يعود القاص العراقي في نصه القصصي إلى الطفولة وأحلامها وأخيلتها، مصوراً تجربة مرَّ ويمرّ بها كل طفل عراقي، محنة الظهيرة وقيلولتها، فيتسلل الطفل من نظام العائلة إلى السطح لينفتح العالم له في السكون، فيسافر في رحلة شفافة من خلال غرفة الجيران لعالمٍ يختلط فيه الخيال في الواقع بلغة شفافة ترسم جواً ساحراً.

الشباك الأزرق

علي صالح جيكور

في صغري، وفي ظهاري الصيف اللاهبة ، كان يتملكني الضجر، ويدب الملل إلى قلبي، حينما نُرغم على القيلولة اللعينة الممتدة الى نهاية العصر، كنت أستلقي على ظهري وأتطلع نحو المروحة السقفية وهي تدور بكسل، محدثة صريراً خفيفاً، برتابة وإيقاع ثابتين، يسارعان بإطباق جفون أخوتي المتناثرين على أرضية الغرفة، كنت أنتظر إغفاءة أمي، المتلفعة بشيلتها السوداء، وسماع شخير أبي المُتعب من كد نهار طويل، فأتسلل بخفة قِط، وأرتقي حافياً السلم المفضي الى سطح دارنا الصغير.

أصف الحجرين المركونين إلى جانب التنور الطيني، وأعتليهما، لأطل على باحة الدار الخلفية، التي تسكنها جارتنا العجوز، والنظر للشباك الخشبي الأزرق ذا الظلفتين، الشباك الذي تسحرني زرقته، وألق ضياء الشمس الملتمع على حوافه، والنور المندلق على زجاجه.

أحدق فيه طويلا، طويلاً، منذهلاً، ربما لندرة الألوان في بيوتنا الحائلة كلون التراب في حينا الفقير، ينتابني حلم أن أدنو منه وألمسُ خشبه الناعم، وأطلُ منه إلى الغرفة الصغيرة التي ظلت لغزاً في مخيلتي، ما الذي في داخل تلك الغرفة يا ترى؟؟ هكذا كنت أحدث نفسي!!

مكثت أرقب العجوز وهي تُدّور المغزل بحركة رشيقة، وتتطلع إلى نقطةٍ ثابتةٍ أمامها، دون أن تلتفت، ولولا حركة كفّيها، لخِلتُ أنها تمثال حجري يقبع أمامي.

لم أستطع أن أتبين المكان الذي تحدق فيه، فالزاوية التي أطّلُ منها لا تتيح لي رؤية ما يواجه المرأة، أصبحت تلك النقطة لغزاً أخر يحيرني ويثير تساؤلي وفضولي.

وبينما كنت سارحاً أرقب المرأة والشباك الأزرق، مَرقَ شبحُ صبي مسرعاً، لم أستطع أن أتبين ملامحه، راودني إحساس أني أعرفه، سأنتظر لعله يعود ثانية، فأتعرف عليه.

ارتفعت الشمس في السماء، وأنحسر ما تبقى من ظلٍ قصير كنت ألوذ به لأحتمي من وهج الشمس الحارق، لكن ظهور الصبي ووجوده في هذا المكان، دعاني إلى تحمل أي شيء كي أحل هذا اللغز الجديد، انتظرت طويلاً لأرى إن كان سيظهر الصبي مرة أخرى!!

آه، إنه هو، أحمد صديقي في الصف، أحمد الذي أجلس وإياه على رَحلةٍ واحدة..

أحمد، أحمد، ناديته بأعلى صوتي، ولوّحتُ له بكلتا يدي..

رفع رأسه نحوي بفتور، التفتت العجوز إلي للمرة الأولى، نادتني: سليم، سليم، تعال يا بني، تعال وألعب مع أحمد، تعال..

نَحّت المغزل وكومة الصوف جانباً، واستوت قائمة بخفة امرأة شابة، ثم أحضرت سلماً طويلا امتدَّ من جدار سطحنا إلى الباحة التي تقف عليها..

انزل يا بني، لا تخف، انزلْ..

لامست قدمي أولى درجات السلم، لم تنتابني رهبة الارتفاع، ولا خشية السقوط، وفي لحظة خاطفة وطأتُ بلاط الباحة المزينة بألوان الورود، وأصص الزهور الملونة، بدت لي أوسع كثيراً عما كنت أراه من السطح.. مدت المرأة يدها إلي وابتسمت على نحو جميل..

تعال يا سليم، كانت يدها دافئة ومعطرة، قبلتني على خدي، عطر شيلتها كالعطر الذي يضمخ شيلة أمي، الأمهات يتشابهن حتى في العطر!!

أحمد يا أحمد، نادت عليه، هذا سليم يا أحمد، سليم، صاحبك الذي يجلس معك على رحلة واحدة، رحلة واحدة..

ظَلَّ أحمد صامتاً، يحدق بي بذهول، رحلة واحدة!!، آه عرفتك، أنت الذي كنت هناك على ذلك السطح، تتطلع ألينا أنا وجدتي!

حيرني كلامه، فهو يعرفني ولا يعرفني، ملامحه غريبة، لكنه هو أحمد، احمد الذي يجلس معي على رحلة واحدة..

تَسمرتُ واقفاً بمواجهة الشباك الأزرق، كان لونه ناصعاً مذهلاً، لم أر من السطح إطاره الموشى باللبلاب والأزهار البيضاء الصغيرة.. ولم أتنبه إلى الستائر الشفافة التي تهفهفها النسمات المنعشة التي تهب من داخل الغرفة..

تعال يا سليم، وأنت يا أحمد، تعالا يا ولديَّ، تعالا، سارت أمامنا نحو باب الغرفة الموصد، استلت من جيبها صرة مفاتيح، انتقت مفتاحاً كبيراً بحجم إصبع يد رجل، أدارته في قفل الغرفة، ثم دفعت الباب برفق..

يا إلهي، ما هذا؟؟!!

تفتحت الغرفة عن أطرافٍ متراميةٍ، رَحبة، على نحو غير مألوف في بيوتنا، كانت هناك نافورة وحديقة غناء، ركضنا حول النافورة، اصطدت بالونات ملونة كانت تحلق في فضاء الغرفة، قفزاتي سريعة وعالية، خلتني أطير، نوافذ صغيرة تحيط الجدران من كل جانب، أصص ورد على الشرفات، عصافير وطيور وفراشات ملونة تحلق في كل الاتجاهات، المصاريع مشرعة، والضياء الأبيض يندلق على الخضرة الداكنة لأوراق الشجر والمروج الندية..

تذكرت الشباك الأزرق، بحثت عنه، بدا لي بعيداً في الطرف الآخر من الغرفة، جلس تحت نافذته رجل نحيف، يشبك ركبتيه بكلتا ذراعيه ويحدق في الفراغ، دنوت منه، تطلعت بوجهه، عيناه غائرتان بشكل مخيف، برزت عظام وجهه الشاحب، تراجعت الى الوراء خطوتين، ارتمى علي بسرعة وطوق ساقي بذراعيه، صرختُ مرعوباً.. جاء صوت العجوز:

لا تخف منه يا بني، إنه سعدون، ابني سعدون، يريد أن يلعب معكم، العبْ معهم يا سعدون، العبْ معهم يا قرة عيني، لم يمهلك الموت أن تلعب مع أترابك، لا تخف منه يا سليم، إنه لا يؤذي يا بني، آذوه كثيراً في أقبيتهم المظلمة، رحل منذ زمن بعيد وهو يحلم باللعب، كان صغيراً يوم أخرجوه من القبو، إلى القبو.. العبْ يا سعدون..

مددت يدي إليه بالبالون، كان يتبسم وعيناه تنضحان بالدموع، وحينما قبض على البالون، تلاشى كل شيء، انطفأت الأضواء، واختفت الألوان، أفقت على صياح أمي في الأسفل.. سمعتها تقول لأبي:

لن يترك عادته الذميمة في الهروب إلى السطح، والتلصص على بيت جارتنا البصيرة أم سعدون، لا أعرف من أي طينة هذا الولد ؟؟!!.