعارف عليها" ما جلب عليه انتقادات كبيرة من لدن جاك ديريدا(35).
  • الترجمة بين السيميائية/ التحويل: وهي نقل عناصر لغوية نصية إلى أنساق تواصلية أخرى غير نصية. مثال ذلك تحويل بعض النصوص الروائية إلى تجارب سينمائية أو مسرحية، أسلوب الكتابة والتواصل عند الصم والبكم.

كما تطرق لمسألة ترجمة الشعر التي يعتبرها مستحيلة، ومن واجب المترجم القيام بنقل شعري وفق قواعد وأساليب وشعرية لغة الوصول حفظا للإبداع والجمال اللذين يشكلان أساس القصيدة على أساس ما سماه شتاينر "النقل الخلاق"(36). لقد وسع جاكوبسون من أفق الترجمة الذي ضيقته اللسانيات التطبيقية، جاعلا منها موضوع درس من حيث هي نشاط إنساني تواصلي ثقافي متعدد المظاهر، ما فتح الباب واسعا أمام تعدد مناهج النظر والدراسة لهذه الظاهرة(37).

ج. يوجين ألبرت نيداEugene Albert Nida
من بين أهم المنظرين في الترجمة وفق دراسات علمية ممنهجة ومضبوطة. وجدير بالذكر أنه استمد آراءه الترجمية من خلال تجربته كمترجم إنجيلي ورئيس للجمعية الأمريكية لترجمة الإنجيل، بالإضافة إلى تكوينه العلمي في اللسانيات والأنثروبولوجيا(38). وقد تناول نيدا قضية الترجمة في عدد من مؤلفاته أبرزها (نحو علم للترجمة) و(الترجمة: النظرية والتطبيق) مبرزا أنها عملية لغوية محض قوامها فك رموز لغة نص أصل وتشفيرها في سياق لغة نص هدف، شرط أن تكون العملية مبنية على التكافؤ ما أمكن ذلك، وعلى ضرورة تطابق قصد المترجم وقصد المؤلف أو عدم اختلافهما على الأقل. ويمكن مقاربة مفهوم التكافؤ عند نيدا من خلال التمييز الذي قدمه بين التكافؤ الشكلي والدينامي(39).

  • التكافؤ الشكلي: إنجاز الترجمة على أساس إيجاد مكافئات ومعادلات لبنية النص الأصل في النص الهدف، من حيث اللفظ والتركيب والأسلوب. يقول بهذا الصدد أن التكافؤ الشكلي هو "توليد عدة عناصر شكلية تتضمن: الوحدات النحوية، والتمسك باستعمال الكلمات، والمعاني فيما يتعلق بسياق المصدر، ويمكن توليد الوحدات النحوية في: ترجمة الأسماء بالأسماء، والأفعال بالأفعال، وعدم تجزئة الوحدات وإعادة ترتيبها والمحافظة على علامات التنقيط وترتيب الفقرات". غير أنه يلاحظ على الضرب أنه رغم كونه يحقق تكافؤا شكليا حد التطابق أحيانا إلا أنه لا يفي بالغرض من حيث المضمون الذي يكتنفه الغموض في الغالب ويؤول إلى الغرابة وعدم الفهم. ومن أجل ذلك وجب العمل بالتكافؤ الدينامي.
  • التكافؤ الدينامي: يتمثل في إنجاز ترجمة هدفها خلق نص ذي أثر مكافئ للأثر الذي أحدثه النص الأصل واستشعره متلقيه. وهنا يجب أحيانا التضحية بالشكل وإحداث تغييرات فيه بحثا عن الأثر المنشود، وهو ما يعتبره كنه الترجمة وجوهر الأمانة باعتباره مترجما إنجيليا هدفه التبشير ونشر رسالة الرب في الأرض.

ويعطينا بيم نموذجا حيا على هذه الفكرة مشيرا إلى وجوب التصرف في ترجمة بعض المقاطع خاصة إذا كانت الترجمة موجهة إلى شعوب ذات معطى جغرافي ومعيشي لا صلة له بمن نزل فيهم الكتاب المقدس ابتداء، ومثال على ذلك ترجمة "كبش الإله" في نص موجه إلى شعب الإسكيمو ب "فقمة الآلهة" وغيرها من الأمثلة الأخرى(40).

2. المقاربة الأدبية:
لقد ارتبط الأدب، منذ بداياته الأولى، أيما ارتباط بالترجمة؛ فدخلا بذلك في علاقة جدلية وتلازمية تقتضي استحضار أحدهما كلما ذكر الآخر. وكما هو معلوم فإن الأدب أجناس، منها الرواية والقصة والقصة القصيرة والمسرح فضلا عن الشعر. ومعلوم أيضا أن لكل جنس أدبي قواعده وضوابطه المنهجية والجمالية والشكلية والمضمونية التي من واجب المترجم الأدبي الإحاطة بها أثناء اشتغاله. ولقد تولد عن الترجمة الأدبية، فضلا عن الروائع الخالدة، جملة من المشاكل الترجمية والصعوبات الخاصة بهذا الجنس أو ذاك أو المشتركة بين الأجناس جميعها؛ ما دفع بعض الأدباء المتعاطين لهذا الاشتغال إلى بسط الكلام فيه وطرح النظريات والآراء واطراحها. ولعل أبرز علمين في هذا المجال الأديب والشاعر والمترجم الأرجنتيني خورخي لويس بورخيز، والأديب والمنظر الإيطالي أمبيرتو إيكو، فلنتأمل آراء ونظريات  كل منهما بصدد اشتغاله.

خورخي لويس بورخيزJorge Luis Borges 
ارتبطت الترجمة الأدبية في أمريكا اللاتينية، ممارسة وتنظيرا، بهذا العلم الكبير الذي جمع بين التأليف الأدبي في الرواية والقصة القصيرة، والشعر والنقد والترجمة، هذه الأخيرة التي شكلت المعين الذي امتاح منه بورخيز واطلع على عيون الأدب العالمي، كما أنها كانت بوابته نحو الشهرة والعالمية. إن شخص بورخيز متعدد الهويات والثقافات، فوالده من أصول إنجليزية فيما والدته أرجنتينية الأصل إسبانية اللسان، فنشأ الأديب ثنائي اللسان والثقافة. تعلم الفرنسية والإيطالية والألمانية أثناء إقامته في سويسرا، بالإضافة إلى إجادته اللاتينية. لقد ضمن هذا الأديب آراءه في الترجمة الأدبية في ثلاثة مقالات رئيسية هي: "طريقتان في الترجمة" (1922)"Las dos maneras de traducir" ، "ترجمات هوميروس" (1932)"Las versiones homéricas" و"مترجمو ألف ليلة وليلة" (1935) "Los traductores de las 1001 noches. فضلا عن قصة "الألف" التي تحدث فيها عن سوء فهم ابن رشد لفن الشعر الذي كتبه أرسطو، فقام بترجمة الكوميديا والتراجيديا في نصه المعرب بالمدح والهجاء.

ويؤكد بورخيص على جدلية العلاقة بين الأدب والترجمة بقوله إن مسألة الترجمة هي أكثر المسائل ملازمة للأدب ولسره المتواضع(41). كما أنه قال في إحدى مقابلاته التي أجراها في الثمانينات: "هذه المشاكل العامة لا وجود لها؛ مشكل الترجمة الوحيد هو ترجمة جملة مخصوصة. يجب علينا أخذ بيت شعري أو فقرة ثم ننظر كيف يمكن ترجمتهما. لأنه لا وجود لأي مشكلة فيما يتعلق بالصيغة التي يتوجب على الناس الترجمة من خلالها؛ لكن المشكل يكمن إذا تعلق الأمر بهذا السطر أو ذاك، هذه الفقرة أو تلك. وأقول إن ما عدا ذلك لا معنى له. لا أعتقد بضرورة نظرية عامة -جامعة- للترجمة. وبالطبع، قد تكون نظرية عامة للترجمة أمرا مسليا، ولم لا نتسلى بها؟ لكن عندما يجب ترجمة شيء ما، يجب أن نواجه مشكلة حقيقية"(42).

 ويمكن أن نجمل آراء بورخيز فيما يلي:

  • الكتابة والتأليف إبداع، وكذلك يجب أن تكون الترجمة.
  •  النص المترجم قد يفوق الأصل، ولا وجود لأصل ثابت ونهائي.
  • الترجمة الأدبية ليست تقليدًا لنصوص إبداعية، الحرفية تقتل الإبداع.
  • الترجمة الأدبية هي إعطاء النص معاني جديدة وفتحه على أبعاد لم تكن واردة في لغته الأصلية.
  • كل ممارسة ترجمية هي بالضرورة فعل تملك واستحواذ.
  • الصوت الوحيد الذي يسمع في النصوص هو صوت القارئ.
  • يسحب النص الأصل المترجم نحوه، وهذا الأخير يسحب النص نحو لغة الترجمة؛ إنه صراع دائم ومستمر لا ينبغي أن يكون فيه رابح أو خاسر.

أمبيرتو إيكو Umberto Eco
يعتبر هذا المؤلف الأديب والفيلسوف والمنظر الإيطالي علما من أعلام التنظير الترجمي المعاصر، خاصة فيما يتعلق بالترجمة السردية. ويعد كتاب "أن تقول الشيء ذاته تقريبا" "decir casi lo mismo" جُماع أفكار الرجل حول الترجمة، التي كانت متفرقة في محاضرات، ودراسات ومقالات الترجمة قدمها في أرقى الجامعات الدولية. ويؤكد إيكو في تقديم هذا المؤلف الضخم أنه لا يعدو أن يكون حوارا وحديثا حول الترجمة من خلال ما راكمه من خبرات علمية وعملية في الأدب والفلسفة والترجمة؛  ويرى أنه لا وجود لنظرية عامة في الترجمة، وإنما أفكار وآراء يكمل بعضها البعض الآخر.

ويكمن الجديد الذي أتى به إيكو في هذا الميدان، في أن الترجمة هي عملية تفاوض مستمر. ومؤدى هذه الفكرة أنه يتحتم على المترجم أن يتفاوض مع المؤلف حاضرا أو غائبا، ومع الحضور المهيمن للنص الأصلي، ومع القارئ المفترض الذي يترجم له، كما أنه يتفاوض فعليا مع الناشر. ومن خلال عملية التفاوض-متعدد الأطراف والمراحل- هذه، يحدد المترجم خياراته وتأويلاته وتقنياته وحيله الترجمية. يقول إيكو بهذا الصدد: "قمت بتحرير الكثير من الترجمات، وترجمتُ عملين بنفسي، ورواياتي تُرجمت للغات عدّة. وجدتُ بأن الترجمة هي نوع من أنواع التفاوض. لو أردت أن تبيعني شيئًا فإننا سنتفاوض- ستخسر شيئًا وسأخسر شيئًا أنا الآخر من ناحيتي. لكن في نهاية الأمر كِلانا سنخرج بشكل ما، بنتيجة مُرضية".

ويمكن مقاربة أفكار إيكو الترجمية في النقط التالية:

  • ضرورة فهم السياق التاريخي والمرجعية الثقافية للنص المصدر وللنص المترجم.
  • الترجمة ذات عمق دلالي وجمالي، إنها عملية إبداعية موازية للنص الأصل.
  • الترجمة "لا تعني، فقط، مروراً بين لغتين، بل بين ثقافتين، أو موسوعتين، وعلى المترجم ألا يأخذ في الاعتبار فقط القواعد اللغوية البحتة، بل وأيضاً عناصر ثقافية، بالمعنى الأوسع للعبارة".
  • ليست الترجمة تعبيرا عن الكلمة بكلمة، بل ينبغي أن تكون تعبيرا عن المعنى بمعنى.
  • النصّ بحد ذاته كيان متكامل له ذكاؤه الخاص أكثر من المؤلف. أحيانًا بإمكان النصّ أن يلمّح بأفكار إلى القارئ لم تخطر على بال المؤلف. لهذا بينما يضع المترجم النصّ في لغة أخرى، يعثر على تلك الأفكار ويحاول أن يكشفها لنا. يقول إيكو في مقدمة كتابة المذكور: "والاكتشاف الأخير كيف أن نصي يمكن (بل أحيانا ينبغي) أن يتحول حينما يقال بلغة أخرى. وإذا كنت أحيانا أرى استحالات –ينبغي حلها بطريقة ما- ففي الغالب كنت أشعر بوجود إمكانيات: أي كنت أرى كيف أن النص، في اتصاله بلغة أخرى يبرز طاقات تأويلية كنت أجهلها، وكيف أن الترجمة تقدر أحيانا على تحسينه (وأقول "تحسينه" استنادا إلى القصد الذي يبرزه النص بصفة مفاجئة ومستقلة عن قصدي الأصلي باعتباري مؤلفا تجريبيا)"(43).
  • وبخصوص الأمانة يقول إيكو: إذا بحثت في أي قاموس عن مرادفات للأمانة فستجد اخلاص، نزاهة، احترام، تقوى؛ ولن تجد أبدا مرادفا من الدقة.

3. التنظير الفلسفي في الترجمة أو " فلسفة الترجمة"(44)
لقد شكلت الترجمة ومفهومها وعملياتها، منذ القدم إلى الفترة المعاصرة، موضوعا فلسفيا بامتياز. ذلك لأنها مقترنة بأهم القضايا الفلسفية الكبرى التي شكلت مدار النظر الفلسفي وجوهر التفلسف، مثل إشكاليات الفكر واللغة والكتابة والكلمة والنص، والمعنى والتأويل والتفسير، والتواصل والإبداع، والهوية والاختلاف. يقول طه عبد الرحمن في هذا الشأن: " إلا أن الممارستين (الفلسفة والترجمة)، على تمايزهما النظري والمنهجي ظلتا تجتمعان في الحال وتلتقيان في المآل، حتى كأن الترجمة هي الوسيلة الأنجع التي يتوصل بها إلى أغراض الفلسفة، وكأن الفلسفة هي الثمرة الأنفع التي تتولد من أعمال الترجمة" (45) ولأن الموضوع قديم ومتشعب لن نخوض في إشكالاته التاريخية، وسوف نكتفي بسرد أبرز أعلام النظر الفلسفي-الترجمي في القرن العشرين.

والتر بنيامينWalter Benjamin
نشر سنة 1923 ترجمة لديوان "لوحات باريزية" للشاعر الفرنسي بودلير؛ قدم لها بمقالة طويلة ضمنها آراءه في الترجمة عنوانها "مهمة المترجم". تعد هذه المقالة بحق أول عمل ناقش ماهية الترجمة مناقشة واعية، وحاول تقديم تعريف شامل لها كما وضح صورة المترجم. ويمكننا إجمال ما جاء به بنيامين في النقطتين التاليتين:

  • البقاء: ومؤداها أن الترجمة متضمنة في النص الأصل وجوهرية فيه، وبها تمتد حياته فتكون "شاهدة بذلك على اتصافه بالبقاء"(46)، ويؤكد أن الترجمة صورة عن الأصل وجزء من ماهيته، أي أن الأصل يحمل في طياته قابلية ترجمته التي تعد قدرته على البقاء والتطور.
  • اللغة الخالصة: ومؤداها وجود علاقة حميمة بين لغات البشر تحن بهم إلى التقارب والتفاهم كما كان الشأن "قبل بابل"، وهو ما يتبدى جليا في عملية الترجمة. في البدء كانت الكلمة. إنها حقيقة لغوية جوهرها التكامل في الاستعمال والقصد، ومهمة المترجم السعي إلى تحريرها من أسر اللغات المتعددة.(47)

ويطرح بنيامين أيضا في مقالته مسألة المساواة بين الأصل والترجمة وبين المؤلف والمترجم. فكما أن العمل الفني الأصلي لا يتوجه إلى متلق محدد، كذلك الترجمة يجب ألا ترتهن بسياق تلق محدد. وكما أن المؤلف خالق المعاني ابتداء فالمترجم مبتكر للكلمات استئنافا.

خوزيه أورتيغا إي غاسّيت José Ortega y Gasset
ارتبط التنظير الترجمي في إسبانيا باسم هذا الفيلسوف الكبير من خلال مقالته "بؤس الترجمة وعظمتها" "Miseria y Esplendor de la Traduccion" 1937، ونشير هنا إلى تأثره الكبير بالفلاسفة الألمان (نيتشه، هيدغر وهوسرل وشلايرماخر) بحكم إقاماته المتكررة والطويلة في ألمانيا وبخاصة تيار التأويليات الذي جعله عماد دراسته المذكورة(48). ومن خلال قراءة المقال وتحليله نجده خاض في الترجمة من باب فلسفة الكلام وسياق التواصل داخل فلك التأويلية. ويكمن الجديد الذي ضمّنه في مقالته في أنه تجاوز الجدل القديم حول الإمكانية والاستحالة إلى منور جديد أساسه "الطوباوية" التي تحكم كل أفعال البشر؛ تغدو الترجمة عملية طوباوية بحكم الاختلافات التي تفصل بين اللغات ومن ثم صعوبة مهمة الإتيان بنسخة عن الأصل أو تكراره حرفيا في لغة أخرى، ما يدفع إلى الاعتقاد باستحالة الترجمة؛ ومن ثمة معنى البؤس فيها(49). ويقول شتاينر في هذا الصدد إن في الترجمة بؤسا خاصا وحزنا لازمها ما بعد اللحظة البابلية، معتبرا أن أورتيغا إي غاسيت هو أفضل من عبر عن هذه الفكرة(50). إلا أن هذا البؤس ما يفتأ يتبدد وذلك بدفع إمكانات اللغة الهدف إلى أقصى حدودها والانتقال بالمتلقي من عالمه إلى عالم المؤلف، وبذلك لا تنتمي الترجمة إلى جنس النص المترجم نفسه، بل هي طريق نحوه إنها "جنس على حدة"(51).

كما يعتبر أورتيغا ما قاله شلايرماخر، الذي أتينا على ذكره فيما سبق، جُماع التفكير حول الترجمة، مؤكدا على ضرورة العمل باستراتيجية التغريب. إن النصوص لا تفصح عن فكر مؤلفيها كاملا، وهنا تطرح إشكالية المسكوت عنه وصمت اللغة وهو ما يشكل مجال اشتغال التأويل والفهم من قبل المترجم والمتلقي.

جورج شتاينر George Steiner
يقارب شتاينر الترجمة من خلال مؤلفه الضخم " ما بعد بابل"؛ وهو عبارة عن مجموعة من المقالات الفلسفیة التي ضمنها تأملاته في اللغة والترجمة والخطاب، فضلا عن قيامه بجرد تاريخي للتفكير في الترجمة. وقد قسم بمقتضاه تاريخ نظرية الترجمة إلى أربع حقب كبرى:  

  • من العصر الإغريقي إلى نهاية القرن السابع عشر. ويبدأ من أقوال شيشيرون، كل التنظيرات نابعة من صميم التجربة، ومدارها حول الحرية والحرفية والخيانة والأمانة.
  • من 1700 إلى أواسط القرن التاسع عشر. مرحلة المقاربات والأدبية.
  • من أربعينات إلى ستينات القرن العشرين: هي حقبة اللسانيات والتواصل .
  •  بعد الستينات: عصر التفكير الفلسفي والتأويليات.

إلا أن بعض الباحثين يؤاخذ شتاينر على هذا التقسيم الرباعي على سلاسته وسهولة استيعابه، وحجتهم في ذلك إشكالية "التحقيب"(52). كما أن شتاينر ركز على أهمية المعنى والتأويل في عملية الترجمة، فالمعنى عنده تابع للقراءة وليس سابقا عنها، والقراءة هنا ليست اكتشافا للمعنى الكامن بل هي إعطاء الحروف والكلمات معنى من خلال القراءة والفهم والتأويل؛ يقول "إن ما يهمني هو 'التأويل' الذي نفهمه على أنه ما يعطي الحياة للكلام بعيدا عن مكان أو زمان الإلقاء أو الكتابة"(53) فكل قراءة هي بناء لمعنى ويختلف معنى كل نص أو معانيه باختلاف قراءته أو قراءاته. واشتهر بمقولة "الفهم هو الترجمة" التي جعلها عنوانا لفصل كامل من مؤلف المذكور. وتغدو الترجمة وفق تصوره هذا حركة تأويلية وفعلا يتطور عبر أربع مراحل هي:

  • الثقة (54): ثقة القارئ المترجم أن النص يرمي إلى معنى واحد هو ما يحاول نقله، فلا تعدو ترجمته في هذه المرحلة أن تكون حرفية ورديئة.
  • العدوان (55): القراءة التأويلية اقتحام وانتهاك لحرمة النص الأصل، باعتبارها اجتياحا له بغرض انتزاع معناه. وهنا نزعة التوطين والحرية المطلقة.
  • السيطرة / الضم(56): بعد كل هذا يتملك القارئ المترجم النص الأصل ويحوله نصا له ويسيطر عليه. نزعة التكييف وملاءمة الترجمة مع سياق التلقي.
  • الإرجاع/ التعويض(57): باستحضار البعد الأخلاقي يصير لزاما على القارئ المترجم إعادة التوازن للعملية الترجمية برمتها بعدما أعمل فيها أسلحته التأويلية. فيعمد إلى تحرير القوة التي استولى من خلال إنجاز ترجمة موازنة لسياقات الأصل والهدف. إنتاج نص متوازن.

جاك ديريدا Jacques Derrida
تناول ديريدا مسألة الترجمة في عدة مؤلفات أهمها "أبراج بابل"، من وجهة نظر "تفكيكية" (58). ولعل نظريته الترجمية ارتبطت أشد ما يكون الارتباط بمفهومه المبتكر (DifférAnce) الذي قال كاظم جهاد بصدد ترجمته المؤلف المذكور إلى العربية متصرفا في المفردة العربية بكتابتها وفق الشكل التالي "الاخـ(ت)لاف":

"أشرنا في المدخل أننا نترجم (مؤقتا؟) عل النحو المفردة الديريدية DifférAnce ، التي اجترحها من différence بعد تحويله الحرف(a) إلى (e) مانحا الاسم طاقة الفعل وحركيته وموظفا معنيي الفعل (différe) الاثنين: الاختلاف والإرجاء أو الإحالة. فالأصل "مؤجل" دائما والمختلف "يحيل" دائما إلى غيره، بحيث يمكن القول (وما هذه إلا إحدى دلالات المفردة التي نسهب في شرحها في المدخل) أنه "في البدء كان الاختلاف". ومن ناحيتنا، فبوضعنا "تاء" الاختلاف بين قوسين، نحاول إبراز فعل "الاختلاف" (كما تقول: أخلف فلان موعده) للإدلال على فعل المغايرة والإحالة المتضمنين في المفردة الديريدية المذكورة. عبر هذه "الحيلة" ندعو، بتواضع، إلى معالجة "لاعبة" للمفردة العربية تسمح بتوظيف معانيها المتعددة، هذا الشيء الذي كان يبرع فيه قدامى العرب، وإلى كسر وحدة الكلمة نفسها لينشأ حوار حيوي بين مختلف مقاطعها"(59).

ونعتقد أنه قد توفق في إيجاد الصيغة المكافئة التي تنقل الحمولة الدلالية للمصطلح الفرنسي المبتكر. ويقول طه عبد الرحمن إن مفهوم الاختلاف الديريدي يفيد "في إبطال القول بوجود معنى جوهري أو بنية عميقة أو مضمون نووي يحتاج المترجم إلى حفظه ونقله"(60). كما قدم ديريدا مقارنة لطيفة بين تنامي النطفة البشرية منبع الأسرة والحياة وتنامي النص وتكثره من خلال الترجمات. وتصير الترجمة من منظور الاختلاف الديريدي فرض غرابة النص المترجم على اللغة المترجم إليها، من خلال جره نحوها وتقريبها منه، فتنشأ لغة ثالثة هي أقرب إلى اللغة الخالصة التي تحدث عنها بنيامين(61). ولعل مفهوم (Différance) ذو المعنى المزدوج الذي يتجاوز المنظومة اللغوية الإملائية ليأتي بمعنى جديد وفريد، خير دليل على اتساع اللغة وتعدد إمكاناتها التركيبية والدلالية وهو ما تفصح عنه الترجمة والترجمات. ومن هذا المنظور تغدو الترجمة تكاملا لغويا من شأنه أن يضمن نمو اللغات وحيويتها.

كما أن فكرته الفريدة الأخرى تكمن في أن النص الأصل متعدد في ذاته، لأنه يقتبس من نصوص أخرى ويدخل في تناص معها. فكل نص ينطوي صراحة أو ضمنيا على نصوص مختلفة. والنص، حتى إن ظل غير مترجم، فهو ترجمة أو ترجمات متعدد في جوهره. ومع فكرة "موت المؤلف" تصير القراءة وتأويل القارئ هي النص ولا يوجد نص مغلق ولا قراءة نهائية، بل توجد نصوص متعددة في أصولها ومتعددة في قراءاتها، ومن ثم تصبح كل قراءة وتأويل نصاً جديداً مبدعاً ويعبر عنها بفكرة التوليد غير المحدود. ومنه وجود ترجمات متعددة لنص واحد.

النص يطلب ترجمته ويحن إليها، النص يشيخ في لغته فيشتاق إلى أن يرحل ويهاجر ويُكتب من جديد، ويتلبس لغة أخرى ومن ثمة فهو أيضا مدين لترجماته، فالعمل المترجم لا يحيا لمدة أطول فقط، بل يحيا أكثر وأحسن، متجاوزا إمكانات مؤلفه. إنه يبقى ويرقى.

جان روني لادميرال Jean-Rene Ladmiral
هو أحد القلائل الذين نظروا في الترجمة بعدما راكم تجربة شخصية مهمة في تدريس الترجمة، ومسارا ترجميا حافلا نقل فيه العديد من المؤلفات الفلسفية بالخصوص إلى لغته الأم الفرنسية. ويمكن مطالعة أفكاره حول الترجمة من خلال العديد من المقالات والمؤلفات والمحاضرات. وهو من بين الأوائل الذين دعوا إلى تأسيس علم الترجمة كمنهج أكاديمي قائم بذاته وتخليصها من التبعية لشعب الآداب واللسانيات، حيث يقول: "في الواقع تقتضي نظرية الترجمة (...) انفتاحا في إطار "تكامل معرفي" يتعدى مجال اللسانيات وحدها ويشرك 'الآداب والعلوم الإنسانية' برمتها تقريبا، مما يؤدي إلى تأسيس ترجمية أو علم ترجمة مستقل ومواز"(62) على أن الغاية الأسمى من الترجمية هي وصف وتوضيح وتصنيف صعوبات الترجمة ومفهمة عملياتها لتيسير عمل المترجم وتسهيل عملية اتخاذ القرارات بفضل العدة المفاهيمية المتحصلة من التنظير(63). ولعل أبرز مصنفاته في الترجمية وأعمقها "التنظير في الترجمة".

 ومن هذا المنطلق اشتهر لادميرال بتمييزه بين "أرستقراطية المنظرين" المتعالين أمام "بروليتاريا المترجمين"، ويتهم اللسانيين المنظرين بالتفلسف حول الترجمة "التي لا يمارسوﻧﻬا" فيعطون طرقا مختلفة تنظم الممارسة التي هم أبعد ما يكونون عنها أو الأدهى من ذلك لتأكيد استحالتها وثانويتها، فيقول في هذا الشأن:

"فليس الأشخاص الذين ينظرون (لاستحالة الترجمة) هم أنفسهم الذين يترجمون، فثمة من يتحدثون وثمة من يفعلون. ويظل هذا التباين جليا في الترجمة. فالعامة أو بالأحرى بروليتاريا المترجمين "في الميدان" يبقون مبعدين عن التأمل النظري. وقد ظل هذا التأمل النظري حكرا على زمرة من اللسانيين الذين يتفلسفون في الترجمة دون إخضاعها لمحك المراس"(64).

ويؤكد من خلال مؤلفاته أن فكره الترجمي لا يتعلق باقتراح نظرية خاصة به ولا بالنظرية الصحيحة و"العلمية" وإنما وجهة نظر وشيء من التنظير للترجمة أي نظريات متعددة تضاف لبعضها البعض منفصلة عن بعضها البعص ويتمم بعضها البعض الآخر(65).

ويمكن مقاربة فكره الترجمي من خلال الأفكار التالية، كل نظر في الترجمة يجب أن لا يهمل العامل السوسيو ثقافي لأن الترجمة تواصل ثقافي بالضرورة. ولابد من استحضار الأبعاد الخطابية والكلامية وسياقاتهما في الترجمة ممارسة وتنظيرا. كما يشدد على دور المترجم في عملية الترجمة التي لا تتأتى "إلا بفضل استمرار ذاتية المترجم الذي يقوم مقام مؤول بل وأيضا مقام 'مؤلف مشارك' أو "كاتب ثان"(66). كما يحسب له أنه تمكن من تجاوز التصنيفات التقليدية للحرفية والحرية في دراسة الترجمة ونقدها، بابتكار مفهومين جديدين هما المصدرية والهدفية، اللذين يقول بصددهما:

"إن هناك طريقتين أساسيتين لممارسة الترجمة: من أسميهم ب 'المصدريين' يتشبثون بدال اللغة، ويفضلون اللغة-المصدر، في حين أن من أسميهم 'الهدفيين' لا يركزون على الدال ولا على المدلول، بل على المعنى، ليس معنى اللغة، بل معنى الكلام أو الخطاب الذي هو موضوع الترجمة باستخدام وسائل خاصة باللغة الهدف"(67).

بول ريكورPaul Ricœur
يرتبط منظور ريكور الترجمي بفكرة "الضيافة اللغوية"، وقد بسط الكلام في المسألة في عدد من مؤلفاته ومقالاته لعل أبرزها كتاب "عن الترجمة" الصادر بعد وفاته. ويتناول ريكور قضية الترجمة من منظور فلسفي يستحضر أهم مرتكزات التأويلية متمثلة في "الفهم وسوء الفهم أو عدمه، أخلاق الحوار والتواصل، العلاقة الجدليَّة بين الأنا والآخر، بين المألوف والغريب، بين فهم الذات وفهم الآخر"(68)، ويؤكد ريكور أن فعل الترجمة يكتسي طابع المفارقة المتمثل في "خدمة سيدين" في آن معا، فيقول معلقا على كلمة "الغريب" التي صدرت بها أنطوان بيرمان كتابه المذكور "شريكان إذن يوضعان في علاقة من خلال فعل الترجمة، والغريب كلمة تغطي العمل والكاتب ولغته، ومن جهة أخرى القارئ متلقي النص والعمل المترجم، وبين الإثنين يحاول المترجم، الذي يقوم بإرسال الخطاب، تمرير الرسالة كاملة من لغة إلى أخرى. إذن داخل هذه الوضعية غير المريحة للوسيط تكمن مشكلة "المحنة" (...) التناقض يتعلق بإشكالية لا نظير لها لأن المترجم يجد نفسه بين نارين: رغبة الوفاء وشكوك الخيانة"(69).

وتأسيسا على هذه الصيغة التعادلية تجاوز ريكور مطبات الثنائية القديمة خيانة وأمانة؛ معتبرا أن الترجمة قابلة للاختلاف والتعدد بقدر اختلاف اللغات والأجناس، وبقدر اختلاف التأويلات، ليطرح مفهوم "الضيافة اللغوية" الذي وسم فكره الترجمي، باعتباره الترجمة بهذا المعنى تجل من تجليات الغيرية الضرورية لفهم الذات، مؤكدا على أنها ينبغي ألا تختزل الآخر الغريب، بل يجب أن تحترم غيريته واختلافه وتكرس غرابته، لينتج الحوار والفهم والتفاهم، الذي ييسر فهمنا لذواتنا بشكل أعمق بواسطة فهم الآخر وفهم خطابه، في إطار الضيافة اللغوية المؤطرة للفهم والتأويل. فضلا عن أنها تتجلى كذلك في تعدد ترجمات العمل الواحد، خصوصا الأعمال الكبرى والخالدة التي تعاد ترجمتها في كل عصر حسب سياق فهمها وتأويليها. كما يرد على القائلين باستحالة الترجمة من خلال قوله بما أن الترجمة موجودة فعلا فهي ممكنة، بل حتمية أيضا، إنها تحد قائم من واجب المترجم رفعه وكسبه(70). بالإضافة إلى أن ريكور ساءل بعض الصور النمطية حول الترجمة والتقسيمات الموروثة التي تخندقها في ثنائيات نقيضية من قبيل الإمكان والاستحالة، ترجمة رديئة وترجمة جيدة وبالأخص فكرة الترجمة المثالية التي تمثل حلما ينبغي التخلي عنه هو السبيل إلى "الاعتراف بالاختلاف الذي يمكن تجاوزه بين الذاتي والأجنبي" ومن غير ذلك تبقى محنة الأجنبي قائمة"(71).

خاتمة

وبناء على هذا الجرد التاريخي والفكري حول التنظير في الترجمة، يمكننا أن نستنتج كون "دراسات الترجمة" على قدر كبير من التعقيد والتداخل باعتبارها شعبة حديثة نسبيا تلتقي فيها معظم مجالات المعرفة الإنسانية، ما يجعلها متعددة المجالات ومتشعبة التخصصات وحمالة أوجه. ومرد ذلك إلى عدة أسباب منها:

  • أن اختلاف الرؤى والآراء باختلاف المنطلقات الفكرية والفلسفية والمعرفية التي صدرت عنها.
  • كون معظم الأبحاث دراسات تأملية وانطباعية نابعة من صلب الممارسة الفردية لكل منظر على حدة.
  • انتماء الترجمة والترجميات إلى حقل العلوم الإنسانية وصمها بالطابع الإيديولوجي، واللا يقيني.
  • تكتسي دراسات الترجمة طابع المفارقة حيث أنها ذات دارسة وموضوع للدرس في آن معا.
  • كما أن الترجمة لغة اللغات فإن نظريتها هي علم العلوم.
  • الاختلاف بين الرؤى لا يعني الخلاف بينها، بل تنوع خلاق وإثراء للترجمة في شقيها الأكاديمي والعملي. فنجد أن عدة نظريات قد تتداخل في ترجمة النص الواحد.

وباستحضار كل ما سبق، نجد أن دراسات الترجمة وضحت بما لا يدع مجالا للشك أن فعل الترجمة أكثر تعقيدًا من ذلك التصور الساذج عن كونه عبورًا أو نقلًا أو وساطة بين لسان إلى آخر، بل هي عملية إبداعية يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، والذات والآخر، والماضي والحاضر. كما أن النظر في مسائل الترجمة شكل ويشكل مسارا محايثا لها طبع سيرورتها وانطبع هو الآخر بها في علاقة تلازمية وتبادلية جعلت وجود الترجميات مرهونا بالترجمة، وجعلت الوعي بهذه الأخيرة قرينا بدراساتها ومعرفة تاريخها.

وعودا على بدء، ندعو إلى التأمل مليا في المقولة الخلدونية الجامعة، باعتبار الترجمة صناعة ساهم ويساهم تداول الأفكار والآراء عبر الأزمان في إثرائها والتأكيد على قدريتها وراهنيتها بالنسبة للوجود الإنساني.

 

تم البحث تحت إشراف الأستاذ: د. مزوار الإدريسي

 

الهوامش والإحالات:

([1]) عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة. بيروت: دار القلم (1996) ص 399، 400

(2) باسنت سوزان (2012) دراسات الترجمة، دمشق وزارة الثقافة، الهيئة السورية للكتاب. ترجمة عبد المطلب فؤاد. ص 190

(3) المرجع نفسه، ص111

(4) الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر التكوين، الفصل الحادي عشر.

(5) George, Steiner, Después de Babel: Aspectos del lenguaje y la traducción, México: Fondo de Cultura Económica, 1995. Traducción de Adolfo Castañón. P. 281

(6) العهد القديم: هو التوراة التي اوحي بها إلى موسى وتتألف من خمسة أسفار (التكوين والخروج والأحبار والعدد والتثنية، بالإضافة إلى كل ما أوحى به الإله إلى أنبيائه من بني إسرائيل قبل بعثة عيسى عليه السلام. وهو الجزء الأول من الكتاب المقدس.

(7) ونشير إلى أن هناك اختلافا في أصل التسمية بين من يقول أنها تُعزى إلى كون الترجمة أنجزت في مدة سبعين يوما، وآخرين يزعمون بأن الترجمة أنجزت من قبل سبعين (أو اثنين وسبعين) حَبرا يهوديا، وتقول الأسطورة أن كل مترجم اشتغل في غرفته الخاصة على حدة وبمعزل عن الآخرين، وعند انهاء المدة المقررة خرج كل منهم بترجمة واحدة، دليلا على العملية كانت محوطة بالعناية والإلهام الإلهيين.

(8) العهد الجديد: القسم الثاني من الكتاب المقدس، وهو المسمى بالإنجيل الذي أوحى به الإله إلى عيسى. ينقسم إلى أربعة أناجيل: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، إضافة إلى إلى بعض السفار والرسائل الأخرى من وضع رجال الدين المسيحيين.

(9) عبد الرحمن طه، (1995) فقه الفلسفة -الترجمة والفلسفة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي. ص 63 

(0[1]) باسنت سوزان، ص 83 و84

(1[1]) حسن بحراوي، (2010) أبراج بابل شعرية الترجمة من التاريخ إلى التنظرية. الرباط سلسلة بحوث ودراسات منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط. ص 183 

(2[1]) باسنت سوزان، ص 74

([1]3) Julio, V.; Joseph, P.; Juliá, S., Historia de España, Madrid: Espasa Calope, 2003. P. 108 

([1]4) Suárez, Rodríguez, J. L., Enciclopedia de la Cultura Española, disponible en: http://www.filosofia.org/enc/ece/e10470.htm. (ترجمتنا)

(5[1]) خوان بيرنيت: فضل الأندلس على ثقافة الغرب، 1997 ترجمة نهاد رضا، دمشق: دار إشبيلية

(6[1]) حسن بحراوي، المرجع نفسه، ص 147

(7[1]) المرجع نفسه، ص 158

(8[1]) المرجع نفسه، ص 168

(9[1]) باسنت سوزان، ص 95

(20) George, Steiner, Después de Babel: Aspectos del lenguaje y la traducción, México: Fondo de Cultura Económica, 1995. Traducción de Adolfo Castañón. P. 295

([1]2) التأويلية: مذهب فلسفي يعتمد على افتراض تعدد أوجه الحقيقة وبالتالي تعدد أوجه الوصول إليها من خلال الفهم والتأويل. يقول عنه طه عبد الرحمن: "التأويليات هي "النظر في وجوه تحصيل الفهم للنصوص" ويرجع أصلها إلى تفاسير التوراة والإنجيل التي وضعها رجال اللاهوت المسيحي، لا سيما البرتستانت منهم؛ (...) وإن أخص ما يميز النظر التأويلي هو عنايته بمختلف الظواهر الانسانية، الخطابية منها وغير الخطابية، جاعلا منها جميعا نصوصا قابلة تقبل القراءة والتحليل والاستنطاق". فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة. ص 38

(22) Op. Cit. P. 249

(23) باسنت سوزان، ص99

(24) بغية التوسع في الاطلاع على اللسانيات وتياراتها ومدارسها نوجه القارئ إلى كتاب: مدخل لفهم اللسانيات إيبستيمولوجيا أولية لمجال علمي، روير مارتان، ترجمة عبد القادر المهيري، المنظمة العربية للترجمة

(25) مونان جورج، علم اللغة والترجمة، الطبعة الأولى القاهرة المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة. (2002) ترجمة أحمد زكريا إبراهيم: ص 79

(26) المرجع نفسه، ص 79

(27) المرجع نفسه، ص 79

(28) المرجع نفسه، ص 80

(29) المرجع نفسه، ص 60

(30) المرجع نفسه، ص 74

(31) حسن بحراوي، ص 270

(32) المرجع نفسه، ص 271

(33) المرجع نفسه، ص 278

(34) George, Steiner. P ; 299

(35) Pym, A. Teorías contemporáneas de la traducción. Materiales para un curso universitario. Traducción de: Noelia Jiménez, Maia Figueroa, Esther Torres, Marta Quejido, Anna Sedano, Ana Guerberof. Tarragona: Intercultural Studies Group, 2011. P. 139

(36) Op. Cit. George, Steiner; p. 300

(37) حسن بحراوي، ص 280

(38) المرجع نفسه، ص 280

(39) Op. Cit. Pym, A.; p. 37

(40) Op. cit. ; P 37

(41) يُنظر مقالة "ترجمات هوميروس"

(42) Sergio PastormerloBorges y la traducción” disponible en:  http://www.borges.pitt.edu/bsol/pastorm1.php

(43) إيكو أمبيرطو؛ أن نقول الشيء نفسه تقريبا، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى 2012، بيروت. ترجمة أحمد الصمعي، ص 19

(44) طه عبد الرحمن، ص 104. فلسفة الترجمة "وهي النظر في الترجمة من جوانبها الثلاثة "الجانب الوجودي" و"الجانب المعرفي" و"الجانب الأخلاقي"، أي النظر في بعض الخصائص الكلية للترجمة، بما أن من حق الفيلسوف أن يتفلسف في أي موضوع شاء، أو قل، باختصار، إن فلسفة الترجمة هي عبارة عن النظر الفلسفي في الترجمة.

(45) المرجع نفسه، ص 59

(46) المرجع نفسه، ص 106

(47) المرجع نفسه، ص 107

(48) http://www.ortegaygasset.es   

(49) Ordóñez López, P., (2006) Miseria y esplendor de la traducción: la influencia de Ortega y Gasset en la traductología contemporánea, Tesis doctoral, Universidad de Granada.  P.  

(50) George, Steiner, P. 308

(51) من ترجمتنا العربية لمقالة أورتيغا إي غاسيت "بؤس الترجمة وعظمتها"

(52) باسنيت سوزان، ص 69

(53) George, Steiner, P. 44

(54) Ibíd. P. 339

(55) Ibíd. P. 340

(56) Ibíd. P. 341

(57) Ibíd. P. 341

(58) التفكيكية: منهج فلسفي ما بعد حداثي بناه ديريدا على أنقاض البنيوية أساسه التشكيك واللايقين، واعتبار كل المنجزات الإنسانية نصوصا؛ مع القول باستحالة الفهم المتكامل والمتماسك لأي نص لأنه لا ينطوي على معنى ثابت وكامن في بنيته. وأنه إذا تأملنا في المقولات غير المصر بها وما بين السطور والمسكوت عنه في لغة النص يمكن الوقوف على تناقضات داخلية واختلافات ويمكن من خلال هذه التقنية النقدية القول إن النص ينطوي على معنى مختلف غير ذاك الذي يبدو عليه في الواقع ومن القراءة الأولى. وأساس اشتغال هذا المنهج ما صرح به ديريدا نفسه "لا شيء خارج النص".

(59) ديريدا جاك، (2000) الكتابة والاختلاف، الطبعة الثانية، الدار البيضاء دار توبقال للنشر. ص 126

(60) طه عبد الرحمن، ص 112

([1]6) تأليف جماعي، إشراف إبراهيم أحمد، (2009) التأويل والترجمة، مقاربات لآليات الفهم والتفسير. الطبعة الأولى، بيروت الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف.  ص 42

(62) لادميرال جان رينيه، (2010) التنظير في الترجمة. الطبعة الأولى بيروت المنظمة العربية للترجمة. ترجمة محمد جدير. ص41

(63) المرجع نفسه، ص 312

(64) المرجع نفسه، ص 165

(65) المرجع نفسه، ص 313

(66) المرجع نفسه، ص 86

(67) المرجع نفسه، ص 50؛51

(68) مجلة تفاهم، يٌنظر الرابط http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/252

(69) بول ريكور، عن الترجمة. الطبعة الأولى الجزائر الدار العربية للعلوم ناشرون. منشورات الاختلاف، (2008) ترجمة حسين خمري. ص 16

(70) المرجع نفسه، "تحدي الترجمة وسعادتها" ص 15-24

([1]7) المرجع نفسه، ص 45