يقدم الكاتب العراقي هنا قراءته في مجموعة قصصية شيقة لقاص عراقي يسعى فيها إلى التعرف على عملية انتاج الروادع والكوابح والخطوط الحمراء في الواقع الاجتماعي الذي يزداد فيه انغلاق الأفق وتكتم أنفاسه الخطوط الحمراء.

خط أزرق – خط أحمر

تجليات سردية في مجموعة قصصية للقاص علاء شاكر

ياسر جاسم قاسم

يستفزك عنوان القصص القصيرة التي صدرت للكاتب علاء شاكر في مجموعته الجديدة المعنونة "خط أزرق .. خط أحمر" الصادرة عن دار الروسم في بغداد، حيث يشير العنوان الى ان الكاتب بصدد تناول معاني ودلالات الخط الاحمر الذي يوحي بأيحاءات كثيرة منها انه اصبح رمزا لعدم التقرب من "المقدسات المصنعة بشريا" والتي جاءت نتيجة فراغ ثقافي تنويري كبير وتضفي جهل قاس في مجتمع باتت تسيره العشيرة ورجال الدين والميليشيات حتى اضحى هذا المجتمع منتجا لخطوطه الحمراء المستمدة تارة من اللاوعي الجمعي الذي يحيطه من كل الجوانب، وتارة اخرى من الدين والاعراف والتقاليد العشائرية .. فدلالات العنوان كثيرة وقد بينها الكاتب علاء في خضم قصصه القصيرة التي جاءت مبرزة لعناوين فكرية ومنطقية كثيرة استقت من الواقع الكثير من مشاكله وتابواته وخطوطه الحمراء، واجابت عن تساؤلات كثيرة كان قد طرحها القاص ضمن خط احمر رسمه الدين ورجالاته في المجتمع ومرة رسمته العشيرة ومرة رسمته السطوة السياسية لبعض الأحزاب الحاكمة، وسأقسم هذه الدراسة الى عدة محاور تكون القصص ...

المحور الاول : محور الاقليات "تراث المغلوبين والمسكوت عنه" حلم أخي انموذجا

حيث يتحدث القاص عن واقع مرير عاشته بعض الاقليات ضمن البصرة ومنهم اليهود حيث يتحدث عن قضية شائكة ظلمت فيها هذه الطائفة ولم يسلط الضوء على هذه القضية والحادثة بالذات او ان تذكر عبر ادبيات كثيرة حوتها هذه المدينة عبر تاريخها الطويل فعلاء شاكر يشتغل هنا ضمن المسكوت عنه او ما يسميه البعض "تراث المغلوبين" ففي قصته حلم اخي يضع ما يريده عبر وصفه للمكان ويشعله عبر ذكرياته المريرة المتعلقة بما حصل ليهود البصرة في حقبة السبعينيات حيث ارتكبت مجزرة في المدينة راح ضحيتها الكثيرين منهم تحت عنوان "العمالة" و"التخوين" ويفجع القارئ وابن المدينة وممن عاصر هذه المجزرة التي ارتكبها النظام البعثي بعد تسلمه السلطة مباشرة او ممن استمع الى هذه القضية او ممن عاشها ونقلها عبر منظاره الخاص، يأتي علاء ليذكر البصريين خصوصا والعالم عموما بما حصل بعد اغلاق كنيسة مار يوسف او السبتيين طيلة العقود الماضية "وقد ملأت الاعشاش شبابيكها وبرجها" ويشعل لدى المتلقي اسباب غلق هذا المكان وكيف تم غلقه وماهي نتائج هذا الغلق على اليهود انذاك؟ حيث تقول الرواية البعثية التي بررت اعتقال هؤلاء انذاك واعدامهم بصورة بشعة، وحسب ما يرويها علاء" ان باخرة روسية كانت محملة بالخشب متجهة لميناء المعقل،التقط رادارها اشارات مرسلة من الكنيسة الى تل ابيب، وقد اخبر القبطان الباخرة السلطات الروسية، لم تتأخر الحكومة وقتها في القاء القبض على المجموعة واعدامهم في حديقة الشعب، تعليق اخبرني عنه اخي كنت صغيرا يومها وكان كثير من الاهالي صباح ذلك اليوم ينتظر خبر اعدام الجواسيس انا وابن عمي كنا ننصت للمذياع، كان المذيع وقتها يرعد بوعيده للخونة، قال لي ابن عمي وقتها مازحا، انظر لهم معلقين بالمشانق" وعلى الرغم من اغلاق الكنيسة الا انها بقيت محتفظة بالحياة " لكن بناءها ما زال قويا وجديدا والوان الزجاج ثابتة بشكلها السداسي" وهو بذلك يجيب عن استفسرات كثيرة مرت بنا كبصريين كنا عندما نعبر على كنيسة السبتيين الواقعة قرب غرفة تجارة البصرة، وقريبة من شط العرب كنا نسال اهالينا عن سبب غلقها الا انهم لايجيبون خوفا منا كوننا صغارا ويخافون ان تخرج منا بعض الكلمات التي قد تؤدي بحياتنا وحياة اهالينا ابان حكم البعث، المهم ان هذه الرواية غير حقيقية بتاتا ومصطنعة ولعبة سياسية قذرة لتصفية ما تبقى من ابناء هذا البلد من اليهود انذاك وزرع الرعب فيهم مع مجموعة من تجار شيعة ومسيحيين،فهي كانت دعوة لقتل التنوع والتعايش في مدينة ما عرفت الا التنوع عبر تأريخها الطويل، المهم ان هذا المسكوت عنه تحدث عنه علاء شاكر بغصة ومن المقتولين ظلما انذاك " نعيم خضوري" وهو طالب في الصف الخامس الاعدادي تم اعتقاله في الاعدادية المركزية في العشار واعدم وهو في عز شبابه بتهمة التخابر مع تل ابيب، والرواية البعثية يتبين كذبها من ان الكنيسة فيها جهاز في السبعينيات يرسل اشارات الى تل ابيب من البصرة والمعروف ان المسافة كبيرة جدا بين البصرة وتل ابيب وعلميا انذاك هذا الموضوع غير ممكن ارسال هكذا اشارات الا بطرق هندسية متطورة كانت غير متوفرة انذاك ومنها طريقة البث الفضائي او ما يصطلح عليه ب sng وهي غير مكتشفة انذاك او طرق بث مايكرويفية وهذه صعبة جدا على مستوى هؤلاء البسطاء انذاك هندسيا لان المايكرويف يحتاج الى نقاط التقاء من مدينة الى اخرى، اي :اذا اريد ارسال اشارة من البصرة الى تل ابيب يجب ان تربط مايكرويف على طول الطريق المؤدي الى تل ابيب انذاك من البصرة، وكانت هذه غير متوفرة بتاتا، انما المايكرويف كان ينقل الاشارة من البصرة الى بغداد فحسب عبر نقاط المايكرويف الموجودة في مراكز البريد المنتشرة في مدن العراق، فالرواية البعثية تبين اشكاليتها هندسيا ولو صحت لتم اكتشافها من قبل البريد وان هكذا نقل يتطلب ان يتم تعاون البريد معهم، ومن بغداد كيف يتم النقل الى تل ابيب ؟ فهذا يدلل على سخف الرواية البعثية من اصلها وكيف انها تسببت بقتل هؤلاء المطلوبين، من طائفة اليهود، ووصفه للمكان يعطي مجالات وصفية اخرى، حيث ياتي بعد اسطر في نفس القصة كي يسجل ان ما تبقى من اليهود في المدينة "الذي بجانب مقبرة اليهود" هذا ما تبقى منهم "مقبرة" .

وكذلك نجد المعاني في هذا المجال في قصة "ظهيرة حاتم البغل" حيث يقدم خلاصة ما حدث للكورد في "حلبجة" "او بسبب الغازات السامة، التي قتلت الاف الاكراد في حلبجة فبعدها لم يذكر احد شهادة واضحة عنه" فالتطرق لوضع الاقليات"الكورد" في ظل سلطة الاستبداد البعثية .تعد شهادة تاريخية مهمة

وفي المعاني السياسية ايضا يتطرق القاص الى ما احدثه سياسيي الصدفة في البلد من خراب مقصود"انا لست الرجل الوحيد غير المناسب في المكان المناسب، كما اني لم اشغل منصبا حكوميا تفسد فيه مصالح الناس" فالمنصب الحكومي اصبح مدعاة لفساد الناس ومصالحهم، وهذا ما اكده القاص في "قصة سكيورتي" فهو ليس الرجل الوحيد غير المناسب في المكان المناسب، كما انه يحاول ان يبين كيف اضحت الحكومات في العراق مكانا يتقصد من يكون فيه ايذاء مصالح الناس .

  • مجالات مزج العلوم الانسانية والتطبيقية:

وفي هذا المحور نجده واضحا في عدد من القصص منها قصة حلم اخي حيث" لم يكن اخي نحاتا وموسيقيا فقط بل كان يدرس علم التشريح ولا ينسى وهو يصف تشريح ضفدع ان يمزج الحب ويخرجه من تلافيف احشاء الضفدع الممزق بفعل موس التشريح "وسع الفتحة كاشفا عن فص صغير احمر ينبض في وسط احشائها المتشابكة" كذلك هو في نفس القصة يصور الذكرى كبكرة افلام ويصف الكاميرا فيزيائيا "كان يقص الصور" والصور هي رمز للذكرى "ويلصقها مع بعض ويلفها مثل بكرة الافلام في داخل كرتون مثقوب في داخله مصباح يبث الفلم على الحائط " وهذا هو عمل الكاميرا وجهاز data show

  • محور الخطوط الحمراء :

وهذا المحور هو الذي انطلقت منه القصص بأجمعها ويبتدأه في قصة "حلم اخي" حيث يشرح اللاوعي عندما يلقى المكان ويتسيده، وكيف تحيط ذلك المكان القداسة، حتى تمسخ هويته التي عرف بها، بفعل خزعبلات رجال الدين" مركز شرطة البصرة الواقع في شارع بشار بن برد الذي تغير اسمه الى شارع علي بن يقطين عن قول الشيخ الذي يشارك اخي المكان" فمسخت هوية المكان والشخوص التي عرفت بها هذه المدينة وجيء بشخوص كي يمسخوا هويتها وهم من خارجها، لا بسبب سوى السبب الطائفي المذهبي الذي تتفاعلفيه خزعبلات التاريخ وروايته المدسوسة التي يتقاسمها اصحاب المعارضة والسلطة على حد سواء، فعلي بن يقطين لم تعرفه البصرة بتاتا، ولم يدخل فيها وانما كان وزيرا للرشيد وتشير كتب التاريخ الى انه دفن في مقابر قريش في بغداد، حيث كان يدفن الجميع هناك من خلفاء ووزراء وائمة ومعارضين وسلطويين، ادرج علي بن يقطين قبرا في البصرة "شارع بشار" وظهر في العصر الحديث بعد التغيير في 2003 كي يستبدل اسم شارع"بشار بن برد" بن البصرة وشاعرها العظيم وفيلسوفها المفكر الذي اتهم بالزندقة وقتل على اثرها، بسبب ممارسته لحرية الفكر فكان احد ابطالها في التاريخ، يمسخ اسمه اليوم ويستبدل بأسم شخص لا يعرف منه شيئا سوى انه كان وزيرا للرشيد ومتشيعا لاهل البيت عليهم السلام، وهو لم يدفن في البصرة بتاتا، فكيف واذا به يدفن بها بفعل رؤية رجالات الدين وتحالفاتهم. وفي قصة "اني نسيت الحوت" يتحدث عن "ذهنية التحريم" التي ساهمت في قبر بعض النصب والمنحوتات، ومنها نصب الحوت، الذي كان قائما في منطقة ساحة سعد قبل التغيير في 2003م / فذهنية التحريم حسب علاء شاكر "اخلاقياتها مضادة للفن عموما"

 

  • البصرة بتراثها حاضرة:

نجد علاء شاكر مدافعا عن رموز فكرية تراثية كبيرة في هذه المدينة، بشار بن برد، ويذكر بعض الشخوص المهمة مثل مكتبة فيصل حمود، الاعدادية المركزية، كنيسة مار يوسف، وهكذا نجد البصرة حاضرة بسكنى المكان الا انه يحركه ضمن نسق الشخوص فالمكان متحدث بشخوصه. ففي قصة "البحث عن قصة ضائعة" يجسد علاء شاكر معاني المكان عبر ذكره ايضا لنهر البصرة الخالد"شط العرب" ضمن نسق تخيلي"كان الغروب يزحف مثل طائر كبير، واجنحته تسد الافق، اخر نورسة كانت تجهد نفسها، وهي تغادر بعيدا"

  • وهذا ما نلحظه في قصته "البحث عن قصة ضائعة" ايضا حيث اللاوعي الجمعي، وقضية عاشوراء، وقصة مقتل الامام الحسين فالعزاء ما زال يهدر عبر مكبرات الصوت والى جانبه كانت حشود الناس"غير الواعية طبعا" الرايات السود، النساء المتلفعات بالعباءات،الجموع الرايات، خط زاحف اسود، خيل المعركة،قرقعة السيوف، تكسر الرياح، عاشوراء، وكيف جسدها علاء ميثولوجيا، حيث وصف المسيرة الضخمة التي تحدث سنويا في مدينته من مركزها الى مسجد"عتبة بن غزوان" المسمى ب"الخطوة" حيث صلى فيه الامام علي ويصف وضمن ايقاعات السرد المسيرة بخط اسود زاحف.
  • اما في باب فلسفة الاشياء وتسميتها بغير مسماها نجد عبارات يتضح من خلالها واقعا مريرا عاشه المجتمع وضمن فلسفات جديدة، تخالف معاني الحياة الحقيقية، ففي حرب ايران- العراق تغيرت فلسفة الحياة واصبح "الحق في الحياة خيانة، والموت من اجل لا شيء بطولة، واعادة حق مغتصب مكرمة"هكذا فكر الجندي المدفوع الى حرب خاسرة لا هوادة فيها، حرب عبثية، احرقت الاخضر واليابس، وهذا ما نراه في قصة "خط ازرق على وجه الليل" ص 21 من المجموعة القصصية
  • انسنة الاشياء :

وهذا ما نلحظه في قصة " رجل يشبهني" حيث يتحدث الحذاء عن نفسه، والقاص هنا يؤنسن الجماد ويجعله متحدثا وبطريقة ابداعية " لا احد يستطيع ان يغير قدره" الحذاء متحدثا عن نفسه. وهكذا تستمر قصة الحذاء .

  • العشق وسط المقدس:

تتحدث قصة " بصقة" عن قصة عشق وسط الضريح، حيث تتلامس الاكف والقلوب، فكأنما اراد القاص ان يبرهن ان العشق مقدس، ولا يحصر في مكان او زمان، فالعاشقان "اخترقا حشد الناس بباب الامام وركضا عبر اجر الصحن" ويستمر في وصفه الاخاذ الدقيق، حيث خلط خلطا كبيرا بين المقدس "ضريح الامام" وبين العاشقين، فكأنك لا تلحظ خطا فاصلا بين الوصفين.

فالعشق حسب علاء شاكر يتجسد بين داخل الضريح وخارجه فلا حدود له، فالعشق مقدس كما الضريح.

وذهنية التحريم تغادر في قصة الحب هذه، فالحب هو رابط مقدس يخترق المقدس ويتربع في مكان وسطه، هذا ما يريده علاء، وفي نفس القصة يضع ترابطا معنويا بين الرايات والقباب والسوق والساحة والمطاعم والمقاهي، فكل هذه الاشياء تترابط فيما بينها وتزدحم جميعا، في سبيل تحقيق الحب والسلام، والمعاني الانسانية .

وبشكل عام استطاع علاء شاكر من خلال قصصه هذه ان يسبر اغوار قضايا صعب الخوض فيها مجتمعيا وسياسيا ودينيا حتى، وان يتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء التي اسسشها رجالات دين وسياسة واعراف مجتمعية وحولها الى خطوط زرقاء، صالحة الشروع، ان علاء شاكر ساهم مساهمة فاعلة في مناقشة الخطوط الحمراء واحالتها الى زرقاء.