غويدو ماتزوني شاعر وناقد أدبي وباحث ومحرِّر لـ la parole e le cose، أبرز مجلة ثقافية إلكترونية في إيطاليا، وأستاذ في جامعة سيينا. نشر في 2011 كتابه “نظرية الرواية” الذي تُرجم مؤخراً إلى الإنكليزية وصدر عن جامعة هارفارد، وقد أجري معه هذا الحوار بمناسبة صدور الترجمة الإنكليزية.

الرأسمالية ونظرية الرواية: الجدي، المأساوي والإشكالي

حوار مع غويدو ماتزوني Guido Mazzoni

غويدو ماتزوني

أجرى الحوار: كريس فينويك

ترجمة أسامة إسبر
 

كريس فينويك: ألقيتَ محاضرة في جامعة فريجي تلخّص فيها أفكاراً طرحْتَها في كتابك الجديد «نظرية الرواية». هل يمكن أن تحدثنا بتفصيل أكبر عن نظريتك في الرواية وكيف تختلف عن النظريات السابقة؟
غيدو ماتزوني: هناك عنصران يُعرِّفان الرواية: يرتبط الأول بلعبة اللغة، فالرواية شيء يُسْرد، أي تروي قصة. أما العنصر الثاني فهو حقيقة أن الرواية صارت النوع الذي تستطيع أن تسرد فيه أي شيء بأية طريقة كانت. لنعد إلى العنصر الأول: ما الذي يعنيه أن نسرد قصة؟ قدمتْ نظرية السرد Narratology في القرن العشرين جواباً غير تاريخي، لكن جوابي يستند إلى نقطة بدء تاريخية.
فحتى وقت محدد في تراثنا الغربي لم يكن السرد والشعر بعامة (ما دعتْه الثقافة اليونانية شعراً) معرَّفاً كمنفصل عن لعبة اللغة. ولم يُفصل عن ألعاب أخرى إلا بعد معركة فكرية طويلة خيضت بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد. وبدأت هذه المعركة بالتعليق المجازي الأول على هوميروس وانتهت بكتاب أفلاطون (الجمهورية). وكان أفلاطون هو أول من فصل بطريقة دقيقة تخصصاً معرفياً يُدعى الشعر، عن تخصص معرفي آخر يدعى الفلسفة. أما على صعيد السرد فقد كان أفلاطون أول من صاغ ما تسميه نظرية السرد القالب العام للسرد. ويقول إن السرد هو عن كائنات معينة تعمل (يتحدث عن الرجال بعامة)، وفي نهايته هم سعداء أو غير سعداء، أو يحققون هدفهم أم لا. ويقول أرسطو تقريباً الكلام نفسه. وهكذا لدينا تعريف أساسي للسرد. وحين تتعاملين مع السرد فأنت تتعاملين مع تعددية الكائنات البشرية. وهذه الكائنات البشرية تهدف إلى شيء ما وهكذا تسوقها قوة في داخلها. ويحدث الفعل في الزمن.
ملقّحاً نظرية السرد الحديثة بأفلاطون وأرسطو حاولتُ صياغةَ قالب سردي يعرّف ماهي اللعبة اللغوية للسرد. وتشبه العبارة تعريفات الفعل والوضع البشري التي قدمتْها الأنثروبولوجيا الفلسفية في القرن العشرين. بالتالي إن تعريف السرد يتطلب القيام بتعريف جوهري للحياة البشرية: كائنات معينة خاضعة للزمن وموجودة في المكان، يعرّفها اسم عَلَم وجسد وشخصية وسلوك، وهي كائنات قلقة لأنها معرضة للصيرورة وللرغبة، كائنات تتقاطع حيواتها مع حيوات الآخرين، تفعل وتتحدث وتصوغ الأفكار، وتجرّب العواطف وتعيش في نظام اجتماعي إلى أن يتم إصلاح خلل التوازن وتصل القصة إلى نهايتها. هذه مسألة القصص.
سأعود الآن إلى العنصر الثاني في تعريف الرواية: إن السرد يسرد أي شيء بأية طريقة كانت. وينبغي أن يُفْهم هذا تاريخياً، بما أن السرد لم يكن قادراً لقرون على فعل هذا. وكان هناك قانونان، قانون جمالي وآخر أخلاقي، جعلا ذلك مستحيلاً لآلاف السنين. وكان الأول قانون فصل الأساليب الذي وصفه آورباخ في كتابه (المحاكاة). أما الثاني فهو ما أدعوه - متبعاً في ذلك مارك فومارولي
Marc Fumaroli - الأفلاطونية الجمالية، حقيقة أن حرية الرسامين والشعراء خضعت طيلة آلاف السنين لسيطرة أخلاقية غير موجودة الآن، لكنها كانت من أعتى القوى في تاريخ الأدب الغربي.
إذا قرأنا مقدمات ما دُعي على مراحل «روايات» من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، سندرك أن المشكلة الرئيسية التي واجهها الكتاب هي التصريح بأن عملهم كان صحيحاً أخلاقياً وجمالياً. وكان سرد أي شيء بأية طريقة سيرورةً تاريخية استغرقت وقتاً، وكانت لها لحظتها الحاسمة من حوالى 1550 إلى 1800. وفي هذه الفترة بزغت سلسلة من النصوص لم تلائم الفرضيات المسبقة الجمالية والأخلاقية للفصل بين الأساليب والجمالية الأفلاطونية؛ لكنها حاولت أن تفاوض من أجل موقعها داخل هذه القواعد.
منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر، وخاصة في بداية القرن التاسع عشر، صارت الرواية واعية لذاتها أكثر، وفاوضت على موقعها بشكل أقل وقدمت نفسها كجنس أدبي ثوري جديد، يحطم جميع القواعد. لكن القرن التاسع عشر كان ساحة معركة حيث كانت أسئلة الأخلاق والقيمة الجمالية مفتوحة. لكنها كانت أضعف، وأصبحت الرواية أكثر استقلالية.
ما الذي يعنيه أن الرواية تسرد أي شيء بأية طريقة كانت؟ أولاً، إن الرواية تسمح لذاتيتنا الجمالية بأن تعبّر عن نفسها: وهذا صحيح في جميع الأنواع الأدبية الحديثة. ثانياً، تمكننا هذه الحرية من سرد الحياة الخاصة للناس العاديين بطريقة جدية ومأساوية وإشكالية. ولقد استعرتُ هذه الصفات من آورباخ. وفي الحقل الواسع للحرية الجمالية داخل الأدب الحديث هناك ذلك الجوهر المهم، المهم كالحرية الجمالية نفسها. إنه شيء ما لم يفعله الأدب الغربي أبداً، ويرتبط بإدراكنا الذاتي الحديث، فكرتنا الحديثة عن قداسة الأفراد، وأهمية الأفراد العاديين.
في نظرية الرواية هناك فرعان: الأول هو التراث الذي بدأ بفردريك شليغل واشتهر مع باختين في القرن العشرين: إن الرواية هي جنس أدبي قائم على المحاكاة والحرية الأدبية، تستطيع أن تسرد فيه أي شيء بأية طريقة كانت. وترفض الرواية تعريف النوع وتتغير دون توقف. ثم لديك تراث آخر بدأ مع هيغل وتواصل عبر القرن التاسع عشر إلى لوكاش وآورباخ وإيان واط في القرن العشرين. وبحسب هذا التراث، إن الرواية تحظى بأهمية خاصة لأنها تسرد ما دعاه هيغل «ملحمة الحياة البرجوازية». ونستطيع إعادة صياغة هذا من خلال آورباخ كسرد جدي ومأساوي وإشكالي للحياة اليومية للناس العاديين.
قرأت هذين التراثين على أنهما واحد. لديكِ الفضاء العام للرواية، الذي هو شليغليٌّ وباختينيٌّ، لكن في المركز لديك جوهرٌ هيغليّ. وإذا لم يكن لدينا هذا الجوهر الهيغليّ والآورباخيّ فإن الرواية لن تكتسب هذه الأهمية. وحتى إذا كانت جميع الروايات لا تنتمي إلى هذا الجوهر، أو كانت الروايات التي تنتمي إلى هذا الجوهر ليست أفضل من الأخرى؛ فإن الرواية تكتسب هذه الأهمية لأنها تمكننا من تصوير الحياة اليومية بطريقة جدية ومأساوية وإشكالية. إن هذا التراث جوهريٌّ لفهم الرواية كتشكّل خطابي، وكشكل رمزي.

كريس فينويك: بالنسبة للكتاب الذين خارج “الجوهر”- ماذا عن النقد اليساري للتفكك الاجتماعي الذي سببه المنظور الفرداني؟ وماذا عن الفن البرجوازي كمحاولة لتجاهل المجال السياسي؟ كيف يلعب هذا دوراً في تاريخ الرواية؟
إن الخصوصية متضمنة في جميع الأشكال الأدبية الحديثة. فالأدب الحديث، بعامة، على وشك أن ينشأ من الفرد كوجهة نظر وكموضوع. إن التراث النقدي الذي أنكر هذا الجوهر الفردي بشكل أكثر علانية (التراث الذي ينتمي إليه دولوز وغواتاري في «نحو أدب قاصر/ أقلوي») جسّد نفسه كتراث مضاد. إذا جسّدتِ نفسكِ كتراث مضاد تفترضين ضمنياً أن التراث المهيمن ليس تراثك، والتراث المهيمن هو الجوهر الفردي للأدب الحديث. وتستطيعين نقده من موقع سياسي، وأدورنو يفعل هذا جيداً، لكنك لا تستطيعين إنكاره.
إن الأفراد وتجليهم الاجتماعي الأول (الأسرة) هم جوهر كيف نحن الحديثون ندرك أنفسنا. إن تراث «عصر الثورات» (التراث الذي بدأ مع الثورة الفرنسية وانتهى مع اليوتوبيات السياسية اليسارية للقرن العشرين) قاتل ضد مصير المجتمع البرجوازي، ضد هيمنة النصر السياسي للطبقات الوسطى. ومن وجهة نظر سياسية أتعاطف بشكل كامل مع جميع نقاد العزلة البرجوازية، والفردية البرجوازية، كتقطيع المجتمع إلى مجالات صغيرة متمركزة على الذات. لكن هذا التراث ضاع.

كريس فنويك: شهد عام 2016 المزيد من الفشل في المشاريع السياسية الجماعية. فقد أظهرت الانتخابات في بريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة عودة ظهور فاقعة للانعزالية، هذا إذا لم نقل شيئاً عن القومية. لكن هناك مشكلات سياسية وحتى وجودية ضاغطة كمثل التغير المناخي الذي لا يمكن أن يُحلّ إلا من خلال تعاون متجاوز للقوميات. أولاً، هل أنت متفائل حيال إمكانية اتفاقات سياسية كهذه، مفترضين الأحداث الأخيرة؟ وثانياً، إذا افترضنا أن الرواية كشكل إيديولوجي مرتبطة بالمجال الفردي، فهل تعتقد أن رواية سياسية قادرة على تصوّر جماعة كونية؟

غيدو ماتزوني: إن المسائل السياسية والأدبية مختلفة تماماً. حين نتحدث عن «حالة الأمور الراهنة»، مستخدمين العبارة الماركسية، علينا أن نبدأ دوماً من الديموغرافيا. في 1970 كان عدد سكان العالم 3,5 بليون نسمة. هذه نقطة البداية الأولى. إن نقطة البداية الثانية هي أن الروابط بين سكان العالم (العولمة) صارت أكثر قوة مع مرور تلك الأعوام. فنحن أكثر ارتباطاً من وجهة نظر اقتصادية، لكن أيضاً من وجهة نظر ثقافية. نسمع عما يحدث في الصين وسوريا والصومال وأندونيسيا، وفي جميع الأمكنة. وبسبب النمو السكاني العالمي وهذه الروابط الموضوعية نحن محاطون ونُقصفُ بالمعلومات والأفكار والصراعات التي لا نستطيع تأويلها. نرى السطح لكن ليس التفاصيل. ولا نعرف في الحقيقة ماذا يجري في الصين بما أننا لا نعرف اللغة الصينية، ولم نذهب أبداً إلى الصين، أو كنا هناك بالمعنى السطحي. كيف نستطيع تخيل بناء جماعة في هذه الأوضاع؟
هناك مشاكل عالمية (التغير المناخي، مثلاً) لكن هناك إمكانات أقل للعثور على حلول عالمية بما أننا مرتبطون، موضوعياً، معاً، على المستوى الاقتصادي، لكننا أكثر انفصالاً على المستوى الذاتي. إن كل ما يربطنا ذاتياً هو بعض الأساطير الجماهيرية المتصلة بمجتمع المشهد لكنها ضعيفة جداً من ناحية الجماعة. إن أحد الفيديوهات الأولى لتنظيم الدولة الإسلامية يصور إعدام مجموعة من السوريين الموالين للأسد، أو نُظر إليهم كمفرطين في غربيتهم. مُدٍّدوا على ظهورهم في حفرة وأطلقت النار على رؤوسهم من أسلحة آلية. إن المشهد مسمّر بحد ذاته، لكن التفاصيل مثيرة للانتباه. يرتدي بعض الضحايا مثلاً القمصان الصوفية لفرق كرة القدم الأوربية: يعيشون مقمطين بميثولوجيا عالمية تقاتلها داعش مباشرة، وتزهق أرواحهم مرتدين القمصان الصوفية التي كُتبت عليها أسماء ميسي وكريستيانو رونالدو، وحتى ناني. إن جزءاً صغيراً من الرأي العام الأجنبي يعرف حقيقة ما يجري في سوريا من وجهة نظر سياسية، لكننا نحصل على أفكار من الآخرين. لا نملك إيديولوجيا سياسية تربط حيواتنا بحيوات أولئك البشر كما حدث، مثلاً، أثناء حرب فيتنام، لكن الجميع يعرفون هذه التفاصيل.
من وجهة نظر أدبية إذا لم نضع في عين الاعتبار بعض النماذج التنويرية لأدب طليعي، وإذا لم نفكر إلا بما نقرأه ونكتبه عادة، كالأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي نشاهدها، حينها علينا القول إن جوهر إدراكنا للعالم ما يزال الفرد والعائلة أو العشيرة، إذا أردت أن تجعلي التصور الغربي للعائلة نسبياً. إن إدراكنا للعالم ما يزال محلياً وفردياً على نحو كبير، وليس عالمياً أو جماعياً. وهكذا أعتقد أننا نواجه مشكلات عالمية بطريقة أنانية وجماعية مصغرة جداً. لكن التناقضات حقيقية وستنفجر.

كريس فنويك: لنعد إلى الكتاب، إنه يقدم منظوراً أنثروبولوجياً ثقافياً حول صعود الفردية. لكن ألا ترى هذا وصفاً علمياً يختفي فيه الصوت الفردي؟ أين في نظرية الرواية تملك التجربة الفردية (التجربة الجمالية) مكاناً، وماذا تستطيع أن تقول عن الوظيفة المعرفية أو الابستمولوجية للرواية كمكمِّل للتاريخ والعلم؟

غيدو ماتزوني: كما تقول كاتي هامبورغر Käte Hamburger في كتابها (منطق الشّعر)، إن الرواية هي الشكل الرمزي الوحيد الذي يستطيع أن يتناول الآخر كذات وليس كموضوع، أي الذي يجعلنا ندخل في ذهن شخص آخر ونتعامل مع هذا الشخص لا كموضوع للتحليل، كما يفعل التحليل النفسي وعلم الاجتماع وعلم الإناسة والإثنولوجيا، بل كذات أخرى مساوية ومناقضة لي. هذا فريد. ولهذا ستبقى الرواية قوية حتى في عصر السينما والتلفزيون. إن ما لا تفعله المسلسلات التلفزيونية والأفلام أبداً (إلا إذا تبنت أداة ملحمية بالمعنى البريختي للكلمة) هو إدخالنا في أفكار أشخاص آخرين. يستطيع أشخاص آخرون أن يعبّروا عن أفكارهم في السينما من خلال التحدث. لكن حين نرى الشخصيات في الأفلام، فنحن عادة لا نسمع أفكارها. لكن هذا هو منطق الرواية وما يجعلها فريدة.

كريس فينويك: أنت تكتب أيضاً النقد الثقافي والشعر. كيف ترتبط هذه الأنشطة بعملك كناقد أدبي وأستاذ جامعي، هذا إذا كانت؟ هل تشعر بعدم رضا ما حيال التعليم الجامعي المهني والدراسات الأدبية؟
غيدو ماتزوني: أنا شاعر قبل أن أكون منظّرا أدبيا. كان أول ما كتبته ونشرته هو الشعر. لا أعتبر نفسي أستاذاً بدأ بتأليف الشعر في لحظة ما لأن الشعر جاء أولاً. ولقد نجوت من التناقض المحتمل بعدم السماح لليد اليسرى أن تعرف ما تفعله اليمنى. ما أزال أعتقد أن يدي اليمنى هي الأدب، ويدي اليسرى هي النظرية الأدبية. إنهما تعبران عن النظرة نفسها إلى العالم، لكنهما لا تؤثران ببعضهما بعضاً.
جاء النقد الاجتماعي فيما بعد بالمصادفة. جمعتُ سلسلة من التأملات التي هي في قصائدي، في الكتاب عن الرواية وطورتُها لأنني شعرت بالحاجة إلى ذلك. كتبت مقالتين نُشرتا في
la parole e le cose، الموقع الذي شاركتُ في تأسيسه. نوقشت المقالتان على الإنترنت. وطلبت مني دار نشر أن أحوّلهما إلى كتاب، وهذا ما فعلته وأصدرت كتاب (مصائر عامة) (2015). وقد حدث هذا بالمصادفة. أنا عادة أخطط لكتبي لكنني جعلتُ هذا يحدث لأنني بحاجة إلى أن أعبر عن الأفكار التي شغلتني لوقت طويل. إن التأملات التي تتوجت في كتاب (مصائر عامة) بدأت على الأرجح في 2001 وهذا عام عنى الكثير لي، ليس فقط بسبب الحادي عشر من أيلول، بل أيضاً بسبب فشل الاحتجاجات ضد قمة مجموعة الثماني في جنوه حيث كنت أعيش، وحيث شهدت فشل الحركة المضادة للعولمة في التسعينيات التي شاركتُ فيها. كانت هذه صدمة سياسية لي. إن تأملاتي حول الحالة الراهنة للأمور بدأت مع تلك التجربة.

كريس فنويك: إن المقالة الثانية في الكتاب هي عن برلين. ما الذي تراه في المدينة؟
غيدو ماتزوني: إن برلين هي المدينة المجازية للقرن العشرين. فقد كان فيها ثلاثة أشكال للمجتمع حاولت أن تسيطر على العالم الغربي: الفاشية والشيوعية وطريقة الحياة الغربية، وكلها خاضت قتالاً مباشراً من أجل تحقيق هذا الهدف. حين تتجولين في برلين ترين آثار هذه المعركة.
في المرة الأولى التي جئت فيها إلى برلين كان الجدار ما يزال هناك. كانت بداية التسعينيات وكان لبرلين مظهر مأساوي. وقد تجلت مأساة القرن العشرين في جميع الأمكنة في هندسة عمارة المدينة . ثم زرتُ برلين في 2013 وصدمني التحول. حاولت أن أفهم كيف تعاملت برلين مع تاريخها. زرت جميع المتاحف المتعلقة بوقائع التاريخ الألماني (النصب التذكاري للقتلى اليهود، المتحف اليهودي في برلين، متحف طبوغرافية الإرهاب، الذي ينتصب على أنقاض مقر الجستابو، متحف جدار برلين في شارع برناوير وبقايا الجدار في بوتسدامر بلاتز) وأدركت أن هناك خطابين: الأول رسمي، وهو خطاب الدولة، ألمانيا الموحدة. ويقول هذا الخطاب: «خرجنا من تاريخ مأساوي ومرعب. نعتذر عن النازية، ونعتذر أن جزءاً من بلادنا أغراه الاستبداد الشيوعي». وكان هذا مكتوباً على نصب الجدار باللغتين. وهذا ما كان على الديمقراطية الليبرالية، طريقة الحياة الغربية أن تفعله، وبطريقة ما تمتلك الحق لفعله كونها انتصرت. من ناحية أخرى، إلى جانب هذا الخطاب الرسمي الذي تتبناه الدولة هناك خطاب آخر مثير جداً تتبناه الرأسمالية. التقطتُ صوراً في بوتسدامر بلاتز حيث ما بقي من الجدار كان مغطى بإعلان ضخم عن الأيباد. وحين تغادرين متحف الهولوكوست تشاهدين على الفور نوعاً من ملك البرغر بهوت دوغ ضخمة من معجون الورق في الخارج. أثناء خروجي، كان ملك البرغر ذاك يعزف موسيقى: «عش وأنت شاب لفرقة اتجاه واحد». أمام متحف الجدار صورة لشارع غارتين كما كان في 1989. في الجانب الآخر من الشارع صورة أخرى. اشترت وكالة عقارات قطعة من الجدار وغطتها بصورة لأبنية جديدة في برلين مكتوب عليها «شقق بإطلالة»، أمام ما تبقى من الجدار.
كانت الدولة جدية، واعية جيداً لتناقضات القرن العشرين، وكانت الرأسمالية سعيدة جداً كي تكون نفسها، وعدمية دون رغبة. وكانت تتبنى خطاباً مضاداً. بالنسبة لي كان واضحاً جداً إنه كان هناك تناقض أخلاقي، لكن التناقض كان موجوداً في كل برلين. إن الرأسمالية، بطريقة ما، كانت تمتلك أيضاً الحق بفعل هذا. إن الذين عاشوا تاريخ القرن العشرين في ألمانيا أرادوا هذا في النهاية: لم يدركوا التناقض. إن الخطاب عن كم نحن متأسفون حيال تاريخنا تماشى مع خطاب آخر يقول: «ما نريده الآن هو استقلالية ورفاه مادي، لا شيء آخر». وكان خطاب الدولة واعياً لذاته (جدي ومأساوي وإشكالي) إلا أن خطاب الرأسمالية كان فقط أننا سعداء بحصولنا على مجالنا الصغير من الحرية التي بلا حدود والسلع. هذه هي الملاحظات التي خرجتُ بها بينما كنت أطوف في شوارع برلين. وكان هناك شيء أخلاقي وأحادي في أفكاري، مع ذلك هناك شيء ما أقلقني: كان استيائي من برلين محملاً باستياء مساو ومضاد مع نفسي. لماذا هذا القلق؟
ما كنت أراه في شوارع المدينة كان بالنسبة لكثيرين، وتقريباً للجميع (ولجزء من نفسي) إنجازاً فائقاً للعادة. إن معظم الغربيين سعيدون لأنه تم تحريرهم من السياسات الكبرى: لم يعودوا مضطرين للخضوع للتعبئة الجماهيرية، ويستطيعون أن يعملوا ويتصرفوا في عالم خاص بهم دون إزعاج، غير مبالين بالبقية.
لكن كل يوم تُحْدث طريقة الحياة الغربية جراحاً في أوهام الثقافة الانسانوية، في جهاز من المثل التي تظهر لاواقعيتها المطلقة، من خلال انسحابنا إلى الخاص والاستهلاك والمشهد وعدم الانتماء والانسحاب. بتحررهم من المُثُل التجاوزية الدينية والعلمانية، لا يريد البشر ما تصورته التأويلات النبيلة للتنوير لهم. لا يريدون أن يشاركوا في حياة المدينة، أو ينشئوا عالماً أكثر عدلاً. يريدون أن يمضوا وقتهم في تغذية عواطفهم الخاصة، وتحقيق أهدافهم الخاصة، وممارسة طقوسهم الخاصة. يريدون براداً وعطلة على الشاطئ وكبسولة استقلالية مصغرة، يريدون نسيان الضجر والتعب والموت الذي يعوم متبخراً فوق زمن لا يشير إلى أي شيء، وبالضبط لهذا السبب، يجب أن يُستمتع به، يريدون أن يتسلوا ويحلموا.
تمتلك طريقة الحياة الغربية شرعية كبيرة وقوة جاذبية جبارة، لأنها تكرس وجوداً عادياً وحقوق الناس العاديين. وهي تنتشر بزخم لأنها تستند إلى أساس بشري كوني. إن إمبراطورتيها التي لا تُقاوم تنشأ من الخاص، أكثر مما تنشأ من الاستهلاك. إنها إمبراطورية الحياة العامة، الخاصة. إن مجال القيم هذا معروف لكل الثقافات، لكن الغرب المعاصر فحسب حوّله إلى خير أسمى، وهذا سبب آخر لتحقيقه للهيمنة. لا أمتلك شيئاً سياسياً أو حقيقياً أقدمه ضد أي من هذا. إن الشيء الوحيد الـذي لدي هو شكل من أشكال القلق.

 

(عن جدلية)