يرى الناقد أن روح الرفض تسري في قصائد جرجس شكري، إلا أنه يكثف جماليات الرفض بكيفية مفردة، لغويا واستعاريا، إذ تكون مرهفة شفيفة في موضع لتنقلب إلى السؤال الساخر، والأحجية، كما تأتي في مواضع أخرى لتشكل عالماً موازيا يلجأ إليه من حياة يراها غير جديرة به وبأحلامه.

«أشياء ليس لها كلمات» .. شعرية الرفض المراوغ

محمد سليم شوشة

كثيرة هي الأحكام والمفاهيم والمصائر –ولا أقول الأشياء- التي ترفضها الذات الشاعرة في المجموعة الشعرية (أشياء ليس لها كلمات) للشاعر المصري جرجس شكري، بحيث يبدو الرفض روحا عامة تسري في كافة نصوصها. لكن المهم جماليا هو كيفيات هذا الرفض وصوره المتنوعة، إذ يأتي في مواضع ناعما هامسا وسلسا سلاسة السؤال الساخر، واللغز الذي لا حل له، ويأتي في مواضع أخرى مشكلا لعالم مواز يهرب إليه، ويشكل موجودات أخرى يفر إليها ويلجأ هاربا من ملامح حياة يراها غير جديرة به وبأحلامه وبنوازع البراءة الكامنة فيه لا تتغير بتغير هذه الحياة وتشوهها.

تتساوى الأشياء في هذه الرؤية مع الذات الشاعرة وتصبح ذاتا موازية في رفضها وصمتها البليغ في الرفض أحيانا، ثم هي تتكلم برغم هذا الصمت وبرغم عدم امتلاكها للكلمات من الأساس، ليكون الكلام في موضع آخر ومختلف عن مواضع الصمت هو قمة الثورة والرفض، فيبدو تحولها من الصمت أو افتقاد الكلمات إلى مرحلة الكلام وامتلاك الكلمات ثورة على الوجود وعلى طبيعتها وعلى ملامح هذه الحياة غير المتوقعة وتجافي روح الشاعر فيعلن رفضه لها. والأشياء تبدو في بعض أحوالها جزءا يتجزأ وينفصل عن الذات الشاعرة بالموت، يقول:

"ثم طردوا أثاث البيت

الكرسيَّ والطاولة وإبريق الشاي

وقالوا: ليكن فراغا

يليق بكل حال. ووفقا لوصيته وزّعوا أغراضه قبل أن تشرق الشمس

إذ شوهد الحذاء يركض بعيدا

أما قميصه فكان يعرف من يستحق".

فانفصال الأشياء ناتج عن الموت، ليصبح الموت في جانب منه هو بداية الحركة والانفلات والتحرر للأشياء، وهو المعنى الذي يحيل على صلة الأشياء بالذات الشاعرة ومشاركتها إياه في المعاناة والألم، التي في ظننا تنبع من اختلافه أو من إحساسه المختلف بالعالم وإحساسه بكم ما يهيمن عليه من الألم. ويكمل في القصيدة نفسها.

"وأخيرا أعلنوا عن وجود

عينين ويدين

وقلب ولسان

من النوع الجيد

وكان ظلاما".

وفي إطار هذا التفتت للذات لا فارق بين أعضاء الإنسان وأشيائه، لنكون هنا أمام نموذج الإنسان الذي يتلاشى في السديم، يتناثر في العدم، ربما ليتجدد مرة أخرى ويعود في كيفية مغايرة. أو ليصبح روحا عامة ممتدة عبر التاريخ الإنساني المشترك بما يغطيه من معاناة الإنسان وتوزعه بين لذة الوجود وألمه. وليدل هذا النسق من التفتت أو التناثر للذات الإنسانية التي تصبح مثل قطع الغيار التي يتجدد استخدامها على طموح هذه الذات في الخلود أو الاستمرار في الزمن وقهر نقطة النهاية التي تبقى راسخة في الوعي وضاغطة بكل قوة، فتكون نهاية المشهد (وكان ظلاما).

تنفتح دلالة النصوص الشعرية في هذه المجموعة على المطلق الإنساني بامتداده، برغم مشاهدها العصرية في مواضع كثيرة. فيحيل إلى أزمة الخلق من البداية وهبوط آدم من الفردوس إلى الأرض، وهو ما يمثل في حسّ الشاعر أزمة من حيث الابتعاد عن الإله أكثر من كونه خروجا من الفردوس، فكأن الإنسان في اغتراب ممتد منذ هذا الخروج. يقول:

"نحن الذين ذبحتَهم وقتلتَهم وأشفقتَ عليهم

في كلمة واحدة

ألقيت بنا من فردوس المحبة

إلى قارعة العدم

فصرخنا: ثبِّتْنا في إيمانك".

فغياب المحبة هو الفارق وهو المؤلم، لتتضح المحبة هنا جوهر الفردوس، وليس ما يكتنفها تماما من اللذة والنعيم الماديين، فالمحبة هي قمة اللذة والنعيم في رؤية الشاعر. وهذه الصورة الفوقية (فردوس المحبة) تحيلنا على الوجود الغائب باسمه أو بالتصريح به وحاضر ضمنا في النص حضور التلميح وإشارة الشيء إلى نقيضه. فهذا الوجود يبدو الأكثر قسوة فيه هو هيمنة البغض والاحتراب والكراهية، وهذه هي أهم بواعث الرفض في نصوص هذه المجموعة الشعرية.

لكن الموت بأشكال حضوره المتفاوتة في النص يبقى هو الأكثر ثباتا ووضوحا والأكثر ضغطا على الشاعر باتجاه هذا الرفض. فكأن تجربة الوجود كلها ليس لها حصيلة أو نتيجة، فالأيام يشاهدها البشر تحترق أمامهم، كما لو أن كل يوم يمر هو ورقة تحترق أمام عين صاحبه، والرؤوس تضيع من الخوف، فالخوف، يصنع نموذجا مشتتا فاقدا لتماسكه أو لاكتماله، ثم تأتي الصورة النهائية بمثابة مشهد النهاية المتكرر في كثير من النصوص لكن عبقرية الحضور الشعري تتمثل في المغايرة في شكل هذا الحضور، ففي مرة (وكان ظلاما) وفي مرة أخرى (ثم صارت قبورنا تحفة معمارية للزائرين)، لتنتج كلمة القبور مشهد النهاية نفسه الذي يمثل نقطة التوقف الإجباري لذات تركض دون أي توقف باتجاه معاناتها وتسعى دون جدوى لإكمال نقصها.

تنزع قصيدة (في تلك الأيام) إلى شكل من مسرحة المعاني والقيم، وتحويل الخطاب الشعري إلى خشبة عرض حافلة بالحركة والتحولات، الزمن محدد (في تلك الأيام)، وهو محض إطار زمني بعيد، لا يهدف الشاعر عبره إلا لتكريس دلالة هذا البُعد، سواء كان البعد باتجاه الماضي أو المستقبل، المهم أنها بعيدة، صحيح أن الأفعال تأتي في صيغة الماضي، لكن هذا في ظني هدفه اليقين من تحقق هذه الأفعال وحسب، ويحتمل بعد ذلك أن اليقين بتحققها يجعل الماضي والمستقبل فيها سواء، فالمهم هو ابتعاد هذه النقطة الزمنية عن الذات في تلك اللحظة/ لحظة إنتاج القصيدة/ القول.

الجميل في هذه المسرحة أو الطابع السردي الذي يُنتج عدة مشاهد واضحة الملامح والدلالة أنه يجعل الأشياء ثائرة إلى أقصى درجات الثورة، فهي التي يتوقعها القارئ عبر معطيات العنوان لا تملك كلمات، فإذا به يراها بخلاف هذا تماما، هي صاحبة الكلمة والحركة المركزيتين، والجميل كذلك في تقديرنا أن مفهوم الكلمة هنا لا يعني القول بقدر ما يعني الحسم أو التجاوب في الفعل أو المشاركة. فالفعل يصبح كلمة والحركة كلمة و(الجلسة) –على سبيل التمثيل- هي قول تلك الحروف والمعاني الفاسدة أو هي كلمة الأشياء وردها الحاسم في بعض المواضع. يقول:

"هؤلاء الذين صاروا خليطا من الوهم

تكلموا حتى ماتت أفواههم

وفرّ الكلام هاربا

وبعد أن غادروا

وجدنا حروفا مكسورة ومعاني فاسدة

تجلس فوق المقاعد".

فمفهوم الكلام هنا هو المشاركة، فالأفواه تموت، كما لو كانت تموت بإرادتها، تموت هي لا أصحابها، بمعنى أن الفعل في إطار الاستعارة المكنية مسند لغير صاحبه من حيث الحقيقة اللغوية، فالأفواه لا تموت ويموت أصحابها وفق منطق اللغة الطبيعي، لكن الانزياح واللغة الشعرية تؤثر أن يكون التركيب هكذا، بإسناد الفعل لغير صاحبه في مواضع كثيرة لإنتاج استعارات تجعل الحياة مسرحا يضج بحركة هذه الأشياء والمفاهيم المجردة التي تتحرك كلها كما يتحرك البشر/ الممثلون على خشبة المسرح، وتصبح هذه الحركة هي القول أو هي الكلام الذي تقدر عليه هذه الأشياء لتكشف عن موقفها من هذا العالم. يقول في أحد مشاهد هذه القصيدة:

"وفيما بعد

اقتحمت الحقيقة

الحفل

وصفعت كل رأس حول المائدة

وهربت بروحها من الموت".

فالحقيقة هنا تواجه وتصفع وتحاول محاولة أخيرة لأن تنبه كل الحاضرين في حفل هذا الوجود، ثم يكون فعلها الأخير بأن تهرب بروحها من الموت لتكون هي الناجي الوحيد. وهي حين صفعت قالت كلمتها، واجهتْ، وضَّحتْ، آلمتْ، قستْ، ثم حين لم تجد صدى هربت بروحها من الفناء، فهي لهذا الوحيدة الجديرة بالخلود. فكل هذه الأفعال وبخاصة (صفع كل رأس حول المائدة) هي بالأساس كلمات وأقوال، هي ذلك التحول من الصمت والسكون إلى الثورة والرفض والبوح وامتلاك الكلمات، كما أشرنا من البداية. فيمكن القول إذن إن جرجس شكري اصطنع لهذه الأشياء لغة جديدة خاصة بها وهي لغة الفعل والحركة، ليجعل منها شريكا في فعل الرفض لهذا الوجود الذي غابت عنه المحبة والبراءة، فيصنع حالا من تثوير الأشياء ومسرحتها يكون المتلقي معهما في حال من التشويق تحت نوع من المراوغة في رد الفعل، فهذه الأشياء التي يتصور أنها عاجزة تكون مفاجأة النصوص بأنها على المسرح وفي أوج حركتها ورفضها.

وأحيانا تبدو الأشياء هي التي تقود حركة الشاعر على خشبة المسرح، لتتخذ القصيدة مسارها الخاص في الحركة والمُناقض أحيانا بأن تكون مركزية الحركة في بعض الأحيان للأشياء وليس للإنسان، وهذه الكيفية في ظننا محسوبة وقائمة لأهداف دلالية خاصة، فيبدو الإنسان سلبيا في هذه الأحيان ورافضا لأي حركة أو مبادرة للفعل كنوع من أنواع التمرد والانزواء. وهذا التصور يصنع جماليا نوعا من المفارقة النابعة من تبدل المواقع، فالأشياء هي التي تحرك الإنسان لا العكس. يقول:

"يحدث أن تخرج الكلمات من بيتي

تهبط الدرج

تعبر الشارع

وأنا خلفها كمن يمشي في جنازة".

فهنا النموذج الإنساني المنزوي أو الراغب في السلبية، فيتبع الكلمات بدلا من أن تتبعه، ويمشي مسلوبا كمن يمشي في جنازة، ومثلها هذا المقطع التالي حين يقول:

"يحدث أن أنسى يدي بين الأوراق

فتكتب وحدها

وتحصي ما خسرتْ من كلمات".

فالفعل الوحيد المنسوب للإنسان في هذا المشهد هو النسيان الذي هو في الأساس فعل لا إرادي، لتغيب إرادته في الفعل بشكل كامل، وتكون المبادرة من يده، التي تأخذ في هذا المشهد مظهرا منفصلا تماما عن مركزية الإنسان فلا ترتبط به بأي شكل من الحركة، بل ربما أمكن القول أنها تتمرد عليه أو تحاول تدارك ما فاته هو وتفعل ما لم يقدر على فعله وتبدأ في استعادة إحصاء ما خسرتْ من كلمات. وفعل الإحصاء هنا هو محض بداية، لأن الإحصاء بداية معرفة حجم خسائرها، والفعل ينطوي في ذاته على إيحاء بالبدء في الاستعادة والتعويض وهو ما قد يكون دون جدوى كسائر الأفعال. ويغلب على هذه القصيدة هذا النسق من تبديل الحركة أو استبدال المبادرة بين الإنسان وأجزائه أو أشيائه، بين أعضائه وكلماته، فيبدو إنسانا موزعا بين هذه الأشياء ومسلوبا أو غير راغب في الحركة أو المبادرة، يشاهد أحيانا ويسرد فقط لا أكثر. يقول على النحو نفسه:

يحدث أن أنسى فمي في الحانة

فيشرب

ويحكي للناس

ما لا أعرف".

على أن هذا الانقسام والتفتت للإنسان تحسمه عبارة (ما لا أعرف)، فهنا اختلفت مرجعية الفم تماما عن مرجعية صاحبه، اختلفت الذاكرة كذلك، وبدت بينهما هوة وانفصال تام قد يصل حد الاغتراب وأن يدهش أحدهما الآخر، والحقيقة أن الجزء هو الذي يصنع المبادرة والدهشة للكل. فالمعرفة صارت للفم لا لصاحبه، وهكذا الحركة لرجليه دونه، والهرب نحو الأزهار والعصافير ودفء الشمس لحذائه وليس له. والدليل على أن هذه الأشياء صارت تمتلك –في ظل هذه الرؤية الشعرية– لغتها الخاصة بها، أن الحذاء يقيم حوارا مع البحر لا يفهم منه هو شيئا. ويجري بعدها في الطرقات يتأمل الناس وصاحبه معه صامت. فالمواقع تبدلت تماما والمبادرة صارت كاملة من حق الأشياء دون صاحبها، دون تلك الذات الإنسانية التي تأبي إلا الصمت والمتابعة والوقوف على الحياد في كثير من الأحيان. يقول:

"ثم يعدو كمجنون

في الطرقات

يتأمل الناس

وأنا معه صامت".

فالفعل هنا منسوب إلى ذلك الحذاء نفسه الذي يذهب إلى الحديقة ويشعر بدفء الشمس، وتتبّعه الذات الشاعرة بسرد مشهدي كما لو كان بطلا يأخذ موقعا مركزيا من الحركة وموقع الصدارة من الصورة بدلا من الإنسان الذي تنزاح كثيرا إلى هامشية مقصودة. فيكمل عن الحذاء كذلك:

"وفي المقهى يهرب مني

إلى عجوز يصحبه في جولة يومية

يعود بعدها ضاحكا

كأنه ولد لتوه".