في نصوص قصيرة يكثف القاص العراقي خبرات فكرية تبلورت من تجارب الحياة فيصيغ الحكمة من خلال حوار مع الأم وحكيم وجار أو يضمر السبب الكاشف لأخر سطر كما في نص "المدمنة" ليخلص من كل هذا إلى أن الحياة فسحة عذاب وسعادة ورحلة محدودة تفضي إلى بوابة حياة أخرى.

ست قصص قصيرة جداً

كاظم الحـلاق

1. المدمنة
أدمنت أيمبر ذات البشرة البيضاء والشعر الطويل المائل للاحمرار والقوام الفاتن على الهيروين منذ سنتين، أي وهي في الثامنة عشرة  من عمرها. كانت تشتري منه ب 100 دولار يوميا، تحصل عليها من علاقاتها بأصدقاء تربطها بهم وشائج حميمة. ما أن تمسك أيمبر كيس المخدرات الصغير حتى تهم مسرعة إلي غرفتها لتجلس على كرسي وثير باحثة عن الوريد لتحقن نفسها بيدها. من قبل كانت تشتري ب 20 دولارا فقط، تكفيها لثلاث ساعات من النشوة العارمة. لكن ذلك المقدار لم يعد ينفعها، فشرعت تغوص أكثر فأكثر في عالم الإدمان الخطير والمثير للقشعريرة. لقد مضت إلى أبعد بكثير مما تخيلت على سكة الإدمان المتعرجة، لا يوجد خلاص من التوق والرغبة، وعند محطة حالكة الظلمة في رحلتها القاسية والمنهكة أرادت أيمبر أن تنهي حياتها. ذهبت إلى المقبرة حيث يرقد جسد أبيها المتوفي منذ خمس سنوات. كانت الريح الباردة تصفر. قفزت سياج المقبرة، وحثت خطواتها في الدرب الأسمنتي المحاط بعتمة خفيفة إلى موضع القبر الذي تعرفه جيدا. على جانبيها كانت أزهار النرجس تغلق بتلاتها مسترخية برضا تام بعد أن نالت كفايتها من ضياء النهار بينما تعالت خشخشة أوراق أشجار اليوكالبتوس المعمرة المتناثرة في صفوف حول القبور. أخرجت قصاصة ورق من محفظتها وقلما وكتبت هذه الكلمات تحت نور ولاعة سجائرها: "ولدت دون إرادة مني.لا أريد أن أكون قصة تافهة تعبث بها يد القدر الغاشمة كما تشاء. لهذا اخترت أن أشارك في إنهاء عملية الخلق". وضعت القصاصة تحت صخرة بجوار القبر، ثم خلعت جميع ثيابها مظهرة جسدها العاري بجماله الأخاذ وهي تتطلع إلي القمر القريب منها، والذي بدا كأنه كائن بشري تريد منه أن يلقي آخر نظراته على جمالها الفريد قبل أن تغادر هذا العالم. راحت أمواج الضوء المنسكبة من القمر تعانق جسد أيمبر الرشيق لاعقة ومتخللة أدق تفاصيله. ثم حقنت أيمبر وريد معصمها بجرعة مفرطة من المخدرات. في الحال ضاقت أنفاسها، ولم تمر إلا لحظات قليلة حتى غامت رؤيتها للقبور والأشجار من حولها. تمددت على بطنها باسطة ذراعيها وساقيها فوق قبر أبيها ونامت بحبور لا استيقاظ من بعده أبدا، كما لو أنها أرادت أن تدنّس آخر أطياف أبيها الذي اعتدى عليها وخذلها وهي خالية الوفاض من أي وسيلة للدفاع أثناء طفولتها المبكرة.

2. شجرة السدر
عام 2003 وقف رجل بشعر مسترسل أمام فناء بيت شبه مهجور مع زوجته حيث شجرة سدر محملة بثمار النبق الصفراء تشهق في الفضاء. كانت سماء بداية الصيف القائظ صافية عميقة الزرقة، وثمة نسيم ينبعث في المكان. بدا الشوق يذّوب الرجل وهو يقف في شمس الصباح متطلعا إلى أغصان الشجرة. ثم انخرط في موجة من البكاء المرير.

- من أين جئتما؟ سألتهما امرأة كانت تجلس في عتبة البيت المجاور وهي تلتحف بعباءة سوداء.

- من أريزونا.

- أريزونا. أين تقع أريزونا؟

 بقي الرجل وزوجته صامتين، دون أن ينبسا بكلمة واحدة. كان الرجل قد غادر وطنه عام 1980 عندما كان في الخامسة عشرة من عمره مع والديه. وكان والده الذي زرع شجرة السدر هذه في يوم ولادة الابن قد مات في أوّل طريق المنفى. البيت قد بيع. ولا أحد يعرف شيئا عن تاريخ الشجرة إلا الابن. قبل أن يلفظ الأب أنفاسه الأخيرة سأل الابن أن يبلغ تحياته للشجرة ويعانقها إذا ما صادف وزار العراق. وعلى الرغم من أن الشاب قد تقلب في الأمصار الحارة والباردة، وتشعبت به الطرق بين الأردن والسعودية والنروج وإيطاليا وأخيرا ولاية أريزونا الأميركية ورأى آلاف الأشجار بقيت شجرة السدر حية في ذهنه دون أن يعكّر من صفو جمالها شيء. كانت تمثّل في نفسه رمزا للخصوبة الأولى التي رأتها عيناه عندما ذاق ثمارها الحلوة وتحسس نسيج لحائها وهو طفل يلعب في ظلالها أوقات الصيف القائظة.. كما رمزا لتفتح خصوبته وتفجر طاقات مراهقته. انحنى ليلتقط بعض ثمار ناضجة كانت ساقطة بمحاذاة السياج وقدمها لزوجته كي تضعها في حقيبة يدها. ثم عانق الشجرة وقبلها بحنان وحرارة كأنه يودعها إلى الأبد. وهما يخطوان مبتعدين عن المكان كان الشاب ينظر إلي بطن زوجته المنتفخ وهو يفكر في زراعة بذور شجرة السدر في أرض حرة وبعيدة.

3. الطائر المنتحر
طائر بألوان جذابة يحلق في سماء زرقاء صافية، ثم ينزل تدريجيا  ليطعن نفسه بشوكة غصن شجرة خضراء في الصدر. يطير ثانية إلى مسافة أعلى ثم ينزل ليصطدم بالشجرة مرة أخرى كأنه يريد أن يدخل النصل بصدره أعمق فأعمق. بعدها يبتعد عاليا في تلك السماء التي أخذت تشوبها غيوم رمادية. طائران آخران يتبعانه كما لو أنهما يريدان إنقاذه إلا أنهما لا يتمكنان من الإمساك به. يتهاوى الطائر الملون قربنا حيث نقف مذهولين أنا وأمي التي لم أرها منذ خمس عشرة سنة في الواقع، إلا أنها تبدو في الحلم على حالها ولم تكبر حتى يوما واحدا. أمامنا مباشرة ثمة صخور مغمورة بمياه زرقاء تميل للون الشذري، يسقط الطائر إلى جوار الصخور، تحاول أمي أن ترفعه بيدها كي تمكنه من الطيران ثانية إلا أنه يتهاوى إلى جانبها كأنه فراشة أو طائر منزوع الجناحين. بعدها يأتي كائن بوجه قبيح، ويدين بشعتين. يأخذ بعض أوصاف الطائر (عمره، ألوانه، مكان ولادته وزمن موته )، ثم يتنحى ويقف على مقربة مني مشيرا إلي أن أتقدم نحوه. أخرج هويتي وأوراقا من جيبي وأعطيها لأمي قائلا لها : " خذيها وسلميها إلى اخوتي وأصدقائي واخبريهم بأنني سأذهب مع هذا الكائن ولن أعود ثانية. تمسك أمي بالأوراق وتأخذ في القراءة بنهم وانتباه مركز، ثم تقول: " بني أرجوك لا تغادر، فأرد عليها:" طيب، ما الذي يحدث حينما يكافح الشخص طيلة حياته من أجل بلوغ أشكال عالية من الفن دون أن يحالفه النجاح والحظ؟". فتجيب: " ولدي لا تكسر قلبي بكلامك هذا، دعنا نذهب إلى حمام المدينة ونغتسل من أوساخ هذه الأرض".

4. المشعل في الصحراء
أقف في صحراء قُدّام امرأة زنجية تمسك بيدها مشعلا. تتطلع لي المرأة باهتمام ثم تقول سأهبك هذا المشعل لينير درب حياتك. على مقربة  منا ثمة بركة مياه. عند الأفق أرى توهجاً وردياً رائعاً كما لو أسراب هائلة من طيور ضوئية تتحرك باتجاهي. حينما تقترب أدرك أنها طيور حقيقية، ثمة آلاف منها تتحرك حوالي  في كل الاتجاهات. فجأة أحس بالخوف من أن الطيور ستأخذ المشعل مني، لكنها تحط في حقل غني بالحبوب بالقرب من بركة الماء. كانت طيور غريبة الشكل كأنها قادمة من كوكب آخر. أتفحصها بانتباه  بالغ وأنا أشعر بالقلق. أشكالها التي تشبه أشكال الفقمات رغم صغر حجمها  تستدعي إلى ذهني أسئلة كثيرة عن أهواء القلب والمصير وأوقات الظلمة والعذاب . لكن المرأة كما لو أنها تعرف ما يدور في ذهني، تقول لي:" لا تخف من الطيور. ليس بوسعها أن تُطفأَ نارك الداخلية، أصغ إليها وستخبرك عن ثراء الحياة".

5. الحكيم الهندي
في الحلم  أجد نفسي أقف في مكان  واسع يبدو كأنه معبد بحضور حكيم هندي. على الجدران عُلقت صور السيد المسيح وبوذا وبارامهانسا يوغاناندا. أبدو أنا في مقتبل العمر وبشعر مسترسل إلى الكتفين، ربما في الثامنة عشرة.  أتحرك باتجاه الرجل الحكيم حيث وضعت بالقرب منه سلال مملوءة بزهور النرجس. يضع على رقبتي طوق زهور منها، ثم يضغط بإبهامه بين حاجبي قائلا لي :" إنك عبرتَ". أساله عبرتُ أي شيء؟ فيقول: "عبرتَ من بوابة الظلام إلى النور". أنظر حوالي مندهشاً من رؤية شلالات الضوء بألوانها المختلفة تنسكب فوق قامتي لتغرقني بنورها من جميع الجهات مشكلة فوق رأسي زهرة كبيرة  تحتوي على جميع الألوان. فيما بعد أرى طفلا يقترب مني وهو يمسك بيده لوحاً خشبيا ممتلئاً بالحلوى. يقدم لي واحدة فأمد يدي إلى جيبي لأقدم له شيئا ما، أجد ورقة نقدية فئة مائة دولار. أقدمها له لكن الطفل ينظر باحتقار وهو يبتعد متجاهلا النقود. أسال الحكيم الهندي إن كان بمقدوره تصريف الورقة لكنه يعطيني نرجسة في أوّل تفتح بتلاتها وهو يقول :" المال ليس كل شيء، تمسك بالجمال العابر لهذه الزهرة". أبحثُ بألم عن الطفل راغبا في أن يشاركني  الجمال العابر لحياة الزهرة، فأجده يلعب مع عائلته، أرمي له الزهرة فيأخذها مبتهجاً ليزرعها في باحة مدرسته المملوءة  بدخان أسود.

6. جرّافة العسل
 في المنام أرى جرّافة  تفرش عسلا على مساحة واسعة من الأرض. أحاول أن أحصل على كمية مُرْضية من العسل بتمرير لوح خشبي فوقه واقتطاعه، لكني لا أحصل على الكثير. أسأل صاحب الجرّافة  كيف يمكنني أن أحصل على ما أحتاج من العسل؟ فيقول: "عليك أن تصبر وتكومه فوق بعضه ثم اقتطاعه". ثم أسال جارتي المحامية كيرل: " كم من العسل يلزمني في حياتي؟"، فتقول: لا أدري، خذ ما تحتاج إليه في الوقت الحاضر، أو ضعف حاجتك، أو ثلاثة أضعاف حاجتك. بعدها أرى الجرّافة تزيل  البيوت المقابلة لشقتي وتُشيّد في مكانها بناية شاهقة من زجاج أزرق اللون. أقول هذا غير معقول، في المساء كانت البيوت موجودة، أدرك بأنني احلم. أقترب من البناية، إنها جميلة جداً، وفي المدخل ثمة مربعات أو أحرف كتابة على شكل مربعات تدور على أسلاك مشحونة بطاقة كهربائية. أسال كيرل إن كان بمقدوري أن أدخل البناية وأنا ألبس حذائي؟ تقول يمكنك أن تأخذه  معك وتمسكه بيدك، وحينما  ترى أن المكان يتطلب ارتداء حذاء ألبسه. أمام البناية ثمة مساحات من زهور بلون بنفسجي ووردي، عندما أركّز نظري عليها تتحول إلى زهور بألوان أُخرى ومرتبة بشكل مختلف. ثم تتحول إلى اختلاط بين زهور حقيقية بلون برتقالي وزهور بكل الألوان منظمة بطريقة غاية في الفن والجاذبية والروعة. أسالُ كيرل إن كانت قد رأت في حياتها زهوراً من ضوء؟ فتقول: كان  في هذه المنطقة 12 جسرا وأُزيلت.